طقوس الكتابة عند الأدباء العرب.. و«الانسداد الكتابي»

كان محفوظ يمشي مسافات طويلة.. وتاج السر يكتب في الصباح ولا يزيد على ألف كلمة

الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد
الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد
TT

طقوس الكتابة عند الأدباء العرب.. و«الانسداد الكتابي»

الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد
الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد

هل هناك طقوس للكتابة؟ نعرف من سير الأدباء، قديمًا وحديثًا، أن هذه «الطقوس»، أو فلنقل شحن النفس بالاستعداد لدخول هذا المحراب، موجودة عند غالبيتهم، وقد تكون شاقة أحيانًا، وحتى إن بعض الأدباء يستعد لذلك.. عضليا، مثلما كان يفعل نجيب محفوظ حيث كان يسير مسافات طويلة في الصباح الباكر. والبعض لا يكتب إلا وبجواره فنجان القهوة، مصحوبة بعلبة السجائر، مثل بلزاك وفولتير اللذين كانا يحتسيان ما بين 40 و50 فنجان قهوة، والبعض يفضل الجلوس بالمقهى، فيما يعشق البعض الآخر العزلة والهدوء التامين، وهناك من يعشق الموسيقى، وهناك من يرتدي ملابسه كاملة كمن يستعد لمغادرة المنزل. وما بين الغرابة والطرافة والتلقائية تتنوع «العادات الكتابية» أو الطقوس، لكن ذلك لا يمنع أيضًا من أن يطارد المبدع شبح «الانسداد الكتابي»، وحينها قد يغير من عاداته أو يثور عليها أو يستسلم للانسداد ريثما يغادره ذاك الشبح. «فضاءات» دخلت محراب عدد من الأدباء العرب للتعرف على عاداتهم وطقوسهم، وأيضًا أسلحتهم لمحاربة الانسداد الكتابي:
الروائي اللبناني جبور دويهي، صاحب «شريد المنازل» يكشف عن عاداته الكتابية قائلا: «الواقع أني رجل عادات ومقاهٍ. أكتب في الخارج، أبعد ما يكون عن غرفة نومي، يوميًا من دون استثناء عندما انطلق في مشروع روائي، بين العاشرة صباحًا والواحدة، في مقهى يكون متوسط الضجيج.. أبدأ بقلم الرصاص وأنتهي أمام لوحة مفاتيح حاسوب (أبل). وقبيل الفراغ من الكتابة أترك ذخيرة لليوم التالي أبدأ منها من جديد. لكني عموما بطيء.. فلا يتجاوز عدد كلماتي التي أعدّها دائمًا المائة كلمة».
أما الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، صاحب «لا أحد ينام في الإسكندرية»، فهو لا ينام فعلا طوال الليل، المخصص كله للكتابة. يقول: «علاقتي بالكون هي الكتابة. وعاداتي أثناء الكتابة بسيطة للغاية ولم تتغير منذ بدأت أمارسها، حتى عند انتقالي من منزل لآخر لم أغير غرفة مكتبي بما تحويه، أحتفظ فيها بثلاثة دواليب للكتب، وما يزيد عنها أتبرع به أو أهديه للأصدقاء.. أحب الضوء الأبيض (الفلوريسنت). أكتب الروايات عادة من بعد منتصف الليل وحتى شروق الشمس، لا بد أن أرى ضوء الصباح قبل أن أخلد للنوم، وأراجع ما كتبته بالنهار». وعن نمط كتابته الروائية، يقول: «لا أعمل بشكل منتظم. قد أكتب 3 سطور أو 3 صفحات. استمع إلى الراديو وتحديدًا (إذاعة البرنامج الموسيقى)، التي تبث الموسيقى الكلاسيكية والخفيفة طوال الليل دون انقطاع.. بجواري زجاجة مياه.. أشرب كثيرًا منها، وربما هي سبب بقائي على قيد الحياة.. كنتُ في الماضي أشرب الشاي والقهوة. مع التقدم بالعمر أصبحت أراجع قبل منتصف الليل فلم أعد أملك ترف الوقت»، أما كتابة المقالات فهو يكتبها في أي وقت وأي مكان. ويذكر أنه «في الماضي كنت أسافر للإسكندرية كل أسبوع وأزور معالمها لأن مشروعي الروائي كان مرتبطًا بها، لكني أومن بأن النسيان هو الثروة الحقيقية». ويتقبل صاحب «البلدة الأخرى» عقبة الانسداد الكتابي ويعترف: «تزورني من وقت لآخر لكني أعرف أنها ستزول تلقائيًا، وأحاول أن أسافر كثيرًا، وأستمع للموسيقى وأقرأ أكثر من أي وقت».
«لا توجد لدي طقوس للكتابة» هكذا يوضح الروائي الأردني صبحي فحماوي، صاحب «الإسكندرية 2050»، ويفسر ذلك «لأنني متورط في أكثر من مجال ثقافي، وكثيرًا ما اضطر لتحويل وقت قراءتي إلى كتابة.. والعكس صحيح.. فأنا أقرأ بغزارة يوميًا، ثم أكتب القصة، أو الأقصوصة، أو أواصل متابعة كتابة روايتي، أو أتابع نسج الدراما في عمل مسرحي، أو أكتب النقد.. ثم أعد وأقدم برنامجي الثقافي التلفازي الأسبوعي بعنوان (قناديل) على قناة (برايم) الفضائية». وعن نمط كتابته الروائية، يقول: «أصدر سنويًا رواية، أو عدة كتب منها قصص أو نقد، ولهذا لا توجد لدي طقوس كتابة.. فأنا لا أدخن، ولا أشرب الكحول، وقليلاً جدًا، ما أزور مقهى، ذلك لأن معظم المقاهي الأردنية مريضة بالتدخين والأرجيلة أولاً».
أما عن أسلوب حياته، فيقول: «منذ السادسة صباحًا أغسل، وأمارس الرياضة سيرًا سريعًا لمدة ساعة، أتفقد فيها نباتات حديقتي، وأُفتِّح في كل زهرة جديدة من أزهار حديقتي الحبيبة، أو أودع محزونًا كل زهرة تذبل لتجف.. حيث إنني مهندس حدائق.. أعبر في عبير الحدائق وأتأمل كل زواياها خمسين دورة يوميًا.. ثم أعود لتصفح وقراءة الصحف. وأكتب مقالاتي. وبعدها أنام القيلولة لأعود بعد ذلك للكتابة التي لا تكون مبرمجة، بل تكون مثل موج البحر».
أما عن الانسداد الكتابي، فيقول صاحب «قصص عشق كنعانية»: «لا أشعر به، فمثل شراهتي في الأكل، عندي شره في الكتابة التي ابتدأتها بتوسع عام 2005، فأنجزت حتى اليوم أكثر من 20 كتابًا.. وكثيرًا ما أشعر بألم المخاض في حمل صادق لرواية يثقلني حملها.. فأواجه هذه الآلام بالقراءة أو الابتعاد برحلة سياحية.. أو بالنوم.. نعم أنام مرة في الليل، ومرة أو مرتين في النهار لمدة ساعة في كل مرة، (أفلتر) خلالها تراكم الكتابات والمعلومات والقضايا الشائكة التي تملأ رأسي.. وأحاول التخلص من فضلاتها التي تملأ رأسي».
وتقول الروائية المصرية منة الله سامي عن عاداتها الكتابية: «عادة أكتب في وقت متأخر من الليل بعد أن يخلد الجميع إلى النوم، حينئذ تستنفر في داخلي طاقة الإبداع بعد أن تتبدد طاقتي في مواجهة متطلبات حياتي اليومية وعملي. وأنا لا أستجدي فكرة لأشكل منها قصتي لأنني لا أكتب إلا إذا كنت مسكونة تمامًا بهذه الفكرة التي تلح علي في صحوي وفي منامي، وعادة ما تكون مرتبطة بحدث يؤلمني مثل اجتياح الدواعش لآثار (نينوى)، في العراق، ومحاولتهم محو أثر إنساني قاوم الزمن لقرون وقرون. وقد تكون الفكرة أقرب إلى شطحة من شطحات العلماء الذين يتطلعون إلى مستقبل البشرية فتجيء ومضة خاطفة يصنفها النقاد تحت (أدب الخيال العلمي)».
وعن نمط كتابها الروائية توضح: «أنا ممن يكتبون القصة دفقة واحدة، ربما على الورق وربما على الحاسوب مباشرة أو ربما على هذه الهواتف الذكية التي فقدت من خلالها كثيرًا من نصوصي. وعادة ما تجر القصة أخواتها لتشكل مجموعة قصصية في موضوع بعينه، هكذا فعلت في (مخدع) التي تستلهم أساطير اليونان والشرق القديم، أو (كِمت) التي تتساءل عن أصل مصر، وتدين السفهاء منا، أو (فلول وأنوف) التي تعالج ما طرأ على المجتمع المصري من متغيرات عجيبة إبان ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، ومحاولة الالتفاف عليها من جماعة بعينها».
ويتحدث لنا الروائي والطبيب السوداني أمير تاج السر، صاحب «صائد اليرقات» عن طقوس الكتابة لديه قائلاً: «لا أكتب في البيت إلا نادرًا، ولا أكتب في الليل كما يفعل الكثيرون، وقد قمت منذ سنوات طويلة، باختراع مكان خاص بالكتابة، ارتاده يوميًا حين أكون منغمسًا في نص جديد، أو حتى لكتابة مقال من تلك التي أكتبها بصفة دورية، هذا المكان هو ركن ليس هادئًا تمامًا، في فندق متوسط بمدينة الدوحة حيث أقيم، وفي ذلك الركن أفتح كومبيوتري، وأنغمس بسرعة في كتابتي، ويمكن أن أرد على تحية عابر بقربي، ولا أنفصل عن الكتابة، أو أنهض وأتمشى قليلا وأعود».
وعن نمط كتابته الروائية، يكشف: «أكتب في العادة صباحًا، من الثامنة حتى الثانية عشر ظهرًا، وفي العادة أكتب ألف كلمة في اليوم، لا أزيدها إلا نادرًا، وحين يكون الزخم شديدًا، ويجبرني على الكتابة، في الثانية عشرة أغلق الكومبيوتر، وأذهب لعملي الرسمي، الذي أحوله للمساء، وكما ترين فهي مسألة مرهقة أن يقوم الإنسان بكل ذلك، وهي حقيقة أيام اكتئاب قصوى، أنفصل فيها عن عالمي المعتاد، ولا أتحدث مع أفراد أسرتي إلا قليلا. في اليوم التالي أعود صباحا، أقرأ ما كتبته بالأمس قبل الانتقال لفقرات جديدة، وحقيقة أنا لا أخطط لأي نص، تأتيني الفكرة وأقوم بكتابتها مباشرة وأترك النص يقودني إلى حيث يريد، وكثيرا ما ينتهي نهاية لا أتوقعها قط، لكني أتركها ولا أقوم بتعديلها».
وعن العادات المصاحبة للكتابة الروائية، يقول: «أشرب القهوة بكثرة أيام الكتابة حتى ينتهي النص، وتتراوح عادة بين شهر وثلاثة أشهر، بحسب طول النص واتساعه. في الماضي كنت أدخن كثيرا، لكني تركت التدخين منذ سنوات واستطعت أن أواصل الكتابة بلا سجائر. حين ينتهي نصي، أقوم بمراجعته وإجراء بعض التعديلات البسيطة، لأنني أومن بأن النص الحقيقي، هو الذي يجيء في دفقة الكتابة الأولى، ولا ينبغي تخريبه بالحذف والإضافات الكثيرة».
أما عن الانسداد الكتابي لديه، يقول صاحب «مهر الصياح»: «ليس لدي مسألة انسداد الكتابة، فأنا أعتقد أنها عمل احترافي، أو صنعة مثل غيرها من الصنع، وعلى الكاتب الموظف في الكتابة، أن يعمل باستمرار، أو على الأقل، يترك للقراءة والكتابة بضع ساعات في يومه».
وعن الكتابة وطقوسها لدى الروائي المصري ناصر عراق، صاحب «الأزبكية» يقول: «الكتابة بالنسبة لي ومضة فرح.. الكتابة فعل حياة ممتع ومعذّب.. إنها عمل مجهد ومضن، مثل الفلاحة في الأرض، حيث لا يمكن أن تمنحك ثمارها الشهية إلا عندما تخلص لها ويسيل من روحك عَرَق الإبداع».
أما عاداته الكتابية فيلخصها بقوله: «منذ زمن بعيد أدركت أن الكتابة الناجحة المؤثرة لن تتأتى إلا بالالتزام الصارم، بمعنى، الإقبال عليها وممارستها بشكل يومي، دون انتظار وحي يأتي من هنا، أو خاطر يطل من هناك. إن الدأب والمثابرة والاستمرارية هي التي تولد الوحي، وهي التي تشحذ سلاح الإلهام، وقد تعلمت هذه الحكمة من والدي المرحوم عبد الفتاح عراق الذي اعتبره مثقفا عصاميًا بامتياز».
ويستطرد: «هكذا إذن أصبحت أعانق الكتابة كل صباح منذ سنوات طويلة.. أعانقها بشغف ومحبة.. أستعجل النوم مبكرًا في الليل، لأصحو صافي الذهن قادرًا على استقبال معشوقتي التاريخية. أجل كل صباح دون مبالغة، ففي تمام السادسة صباحًا أجلس إلى مكتبي، سواء في العمل أو في البيت، في حضرة الورقة والقلم فيما مضى، أو أمام شاشة الكومبيوتر حاليًا.. أكتب نحو ساعتين أو ثلاث في صمت تام، لا حركة.. لا صوت.. لا نأمة.. ولا موسيقى ناعمة، ولا زقزقة عصفور.. ففي حضرة الكتابة لا يعلو صوت فوق صوت الكلمة!».
أما القاصة والروائية سعاد سليمان، صاحبة «شهوة الملايكة» فتقول: «لا توجد لدي طقوس خاصة للكتابة. أستعد للكتابة بالقراءة المكثفة التي قد تصل إلى 100 كتاب، حتى أجد نفسي أمسكت بالقلم الجاف والورق المسطر وبدأت أكتب». وعن نوعية قراءاتها التي تستعد بها للكتابة، قالت: «أقرأ في جميع المجالات.. تاريخ وأدب وفلسفة وشعر ومسرح». أما عن عاداتها في الكتابة فتقول: «أكتب في عزلة وأنا بمفردي، لا أحدد لنفسي وقتًا محددًا للكتابة، وقد أظل 5 سنوات دون كتابة أي عمل جديد».
وعن اختلاف عادات الكتابة ما بين القصة والرواية، تقول سليمان الحائزة على جائزة «متحف الكلمة» العالمية في القصة القصيرة: «القصص تخرج كلها دفعة واحدة، لا يمكن أن تتم على مراحل، لا بد أن أنتهي منها في جلسة واحدة. قد أعدل بعضا منها أو كلها أو حتى أتخلص منها أو أقطعها.. هي بالنسبة لي (موال الإبداع) الذي يخرج دفقة واحدة، أما الرواية فقد أكتب كل شهر فصلا مثلا».



عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي
TT

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة، وإسهامه على مدى أربعين عاماً في المشهد الشعري العراقي.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة وتجربته الروائية:

> أنت شاعر مكرس، ولك حضور مهم في راهن الشعر العراقي. وأخيراً فاجأت القراء والنقاد برواية جديرة بالوقوف عندها، ما الذي دفع بك إلى ذلك؟

- الشعر، أتوقع الشعرَ وليس سواه، هو ما دفع بي إلى الرواية، أو بتعبير آخر هو ما ألجأني إلى السرد، وكان سرداً روائياً. للشعر فضائل كثيرة على مَن يقيم فيه، والكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر حين فتح لي أفقاً آخر في الكتابة، وهو أفق الكتابة الروائية.

منذ أكثر من عشرين عاماً كان الشعر يستدعي مني، من خلال ما كتبت من دواوين، اعتماد تقنيات «السرد الشعري» في كتابة الكثير من نصوص تلك الدواوين، حتى تكرّس هذا بشكل خاص في ديوان «شريط صامت»، وهو ديوان مكرس تماماً لرؤية الحياة في ظروف الحرب والعنف التي عاشها العراقيون، ثم ما تلاه من دواوين.

لكن الشعر، في جانبٍ مهم من صيانيته، عادة ما يحصّن نفسه من الانسحاق، ومن مواراة هويته، وذلك كلما كان بصدد الانفتاح على السرد وسواه، بهذا كنت أميّز بين السرد، كما هو في مواطنه بالرواية والقصة القصيرة وسواهما من فنون السرد النثري، وبين الطابع الخاص، التقني والبلاغي والتخييلي، لما سميته قبل قليل بـ«السرد الشعري».

بهذا، وفي موازاة اندفاعي باعتماد السرد في الشعر، كانت كتابتي في النثر تنمّي قدراتها حتى صار السرد في أحيان كثيرة من مستلزمات كتابتي المقالة، وحتى بعد ذلك حين أنجزت كتاب «واقف في الظلام»، وهو كتاب أقرب إلى السيرة الشخصية ممتزجة بسيرة مجتمع خلال سنوات أواخر القرن الماضي، وحتى كتابتي بعد ذلك «طريق لا يسع إلا فرداً»، وهذا كما تعرف كتاب نظري في الفكر الشعري. كلا الكتابين كانا يعتمدان بشكل أساس على الإفادة من السرد. لقد عدّ بعض النقاد والقراء كتاب «واقف في الظلام» رواية سيرية، وهذا ما لم أكن مخططاً له، لكني كنت خلال العشرين عاماً الأخيرة أروي الأفكار والرؤى والوقائع، والقصائد أيضاً كحكايا، كوقائع سيرة للأفكار والأحداث.

> لم تشر، في هذا السياق والاستذكار، إلى كتابك الأخير «في نبض العالم»، وهو كتاب مكرس بالكامل عن الحياة في العمى، لقد امتزج فيه السرد بالشعر بشكل حاد، أعتقد أنه حمل عنواناً فرعياً تصف به نصوصه على أنها «سيرة الأعمى، وقد رأى كل شيء»...

- نعم، هذا الكتاب ما كدت أكمله، وقد استغرق مني عاماً، حتى وجدته يسلمني مباشرة إلى كتابة الرواية، «غريزة الطير».

> تريد أن تقول إن الرواية كانت بوحي من هذا الكتاب؟

- لا، أبداً... لكن كتاب «في نبض العالم» كان قد مضى بي إلى السرد، إلى أقصى ما مضيت به في السرد، لقد خرجت منه وأنا مشبع بروح السرد وطاقته.

في الحقيقة بقيت سنوات طويلة كنت آملاً خلالها أن أكتب رواية، ولم أستطع ذلك، لم أجرب، لم أحاول. فجأة وجدتني أكتب وأستمر أكتب بلا انقطاع. كنت أشعر أني ممتلئ بطاقة كبيرة على السرد، كما لو أن سنوات التمني كانت خزانة ملؤها تلك الطاقة، لقد انفتحت الخزانة ومعها تدفقت كتابة السرد.

> كيف حصل هذا؟

- الحكمة التي خرجت بها تفيد ألا تقسر نفسك على الكتابة إن استعصت، ولا تتمنّع عليها إن أقبلت.

هذا ما يحصل عادة في كتابة الشعر، وأجد أنه قابل للتعميم على أي كتابة جادة ومنطلقة من دافع حقيقي.

> قوبلت «غريزة الطير» باستحسان من قبل النقاد والكتّاب، هل ستكون نقطة افتراق عن الشعر، خصوصاً أنك أصدرت كتاب «الأعمال الشعرية» بعد فترة قصيرة على صدور الرواية؟

- لا، لماذا نعتقد أنه لا تعايش ما بين الأجناس المتنوعة في الكتابة والفن؟ لماذا نعتقد ألا ينهض جنس كتابي لدى كاتب إلا على دفن جنس آخر؟ نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر. وواقعاً حتى من دون الانشغال بالرواية من الممكن عدم الإقبال على كتابة الشعر، والعكس صحيح أيضاً. لا مشكلة في ذلك ما دامت الكتابة تعبيراً عن حاجة، تكفُّ الحاجات ربما فتكفّ معها الرغبة بالكتابة، سواء في الشعر أو في سواه.

> ولكن كلما فكّر شاعر بكتابة رواية فغالباً ما يقال إن اللجوء للرواية نتاج للإحساس بإزاحتها الشعرَ من عرشه، خاصة مع تطور هذا الفن «أعني الرواية» في العراق، في العقدين الأخيرين؟

- كلانا كما أعتقد نتحدث هنا عن الأدب الجاد، عن الكتابة الجادة. وإزاء جدية الحياة في الكتابة، شعراً أو رواية، لا أعتقد أن التنافس ما بينهما انتحاري، أي لا يقوم فن إلا بنحره فناً آخر.

نحن نحيا في عالم مستمر بتغيراته السريعة، تغيرات تلقي بظلالها على كل شيء... فرص الإمتاع تتنوع، بما يدفع بملايين البشر إلى أن ينشغلوا باهتمامات قد لا تطرأ في بالنا.

لا ينبغي لنا، نحن بشر هذه السنوات، أن نتأسى على بشر المستقبل لافتقادهم ما نراه الآن ضرورة لا تستقيم الحياة من دونها.

الشعر والأدب والفن عموماً يجري إنتاجها استجابة لحاجات منتجيها أولاً وإن انتفت حاجة المحتاجين لهذا الإنتاج مستقبلاً فلا ضير في ذلك.

أكتب الشعر كحاجة شخصية، وكتبت الرواية كاستجابة لحاجة أخرى مقابلة. في الحالين كنت أتنفّس متعتي الوجدانية والذهنية، وبالتالي فلا أقف كثيراً عند من سيبقى أو سيموت من الفنون والآداب.

> ما زلت بصدد الصلة ما بين الشعر والسرد... لكن بدا لي أثناء قراءتي الرواية أنك كنت حذراً من الوقوع في أسر الشعر بلغتك، فاعتمدت لغة واضحة، أتساءل: ما إذا كان ذلك بسبب واقعية الكثير من أحداث الرواية؟

- فعلاً كانت هذه مشكلة أثناء الكتابة. ليس من اليسير أن تعرف أنك، كشاعر، ما زلت مستمراً بلغة الشعر فيما أنت تكتب رواية. هذه مشكلة كثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية، وهي أيضاً مشكلة كاتب الرواية غير الشاعر حين يريد «تزيين» لغة الرواية ببلاغة شعرية، هذه بلاغة غالباً ما تكون فجّة لمجيئها خارج سياقها المألوف.

سوى هذا التعمد هنالك اللاوعي، فبعد سنوات طويلة من كتابة الشعر تأخذ بلاغة اللغة الشعرية فرصها للعمل والظهور في الكتابة النثرية بتلقائية دونما وعي من الشاعر.

قد تساعد الخبرة الصحافية، لكاتب مثلي، في ضبط اندفاع لغة الشعر، لكن الكتابة الصحافية شأن آخر. ففي الرواية يكون الكاتب أمام وضع آخر لا صلة له بلغة الصحافة، إنه أمام رواية، وهي نص أدبي، تحتاج بلاغة أدبية نثرية، وهذا ما يضاعف مسؤولية الكتابة في نص أدبي روائي. كان خياري أن أرجئ التفكير في هذه المشكلة لما بعد الانتهاء من الرواية، وفعلاً قمت بأكثر من مراجعة لها، كنت أسعى خلالها لاصطياد أي أثر بلاغي شعري جاء في غير محلّه، وبالمقابل عملت على تنمية البلاغة النثرية الأدبية في نص الرواية. في كل حال هي مهمة ليست باليسيرة لكنها لم تكن مستحيلة، وكان لصبري على الرواية أثر مهم في هذا الجانب.

> هل كنت متعمداً تناص عنوان الراوية، «غريزة الطير»، بشكل أو بآخر مع «منطق الطير» لفريد الدين العطار، خاصة أن هناك تماثلاً بينهما في الثيمة المركزية، كما تتجلى سردياً في الرواية، مما يوحي بأنها نص موازٍ؟

- حقيقة لم أكن أفكر بهذا، لقد جاء هذا العنوان «غريزة الطير» متأخراً بعد إنجاز مراجعتها وبعد أكثر من عنوان لم تصمد جميعها أمام تبرّمي منها لحين ما استقررت على العنوان الأخير، وهو مستلّ من متن الرواية.

أعتقد أن اهتمامات «غريزة الطير» كانت أرضية، وثيقة الصلة والانشداد إلى حياة أفراد ومجتمع ومدينة بخلاف ما عني به كتاب «منطق الطير» من اهتمامات متعالية. الطير يتعالى في كتاب فريد الدين بينما طائر الرواية أوّاب منشدّ إلى مدينته وأرضه.

في كل حال، لا أدري، ربما يجد قارئ ما يمكن أن يؤكد الصلة التناصية التي تشير إليها ما بين الكتابين.

> إلى أي مدى ظلت «غريزة الطير» تتحدث عن إشكالية الهوية الاجتماعية، وعلاقتها بالآخر الذي يقاسمها المكان، والوجود، من خلال الشخصيات التي أرى أنها استحدثت بقصدية واضحة؟

-ـ كنت منشغلاً في الرواية، بجانب أساس منها، بمصائر الأرستقراطية الوطنية العراقية، التي نشأت في أربعينات وخمسينات القرن العشرين وبدأت بالاندحار ما بعد ذلك. الأب سليمان زيني كان عضواً فاعلاً، في شبابه بالبصرة، بالحزب الوطني الديمقراطي، وكنت أرى فيه معبّراً إلى حدٍّ ما عن مصير الليبرالية العراقية، وهذا جانب من سيرورة المجتمع لم يحظَ باهتمام يذكر سواء في الأدب أو الفكر السياسي.

نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر

> الشخصية المحورية آدم زيني، تقدمه بوصفه المرشد والحكيم، فالجميع يخطب وده وينشد حمايته، حتى (الأب) سليمان زيني يقول عنه: «هو معلمي»، هل هناك قصدية ما في بناء هذه الشخصية، أم هو اعتراف، وانحياز منك، لحكمة ودراية الآخر ذي النسب الإنجليزي؟

- سعيت كثيراً من أجل أن أضمن لشخصيات الرواية حريتها، استقلاليتها عني. من هنا تمتع آدم بقدر وافٍ من الحرية التي جعلت منه شخصاً يبدو مستقراً آناً ومضطرباً في آنٍ آخر. كل شيء واضح في ذهنه، لكن التعبير عن كل شيء يظل بالنسبة له غير ممكن وغير واضح وحتى ملتبساً بالنسبة للآخرين.

لا أستطيع هنا التحدث عن شخصية مثل شخصية آدم. ثمة الكثير لم تقله الرواية، وهو مما ظل يعتمل في دخيلة آدم، وبعض هذا الكثير يستعصي فهمه وإدراكه علي أنا المؤلف الذي متّع شخصيات روايته بحريتها واستقلالها عنه. لم يكن هذا خللاً في البناء الروائي، إنما هو تعبير صامت عن طبيعة شخصية آدم، وهي طبيعة كتوم.

شخصية آدم هي من نسج جهده الشخصي في أغلب طباعها. بالتأكيد هو وَرِثَ جانباً من خصال أمه، المحافظة الإنجليزية وبعضاً من طبائع أبيه الليبرالي العراقي، لكن آدم ظل ماهراً في صنع شخصيته كما أرادها هو وحرص عليها.

> حكاية (جاسم السماك)، وهو شخصية ثانوية في الرواية، حول رؤيته رفض الكلاب نهش جثث القتلى عام 1991. هل ترى ذلك إحالة واضحة للواقعية السحرية، والتي يرى الكثير من النقاد التأثر الواضح للروائيين العراقيين بها؟

- حكاية جاسم حقيقية، روى لي صديق بصري واقعتها. في أحيانٍ كثيرة كان واقعنا أغرب من الخيال. ثمة الكثير من الكنوز السوداء التي ينبغي للأدب أن يخرجها من خزائن الألم العراقي، ما زال أدبنا زاهداً بهذه الكنوز.

> قبل أن أودعك، هل من رواية أخرى؟

- أنجزت بشكل أولي رواية قصيرة «السيدة مفسّرة الأحلام»، أبقيتُها بعيدة عني منذ أسبوعين، ربما أحتاج إلى أسبوع آخر لأعود بعده إليها بهدف المراجعة قبل دفعها للنشر.