ميسون صقر: اكتشفت أن أعمالي أكثر جرأة مني فأصبحت رقيبة على نفسي!

الشاعرة الإماراتية ترى أن المجتمع العربي يفتش في ضمير المرأة ويقرأ ما بين السطور

TT
20

ميسون صقر: اكتشفت أن أعمالي أكثر جرأة مني فأصبحت رقيبة على نفسي!

تجمع الإماراتية ميسون صقر القاسمي بين كتابة الشعر والرواية والفنون التشكيلية والسينما أيضا، إذ حصل فيلم تجريبي لها على جائزة الإمارات. لكنها تعتبر أن أهم إنجازاتها قيامها بتجميع وتحقيق الأعمال الكاملة لوالدها الشاعر الشيخ صقر بن سلطان القاسمي في أربعة أجزاء. وقد حصلت ميسون صقر أخيرا على جائزة «كفافيس» الدولية لعام 2013 في الشعر. هنا حوار معها أجري في القاهرة حيث تقيم:

> في رأيك هل أثرت ثورات الربيع العربي على النتاج الإبداعي.. هل نجح المبدعون في التعبير عنها أدبيا؟
- لا شك أن الأحداث العربية تؤثر بشكل كبير على المبدع العربي، فهذا الشتات الرهيب في سوريا ومن قبله العراق وتوتر الأوضاع في ليبيا وتونس واليمن لها تأثيرها على الكتابة والكاتب، فالمبدع الحقيقي لا يستطيع أن يعيش بمعزل عما يدور حوله من أحداث خاصة تهم بلده أو البلد العزيز، الذي يعيش فيه، وإلا سيكون غير صادق في توجهاته. هذه الأحداث تنعكس على الإبداع سواء في الشعر أو الأدب أو الكتابة بصفة عامة ولكن من الصعب أن يعبر المبدع عن مشاعره تجاه تلك الأحداث في الوقت ذاته، لأنه قد يكون منشغلا بمتابعتها أكثر من انشغاله بالكتابة. فمثلا لم يكن من الممكن لأي إنسان في مصر أن يترك شاشة التلفزيون التي تعج بالأحداث الساخنة ويذهب للكتابة فكان ما يحدث هو الشغل الشاغل للجميع بمن فيهم المبدعون، وقد عشت شخصيا تلك التجربة الخاصة جدا على نفسي بحكم إقامتي بالقرب من مقر قصر الاتحادية. عايشت الأحداث بكل سخونتها وتأثرت بما شاهدته وهو ما سينعكس على بعض الأعمال فيما بعد.
وبالنسبة لي، تأثرت مثلا بصور شهداء الثورة الأولى التي علت البسمة وجوههم وكأنهم أحياء لكنها في النهاية كانت ابتسامة ميتة ومؤلمة أثرت في نفسي بعمق فجاء ديواني: «جمالي في الصور» يعكس تأثري بهذه الوجوه، وكان جزء منه يميل للتصوف بحكم تلك النظرة التي هي ما بين الحياة والموت. ولا ننسى أيضا أن الفترة الماضية أثرت أحداثها في ظهور فنون جديدة مثل فن الجرافيتي، كما ساهمت الثورات العربية في دخول جيل جديد في عالم الكتابة. يعنى الثورة أنتجت حالة أثرت على الإبداع.
> هناك من يرى أن هذه الثورات كشفت فشل النخبة المثقفة وتراجعها عن أداء دورها. ما رأيك؟
- المثقف هو أولا وأخيرا إنسان وهو ليس الشاعر أو الأديب فقط وإنما السياسي والمفكر والقاضي كلهم مثقفون وأعتقد أن المثقف لم يفشل، بل بالعكس فقد ساهم في الثورة المصرية على سبيل المثال لكن خبرة المثقف ليست سياسية بحتة، لذلك تنحى حين بدأت السياسة تتحرك، وذلك لأن الخبرة السياسية والتشكيل الحزبي ما زال جديدا على المجتمعات العربية.
> ألم يدفعك الخوف من الأحداث الساخنة إلى ترك مصر؟
- لا لم أفكر قط في مغادرة مصر لأننا عشنا فيها جميع أوقاتنا الطيبة. لقد عاصرت أوقاتا أصعب من ذلك بكثير خلال وجودي بمصر أثناء حربي 1967 و1973 لذلك لم تكن تلك الأحداث بغريبة أو مقلقة لي. لكن ما أثارني حقا هو ذلك الخروج الكبير للناس بدافع الرغبة في التغيير وصولا للحظة الفرح الجماعي. لكن كانت أصعب اللحظات التي عشتها بمصر هي تلك الفترة التي حدث فيها تأجيج للفرقة بين المصريين، وهذا ما أزعجني أثناء حكم الإخوان، لأنهم للأسف لم يعرفوا المجتمع المصري جيدا ولم يفهموا أن الدين والحياة في مصر شيء واحد ولذلك لم يتحملهم المصريون.
> بحكم أنك مبدعة عربية كيف تنظرين لواقع المرأة عامة والمبدعة بشكل خاص في عالمنا العربي؟
- بالنسبة للمرأة العربية كان النزاع بين محاولة الحفاظ على موروثات ثقافية سابقة مع التقدم خطوة للأمام.. بينما كانت هناك أخريات يتحركن بمفهوم الحرية فكان هناك نزاع. وفى منطقة الخليج أتصور أن هناك تقدما كبيرا في وضع المرأة ودورها الذي صار أقوى في كثير من المجالات الجديدة التي خاضت العمل فيها، فأصبحت هناك دبلوماسيات وهناك من دخلن البرلمانات، ولدينا أيضا وزيرات، هذا بالإضافة إلى ظهور كاتبات كثيرات أثبتن أنفسهن، كما أن من الظواهر اللافتة للنظر ظهور مبدعات سينمائيات ومصورات خليجيات وبعضهن حصد جوائز هامة. المرأة الخليجية لم تعد قاصرة على العطاء والإبداع في المجالات التقليدية كالتدريس وخلافه ولكن ظهرت نساء أثبتن جدارتهن في شتى المجالات وهو مؤشر طيب على تحسن أوضاع المرأة العربية بشكل كبير.
> كيف تكتبين؟
- في البداية كنت أكتب بحرية تامة لكن بعد فترة اكتشفت وأنا في فرنسا أن ما ترجم لي كان أكثر جرأة مني على المستوى الشخصي وما كنت أكتبه من كتابات عن الذات والجسد والحرية كموضوعات للشعر لم أكن أستطيع قراءتها على الملأ، خصوصا وأن المجتمع العربي يفتش في ضمير المرأة وهى غائبة ويقرأ ما بين السطور وليس ما فوق السطور! ومن هنا بدأت ألاحظ أن هذه الكتابات التي قد تعبر عن حالة الجنون التي تصحب الكتابة لا بد أن أكون رقيبة عليها وعلى نفسي. ومن أعمالي التي تنتمي لتلك المرحلة «رجل مجنون لا يحبني» و«عامل نفسه ماشي» تلتها مرحلة أخرى مختلفة بحكم أن الإنسان يتغير أيضا من فترة لأخرى ولا يظل على حال في الكتابة، وفى كل مرة يغير في كتاباته ورؤيته للعالم ولغته.
> هل معنى ذلك أنك تحاسبين نفسك على ما تكتبين؟
- أنا أقول دائما أن من يقف تحت الشجرة لا يراها كاملة، لذلك لا بد أن أنسحب قليلا عنها لأراها، كما أن مسألة النقد سواء من الأهل أو الأصدقاء أو خلافه لا بد من النظر إليها لا بعين الحنين والحب، ولكن أيضا كمحاولة لرؤية القادم واستشراف المستقبل كما أنني لا بد أيضا أن أنظر من عين الأمل وليس الإحباط فلا أرى النقص، بل أسعى لكيفية تحقيق الكمال. وأعتقد أن المسؤولية تكون أصعب بالنسبة للكاتب صاحب الخبرة والتجارب المتعددة بمعنى أن من كتب أعمالا كثيرة عليه أن يحاسب نفسه أكثر ممن كتب عملا أو عملين فقط على سبيل المثال ولذلك أحاسب نفسي دائما حرصا على عدم التكرار.
> وكيف تخططين لتفادى ذلك التكرار؟
- لا أخطط بشكل كامل في كتاباتي، لكن لا بد أن تكون هناك وقفة عقب كل فترة لتقييم ما تم خلالها والتفكير بالتجربة الجديدة بما يضمن عدم تكرار النفس. وأنا دائما أبحث عن جديد ما في كل عمل، فكنت أعمل على القصيدة السردية القصيرة جدا ثم انتقلت لتفاصيل البيت وبعدها انتقلت لمرحلة أخذ مفهوم معين لأشتغل عليه، وبعد ذلك بدأت في مرحلة العلاقات كما في «أرملة قاطع طريق» وصولا لمرحلة الصور المتعددة.
> ما الذي يشغلك حاليا؟
- أنا مشغولة حاليا بين عدة أمور منها متابعة الأنشطة الفنية والثقافية بمصر بعد استئنافها عقب فترة طويلة من التوقف كما أستعد لعودتي أنا أيضا للفن التشكيلي والتحضير لتجربة جديدة في عالم الأبيض والأسود، هذا إلى جانب أنني أعكف على كتابة رواية جديدة لتكون أختا لـ«ريحانة» روايتي الوحيدة. وفى نفس الوقت فإنني مشغولة أيضا بتجميع مادة عن مقهى ريش الثقافي العريق والشهير بمصر باعتباره ذاكرة وطنية وإنسانية في منطقة وسط البلد بالقاهرة، ومكانا يرتبط بكثير من الأحداث والشخصيات المؤثرة في تاريخ مصر.
> بين الفن والشعر والأدب أين تجدين نفسك؟
- أنا أؤمن بتداخل الفنون لكنها تختلف في وسيلة التعبير عنها، وإن كانت كلها تنبع من لحظة إبداعية يمر بها المبدع، لكن ربما كان لنشأتي أثرها في التحيز للشعر خاصة في ظل مكتبة والدي الشاعر أيضا، التي كانت تزخر بالكتب التراثية والشعرية والتي نهلت منها الكثير بما ساهم في عشقي للشعر.



التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.