تركيا بين حلب و الموصل

تضارب في المصالح الروسية ـ الأميركية.. والتدخلات الإيرانية تعقد الموقف

تركيا بين حلب و الموصل
TT

تركيا بين حلب و الموصل

تركيا بين حلب و الموصل

أعلنت تركيا، خلال هذا الأسبوع، مجددًا أنها لن تتراجع عن أهدافها، سواء في شمال سوريا، من أجل تأمين حدودها وتطهيرها من التنظيمات الإرهابية، وتعني بها «داعش» والأكراد ممن تعتبرهم امتدادا لمنظمة حزب العمال الكردستاني المصنفة لديها على أنها منظمة إرهابية، أو بالنسبة لشمال العراق، حيث ترى ضرورة مشاركتها في معركة تحرير الموصل من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، عبر معركة تخطط لها واشنطن، وإن لم تتضح معالمهما بعد. وفي كلتا الحالتين، أكدت تركيا أنه لا أطماع لها في البلدين، مشددة على أن هدفها هو حماية وحدة أراضي سوريا والعراق، وضمان وحدة الأراضي التركية أيضًا، ودرء التهديدات الإرهابية الآتية من «جاريها» المأزومين.
في سوريا، تؤكد أنقرة أنها ستستمر بعملية «درع الفرات» إلى حين تطهير مدينة الباب والمساحة المحيطة بها، البالغة 5 آلاف كيلومتر مربع، من جميع التنظيمات الإرهابية، مثل «داعش» وحزب الاتحاد الديمقراطي وميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية.
ومعلومٌ أن لدى تركيا أيضًا الاستعداد للمشاركة في عملية تحرير مدينة الرقّة، ولكن بشرط استبعاد الميليشيات الكردية، إلا أن واشنطن لا تبدي تحمّسًا لهذا المطلب. ومن ثم، يرى محللون ومراقبون أن الظروف التي تعيشها الولايات المتحدة حاليًا وأجواء انتخابات الرئاسة تجعلها في وضع من لا يستطيع الحسم، وأنها تسعى لفتح جبهة الموصل للتغطية على إخفاقها في سوريا.
* مسرحية حلب
الأكاديمي والمحلل السياسي التركي الدكتور سمير صالحة يرى أن كلاً من موسكو وواشنطن «ما كانتا جادتين في اتفاقية وقف الأعمال القتالية في حلب التي أعلنت في 9 سبتمبر (أيلول) الماضي، وفتح الطريق لوصول المساعدات الإنسانية لسكان حلب المحاصرين، ولم يعد الأمر كونه مسرحية، حيث شابها الغموض وكثير من علامات الاستفهام حول المضمون وطريقة التنفيذ والضمانات القانونية».
وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال صالحة: «السؤال هنا هو: من يتحمل هذا الإخفاق؟»، مضيفًا: «إن المسؤولية تقع على الطرفين معًا، روسيا وأميركا، لأنه لو كانت هناك رغبة حقيقة لفتح الطريق أمام الحل في حلب، لتقدم النقاش بشكل واضح يتسم بالشفافية، غير أن ما حدث هو محاولة فرض ما تم الاتفاق عليه على الشركاء والحلفاء».
ولفت صالحة إلى أن أميركا «لم تتعاط إيجابيًا مع الخطة التركية في عملية (درع الفرات)، واتضح هذا فيما بعد. وكما نرى الآن، في التنسيق الأميركي مع الحكومة المركزية في العراق، فقد حمّلت أنقرة رؤيتها بالنسبة للعملية العسكرية في الموصل لمساعد وزير الخارجية الأميركي خلال زيارته الأخيرة، ووعد الجانب الأميركي بمناقشتها مع حكومة بغداد. لكن ما حدث هو العكس، إذ فرض الجانب الأميركي على بغداد فرضًا أن ترفض هذه المواد التركية، ثم تحركت واشنطن لتبرّر للعراق أسباب رفض وجود القوات التركية في بعشيقة، ولتذهب أبعد من ذلك للقول إن الوجود التركي ليس في إطار التحالف الدولي، وهو بالتالي عملية غير شرعية».
* أزمة المعادلة الأميركية
وأضاف الدكتور صالحة، خلال اللقاء، أن «الفشل في موضوع الهدنة في حلب، وإخفاق واشنطن في تحقيق ما تريد من عملية (درع الفرات) جعلاها تتوجه إلى منحى آخر، هو إعطاء الأولوية لمعركة الموصل على معركة الرقّة. وهي تريد من خلال تحريك جبهة الموصل أن تحقق أهدافها في العراق، بعدما فشلت في سوريا بسبب التعنّت الروسي، والموقف التركي المتمثّل بالتنسيق مع «الجيش السوري الحر»، والتوجه إلى معركة الباب وحسم مسألة وجود الميليشيات الكردية في منبج. إن ما حدث على الأرض في سوريا لم يطمئن واشنطن إلى أي ظروف سياسية أو عسكرية، ولذلك توجّهت إلى الموصل كي تصحّح المعادلات من منظورها للأمور. ولا بد من ربط هذا التصعيد العراقي ضد تركيا بالرغبة الأميركية في قلب الأمور لصالحها، وتعزيز نقاطها التي تراجعت في الجبهة السورية».
واعتبر الأكاديمي التركي أن الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتركيا، بعد غد (الاثنين)، ستكون «زيارة حاسمة في تحقيق تفاهم تركي - روسي شامل بالنسبة للملف السوري، وليس فقط (درع الفرات)»، وتوقع أن يشمل «مستقبل حلب، وحسابات واشنطن وبغداد بالنسبة للموصل، ومحاولات أميركا استخدامها كورقة لتحقيق معادلتها الخاصة في الملفين السوري والعراقي».
* أهداف تركيا
مما لا شك فيه أن تركيا حدّدت أهدافها بدقة من عملية (درع الفرات)، وهي ترى أن الظروف مهيأة للاستمرار فيها، وهو ما أكدته مصادر دبلوماسية تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، إذ ترى هذه المصادر أن تصعيد أنقرة لهجتها ضد أكراد سوريا، والتصريحات المتشدّدة التي تعاقبت على ألسنة المسؤولين الأتراك، بدءًا من الرئيس رجب طيب إردوغان وصولاً إلى الوزراء في الحكومة التركية، إنما هدفها هو الضغط على واشنطن لضمان وفائها بتعهداتها بانتقال الميليشيات الكردية إلى شرق نهر الفرات، وتحييدهم في عملية الرقة المحتملة، ومنع تسليحهم.
وتؤكد المصادر أن تركيا جادة في ضمان إقامة «المنطقة الآمنة» بطول حدودها مع سوريا، البالغة 911 كيلومترا بعمق 45 كيلومترًا، وعلى المساحة التي تتحدث عنها، وهي 5 آلاف متر مربع. وتضيف أن الحديث عن الوصول بعملية «درع الفرات» إلى مدينة الباب، هو من أجل التلويح بأن لدى تركيا القدرة على دخول حلب، وإن كان من المستبعد أن تقدم على مثل هذه الخطوة كي لا تصطدم مع روسيا التي تتولى راهنًا ملف حلب.
ووفقًا لهذه المصادر، فإن أنقرة تعتقد أن واشنطن وموسكو لن تتمكنا من التوصل إلى اتفاق بشأن سوريا. ولذا، تريد جعل المنطقة الآمنة أمرًا واقعًا في ظل التخبط القائم حاليًا، لا سيما أنه لم تصدر اعتراضات من جانب واشنطن أو موسكو، أو حتى من إيران وسوريا، على إقامة مثل هذه المنطقة.
كذلك ترى المصادر أن تركيا بدأت استعدادات جدية لتوطين اللاجئين السوريين في «المنطقة الآمنة»، بدعم من بعض الأطراف الفاعلة في المنطقة التي تتفق معها في الرؤية والمواقف بشأن الملف السوري.
* التحركات الروسية
من ناحية ثانية، يقول خبيران تركيان إن خطوة موسكو المتمثلة بزيادة تعزيزاتها العسكرية في سوريا خلال الأيام الأخيرة، تأتي رسالة واضحة موجهة لواشنطن الغاية منها دفع الأميركيين إلى استبعاد الخيار العسكري لحل الأزمة السورية، وذلك بعد تداول وسائل إعلام أميركية أنباء بإعادة طرح الخيار العسكري مجددا في أروقة صناعة القرار الأميركية، بعد إعلان واشنطن تعليق مشاركتها في قنوات الاتصال الثنائية مع موسكو.
مسعود حقي جاشين، الأكاديمي التركي المتخصص في العلاقات الدولية، يقول إن «التحركات الروسية الأخيرة تصب في خانة رغبة روسيا بلعب دورها السابق، كقطب في الحرب الباردة».
ويلفت جاشين إلى أن روسيا «حققت تفوقًا عسكريًا في الأجواء السورية على الولايات المتحدة والتحالف الدولي الذي تقوده، بالتوازي مع زيادة نفوذها العسكري في بحر البلطيق ومناطق كثيرة حول العالم، وهي ترد على كل تصعيد لواشنطن بـ7 أو 8 أضعاف»، معتبرًا أن هذا التصعيد الروسي «خطير جدًا».
ومن جانب آخر، يرى مراد يشيل تاش، مدير الأبحاث الأمنية في مركز الأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركي (سيتا)، أنه «لا يجوز النظر إلى التعزيزات العسكرية الروسية في سوريا على أنها موجهة ضد قوات المعارضة المسلحة هناك بشكل مباشر، بل هي رسالة واضحة موجهة لواشنطن، مفادها استبعاد الحل العسكري كخيار لحل المسألة السورية».
* تركيا والعراق
وفي ظل هذا التشابك في المواقف، وفي ظل التقدم التركي في عملية «درع الفرات»، قفز إلى السطح التوتر بين أنقرة وبغداد الذي فتح مبكرًا، وعلى الصعيد السياسي معركة الموصل قبل أن تبدأ ميدانيًا، وذلك سعيا لإبعاد تركيا عنها بدعم من قوى إقليمية متدخلة في سوريا والعراق، في مقدمتها إيران، وكذلك بدعم من واشنطن، لتثور التساؤلات حول آفاق هذا التعقيد في الموقف، وكيف ستواجهه تركيا.
وفي هذا السياق، يقول أرشد هورموزلو، كبير مستشاري الرئيس التركي السابق عبد الله غل لشؤون الشرق الأوسط، إن «سياسة تركيا تقوم على تأييد وحدة أراضي العراق وسيادته، وليست لديها مطامع إقليمية في أية دولة في المنطقة، وهي ترفض ما يُقال عن العثمانية الجديدة لأن هدفها الأساسي هو التصدي للمنظمات الإرهابية، سواءً كانت متمثلة في (داعش) أو العمال الكردستاني أو امتداده في سوريا (حزب الاتحاد الديمقراطي) وميليشيا (وحدات حماية الشعب) الكردية»، مستطردا: «لتركيا مبررات قوية جدًا، وهي أنه تربطها حدود مع العراق تمتد لنحو 420 كيلومترًا، ومع سوريا لنحو 920 كيلومترًا. وبالتالي، يجب أن تحمي نفسها من التهديدات الإرهابية، وأن تضمن سلامة أراضيها ومواطنيها».
ويضيف هورموزلو، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أنه «عندما نأتي بشكل خاص إلى موضوع العراق، وما أثير حول الوجود العسكري التركي المحدود في معسكر بعشيقة، فإنه تم بموافقة الحكومة المركزية في بغداد، وبموافقة الإدارة الكردية في إقليم كردستان شمال العراق، وفي إطار مهام تدريبية كما تفعل فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا أو عشرات الدول التي توجد قواتها في العراق، بما فيها نيوزيلندا. وكان على الإخوة العراقيين أن يتحمّسوا للوجود التركي لأنهم يعرفون جيدا أن لا مطامع لتركيا في بلادهم، وكل ما يقال عن أطماع في الموصل هي مسألة عفا عليها الزمن. والعراقيون يعرفون أن تركيا تحترم سيادة وحدود الدول الموجودة في المنطقة، صغيرة أم كبيرة، ولذلك يجب أن يكون هناك حوار بين الأطراف المعنية لمعرفة لماذا اتخذ هذا الموقف أو ذاك».
ويتابع المستشار الرئاسي السابق: «لكن للأسف هناك مطالبات معينة من قبل قسم من الميليشيات الموجودة في العراق، على الرغم من أن وجودها محظور بموجب الدستور العراقي الذي وضع عام 2005. وهناك أمر واقع، فثمة قسم من هذه الميليشيات يتعاون مع المنظمات الإرهابية، سواء أجنبية أو محلية. وعليه، فبطبيعة الحال ليس من مصلحتها أن تكون هناك قوة كبيرة ومتمكنة، مثل تركيا، في الحدود جاهزة للتدخل المباشر عندما تكون هناك أخطاء. ولذا، لا بد من الحوار الجاد دون لجوء للتهديدات والتصعيد الإعلامي من جهة أو أخرى».
ويلفت هورموزلو إلى «أن هناك دولا إقليمية لها وجود كبير في العراق، وتركيا لا تعارض ذلك ما دامت الحكومة المركزية في العراق تقبل، غير أن حكومة بغداد يجب أن تعلم، في المقابل، أن تركيا لها أشقاء في العراق، هم التركمان والعرب والأكراد وجميع الإثنيات الأخرى. وبالتالي، يجب أن تسمح لها بمد يد المساعدة لهم».
ومن ناحية ثانية، ينتقد هورموزلو موقف واشنطن مما تقوم به تركيا، سواء في سوريا أو ما تريد عمله من أجل الإخوة في العراق، معتبرًا أنه «لا يتوافق مع القواعد الأخلاقية، ولا مع ما يقتضيه التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وأنقرة».
* انزعاج إيراني
وعلى الصعيد المتعلق بإيران، يرى رسول طوسون، النائب السابق عن حزب العدالة والتنمية الحاكم في البرلمان التركي والكاتب في صحيفة «ستار»، أن «أكثر من يتحمل مسؤولية الفوضى في سوريا والعراق هي الولايات المتحدة الأميركية التي لا ترى شيئًا في المنطقة غير المحافظة على أمن إسرائيل. فرغم أنّ أميركا تدعي أنها تواجه الإرهاب، فإن سياستها الحقيقية تدعم المنظمات الإرهابية على الأرض»، مردفا: «لا شك أيضًا أن عملية (درع الفرات) التي قادتها تركيا في سوريا أزعجت وأثارت قلق الإيرانيين حول إمكانية قيام تركيا بعملية مماثلة لتخليص الموصل من يد (داعش)، بعد عجز الحكومة العراقية عن القيام بذلك. ويزداد قلقهم خصوصا مع تصريحات الرئيس رجب طيب إردوغان الأخيرة حول اتفاقية لوزان، خوفا من إمكانية إلحاق الموصل بهذه النقاشات، رغم أنّ الموصل الآن تحت سيطرة (داعش)، ولا تخضع لسيطرة الدولة العراقية». ويلفت طوسون إلى أن تركيا «أكدت مرارًا موقفها الثابت تجاه وحدة الأراضي السورية ووحدة الأراضي العراقية، بينما تتحدث الولايات المتحدة وتتخذ سياسات أقرب لتقسيم الدولتين. ومع هذا، لا تزال الحكومة العراقية تركن إلى الولايات المتحدة أكثر مما تركن إلى تركيا.. إن أصل المشكلة يكمن في الجهة التي تقف خلف الحكومة العراقية، وتنزعج من زيادة نفوذ تركيا في المنطقة». ويعتبر طوسون، أخيرًا، أن «محاولة بعض رجال الدين الشيعة تفضيل التقارب مع الغرب غير المسلم على التقارب مع تركيا لعبة خطرة، وعلى إيران أنْ تكون حذرة جدا تجاه هذا الأمر، كما أن على الدولة العراقية ألا تنشغل أو تخضع للسياسات الطائفية، بل عليها أنْ تعمل جاهدة على حماية ووحدة الأراضي العراقية، وتوحيد العراقيين. لكن إذا فقد العراق وحدة أراضيه، فحينذاك سيحق لتركيا أن تكون لها كلمة.. نحن هنا نتحدث عن حق تاريخي وجغرافي لتركيا».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.