بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

قائد الجيش اللبناني متطرف في ضبط الأمن ويسعى للبقاء «وسطيا» بين السياسيين

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية
TT

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

تبدأ اليوم، فترة التمديد الثالثة، لقائد الجيش اللبناني العماد جان قهوجي على رأس المؤسسة العسكرية اللبنانية. وهي عملية يشكك فرقاء لبنانيون بقانونيتها، كونها تمت بقرار من وزير الدفاع، لا من مجلس الوزراء الذي يفترض به أن يتخذ قرار تمديد ولاية قائد الجيش التي انتهت في العام 2013. ومددت ثلاث مرات من أجل منع الفراغ في رأس الهرم العسكري اللبناني، نتيجة عجز القيادات السياسية اللبنانية على التوافق على رئيس جديد للجيش من جهة، ورغبة أطراف أخرى في إبقاء قهوجي في السلك العسكري، بما يسمح له بأن يكون مرشحا جديا لرئاسة الجمهورية.
وإذا استمر العمل بالقاعدة التي أحضرت آخر رئيسين للجمهورية في لبنان إلى المنصب، فإن قهوجي يجب أن يكون الرئيس الجديد للبلاد ويملأ الشغور الحاصل منذ 25 مايو (أيار) 2014. لكن حساباته مختلفة عن حسابات سلفيه العماد إميل لحود الذي أتى إلى الرئاسة في العام 1998 بدعم من «الوصاية السورية» والعماد ميشال سليمان الذي أتى في العام 2008 بإرادة إقليمية عربية للخروج من الأزمة السياسية الطاحنة التي كانت تعصف بالبلاد.
يواجه العماد جان قهوجي، قائد الجيش اللبناني حاليًا، واحدة من أصعب المهام في حياته السياسية – العسكرية. فهو يتولى قيادة المؤسسة التي تعتبر العمود الفقري للأمن في لبنان، وصمام الأمان، في ظل أجواء مجنونة تعصف بالمنطقة ككل، والحرب السورية الطاحنة التي تدور في البلد الجار منذ 5 سنوات، وتصيب شظاياها لبنان بشكل دوري، مهددة بالإطاحة باستقراره الهش القائم على سياسة «الأمن بالتراضي» من منطلق أن المعنيين بأزمة المنطقة يفضلون لبنان هادئا بالحد الأدنى من دون حلول جذرية لأوضاعه، وهو ما يبقي الوضع قريبا من حافة الانفجار في أي لحظة.
وتنبع أهمية موقع قائد الجيش، من أنه يترأس المؤسسة شبه الوحيدة التي تعمل بانتظام، وتحظى بإجماع وطني على دورها. غير أن قائد الجيش في موقعه هذا كالقابض على الجمر، فهو يريد مسك العصى من الوسط، لكنه يضطر أحيانا إلى أن يميل نحو أحد الاتجاهين لتعديل مسار ما، فما أن يميل، حتى يواجه بغضب أحد الطرفين. ولما كان الجيش يحتاج إلى التوافق الوطني – ولو بالحد الأدنى – فإن موقفه يصبح أضعف كلما شعر بحاجة إلى تفادي «فيتو» ما على مستقبل قائده السياسي، ولذا يطرح الكثيرون قائد الجيش للرئاسة كلما اقترب المتخاصمون من فكرة «الرئيس التوافقي»، ويبتعدون عنه كلما اقترب أحد الطرفين من الظفر بمقعد الرئاسة، كما كانت الحال مؤخرا مع ترشيح النائب سليمان فرنجية، أحد أعضاء فريق 8 آذار الذي يقوده ما يسمى «حزب الله»، ومن بعده أحد أعمدة هذا الفريق النائب ميشال عون الحليف الأول للحزب.
* منافس لعون
ويربط خصوم عون رفضه التمديد لقهوجي في المرات الثلاث، باعتبار قهوجي منافسًا طبيعيًا لعون لموقع رئاسة الجمهورية، وأحد الأسماء المطروحة للرئاسة، رغم أن قهوجي لم يعلن ذلك. وفي حال الاتفاق على اسمه للرئاسة، فإن ذلك لن يحتاج إلى تعديل دستوري في البرلمان انطلاقا من القاعدة التي أرساها رئيس البرلمان نبيه بري بأن «الفراغ يسقط المهل»، أي أن الفراغ في رئاسة الجمهورية يسقط المهل التي ينص عليها الدستور لموظفي الفئة الأولى (وقهوجي من بينهم) للاستقالة قبل ستة أشهر ليتم انتخاب أي منهم رئيسا للجمهورية.
ويرى الخبير الاستراتيجي العميد نزار عبد القادر أن «أي ماروني يصل إلى قيادة الجيش، يصبح مرشحا للرئاسة دون أن يعلن ذلك»، لافتًا إلى أن «4 جنرالات تبوأوا موقع الرئاسة بينهم عون في ظروف معينة» حين تولى رئاسة الحكومة العسكرية في العام 1988. وقال عبد القادر لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه «لا أعتقد أن قهوجي قد نطق بترشيحه، لكن اسمه متداول بين الخيارات المفتوحة على إشغال هذا الموقع»، رغم تأكيده أن ملف إنهاء الشغور الرئاسي «مرتبط بموانع إيرانية عبر «حزب الله»، تنطلق من حسابات إقليمية، كون إيران الطامحة للعب دور إقليمي تحمل ورقتين لتحقيق هذا الطموح، أولاهما ورقة بشار الأسد، والثانية ورقة الرئاسة اللبنانية للضغط فيها على العرب وعلى المجتمع الدولي»، معربًا عن اعتقاده أن إيران «ليست جاهزة للتخلي عن الورقة المضمونة لمناصرة عون أو قهوجي لاحقا لانتخابه رئيسًا للجمهورية».
ووضع عبد القادر التمديد لقهوجي في سياق «تعثر مجلس الوزراء وعدم قدرته على تعيين قائد جديد للجيش»، لافتًا إلى أن عون «لعب بالورقة عندما كان يرشح صهره العميد شامل روكز قبل إحالته للتقاعد، واليوم يحاول الوقوف حجر عثرة أمام التمديد لقهوجي لأنه يعتبر إطالة وجوده في القيادة يبقيه مرشحا قويا للرئاسة».
وأكد عبد القادر أن «قيادة الجيش، هي الموقع الأخير في الدولة الذي يؤمن الغطاء الأمني للبلد في ظل غياب الغطاء السياسي»، لافتًا إلى أن «الموقف الدولي كان مؤيدا للجيش الذي يقف بين مختلف الأفرقاء ويشكل ضمانة أمنية للبنان عبر حفظ السلام والاستقرار»، مشيرًا إلى أن الجيش اللبناني «لديه الغطاء الدولي والعربي لأنه يبقى آخر المؤسسات الضامنة لبقاء لبنان الدولة القادرة أمنيا على الأقل».
ومع أن قهوجي لم يتحدث مرة واحدة عن طموحه السياسي، فإن هناك إجماعا على اعتباره من المرشحين الأساسيين لرئاسة الجمهورية، وهو ما يجعله عرضة لـ«النيران الصديقة». ويُعتبر قهوجي قريبا من كل الأطراف المتنافسة في لبنان، ففي الجانب الأمني، يُعد قريبا جدا من منطق «حزب الله» في مكافحة الجماعات السورية المسلحة، وضبط الوضع الأمني ومكافحة الإرهاب، ولكن وفق المنطق السيادي يُعد قريبا من قوى «14 آذار» التي لم تضع فيتو مباشرا عليه. لكن هذا كله يجعله تحت مرمى سهام الطامحين للرئاسة، وسهام الفرقاء المحليين بسبب حساباتهم الخاصة. فالعداء معروف مع النائب ميشال عون، رغم أن قهوجي لم يتحدث بسلبية أبدا عنه، أما علاقته بالنائب وليد جنبلاط فهي عرضة لتقلبات حادة، خصوصا أن جنبلاط عارض تعيينه في البداية، ثم وصفه لاحقا بـ«القائد المعلّب»، بسبب ما يقال: إنه لا يرغب في رؤية منافس ماروني في منطقة نفوذه (الشوف). أما «حزب الله» فقد لزم الصمت حيال قهوجي، وتعاون معه في كل الملفات الأمنية، قبل أن يطلق النار باتجاهه الأسبوع الماضي عندما نشر الكاتب اللبناني المقرب من الحزب إبراهيم الأمين في صحيفة «الأخبار» مقالا حمل عنوان «قهوجي يا قهوجي: من أين لك هذا؟» وقال فيه إن قرارا صدر عن مصرف لبناني شهير يسمح لقهوجي وزوجته وأولاده بعدم التقيد بسقف المبالغ المستثناة من استمارة عمليات الإيداع النقدية وذلك لغاية مليون ومائتي ألف دولار أميركي. ورأى أن «هذا القرار يعني السماح لقهوجي والمذكورين معه بإيداع مبالغ مالية نقدية، تصل إلى مليون ومائتي ألف دولار أميركي في المصرف، من دون تحديد مصادرها، فيما المواطن العادي ممنوع من إيداع مبالغ تفوق 10 آلاف دولار أميركي، من دون تبرير كيفية حصوله عليها، وإشهار مستندات تثبت بأن هذه الأموال (نظيفة) ولم تتأتَّ من مصادر أو عمليات (غير مشروعة)».
وعلى الرغم من إعلان المصرف في وقت لاحق أنه قام بالأمر بمبادرة منه، لا بطلب من قهوجي، وأن الأخير طلب إلغاء هذه التسهيلات، فقد رأى كثيرون في هذا المقال إعلانا غير مباشر من الحزب عن إسقاط ورقة قهوجي الرئاسية لصالح حليفه ميشال عون الذي يبدو أنه يقترب من نيل ترشيح كتلة «المستقبل» التي يرأسها الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري.
* موقف برّي
ويقال: إن قهوجي هو المرشح المفضل لدى رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي يفضل رئيسا توافقيا «يساعد في إعادة الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي»، كما أنه الشريك المفضل للأميركيين الذين قدّموا للجيش اللبناني في عهده الكثير من المساعدات العسكرية والقتالية، ويعتبرونه أساسا في حفظ الاستقرار الداخلي.
قهوجي ولد في بلدة عين إبل الحدودية الجنوبية (مسقط رأس والدته) يوم 23 سبتمبر (أيلول) 1953، لكنه يتحدّر من بلدة بعذران في منطقة الشوف بجبل لبنان. ولقد تطوّع في الجيش بصفة تلميذ ضابط، وألحق في المدرسة الحربية اعتبارًا من 1 أكتوبر (تشرين الأول) 1973. ثم تنقل بين مختلف قطاعات الجيش وألويته قائدا لكتائب وألوية، وتدرج في الترقية حتى رتبة عميد ركن في العام 2002. بعد أن نال قدمًا للترقية لـ«أعمال حربية باهرة». وفي العام 2008 تم تعيينه قائدا للجيش خلفا للعماد ميشال سليمان الذي انتخب رئيسا للجمهورية قبل أن يستقيل من قيادة الجيش.
* رجل الثكنات والعسكر
يعتبر العماد قهوجي من الضباط المقربين من العسكر، فهو اعتاد أن يعيش معهم في المهمات، ويقضي معظم أوقاته في الثكنات. ومنذ تعيينه قائدا للجيش، باتت وزارة الدفاع مقرا شبه دائم لإقامته وسط عائلته الكبيرة. أما عائلته الصغيرة، فقد تأثرت بهذا الواقع، لكنه يحاول أن يبقى بين أفرادها كلما استطاع، وهو ما يزال يحافظ على غداء يوم الأحد كتقليد يجمع فيه كل أبنائه حوله مهما كانت المشاغل والظروف.
تزوج قهوجي من السيدة مارلين صفير، ولهما ثلاثة أولاد يحملون جميعا الحرف الأول من اسمه (جان): جاد وجو وجوانا. وتقول جوانا الابنة الوحيدة لقهوجي إن علاقتها بوالدها مميزة للغاية وتضيف في مقابلة مع الزميلة «هي» قائلة: «يعتقد الكثير من الناس أن قائد الجيش قد يتعاطى مع أفراد عائلته بأسلوب عسكري لكن الوضع مختلف كليًا مع والدي فهو حنون جدًا ويدللني كثيرًا». وتتحدث جوانا عن طبيعة شخصية والدها في البيت من اللحظة الأولى، شارحة «أنه إنسان بعيد كليًا عن العقلية العسكرية، بل على العكس لطالما سمعت كلمة (لا) من والدتي أكثر مما سمعناها منه شخصيًا، فهو يحاول دائمًا أن يجعل مشاكل وأمور الحياة أكثر وضوحًا وسهولة علينا. وهو يبسّط أصعب الأمور بدبلوماسيته الدائمة، فلا يفرض رأيه على أي كان بل يعتمد سياسة الحوار حتى نصل أو يصل إلى قناعة». وتضيف «حتى عندما لا ألتقي بوالدي يوميًا إلا أنه دائمًا موجود لأجلي، فرغم كل انشغالاته اليومية كقائد للجيش لكنه يجد الوقت لي في اللحظة التي أطلب منه لقاءه لأستشيره أو لآخذ رأيه في أي مسألة تحيرني أو تزعجني».



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.