يوميات الحرب في سرت1-5 : صراع الميليشيات على الأرض

سيارة دفع رباعي، على صندوقها مدفع عيار 14.5 ملليمتر، و3 مقاتلين، انطلقت من جهة الميناء.. تبعها ما لا يقل عن 9 سيارات مشابهة لها. رفع الجنود وهم يهتزون فوقها علامات النصر. هؤلاء كانوا يحاربون تنظيم داعش في مدينة سرت الليبية مع قوات «البنيان المرصوص»، والآن قرروا مغادرة الجبهة.
في الجهة المقابلة، كان المقاتل «بوبكر» يرفع سلاحه فرحا معتقدا أن المجموعة تتحرك لدعم زملائه في السيطرة على مرفأ الميناء الجديد شرق المدينة وإبعاد القناصة الدواعش عن خطوط التماس بين الميناء وعمارات الحي رقم 3. لكن السيارات تحركت مسرعة متوجهة إلى الطريق الصحراوي الجنوبي، وغابت وراء التراب والسراب.

لقد وصلت أوامر في الساعات الأولى من الصباح، من عدد من أمراء الحرب بالانسحاب. وقف مقاتلون من كتيبة «الأسود» التابعة لقوات «البنان المرصوص»، من بينهم «بوبكر» غير مصدقين لما يحدث، فالانتصار على «داعش» كان على بعد خطوات. وأدى هذا إلى إحباط في أوساط مقاتلين شبان متحمسين. كانوا يتصببون عرقًا وهم يلهثون تحت الشمس لملاحقة الدواعش بين المباني المهدمة. في وقت الاستراحة تقضم قطعة من الخبز، لكن من الصعب أن تبتلعها. اليوم يبدو عدد القوات التي تحارب «داعش» أقل مما كان عليه. يوجد ارتباك ممتزج بالغضب.. توجد مسحة من الحزن أيضا.
وحيث لا يعرف إن كان قد جرى إخطار فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي المدعوم من المجتمع الدولي، أم لا، بموضوع أوامر بعض القادة بالانسحاب من سرت، إلا أن السراج، يعد نظريا، على الأقل، هو المسؤول الأول عن عملية «البنيان المرصوص» في سرت. ويواجه السراج عراقيل كثيرة لعمل حكومته المقترحة منذ دخوله إلى طرابلس، تحت حماية عدة ميليشيات، في أواخر مارس (آذار) الماضي.
وبينما يبشِّر طارق القزيري، أحد مستشاري الحوار والاتفاق السياسي الليبي الذي أنتج مجلس السراج الرئاسي، بقرب النصر في سرت رغم المصاعب، يقول الدكتور جمال حريشة، أحد مؤسسي حزب العدالة والبناء الليبي (الذي هيمنت عليه جماعة الإخوان المسلمين فيما بعد)، لـ«الشرق الأوسط»، إن المجلس الرئاسي، في الحقيقة «هو واجهة لا غير». أما من يدير أمر الحرب فهم قادة الميليشيات. بينما يضيف الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، القيادي في جبهة النضال الوطني الليبي، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الحرب الحقيقية هي تلك التي تخوضها القوات المسلحة العربية الليبية (بقيادة الجنرال خليفة حفتر)، لا الميليشيات المنفلتة».
وترصد «الشرق الأوسط» في سلسلة تحقيقات خاصة يوميات الحرب المستعرة ضد تنظيم داعش في سرت التي حولتها الحروب منذ عام 2011 إلى أنقاض. ولوحظ أن التخبط السياسي في البلاد ما بين الشرق والغرب، وفي داخل كل منهما أيضا، تسبب في انسحاب كتائب وميليشيات من الميدان، بينما ظلت أخرى تواصل محاصرة التنظيم المتطرف وهي على مشارف تحقيق النصر وتطهير المدينة التي ولد فيها معمر القذافي عام 1942 وقتل فيها عام 2011.
تقع سرت على البحر المتوسط، على بعد نحو 400 كيلومتر شرق طرابلس، و200 كيلومتر شرق مدينة مصراتة التي تتميز بقوة ما لديها من كتائب وميليشيات. ولمدينة سرت ظهير يمتد لمئات الكيلومترات في الصحراء. وأدى تمركز «داعش» في المدينة العام الماضي، إلى تحويلها لأكبر مقر له في شمال أفريقيا، كما أصبح التنظيم مصدر تهديد لمدينة مصراتة التي كان كثير من ميليشياتها قد استول على مخازن الجيش الليبي أثناء «ثورة 17 فبراير (شباط)».
غالبية قيادات مصراتة لا تعترف بسلطة البرلمان الليبي الذي يعقد جلساته في طبرق، ولا بقائد الجيش الوطني، حفتر. وأيدت في المقابل السراج. ووجدت في مجلسه، على ما يعتقد البعض، طوق نجاة لكي تستأنف نشاطها العسكري بغطاء سياسي، وكان على رأس هذا النشاط التخلص من تهديد «داعش» والتحول رويدا رويدا إلى قوة رسمية للمجلس الرئاسي، لكن بعد نحو 5 أشهر من بدء عملية «البنيان المرصوص» التي شاركت فيها الولايات المتحدة بالغارات الحربية، لا يبدو أن الخطط تسير كما كان مقدرا لها.
منذ اليوم الرابع عشر من الشهر الماضي والأمور تزداد غموضا على جبهة الحرب في سرت. مع مطلع هذا الشهر أصبحت تحركات المراسلين الأجانب أقل أمانا من السابق بسبب اكتساب التنظيم المتطرف قدرة على التسلل وتنفيذ هجمات قاتلة. وبدأ هجوم عكسي شنه الدواعش على محور الميناء، وآخر من ضاحية الأمل. وفي خضم الفوضى سقط قبل أسبوع مصور هولندي برصاص قناص من «داعش».
من هذا الرصيف يظهر الطريق المؤدي إلى الميناء البحري. كانت مجموعة من المقاتلين والصحافيين يجلسون في ساعات الهدوء ويتقاسمون شطائر الجبن وقوارير مياه غازية على بسطة إسمنتية مشققة وعليها آثار قذائف صاروخية. يقول «بوبكر» وهو يمضغ الخبز على مهل وسلاحه معلق على كتفه، إن جماعته كانت قد أحكمت السيطرة على طريق الميناء لأيام.. لكن قناصة «داعش» فتحوا فيه مسارات لهم منذ أسبوعين.. كانت مسارات ضيقة لبعض الوقت، لكنها اتسعت.
مر يوم على هذه المؤشرات المحبطة، ثم تجرأ الدواعش أكثر، وتقدم نحو مائة منهم لإعادة احتلال محور الميناء، لكن مجموعة «بوبكر» فتحت عليهم نيران المدفعية والأسلحة الرشاشة التي يصل مداها إلى أكثر من 500 متر، وأفشلت الهجوم. وتبعثرت جثث 9 دواعش، أمام واجهات المخازن التي تشرف على المرفأ البحري. لكن الهجوم الداعشي في حد ذاته كان مثيرا للقلق بشأن حسم الأمور هنا. ونقلت سيارة عسكرية 3 من جرحى التنظيم المتطرف إلى مصراتة كأسرى، بينهم تونسيان.
في الجانب الآخر من المدينة استمرت المناقشات حول السبب وراء إرسال قادة ميليشيات من مقارهم في مصراتة وطرابلس والجفرة، رسائل بالانسحاب رغم اقتراب النصر. وحيث إن مئات المقاتلين قد نفذوا بالفعل أوامر بالرحيل والتمركز في مواقع أخرى بعيدا عن سرت، أصبح الجدل بين المتمسكين باستمرار محاصرة الدواعش للقضاء عليهم، يدور بضجيج أكبر في الطرقات التي يغطيها الركام وفوارغ القذائف.
يصيح أحد القادة من وراء ساتر من الخرسانة محذرا زملاءه من التعرض لهجوم ارتدادي ينفذه «داعش» قرب منطقة المراسي على الطرف الغربي من سرت: «تراجعوا ثم اضربوا.. إنهم هناك.. احرقوهم». يوجد تصميم على هزيمة «داعش» رغم كل شيء. لكن هذا لا يخفي أن المسألة ربما ستكون أصعب مما كان مقدرا لها. فالأوامر لم تعد تصدر من قائد واحد - أيا كان نوع هذه الأوامر - ولكنها تصدر من قادة لدى كل منهم سلطة على مقاتليه بشكل منفرد.
ووفقا للمثل العسكري، فإنه من السهل أن تهاجم لكن من الصعب أن تنسحب. واليوم تأتي تعليمات بالعودة من سرت. من أصدر هذه الأوامر؟ هل هو المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق المقترحة؟ يجيب مصدر في «كتيبة الأسود» موضحا أن قائدا في مجلس عسكري بمصراتة هو من أصدر جانبا من أوامر انسحاب الكتيبة. ويوضح مصدر آخر أن مجلسا عسكريا يتمركز جنوب سرت هو من أصدر جانبا آخر من الأوامر تخص انسحاب مقاتليه من سرت وهم مقاتلون منتسبون لما يعرف بـ«سرايا دعم بنغازي».
ويقول الدكتور حريشة، الذي كان من الأسماء المطروحة للترشح لرئاسة الحكومة الليبية قبل 3 سنوات، إن المجلس الرئاسي، في الحقيقة، ليس له دخل في عملية «البنيان المرصوص»، معربا عن اعتقاده بأنه واجهة لا غير لهذه الحرب. ومع ذلك يثني حريشة على ما حققه شباب «البنيان المرصوص» ضد «داعش» حتى الآن، رغم كثرة القتلى في صفوف هؤلاء المحاربين.
السراج هو من أعلن، مع بدء عملية «البنيان المرصوص»، أنه القائد الأعلى للجيش الليبي. وهو يفعل ذلك تنفيذا للاتفاق السياسي الذي رعته الأمم المتحدة، رغم أن هذا المنصب، وفقا للإعلان الدستوري المعمول به في البلاد، ما زال يشغله المستشار عقيلة صالح، رئيس البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق. لكن أوراق اللعبة السياسية - التي كان مجلس السراج يعتقد أنها يمكن أن تكون أوراقا رابحة من خلال معركة سرت - أصبحت لا تحقق المطلوب.
وفي المقابل، بعثرت ورقة الموانئ النفطية، التي ألقاها حفتر على الطاولة، كل جهود السراج، أو كما يقول أحد القادة الميدانيين في قوات «البنيان المرصوص» وهو يجلس أمام قاعة حصينة جرى انتزاعها من «داعش» وسط سرت: «السيطرة المفاجئة لحفتر على موانئ تصدير النفط تشبه إمساكك بخناق الخصم. ترتبت على ذلك حالة ارتباك بين قادة المجلس الرئاسي.. هذا، بلا شك، أثر بالسلب على رؤساء المجالس العسكرية ممن يديرون الميليشيات والكتائب المشاركة في (البنيان المرصوص)».
بالنظر إلى تركيبة «البنيان المرصوص» غير المنضبطة، يبدو أن حفتر، المدعوم من البرلمان والمستشار صالح وأطراف إقليمية ودولية، يسير بخطوات ثابتة وحثيثة أكثر من خصومه الذين يعتمدون على ميليشيات يقود معظمها شخصيات غير عسكرية، ويتلقون هم أيضا دعما من أطراف إقليمية ودولية بالإضافة إلى تأييد المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر.
يقول الدكتور عبد الكريم، القيادي في الجبهة السياسية المؤيدة للجنرال حفتر، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الحرب الحقيقية هي التي تخوضها القوات المسلحة العربية الليبية، لا الميليشيات المنفلتة». وتمكن حفتر من بسط هيمنة الجيش على بنغازي ودرنة بعد أن طرد منها جماعات مناوئة له كانت تدعمها ميليشيات من طرابلس ومصراتة وبينها جماعات على صلة بالمجلس الرئاسي، كما يوضح عبد الكريم.
ثم وجَّه الجنرال المخضرم ضربة موجعة وبشكل مفاجئ حين تمكن من طرد ميليشيات تسيطر على الموانئ النفطية وكانت تتعاون، بمباركة من كوبلر، مع المجلس الرئاسي، لفتح هذه الموانئ للتصدير. ومنذ ذلك الوقت ظهر تيار بين قادة «البنيان المرصوص» يرى أن «حفتر أخطر من (داعش).. لقد أربك كل الخطط».
وكان من أوضح صور ارتباك المجلس الرئاسي التي وصلت أصداؤها إلى الشبان المرابطين على جبهة الحرب ضد «داعش»، إصدار المجلس بيانين يناقض كلاهما الآخر حول الموقف من تقدم حفتر. البيان الأول يدعو إلى استنفار الميليشيات والكتائب للهجوم على القوات العسكرية التابعة للجنرال في الموانئ النفطية الواقعة إلى الشرق قليلا من سرت. والبيان الثاني يدعو إلى التفاهم معه وحل الخلافات بالحوار لا بالقتال.
ووفقا لمصدر مقرب من المجلس الرئاسي، فقد جرت اتصالات، عقب البيان الأول، بين أطراف من المجلس ومسؤولين غربيين، لبحث مدى الاستعداد للمساعدة في إعلان الحرب على حفتر. لكن ظهر أن الدول الغربية لا تحبذ إشعال الموقف في الموانئ النفطية. وعارض هذه الخطوة من الداخل الليبي، وفقا للمصدر نفسه، كل من رئيس مجلس الدولة، عبد الرحمن السويحلي، ورئيس مجلس الأمن القومي، فتحي باشاغا.
رغم هذا، فإن كثيرين من قادة طرابلس ومصراتة لم يتحمسوا لموضوع الحوار مع حفتر. وبدأ يطغى على اجتماعات كبار السياسيين في الغرب الليبي أسئلة من نوع «ماذا سنفعل مع حفتر» بدلا من أسئلة أخرى كانت أساسية مثل: «ماذا سنقدم للمقاتلين في سرت».
ويضيف المصدر: «باختصار كانت المناقشات المعنية بالحرب ضد (داعش) في سرت تفتر يوما بعد يوم.. وتراجعت معها المساعدات العسكرية التي كانت تقدمها الولايات المتحدة لقوات حكومة الوفاق (البنيان المرصوص)».
من جانبه يوضح القزيري، في رده على أسئلة «الشرق الأوسط» بشأن ما يقدمه المجتمع الدولي للحرب على «داعش» في سرت، بقوله إنه «يقدم دعما، لكنه غير كاف». وهو يرى أن انتصار قوات «البنيان المرصوص» على تنظيم داعش مسألة محسومة وتحتاج فقط إلى مزيد من الوقت لتجنب وقوع خسائر جديدة.. «التنظيم محاصر تماما، ولا مهرب له، ولهذا يبدي مقاومة».
وعلى العكس من ذلك، تجري الأمور بين قادة في ميليشيات كتائب مشاركة في «البنيان المرصوص» بطريقة مغايرة. ومن بين كثير من الوجوه التي يغطيها الصمت، يقول أحد هؤلاء القادة الغاضبين إن طول الحرب في سرت يعطي أفضلية لحفتر للتحرك بالجيش في مناطق مهمة في بلدات الجنوب وفي بلدات الغرب ومنها العاصمة طرابلس نفسها، وكلها مواقع كانت يتمركز فيها كثير من هذه الكتائب والميليشيات التي أصبحت ترى في قائد الجيش خصما لا يستهان به.
من ضمن عناصر قوات «البنيان المرصوص» التي بدأت في التحرك إلى الغرب وإلى الجنوب تاركة الحرب في سرت لمصيرها، عناصر من «كتيبة المشاة»، و«الكتيبة 66»، و«كتيبة الردع والإسناد»، وغيرها. أحد القادة في «الكتيبة 66» وقف حائرا وهو يراقب شحن مقاتليه لسياراتهم للتوجه إلى بلدة «هون»، على بعد 300 كيلومتر جنوب سرت. ويقول إن أعضاء من المجلس الرئاسي من مصراتة وطرابلس دعوا إلى دق طبول الحرب في جبهة أخرى غير سرت، ثم تراجعوا، وهذا «أثر على ثقة البعض».
ويضيف متحدثا عن الأجواء التي أشاعاها أعضاء في المجلس الرئاسي عقب سيطرة حفتر على الموانئ النفطية: «كانوا يريدون منا ترك الدواعش في سرت، والانتقال إلى الشرق لانتزاع الموانئ النفطية من حفتر، حدث هذا في أيام عيد الفطر.. كانت هناك مشاحنات حول هذا الموضوع في غرف الاجتماعات في مصراتة وفي طرابلس أيضا. لكن كانت هناك معارضة من شيوخ متنفذين، خاصة في مصراتة التي ينتمي إليها معظم مقاتلي (البنيان المرصوص)».
ويبدو أن خلافات بين أعضاء المجلس الرئاسي المكون من 8 برئاسة السراج، وصلت إلى كثير من المحاربين هنا. الصبر ينفد. ويثور الغضب من كل شيء.. إذا تأخر وصول البنزين لتموين سيارات المعركة.. وإذا تأخر الطعام.. وإذا اكتظ المشفى الميداني بالجرحى. من السهل أن تجد اللغط والشد والجذب. ثم مناقشات حامية حول الجدوى من الاستمرار في تحمل مصراتة وحدها العبء الأكبر للحرب على «داعش»، بينما «لا يعرف أحد ما يمكن أن يقوم به حفتر على جبهات أخرى مهمة».
كان هناك جدل طوال الليل من هذا النوع بين قيادات معتبرة في ميليشيات وكتائب قوية مثل «كتيبة المشاة» و«الكتيبة الثانية» و«كتيبة الردع والإسناد». وكان عدد من هذه الكتائب مخصصا أصلا لدعم القتال ضد الجيش الوطني في بنغازي. وكانت تتمركز في نطاق محافظة الجفرة التي يمكن منها الوصول إلى بنغازي من الطرق الصحراوية الجنوبية.
وترتفع حدة الحوار حول ما ينبغي أن يكون، بينما صوت إطلاق النار لا يتوقف في وسط منطقة «المساكن الهندية» المجاورة. وفي المساء بدأ التحذير مما يمكن أن يتسبب فيه انسحاب مقاتلين من مواقعهم، لأن هذا، بكل بساطة، يترك الساحة لعودة الدواعش للتمركز والانتشار في المدينة. وقال «بوبكر» وهو يستعد لشن هجوم جديد على محور الميناء مع زملائه: «لن نرحل. ننتصر في سرت، أو نموت فيها».