بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

قائد الجيش اللبناني متطرف في ضبط الأمن ويسعى للبقاء «وسطيا» بين السياسيين

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية
TT

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

تبدأ اليوم، فترة التمديد الثالثة، لقائد الجيش اللبناني العماد جان قهوجي على رأس المؤسسة العسكرية اللبنانية. وهي عملية يشكك فرقاء لبنانيون بقانونيتها، كونها تمت بقرار من وزير الدفاع، لا من مجلس الوزراء الذي يفترض به أن يتخذ قرار تمديد ولاية قائد الجيش التي انتهت في العام 2013. ومددت ثلاث مرات من أجل منع الفراغ في رأس الهرم العسكري اللبناني، نتيجة عجز القيادات السياسية اللبنانية على التوافق على رئيس جديد للجيش من جهة، ورغبة أطراف أخرى في إبقاء قهوجي في السلك العسكري، بما يسمح له بأن يكون مرشحا جديا لرئاسة الجمهورية.
وإذا استمر العمل بالقاعدة التي أحضرت آخر رئيسين للجمهورية في لبنان إلى المنصب، فإن قهوجي يجب أن يكون الرئيس الجديد للبلاد ويملأ الشغور الحاصل منذ 25 مايو (أيار) 2014. لكن حساباته مختلفة عن حسابات سلفيه العماد إميل لحود الذي أتى إلى الرئاسة في العام 1998 بدعم من «الوصاية السورية» والعماد ميشال سليمان الذي أتى في العام 2008 بإرادة إقليمية عربية للخروج من الأزمة السياسية الطاحنة التي كانت تعصف بالبلاد.
يواجه العماد جان قهوجي، قائد الجيش اللبناني حاليًا، واحدة من أصعب المهام في حياته السياسية – العسكرية. فهو يتولى قيادة المؤسسة التي تعتبر العمود الفقري للأمن في لبنان، وصمام الأمان، في ظل أجواء مجنونة تعصف بالمنطقة ككل، والحرب السورية الطاحنة التي تدور في البلد الجار منذ 5 سنوات، وتصيب شظاياها لبنان بشكل دوري، مهددة بالإطاحة باستقراره الهش القائم على سياسة «الأمن بالتراضي» من منطلق أن المعنيين بأزمة المنطقة يفضلون لبنان هادئا بالحد الأدنى من دون حلول جذرية لأوضاعه، وهو ما يبقي الوضع قريبا من حافة الانفجار في أي لحظة.
وتنبع أهمية موقع قائد الجيش، من أنه يترأس المؤسسة شبه الوحيدة التي تعمل بانتظام، وتحظى بإجماع وطني على دورها. غير أن قائد الجيش في موقعه هذا كالقابض على الجمر، فهو يريد مسك العصى من الوسط، لكنه يضطر أحيانا إلى أن يميل نحو أحد الاتجاهين لتعديل مسار ما، فما أن يميل، حتى يواجه بغضب أحد الطرفين. ولما كان الجيش يحتاج إلى التوافق الوطني – ولو بالحد الأدنى – فإن موقفه يصبح أضعف كلما شعر بحاجة إلى تفادي «فيتو» ما على مستقبل قائده السياسي، ولذا يطرح الكثيرون قائد الجيش للرئاسة كلما اقترب المتخاصمون من فكرة «الرئيس التوافقي»، ويبتعدون عنه كلما اقترب أحد الطرفين من الظفر بمقعد الرئاسة، كما كانت الحال مؤخرا مع ترشيح النائب سليمان فرنجية، أحد أعضاء فريق 8 آذار الذي يقوده ما يسمى «حزب الله»، ومن بعده أحد أعمدة هذا الفريق النائب ميشال عون الحليف الأول للحزب.
* منافس لعون
ويربط خصوم عون رفضه التمديد لقهوجي في المرات الثلاث، باعتبار قهوجي منافسًا طبيعيًا لعون لموقع رئاسة الجمهورية، وأحد الأسماء المطروحة للرئاسة، رغم أن قهوجي لم يعلن ذلك. وفي حال الاتفاق على اسمه للرئاسة، فإن ذلك لن يحتاج إلى تعديل دستوري في البرلمان انطلاقا من القاعدة التي أرساها رئيس البرلمان نبيه بري بأن «الفراغ يسقط المهل»، أي أن الفراغ في رئاسة الجمهورية يسقط المهل التي ينص عليها الدستور لموظفي الفئة الأولى (وقهوجي من بينهم) للاستقالة قبل ستة أشهر ليتم انتخاب أي منهم رئيسا للجمهورية.
ويرى الخبير الاستراتيجي العميد نزار عبد القادر أن «أي ماروني يصل إلى قيادة الجيش، يصبح مرشحا للرئاسة دون أن يعلن ذلك»، لافتًا إلى أن «4 جنرالات تبوأوا موقع الرئاسة بينهم عون في ظروف معينة» حين تولى رئاسة الحكومة العسكرية في العام 1988. وقال عبد القادر لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه «لا أعتقد أن قهوجي قد نطق بترشيحه، لكن اسمه متداول بين الخيارات المفتوحة على إشغال هذا الموقع»، رغم تأكيده أن ملف إنهاء الشغور الرئاسي «مرتبط بموانع إيرانية عبر «حزب الله»، تنطلق من حسابات إقليمية، كون إيران الطامحة للعب دور إقليمي تحمل ورقتين لتحقيق هذا الطموح، أولاهما ورقة بشار الأسد، والثانية ورقة الرئاسة اللبنانية للضغط فيها على العرب وعلى المجتمع الدولي»، معربًا عن اعتقاده أن إيران «ليست جاهزة للتخلي عن الورقة المضمونة لمناصرة عون أو قهوجي لاحقا لانتخابه رئيسًا للجمهورية».
ووضع عبد القادر التمديد لقهوجي في سياق «تعثر مجلس الوزراء وعدم قدرته على تعيين قائد جديد للجيش»، لافتًا إلى أن عون «لعب بالورقة عندما كان يرشح صهره العميد شامل روكز قبل إحالته للتقاعد، واليوم يحاول الوقوف حجر عثرة أمام التمديد لقهوجي لأنه يعتبر إطالة وجوده في القيادة يبقيه مرشحا قويا للرئاسة».
وأكد عبد القادر أن «قيادة الجيش، هي الموقع الأخير في الدولة الذي يؤمن الغطاء الأمني للبلد في ظل غياب الغطاء السياسي»، لافتًا إلى أن «الموقف الدولي كان مؤيدا للجيش الذي يقف بين مختلف الأفرقاء ويشكل ضمانة أمنية للبنان عبر حفظ السلام والاستقرار»، مشيرًا إلى أن الجيش اللبناني «لديه الغطاء الدولي والعربي لأنه يبقى آخر المؤسسات الضامنة لبقاء لبنان الدولة القادرة أمنيا على الأقل».
ومع أن قهوجي لم يتحدث مرة واحدة عن طموحه السياسي، فإن هناك إجماعا على اعتباره من المرشحين الأساسيين لرئاسة الجمهورية، وهو ما يجعله عرضة لـ«النيران الصديقة». ويُعتبر قهوجي قريبا من كل الأطراف المتنافسة في لبنان، ففي الجانب الأمني، يُعد قريبا جدا من منطق «حزب الله» في مكافحة الجماعات السورية المسلحة، وضبط الوضع الأمني ومكافحة الإرهاب، ولكن وفق المنطق السيادي يُعد قريبا من قوى «14 آذار» التي لم تضع فيتو مباشرا عليه. لكن هذا كله يجعله تحت مرمى سهام الطامحين للرئاسة، وسهام الفرقاء المحليين بسبب حساباتهم الخاصة. فالعداء معروف مع النائب ميشال عون، رغم أن قهوجي لم يتحدث بسلبية أبدا عنه، أما علاقته بالنائب وليد جنبلاط فهي عرضة لتقلبات حادة، خصوصا أن جنبلاط عارض تعيينه في البداية، ثم وصفه لاحقا بـ«القائد المعلّب»، بسبب ما يقال: إنه لا يرغب في رؤية منافس ماروني في منطقة نفوذه (الشوف). أما «حزب الله» فقد لزم الصمت حيال قهوجي، وتعاون معه في كل الملفات الأمنية، قبل أن يطلق النار باتجاهه الأسبوع الماضي عندما نشر الكاتب اللبناني المقرب من الحزب إبراهيم الأمين في صحيفة «الأخبار» مقالا حمل عنوان «قهوجي يا قهوجي: من أين لك هذا؟» وقال فيه إن قرارا صدر عن مصرف لبناني شهير يسمح لقهوجي وزوجته وأولاده بعدم التقيد بسقف المبالغ المستثناة من استمارة عمليات الإيداع النقدية وذلك لغاية مليون ومائتي ألف دولار أميركي. ورأى أن «هذا القرار يعني السماح لقهوجي والمذكورين معه بإيداع مبالغ مالية نقدية، تصل إلى مليون ومائتي ألف دولار أميركي في المصرف، من دون تحديد مصادرها، فيما المواطن العادي ممنوع من إيداع مبالغ تفوق 10 آلاف دولار أميركي، من دون تبرير كيفية حصوله عليها، وإشهار مستندات تثبت بأن هذه الأموال (نظيفة) ولم تتأتَّ من مصادر أو عمليات (غير مشروعة)».
وعلى الرغم من إعلان المصرف في وقت لاحق أنه قام بالأمر بمبادرة منه، لا بطلب من قهوجي، وأن الأخير طلب إلغاء هذه التسهيلات، فقد رأى كثيرون في هذا المقال إعلانا غير مباشر من الحزب عن إسقاط ورقة قهوجي الرئاسية لصالح حليفه ميشال عون الذي يبدو أنه يقترب من نيل ترشيح كتلة «المستقبل» التي يرأسها الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري.
* موقف برّي
ويقال: إن قهوجي هو المرشح المفضل لدى رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي يفضل رئيسا توافقيا «يساعد في إعادة الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي»، كما أنه الشريك المفضل للأميركيين الذين قدّموا للجيش اللبناني في عهده الكثير من المساعدات العسكرية والقتالية، ويعتبرونه أساسا في حفظ الاستقرار الداخلي.
قهوجي ولد في بلدة عين إبل الحدودية الجنوبية (مسقط رأس والدته) يوم 23 سبتمبر (أيلول) 1953، لكنه يتحدّر من بلدة بعذران في منطقة الشوف بجبل لبنان. ولقد تطوّع في الجيش بصفة تلميذ ضابط، وألحق في المدرسة الحربية اعتبارًا من 1 أكتوبر (تشرين الأول) 1973. ثم تنقل بين مختلف قطاعات الجيش وألويته قائدا لكتائب وألوية، وتدرج في الترقية حتى رتبة عميد ركن في العام 2002. بعد أن نال قدمًا للترقية لـ«أعمال حربية باهرة». وفي العام 2008 تم تعيينه قائدا للجيش خلفا للعماد ميشال سليمان الذي انتخب رئيسا للجمهورية قبل أن يستقيل من قيادة الجيش.
* رجل الثكنات والعسكر
يعتبر العماد قهوجي من الضباط المقربين من العسكر، فهو اعتاد أن يعيش معهم في المهمات، ويقضي معظم أوقاته في الثكنات. ومنذ تعيينه قائدا للجيش، باتت وزارة الدفاع مقرا شبه دائم لإقامته وسط عائلته الكبيرة. أما عائلته الصغيرة، فقد تأثرت بهذا الواقع، لكنه يحاول أن يبقى بين أفرادها كلما استطاع، وهو ما يزال يحافظ على غداء يوم الأحد كتقليد يجمع فيه كل أبنائه حوله مهما كانت المشاغل والظروف.
تزوج قهوجي من السيدة مارلين صفير، ولهما ثلاثة أولاد يحملون جميعا الحرف الأول من اسمه (جان): جاد وجو وجوانا. وتقول جوانا الابنة الوحيدة لقهوجي إن علاقتها بوالدها مميزة للغاية وتضيف في مقابلة مع الزميلة «هي» قائلة: «يعتقد الكثير من الناس أن قائد الجيش قد يتعاطى مع أفراد عائلته بأسلوب عسكري لكن الوضع مختلف كليًا مع والدي فهو حنون جدًا ويدللني كثيرًا». وتتحدث جوانا عن طبيعة شخصية والدها في البيت من اللحظة الأولى، شارحة «أنه إنسان بعيد كليًا عن العقلية العسكرية، بل على العكس لطالما سمعت كلمة (لا) من والدتي أكثر مما سمعناها منه شخصيًا، فهو يحاول دائمًا أن يجعل مشاكل وأمور الحياة أكثر وضوحًا وسهولة علينا. وهو يبسّط أصعب الأمور بدبلوماسيته الدائمة، فلا يفرض رأيه على أي كان بل يعتمد سياسة الحوار حتى نصل أو يصل إلى قناعة». وتضيف «حتى عندما لا ألتقي بوالدي يوميًا إلا أنه دائمًا موجود لأجلي، فرغم كل انشغالاته اليومية كقائد للجيش لكنه يجد الوقت لي في اللحظة التي أطلب منه لقاءه لأستشيره أو لآخذ رأيه في أي مسألة تحيرني أو تزعجني».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».