سجون «سي آي أيه» حول العالم: أضرار لا يمحوها الزمن

عشرات المعتقلين من خريجي «غوانتانامو» يعانون مشكلات عقلية ونفسية

لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)
لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)
TT

سجون «سي آي أيه» حول العالم: أضرار لا يمحوها الزمن

لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)
لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)

قبل أن تسمح الولايات المتحدة باستخدام أساليب مرعبة لاستجواب المعتقلين، كان محامو الحكومة ومسؤولو الاستخبارات على يقين من أن الوسائل التي يتبعونها مع المشتبهين في قضايا الإرهاب ستكون مؤلمة وصادمة وأنها بعيدة تماما عما سمحت به سلطات بلادهم في أي وقت مضى. إلا أنهم انتهوا إلى أن أيًا من تلك الأساليب لن تترك أثرا نفسيا على المدى البعيد. وبعد خمسة عشر عاما ثبت خطأ اعتقادهم.
اليوم في سلوفاكيا، يصف حسين المرفدي ما يعانيه من صداع دائم ونوم متقطع تتخلله أحلام يرى فيها كلابا في زنزانة معتمة. وفي كازاخستان، تسيطر الكوابيس على لطفي بن علي الذي يرى نفسه يصارع الغرق في بئر عميقة. وفي ليبيا، فإن صوت راديو منبعثا من سيارة مسرعة كفيل بإثارة غضب مجيد مختار ساسي، لأنه يذكره بالفترة التي قضاها بسجن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) حيث كان يتعرض لضجيج الموسيقي الصاخبة المتواصل بصفته أحد أساليب التعذيب لحواسه.
هناك أيضا آخرون ممن يقولون إنهم لم يعودوا كما كانوا، حيث يقول المغربي يونس شكوري إنه يخشى الخروج من بيته، لأنه يرى وجوها وسط الزحام يعتقد أنها لنفس حراسه القدامى بمعتقل غوانتانامو، ويعبر عن ذلك بقوله: «أعيش هذا النوع من الرعب. لم أعد إنسانا طبيعيا».
فبعد صنوف العذاب التي ذاقوها في السجون السرية التابعة لـ«سي آي إيه» المنتشرة حول العالم والممارسات التي أجبروا عليها في معتقل غوانتانامو بكوبا، ظهرت على العشرات من المعتقلين السابقين أمراض عقلية مزمنة، بحسب سجلات طبية لم يكشف عنها بعد وسجلات حكومية ومقابلات شخصية أجريت مع معتقلين سابقين وأطباء عسكريين ومدنيين. ظهرت على بعض المعتقلين الأعراض نفسها التي ظهرت على أسرى الحرب الأميركيين الذي تعرضوا للتعذيب قبل ذلك بعقود على يد أكثر أنظمة العالم وحشية.
كان من بين المعتقلين في السجون التابعة للولايات المتحدة بعض ممن اعتقلوا على سبيل الخطأ أو استنادا إلى أدلة ضعيفة تبرأت منها الولايات المتحدة لاحقا. كان هناك أيضا آخرون ممن كانوا جنودا صغار السن لدى طالبان أو «القاعدة» ممن تبين لاحقا أنهم لا يمثلون تهديدا يذكر. في حين كان هناك بعض من عتاة الإرهابيين، ممن يشتبه بتورطهم في التخطيط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، أو تفجير المدمرة الأميركية «كول» عام 2000. وفي حالات كثيرة، وقفت حالتهم العقلية عائقا أمام محاولات تقديمهم للعدالة.. فقد دخل الأميركيون في جدل طويل حول تركة ما بعد أساليب استجواب المتهمين في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حيث تساءل الأميركيون عما إذا كان ذلك يرتقي لدرجة التعذيب أم إن السلطات نجحت بالفعل في استنطاقهم للحصول على المعلومات. وعلى الرغم من استمرار الرئيس أوباما في نقل المعتقلين من معتقل غوانتانامو، فإن المرشح الجمهوري دونالد ترامب يصر على العودة لاستخدام الأساليب القديمة المحظورة نفسها حاليا، مثل تكنيك «محاكاة الغرق»، وهو أسلوب التعذيب الذي ندد به العالم.
وعلى الأقل، فإن نصف العدد البالغ 39 معتقلا الذين مروا ببرنامج «الاستجواب الصارم» على يد «سي آي إيه» - الذي تضمن حرمانهم من النوم، وسكب الماء المثلج عليهم، وضربهم بالحائط، ووضعهم في توابيت بعد تكفينهم أحياء - ظهرت عليهم أعراض أمراض نفسية، وجرى تشخيص حالاتهم على أنها «اضطراب ما بعد الصدمة»، و«جنون العظمة»، و«الاكتئاب» أو «الذهان».
مر كذلك بضع مئات آخرون من السجناء على غوانتانامو، حيث تعرضوا لما يعرف بـ«الحرمان الحسي»، والعزلة، والتهديد باستخدام الكلاب.. وغيرها من الأساليب، ونتيجة لكل ذلك ظهرت عليهم أعراض مرضية خطيرة.
قال بن رودز، نائب مستشار الأمن القومي، إنه «من دون شك، فإن هذه الأساليب تتنافى مع قيمنا نحن الأميركيين، والنتائج المترتبة عليها تمثل تحديا دائما لنا؛ دولةً وأفرادًا قريبين من تلك القضية».
في الحقيقة، لم تدرس حكومة الولايات المتحدة التأثيرات النفسية بعيدة المدى لأساليب الاستجواب غير العادية التي اتبعتها.
ولدى سؤاله عن الضرر النفسي الذي قد يعانيه المعتقلون السابقون على المدى البعيد، أفاد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية بأن المعتقلين كانوا يتلقون معاملة حسنة ورعاية ممتازة، وهو التصريح الذي رفض المتحدث الرسمي باسم «سي آي إيه» التعليق عليه.
اعتمد هذا الموضوع على عدد كبير من الحالات بصفتهم عينات، وعلى التدقيق في مئات الوثائق، كسجلات المحاكم، وتقارير اللجان العسكرية، والفحوصات الطبية. وأجرت صحيفة الـ«تايمز»، أكثر من مائة مقابلة شخصية، بعضها مع معتقلين سابقين في 10 دول. غير أنه من المستحيل تقديم تقرير واف، لأن كثيرا من المعتقلين السابقين لم يعرضوا نهائيا على أطباء أو محامين خارجيين، ولذلك، فإن أي سجلات عن المعاملة التي تلقوها أثناء الاستجواب وعن حالتهم الصحية، تبقى موضع جدل.
ويحذر الباحثون من أنه من الصعب تحديد السبب والنتيجة في الأمراض العقلية، فقد تعرض بعض معتقلي «سي آي إيه» والجيش الأميركي لمشكلات نفسية ربما جعلتهم عرضة لمشكلات نفسية على المدى البعيد، في حين أظهر آخرون مرونة كبيرة في التعامل. يتسبب الاحتجاز غير محدد المدة من دون محاكمة الذي اخترعته الولايات المتحدة في ضغوط نفسية كبيرة. وأفاد استشاريون طبيون خارجيون ومسؤولون حكوميون سابقون بأن «ثمة علاقة تربط بين الممارسات الفظّة والحالة النفسية (للمعتقلين السابقين)».
بيد أن القائمين على العلاج النفسي للمعتقلين بسجن غوانتانامو لم يكلفوا أنفسهم عناء سؤال المعتقلين عما حدث لهم أثناء الاستجواب، رغم أن بعض الأطباء النفسيين لاحظوا آثار الضرر النفسي بعد الاستجواب مباشرة.
بيد أن ألبرت شيمكوس، نقيب متقاعد في البحرية الأميركية عمل ضابطا بمستشفى غوانتانامو في السنوات الأولى لإنشائه، عبر عن ندمه على عدم سؤاله المعتقلين عما كانوا يتعرضون له، قائلا: «كان هناك تعارض بين مهامنا وواجبنا تجاه مرضانا، وواجبنا بصفتنا جنودا تجاه مسؤولي السجن».
فبعد الإفراج عن السجناء من المعتقل الأميركي، لم يجد البعض أي مساعدة أو إغاثة، فمثلا تعرض التنزاني محمد عبد الله صالح الأسد وغيره، للاختطاف والاستجواب والسجن، قبل أن يعاد إلى بيته ثانية من دون إبداء أسباب وفي حالة ذعر شديدة من عملية الاستجواب، والعزلة، والخجل من الأذى الجنسي، والإجبار على التعري، والتعرض لفحص جسدي مخجل.
مات أسد في مايو (أيار) الماضي بعد أن قضى أكثر من عام كامل متنقلا بين عدد من المعتقلات التابعة لـ«سي آي إيه». فبحسب اعترافات أرملته المدونة في سجلات «اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان»، فقد اعترف لها سرا، «كأي حديث خاص بين الزوجة وزوجته، بأنه تعرض للامتهان، وأن هذا الإحساس لم يفارقه أبدا».

ممسحة بشرية
في غرفة باردة بمعتقل غوانتانامو كانت مخصصة للاستجواب، تقابل ستيفن زانكيس، طبيب نفسي عسكري سابق، مع جندي سابق في سن الطفولة كان يعمل مع تنظيم القاعدة يدعى عمر خضر. كان هذا في ديسمبر (كانون الأول). وكان خضر (كندي الجنسية)، 15 عاما، أصيب وألقي القبض عليه بعد تبادل لإطلاق النار في مجمع سكني إرهابي مشتبه به في أفغانستان حيث أرسله والده، عضو «القاعدة»، للترجمة للمقاتلين الأجانب، وفق عمر. بعد ذلك بسنوات، جرى إدانة عمر بارتكاب جرائم حرب، منها إلقاء قنبلة يدوية قتلت طبيبا بالجيش الأميركي. وكشف عمر أنه بال على نفسه أثناء أحد التحقيقات، فما كان من المحققين سوى جره على الأرض واستخدموه ممسحةً. كان عمر حينها أصغر معتقل في غوانتانامو.
وبحسب إفادة عمر للمحامين، فقد تعرض عمر للحرمان من النوم، وتعرض للبصق على وجهه، والتهديد بالاغتصاب، وأنه بعد خروجه من المعتقل «بات يرى في أحلامه أنه ملقى في قاع بئر وأنه يختنق».

إحساس دائم بالغرق
لا يستطيع الليبي محمد بن سعود أن يتذكر تحديدا متى بدأ الأميركان في سكب الماء المثلج فوقه لتعذيبه، فقد كان معتقل «سي آي إيه» في أفغانستان، المعروف باسم «حفرة الملح»، معتم دائما، ولذلك لم يكن يشعر بالأيام وهي تمر. أطلق الأميركان اسم «الإغراق بالماء»، لكن المصطلح لا يوحي بما تتضمنه العملية من تفاصيل مؤلمة؛ فقد أفاد الليبي محمد بن سعود في وثائق المحكمة وفي المقابلات الشخصية بكيف أجبروه على خلع ملابسه، ووضع يديه المقيدتين فوق رأسه والوقوف في إناء بلاستيكي طويل بغطاء أحيانا. كان أحد مسؤولي «سي آي إيه» يسكب الماء المثلج فوق رأسه، في حين يقوم اثنان آخران برش الماء البارد فوق جسده العاري الذي أخذ يرتجف، وتعرض لهذا التعذيب عدة مرات. كان الليبي محمد ضمن أول من أرسلوا إلى سلسلة معتقلات «سي آي إيه» المنتشرة في أفغانستان، وتايلاند، وبولندا، ورومانيا، ولتوانيا. وأفاد بأنه قال للمحققين الأميركان مرارا وتكرارا إنه ليس عدوهم، وإنه ليبي سافر إلى باكستان عام 1991 وانضم إلى حركة مسلحة تهدف إلى الإطاحة بالديكتاتور معمر القذافي. غير أن السلطات الباكستانية والمسؤولين الأميركان اقتحموا منزله عام 2003، إلا أنه أنكر صلته بأسامة بن لادن أو أي من أعضاء «القاعدة».
وفي عام 2004، أعادته «سي آي إيه» إلى ليبيا التي اعتقلته إلى أن ساعدت الولايات المتحدة ليبيا في الإطاحة بحكومة القذافي بعد ذلك بسبع سنوات. وفي مقابلات شخصية، أفاد وغيره من الليبيين، بأن المعاملة التي تلقوها من سجاني نظام القذافي كانت أفضل من تلك التي تلقوها من سجاني «سي آي إيه».
واليوم أصبح الليبي محمد بن سعود، 47 عاما، حرا طليقا، لكنه قال إنه في حالة خوف دائم من الغد، وإنه متشكك دائما من نفسه، وإنه يعاني كثيرا في اتخاذ حتى أبسط القرارات، وإن مزاجه يتقلب بسرعة وبشكل دراماتيكي.
ويحكي الليبي كثيرا في مكالمة هاتفية من منزله في مصراتة أن أطفاله كثيرا ما يسألونه: «أبي لماذا غضبت فجأة؟ لماذا أنت عبوس الآن؟ هل فعلنا ما يضايقك؟»، ويفسر السبب في ذلك بقوله إن الأميركان كثيرا ما كبلوه في أوضاع مثنية، وأحيانا كانوا يضعونه في صندوق بحجم أقل من التابوت ثم يحكمون غلق التابوت، وكثيرا ما كانوا يدفعونه إلى الحائط ويعلقونه في السقف في سجن تهزه موسيقي الروك الصاخبة. وأضاف: «كيف أشرح مثل تلك الأشياء للأطفال؟».
أقام الليبي محمد، ورفيقه السابق في معتقل «سي آي إيه»، وزميل ثالث، دعوى قضائية ضد الدكتور ميتشل والدكتور جيسين في المحاكم الفيدرالية، بتهمة انتهاك حقوقه وتعذيبه، وهي التهم التي أنكرها الطبيبان اللذان أفادا بأنهما لم يلعبا أي دور في عمليات الاستجواب.
يعد الليبي محمد أحد من شملهم تقرير لجنة الاستخبارات بالكونغرس الأميركي عام 2014 بصفته أحد ضحايا انتهاكات وأساليب تحقيق «سي آي إيه».

يونس شاكوري
أطلق سراحه بعد اعتقال لأكثر من 13 عاما من دون محاكمة. أفاد شاكوري بأنه شاهد الأطباء النفسيين في غوانتانامو، لكنه لا يثق بهم، فهو وغيره يرون أن الأطباء كانوا يبلغون المحققين بجميع المعلومات التي تخص حالتهم، وأنه في إحدى المرات أعطى الطبيب دواء مضادا للذهان لأحد المعتقلين، وطلب من المحقق أن يستغل الأعراض الجانبية، وهي الجوع، وفق طبيب آخر اطلع على السجلات، رغم أن المعلومات الطبية يجب أن تظل في طي الكتمان. لكن في حقيقة الأمر الوضع في المعتقل كان ينطوي على كثير من التناقض الذي يجمع بين واجب تقديم الرعاية الصحية، وفي الوقت نفسه انتزاع المعلومات من المعتقلين.
ومن الصعب قياس حدة المشكلات النفسية التي تسبب فيها غوانتانامو لمعتقليه، أو حتى تحديد عدد المرضى. لكن كثيرا من القصص ظهرت على السطح مع مرور السنين.
فقد أفاد باندي ديفيدسون، ضابط متقاعد في البحرية الأميركية عمل طبيبا نفسيا وتولى علاج المعتقلين في غوانتانامو منذ يوليو (تموز) حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2003، في مقابلة شخصية، بأن غالبية المعتقلين كانوا في صحة جيدة، مضيفا: «لكن هناك بالتأكيد كثيرا من الحالات العقلية. كان هناك كثير ممن ظهرت عليهم أعراض (اضطراب ما بعد الصدمة). وكان هناك من عانوا قلة النوم والكوابيس، ومن عانوا عدم التركيز، والاكتئاب والاضطراب».
كتب طبيبان نفسيان عملا بالمعتقل أن نحو 11 في المائة من المعتقلين تلقوا علاجا نفسيا، وهي نسبة أقل من تلك الموجودة في السجون المدنية أو بين أسرى الحرب الأميركيين السابقين. غير أن الطبيبين أفادا بأن أطباء غوانتانامو واجهوا تحديات في تشخيص الأمراض العقلية؛ أهمها صعوبة بناء الثقة، حيث رفض كثير من المعتقلين الخضوع للكشف الطبي وتلقي العلاج، وهو ما تسبب في ارتفاع أعداد الحالات.
بعد ذلك بخمس سنوات، نشر الطبيبان الجنرال زانكيس، وفينيسنت أكبينو المدير الطبي لمنظمة «أطباء من أجل حقوق الإنسان» بحثًا شمل 9 معتقلين ظهرت عليهم أعراض مرض نفسي بعد تعرضهم لأساليب استجواب عنيفة، مثل وضع خرطوم ماء في الفم بالقوة، ووضع الرأس في فتحة المرحاض، والتهديد بالقتل من قبل سجانيهم الأميركان.
واعتمد الطبيبان في بحثهما على تقارير الأطباء، وكذلك الاستجوابات التي ضمتها ملفات السجناء الذين كانوا ضمن أول الوافدين للمعتقل بعد إنشائه.

* خدمة «نيويورك تايمز»



«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

TT

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)
يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)

حتى بعد مرور عام على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لم يعرف أحد على وجه الدقة الهدف من الهجوم المباغت لحركة «حماس» الفلسطينية على إسرائيل، الذي يوشك اليوم على تغيير وجه الشرق الأوسط، ويجرّ خلفه 3 حروب، واحدة مدمرة في غزة، وثانية دموية في لبنان، وثالثة صامتة طويلة الأمد في الضفة الغربية، وعدة حروب باردة مع إيران وأذرعها في العراق واليمن وسوريا.

من المبكر الحكم على نتائج الهجوم الذي فاجأ إسرائيل، تحديداً لجهة إقامة دولة فلسطينية. ثمة وجهتا نظر، تفيد الأولى بأن 7 أكتوبر ستنتهي إلى مسار الدولة، ويزعم الثاني أن الباب قد فُتح لإسرائيل، ليس للقضاء على حل الدولتين، بل احتلال أجزاء من دول أخرى في المنطقة.

لكن بالنسبة لـ«حماس» التي بدأت الهجوم وتلقت الردّ عليه، يمكن القول إنها دفعت ثمناً لم تكن تتخيله يوماً. فماذا حدث خلال عام؟ وكيف أصبحت الحركة في ميزان الربح والخسارة؟

قبل الهجوم، كانت «حماس» بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين قوة لا يستهان بها، وليس من الوارد أن تضحي بموقعها ومكاسبها في حرب مدمرة، وكان هذا سر الهجوم، قبل أن يكلفها الكثير لاحقاً.

وإذا كانت الحرب قد بدأت بضربة «حماس» وغارات جوية إسرائيلية لاحقة، فالأكيد أن الحركة لم تكن تتوقع أن الحرب البرية ستكون بهذا الزخم الذي طال جميع مناطق غزة، متراً بمتر، وشبراً بشبر.

اليوم، فقدت «حماس» وجناحها المسلح، الكثير من الأشياء، كما أنها في المقابل كسبت أشياء أخرى.

خسرت «حماس» الكثير في هجوم 7 أكتوبر المباغت لكنها ربحت أشياء أيضاً (أ.ب)

حساب الربح... إحصاء الخسارة

على الأقل، فقدت «حماس» دعماً سياسياً ولو كان خافتاً من قبل دول أوروبية ودولية، ومثله دعم مالي لتمويل مشاريع حكومية ومؤسساتية وخدماتية لسكان غزة، وإلى حد ما تضررت علاقة الحركة بدول إقليمية دعمتها في الصراع ضد إسرائيل، أو ما يتعلق بالمصالحة مع حركة «فتح».

وبعد هجومها الكبير، نّدت دول بـ«حماس»، وبقي هذا الموقف يتصاعد مع مرور الأيام في ظل الحملة الإعلامية الإسرائيلية التي صاحبت هجوم 7 أكتوبر.

وخلال ذلك، ظهرت مؤشرات قوية على خسارة الحركة لكثير من شرعيتها التي اكتسبتها لسنوات بتطوير علاقات كانت صعبة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية، وعلى وجه الخصوص تضررت إلى حد ما العلاقة مع مصر وقطر، إذ قالت مصادر موثوقة لـ«الشرق الأوسط»، إن «علاقة (حماس) بهاتين الدولتين العربيتين لم تعد كما كانت».

ويفهم قياديون في «حماس»، وفقاً للمصادر، أنه «في لحظة ما قد تطالبهم قطر بالخروج (...) كما أن الوضع مع مصر لم يعد على أحسن حال».

وتطالب مصر اليوم، وتعمل على عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، ويشمل ذلك تسليمها معبر رفح البري، وليس إسرائيل أو «حماس».

مقابل ذلك، زاد دعم «حماس» في «محور المقاومة» المدعوم من إيران، لكن هذا الأخير تعرض لخسائر عدة على أصعد مختلفة بفعل الحرب.

وكسبت الحركة أيضاً تأييداً من دول مثل تركيا وروسيا، وإلى حد ما من الصين، الأمر الذي دفع مراقبين إلى الاعتقاد بأن «حماس» تموضعت في استقطاب إقليمي حاد، في لحظة تقترب فيها المنطقة من شفا حرب مفتوحة.

شعبية «حماس» ونفوذها

أيام قليلة بعد 7 أكتوبر 2023، ارتفعت شعبية «حماس» بشكل كبير في مناطق غزة والضفة الغربية. كان يمكن ملاحظة كيف أن الإعجاب بالهجوم المباغت طغى على كل شيء، ولكن سرعان ما تبدد كل ذلك، خصوصاً في القطاع، مع استمرار الهجمات الإسرائيلية التي كبدت الغزيين خسائر مريرة في الأرواح والأملاك.

وباتت غالبية من سكان غزة يُحمّلون «حماس» مسؤولية ما حلّ بهم، الأمر الذي أدى إلى تراجع تأييد الحركة بشكل كبير، وأفقدها ميزة الدعم الكبير.

رغم كل هذا التراجع، فإن الحركة ما تزال ترى نفسها جزءاً واضحاً من مستقبل غزة والقضية الفلسطينية، وأن لديها القدرة على البقاء سياسياً وعسكرياً ومدنياً وشعبياً حتى حكومياً.

ومع ذلك، فإن الحكم على قدرة «حماس» على البقاء من عدمه سيكون حين تنتهي الحرب، ويتبين شكل الشرق الأوسط في اليوم التالي، لكن الأكيد أن الحركة لم تعد قادرة على حكم القطاع الذي يحتاج إلى دعم دولي واسع لإنقاذ سكانه وإعادة إعماره، وإحياء اقتصاده المنهار.

يرى خبراء عسكريون أن بقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من «صورة المنتصر» (أ.ف.ب)

قيادات «حماس»... مَن بقي؟

فقدت «حماس» أهم قياداتها السياسية والحكومية والعسكرية، وجزءاً لا يستهان به من مسلحيها، إلى جانب ناشطين في المجالات الدعوية والاجتماعية والاقتصادية.

مع بداية الحرب، وصلت إسرائيل إلى زكريا أبو معمر وجواد أبو شمالة من أعضاء المكتب السياسي للحركة، وأيمن نوفل وأحمد الغندور وهما قائدا لواءي الوسط والشمال في «كتائب القسام»، إلى جانب أيمن صيام قائد الوحدة الصاروخية في الكتائب.

وقد دأبت «حماس» على نعي جميع الشخصيات التي فقدتها خلال الحرب وإعلان أسمائهم، قبل أن تغير هذا النهج لتخفي معلومات قادتها والمسلحين الذين يتم قتلهم.

لاحقاً، نجحت إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في طهران، ونائبه صالح العاروري في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكلاهما نعتهما الحركة.

لكن بعيداً عن إعلانات «حماس»، أكدت إسرائيل اغتيال قائد «كتائب القسام» والمطلوب الأول منذ عقود محمد الضيف في ضربة جوية نفّذتها بمنطقة مواصي خان يونس، جنوب غزة، في 13 يوليو (تموز) الماضي، إلى جانب رافع سلامة، قائد لواء خان يونس، وقبلهما أكدت اغتيال مروان عيسى، نائب الضيف، في نفق وسط مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، في 10 مارس (آذار) الماضي.

وكانت مصادر من «حماس» قد أكدت لـ«الشرق الأوسط» اغتيال سلامة وعيسى، لكنها لم تدلِ بأي معلومات حول الضيف.

وكشفت «الشرق الأوسط» في وقت سابق، عن مقتل اثنين من أعضاء المكتب السياسي، هما روحي مشتهى وسامح السراج في ضربة استهدفت نفقاً جنوب مدينة غزة، إلى جانب قيادات عسكرية وازنة في «القسام».

ومن بين الاغتيالات المؤثرة في «القسام»، استهداف أيمن المبحوح أحد أهم قادة الكتائب والمسؤول الأول عن استخبارات الكتائب وأسرارها الأمنية، الذي كان لسنوات مسؤولاً عن الدائرة الأمنية الخاصة بحماية محمد الضيف.

ولم تؤكد «حماس» اغتيال أي من هؤلاء، بل إنها تشدد على أن الضيف ما زال حياً، فيما تصرّ إسرائيل على نجاحها باغتياله.

وفقدت «القسام» مئات من قياداتها الميدانيين، منهم قادة «كتائب» و«سرايا» و«فصائل» و«مجموعات»، وهي مسميات عسكرية بالترتيب وفق تقسيمات معينة ومحددة، ورغم أنها خسائر فادحة فإن المحلل العسكري العقيد المتقاعد منير حمد من غزة يميل إلى الاعتقاد بأنها «لا تعني القضاء تماماً على الكتائب».

وقال حمد، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» استطاعت حتى الآن الحفاظ على حياة قائدها يحيى السنوار، خاصة بعد اغتيال هنية في طهران، ما يعني «توفق الحركة استخبارياً، على الأقل حتى الآن».

ورأى حمد أن «إبقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من صورة النصر التي تحاول الحصول عليها منذ أشهر».

ويُحسب لحركة «حماس» أنها وضعت قضية اغتيال قياداتها وعناصرها رهن التكهنات، سواء بالنسبة لإسرائيل أو غيرها، ما يؤشر على صعوبات أمنية واجهتها وما زالت تواجهها المخابرات الإسرائيلية في الوصول لقيادات «حماس» و«القسام»، على عكس ما يجري حالياً على الجبهة اللبنانية مع «حزب الله».

ولا تكتفي إسرائيل بملاحقة السنوار، بل إنها تبحث عن شقيقه محمد، أحد أبرز قادة «القسام» والرجل الثاني بعد الضيف، كما تبحث عن قائد لواء رفح محمد شبانة، وعن قائد لواء غزة عز الدين الحداد الذي تلقبه بـ«الشبح»، وعن قيادات أخرى من المجلس العسكري مثل رائد سعد، وأبو عمر السوري، اللذين نجيا من عمليتي اغتيال في غزة.

وتدفع هذه المعطيات العقيد المتقاعد منير حمد إلى الجزم بأن «حماس» قادرة على النهوض مجدداً، خاصة أن عدداً من قياداتها المؤثرة ما زال على قيد الحياة.

ويؤكد مراقبون أنه في حال تم التوصل لاتفاق تهدئة، يمكن لـ«حماس» أن تعيد بناء نفسها وقوتها مجدداً، خاصة مع وجود العامل البشري الذي يمكن أن تستغله، كما أن هناك قيادات بارزة قادرة على قيادة الحركة من جديد، بمن فيهم شخصيات تنشط في الخارج لم تتأثر بالضربات الإسرائيلية.

ويتفق حمد مع مراقبين على أن «حماس» نجحت حتى الآن في الاحتفاظ بعشرات الإسرائيليين المحتجزين كأسرى في غزة، بعد عام من حرب مدمرة طالت كل شبر من القطاع، وهو ما يمنحها مكاسب أكبر لفرض شروطها في التفاوض الذي يسير ببطء شديد في ظروف معقدة.

الحرب الأخيرة في غزة أظهرت خطأ التقدير الإسرائيلي لحجم شبكة الأنفاق في غزة (أ.ف.ب)

أنفاق «حماس»

فقدت «حماس» كثيراً من قوتها خلال عام من الحرب. وبعد ضربات متتالية، شملت الخدمة العامة، والمرافق التنظيمية والعسكرية والاقتصادية، تكاد الخسائر تكون شاملة على نحو واسع.

لكن فقدان معظم أنفاق «حماس» قد يكون الخسارة الأبرز لجهة أنها «سلاح استراتيجي» كان بيد الحركة.

واستخدمت «حماس» تلك الأنفاق في التحكم السيطرة، ولحماية قياداتها، وكذلك لإخفاء الإسرائيليين، ومن ثم في إدارة المعركة لتنفيذ هجمات، مباشرة أو صاروخية.

وبحسب مصادر «الشرق الأوسط»، فقد «نجحت إسرائيل في تدمير كثير من أنفاق الحركة». وقالت إن «الجيش الإسرائيلي عثر على كثير من الأنفاق الاستراتيجية الهجومية والدفاعية».

واستخدمت «حماس» الأنفاق في مناسبات مختلفة كمخابئ لبعض قادتها الذين تمت ملاحقتهم فوق وتحت الأرض، وهو الأمر الذي جرى مع عضو المكتب السياسي للحركة روحي مشتهى وقيادات أخرى، ما أدى لمقتلهم في أحد تلك الأنفاق.

تقدر مصادر مطلعة لـ«لشرق الأوسط» أن «حماس» تمتلك في كل منطقة داخل غزة (شمال القطاع مثلاً) ما لا يقل عن 700 نفق بأحجام ومهمات مختلفة، لكن ذلك يرتبط بجغرافيا وطبيعة التربة التي يمكن من خلالها حفر عدد أكبر أو أقل من الأنفاق.

وتقول المصادر: «في خان يونس جنوب القطاع، يختلف عدد الأنفاق كلياً، وربما هو الأكبر على مستوى القطاع، وخاصة في المناطق الشرقية منها باعتبارها مناطق زراعية وسهلة الحفر، ويمكن فيها العثور على أكثر من مسار للنفق الواحد بتفرعات مختلفة وبتوزيعات جغرافية مختلفة من مكان إلى آخر، ويقدر عددها بنحو ألف نفق».

وقدرت إسرائيل سابقاً أن تكون «حماس» حفرت أكثر من 500 كيلومتر من الأنفاق، لكن الحرب الحالية أظهرت أن تقديراتها خاطئة، وكانت أكبر بكثير.

وتفسر هذه المعطيات كيف نجحت «حماس» حتى اللحظة في تسهيل حركة قياداتها ومقاتليها بين مواقع، فوق الأرض وتحتها، إذ الواقع الفعلي لشبكة الأنفاق يتيح لهم المناورة مع إسرائيل.

«حماس» أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ (أ.ف.ب)

ترسانة الصواريخ

مثّلت الصواريخ سلاحاً فارقاً لدى «حماس»، وشكّلت في مرحلة ما أحد أهم وسائل الردع، بعدما كانت الحركة قادرة على ضرب المدن والمستوطنات الإسرائيلية وقتما تشاء، خاصة تلك التي كانت تصل إلى تل أبيب والقدس.

تقول مصادر موثوقة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» فقدت غالبية مخزونها من الصواريخ. ومع ذلك يعتقد مراقبون أن الحركة تخفي عدداً منها، وسوف تستخدمها في وقت ما.

وتزعم مصادر ميدانية من «حماس» أن جناحها المسلح كان يمتلك قبيل الحرب ما يزيد على 60 ألف صاروخ، ما بين صواريخ بعيدة المدى وأخرى متوسطة وقصيرة.

وكانت «حماس» قد أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر، ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ، غالبيتها متوسطة وقصيرة المدى تزامناً مع بدء الهجوم العسكري.

ومع ذلك، يصعب معرفة العدد الدقيق للصواريخ التي تمتلكها «حماس» قبل الحرب، وما تبقى خلال عام بعد اندلاعها.

وتزعم إسرائيل أنها نجحت في تدمير كثير من الصواريخ، إلى جانب ضرب أماكن تصنيعها وتخزينها، ومنصات إطلاقها.

خسرت حماس الكثير من قياداتها لكن وجود عدد منهم خارج غزة يمنحها القدرة على المناورة (غيتي)

بنك المال والمعلومات السرية

لم تتوقع «حماس» أن القوات البرية الإسرائيلية ستتعمق داخل غزة، كل هذا الوقت وبهذا العمق والسعة، ما منعها من نقل أو إتلاف ملفات بالغة السرية، من بينها ملفات اجتماعات مغلقة، وملفات أمنية ومالية، نجحت إسرائيل في السيطرة عليها، كما الفيديو الذي ظهر فيه قائد «كتائب القسام»، محمد الضيف، الذي كان يوصف بأنه رجل الظل الذي لا تعرف صورته.

وأكدت مصادر في الحركة، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الوقت لم يسعف عناصر (حماس) لتدمير ما لديها من ملفات، وإلا كان تم زرع عبوات ناسفة لتفخيخ المواقع التي تحوي مثل هذه الملفات على الأقل».

على الصعيد الحكومي، يمكن الجزم أن «حماس» خسرت جميع مقراتها، كما فقدت قيادات حكومية بارزة كانت تقود عملها الخدمي وغيره، إلى جانب كثير من أركان هيئة الطوارئ التي شكّلتها لإدارة العمل الحكومي للسكان خلال الحرب، وليس آخرهم على الأغلب المهندس ماجد صالح، المدير في وزارة الأشغال، الذي كان هدفاً لإسرائيل مرات عدة خلال هذه الحرب، وقد فقد زوجته وعدداً من أبنائه.

ترافق ذلك مع خسارة «حماس» كثيراً من مواردها المالية التي كانت تعتمد عليها، فهي إلى جانب الدعم الخارجي والدخل الحكومي، ثمة مصانع ومحال وعقارات وغيرها كانت تدرّ على الحركة شهرياً مبالغ طائلة.

وخلال الحرب تعمدت إسرائيل استهداف جميع مصادر تمويل «حماس»، وقصفت بنكاً تابعاً للحركة، وغرفاً محددة كان تخزن أموالاً، وهاجمت مركبات نقل أموال، واستولت على ملايين «الشواقل» من أماكن داهمتها، الأمر الذي أفقد «حماس» في كثير من الفترات قدرتها على صرف رواتب موظفيها وعناصرها، سواء الحكوميون أو المنضمون لجناحها العسكري وغيرهم.

في نهاية المطاف، طال الدمار كل شيء، كل شارع وحي، وجميع العائلات التي رزحت تحت نار الحرب طوال عام. لكن حسابات الربح والخسارة بالنسبة لـ«حماس» أمر بلاغ التعقيد، ولا يمكن الجزم به. ففي اليوم التالي للحرب، ستكون المعطيات حاسمة لمعرفة أن الحركة انتهت بالفعل، أم أنها طبقاً للظروف قادرة على العودة والنهوض مجدداً.