بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

قائد الجيش اللبناني متطرف في ضبط الأمن ويسعى للبقاء «وسطيا» بين السياسيين

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية
TT

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

تبدأ اليوم، فترة التمديد الثالثة، لقائد الجيش اللبناني العماد جان قهوجي على رأس المؤسسة العسكرية اللبنانية. وهي عملية يشكك فرقاء لبنانيون بقانونيتها، كونها تمت بقرار من وزير الدفاع، لا من مجلس الوزراء الذي يفترض به أن يتخذ قرار تمديد ولاية قائد الجيش التي انتهت في العام 2013. ومددت ثلاث مرات من أجل منع الفراغ في رأس الهرم العسكري اللبناني، نتيجة عجز القيادات السياسية اللبنانية على التوافق على رئيس جديد للجيش من جهة، ورغبة أطراف أخرى في إبقاء قهوجي في السلك العسكري، بما يسمح له بأن يكون مرشحا جديا لرئاسة الجمهورية.
وإذا استمر العمل بالقاعدة التي أحضرت آخر رئيسين للجمهورية في لبنان إلى المنصب، فإن قهوجي يجب أن يكون الرئيس الجديد للبلاد ويملأ الشغور الحاصل منذ 25 مايو (أيار) 2014. لكن حساباته مختلفة عن حسابات سلفيه العماد إميل لحود الذي أتى إلى الرئاسة في العام 1998 بدعم من «الوصاية السورية» والعماد ميشال سليمان الذي أتى في العام 2008 بإرادة إقليمية عربية للخروج من الأزمة السياسية الطاحنة التي كانت تعصف بالبلاد.
يواجه العماد جان قهوجي، قائد الجيش اللبناني حاليًا، واحدة من أصعب المهام في حياته السياسية – العسكرية. فهو يتولى قيادة المؤسسة التي تعتبر العمود الفقري للأمن في لبنان، وصمام الأمان، في ظل أجواء مجنونة تعصف بالمنطقة ككل، والحرب السورية الطاحنة التي تدور في البلد الجار منذ 5 سنوات، وتصيب شظاياها لبنان بشكل دوري، مهددة بالإطاحة باستقراره الهش القائم على سياسة «الأمن بالتراضي» من منطلق أن المعنيين بأزمة المنطقة يفضلون لبنان هادئا بالحد الأدنى من دون حلول جذرية لأوضاعه، وهو ما يبقي الوضع قريبا من حافة الانفجار في أي لحظة.
وتنبع أهمية موقع قائد الجيش، من أنه يترأس المؤسسة شبه الوحيدة التي تعمل بانتظام، وتحظى بإجماع وطني على دورها. غير أن قائد الجيش في موقعه هذا كالقابض على الجمر، فهو يريد مسك العصى من الوسط، لكنه يضطر أحيانا إلى أن يميل نحو أحد الاتجاهين لتعديل مسار ما، فما أن يميل، حتى يواجه بغضب أحد الطرفين. ولما كان الجيش يحتاج إلى التوافق الوطني – ولو بالحد الأدنى – فإن موقفه يصبح أضعف كلما شعر بحاجة إلى تفادي «فيتو» ما على مستقبل قائده السياسي، ولذا يطرح الكثيرون قائد الجيش للرئاسة كلما اقترب المتخاصمون من فكرة «الرئيس التوافقي»، ويبتعدون عنه كلما اقترب أحد الطرفين من الظفر بمقعد الرئاسة، كما كانت الحال مؤخرا مع ترشيح النائب سليمان فرنجية، أحد أعضاء فريق 8 آذار الذي يقوده ما يسمى «حزب الله»، ومن بعده أحد أعمدة هذا الفريق النائب ميشال عون الحليف الأول للحزب.
* منافس لعون
ويربط خصوم عون رفضه التمديد لقهوجي في المرات الثلاث، باعتبار قهوجي منافسًا طبيعيًا لعون لموقع رئاسة الجمهورية، وأحد الأسماء المطروحة للرئاسة، رغم أن قهوجي لم يعلن ذلك. وفي حال الاتفاق على اسمه للرئاسة، فإن ذلك لن يحتاج إلى تعديل دستوري في البرلمان انطلاقا من القاعدة التي أرساها رئيس البرلمان نبيه بري بأن «الفراغ يسقط المهل»، أي أن الفراغ في رئاسة الجمهورية يسقط المهل التي ينص عليها الدستور لموظفي الفئة الأولى (وقهوجي من بينهم) للاستقالة قبل ستة أشهر ليتم انتخاب أي منهم رئيسا للجمهورية.
ويرى الخبير الاستراتيجي العميد نزار عبد القادر أن «أي ماروني يصل إلى قيادة الجيش، يصبح مرشحا للرئاسة دون أن يعلن ذلك»، لافتًا إلى أن «4 جنرالات تبوأوا موقع الرئاسة بينهم عون في ظروف معينة» حين تولى رئاسة الحكومة العسكرية في العام 1988. وقال عبد القادر لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه «لا أعتقد أن قهوجي قد نطق بترشيحه، لكن اسمه متداول بين الخيارات المفتوحة على إشغال هذا الموقع»، رغم تأكيده أن ملف إنهاء الشغور الرئاسي «مرتبط بموانع إيرانية عبر «حزب الله»، تنطلق من حسابات إقليمية، كون إيران الطامحة للعب دور إقليمي تحمل ورقتين لتحقيق هذا الطموح، أولاهما ورقة بشار الأسد، والثانية ورقة الرئاسة اللبنانية للضغط فيها على العرب وعلى المجتمع الدولي»، معربًا عن اعتقاده أن إيران «ليست جاهزة للتخلي عن الورقة المضمونة لمناصرة عون أو قهوجي لاحقا لانتخابه رئيسًا للجمهورية».
ووضع عبد القادر التمديد لقهوجي في سياق «تعثر مجلس الوزراء وعدم قدرته على تعيين قائد جديد للجيش»، لافتًا إلى أن عون «لعب بالورقة عندما كان يرشح صهره العميد شامل روكز قبل إحالته للتقاعد، واليوم يحاول الوقوف حجر عثرة أمام التمديد لقهوجي لأنه يعتبر إطالة وجوده في القيادة يبقيه مرشحا قويا للرئاسة».
وأكد عبد القادر أن «قيادة الجيش، هي الموقع الأخير في الدولة الذي يؤمن الغطاء الأمني للبلد في ظل غياب الغطاء السياسي»، لافتًا إلى أن «الموقف الدولي كان مؤيدا للجيش الذي يقف بين مختلف الأفرقاء ويشكل ضمانة أمنية للبنان عبر حفظ السلام والاستقرار»، مشيرًا إلى أن الجيش اللبناني «لديه الغطاء الدولي والعربي لأنه يبقى آخر المؤسسات الضامنة لبقاء لبنان الدولة القادرة أمنيا على الأقل».
ومع أن قهوجي لم يتحدث مرة واحدة عن طموحه السياسي، فإن هناك إجماعا على اعتباره من المرشحين الأساسيين لرئاسة الجمهورية، وهو ما يجعله عرضة لـ«النيران الصديقة». ويُعتبر قهوجي قريبا من كل الأطراف المتنافسة في لبنان، ففي الجانب الأمني، يُعد قريبا جدا من منطق «حزب الله» في مكافحة الجماعات السورية المسلحة، وضبط الوضع الأمني ومكافحة الإرهاب، ولكن وفق المنطق السيادي يُعد قريبا من قوى «14 آذار» التي لم تضع فيتو مباشرا عليه. لكن هذا كله يجعله تحت مرمى سهام الطامحين للرئاسة، وسهام الفرقاء المحليين بسبب حساباتهم الخاصة. فالعداء معروف مع النائب ميشال عون، رغم أن قهوجي لم يتحدث بسلبية أبدا عنه، أما علاقته بالنائب وليد جنبلاط فهي عرضة لتقلبات حادة، خصوصا أن جنبلاط عارض تعيينه في البداية، ثم وصفه لاحقا بـ«القائد المعلّب»، بسبب ما يقال: إنه لا يرغب في رؤية منافس ماروني في منطقة نفوذه (الشوف). أما «حزب الله» فقد لزم الصمت حيال قهوجي، وتعاون معه في كل الملفات الأمنية، قبل أن يطلق النار باتجاهه الأسبوع الماضي عندما نشر الكاتب اللبناني المقرب من الحزب إبراهيم الأمين في صحيفة «الأخبار» مقالا حمل عنوان «قهوجي يا قهوجي: من أين لك هذا؟» وقال فيه إن قرارا صدر عن مصرف لبناني شهير يسمح لقهوجي وزوجته وأولاده بعدم التقيد بسقف المبالغ المستثناة من استمارة عمليات الإيداع النقدية وذلك لغاية مليون ومائتي ألف دولار أميركي. ورأى أن «هذا القرار يعني السماح لقهوجي والمذكورين معه بإيداع مبالغ مالية نقدية، تصل إلى مليون ومائتي ألف دولار أميركي في المصرف، من دون تحديد مصادرها، فيما المواطن العادي ممنوع من إيداع مبالغ تفوق 10 آلاف دولار أميركي، من دون تبرير كيفية حصوله عليها، وإشهار مستندات تثبت بأن هذه الأموال (نظيفة) ولم تتأتَّ من مصادر أو عمليات (غير مشروعة)».
وعلى الرغم من إعلان المصرف في وقت لاحق أنه قام بالأمر بمبادرة منه، لا بطلب من قهوجي، وأن الأخير طلب إلغاء هذه التسهيلات، فقد رأى كثيرون في هذا المقال إعلانا غير مباشر من الحزب عن إسقاط ورقة قهوجي الرئاسية لصالح حليفه ميشال عون الذي يبدو أنه يقترب من نيل ترشيح كتلة «المستقبل» التي يرأسها الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري.
* موقف برّي
ويقال: إن قهوجي هو المرشح المفضل لدى رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي يفضل رئيسا توافقيا «يساعد في إعادة الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي»، كما أنه الشريك المفضل للأميركيين الذين قدّموا للجيش اللبناني في عهده الكثير من المساعدات العسكرية والقتالية، ويعتبرونه أساسا في حفظ الاستقرار الداخلي.
قهوجي ولد في بلدة عين إبل الحدودية الجنوبية (مسقط رأس والدته) يوم 23 سبتمبر (أيلول) 1953، لكنه يتحدّر من بلدة بعذران في منطقة الشوف بجبل لبنان. ولقد تطوّع في الجيش بصفة تلميذ ضابط، وألحق في المدرسة الحربية اعتبارًا من 1 أكتوبر (تشرين الأول) 1973. ثم تنقل بين مختلف قطاعات الجيش وألويته قائدا لكتائب وألوية، وتدرج في الترقية حتى رتبة عميد ركن في العام 2002. بعد أن نال قدمًا للترقية لـ«أعمال حربية باهرة». وفي العام 2008 تم تعيينه قائدا للجيش خلفا للعماد ميشال سليمان الذي انتخب رئيسا للجمهورية قبل أن يستقيل من قيادة الجيش.
* رجل الثكنات والعسكر
يعتبر العماد قهوجي من الضباط المقربين من العسكر، فهو اعتاد أن يعيش معهم في المهمات، ويقضي معظم أوقاته في الثكنات. ومنذ تعيينه قائدا للجيش، باتت وزارة الدفاع مقرا شبه دائم لإقامته وسط عائلته الكبيرة. أما عائلته الصغيرة، فقد تأثرت بهذا الواقع، لكنه يحاول أن يبقى بين أفرادها كلما استطاع، وهو ما يزال يحافظ على غداء يوم الأحد كتقليد يجمع فيه كل أبنائه حوله مهما كانت المشاغل والظروف.
تزوج قهوجي من السيدة مارلين صفير، ولهما ثلاثة أولاد يحملون جميعا الحرف الأول من اسمه (جان): جاد وجو وجوانا. وتقول جوانا الابنة الوحيدة لقهوجي إن علاقتها بوالدها مميزة للغاية وتضيف في مقابلة مع الزميلة «هي» قائلة: «يعتقد الكثير من الناس أن قائد الجيش قد يتعاطى مع أفراد عائلته بأسلوب عسكري لكن الوضع مختلف كليًا مع والدي فهو حنون جدًا ويدللني كثيرًا». وتتحدث جوانا عن طبيعة شخصية والدها في البيت من اللحظة الأولى، شارحة «أنه إنسان بعيد كليًا عن العقلية العسكرية، بل على العكس لطالما سمعت كلمة (لا) من والدتي أكثر مما سمعناها منه شخصيًا، فهو يحاول دائمًا أن يجعل مشاكل وأمور الحياة أكثر وضوحًا وسهولة علينا. وهو يبسّط أصعب الأمور بدبلوماسيته الدائمة، فلا يفرض رأيه على أي كان بل يعتمد سياسة الحوار حتى نصل أو يصل إلى قناعة». وتضيف «حتى عندما لا ألتقي بوالدي يوميًا إلا أنه دائمًا موجود لأجلي، فرغم كل انشغالاته اليومية كقائد للجيش لكنه يجد الوقت لي في اللحظة التي أطلب منه لقاءه لأستشيره أو لآخذ رأيه في أي مسألة تحيرني أو تزعجني».



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.