وول سوينكا: مهمة الروائي أن يحكي وليس تقديم أجوبة

مركز باسم النوبلي الأفريقي في جامعة نيفادا

وول سوينكا  -  مركز الجبل الأسود في جامعة نيفادا
وول سوينكا - مركز الجبل الأسود في جامعة نيفادا
TT

وول سوينكا: مهمة الروائي أن يحكي وليس تقديم أجوبة

وول سوينكا  -  مركز الجبل الأسود في جامعة نيفادا
وول سوينكا - مركز الجبل الأسود في جامعة نيفادا

تنقسم لاس فيغاس (ولاية نيفادا) إلى جزأين، يفصل بينهما مطار «ماكارين» الدولي: يسيطر على الجزء الغربي شارع الملاهي. وتسيطر على الجزء الشرقي جامعة نيفادا. بالليل، تكاد تعمي الأبصار أضواء الملاهي وكازينوهات القمار في فنادق «ترامب إنترناشونال» و«سيزار بالاس» و«ماندلاي» و«ميراج». لكن، الضجة في الشرق لا تزيد عن تجمعات طلبة وطالبات جامعة نيفادا (أكثر من 30 ألفا).
في الجامعة، معهد «بلاك ماونتين» (الجبل الأسود). وفي المعهد، مركز «وول سوينكا» للآداب والفنون الأفريقية. وسوينكا، كما هو معروف، الكاتب المسرحي والشاعر النيجيري الذي فاز بجائزة نوبل في الآداب عام 1986 (أول أفريقي يفوز عليها).
سوينكا يبلغ من العمر الآن 82 عاما. وقرر أن يقضي باقي حياته في القرية التي ولد فيها في نيجيريا. يأتي إلى هنا أحيانا. وسيعود في ديسمبر (كانون الأول) لإدارة ندوة سيتحدث فيها روائيون أفريقيون عن «احتقار الرواية الأفريقية» (هل، أيضا، احتقار الأفريقيين؟).
اشتهر سوينكا، بالإضافة إلى شهرته في مجال الأدب، بحب الحرية، ومعارضة الحكومات الديكتاتورية، خاصة في وطنه.
وهرب، بسبب ذلك، إلى أميركا أربع مرات: الأولى في عام 1975، بسبب معارضته لحكومة الجنرال أوباسانجو، وعمل حينها أستاذا في جامعة هارفارد. والثانية في عام 1988 (بعد عامين من نيل جائزة نوبل)، بسبب معارضته لحكومة الجنرال محمد بخاري، ثم حكومة الجنرال إبراهيم بابنجيدا. وعمل أستاذا في جامعة كورنيل (ولاية نيويورك). ثم في جامعة ايموري (ولاية جورجيا).
والثالثة في عام 1994، بسبب معارضته لحكومة الجنرال ساني اباشا. وعمل أثناء هربه أستاذا في جامعة لايولا (ولاية كاليفورنيا).
وأخيرا في عام 1999، هرب إلى الولايات المتحدة، بسبب معارضته لحكومة الجنرال عبد السلام أبو بكر.
في كل مرة، كان يتوسم الخير، ويعود إلى نيجيريا (كانت وظيفته الثابتة هي أستاذ الأدب في جامعة أولووو). لكن، كل مرة، بعد عودته بسنوات قليلة، يتأكد بأن العسكريين ليسوا جادين في تأسيس نظام ديمقراطي. (حكم العسكريون نيجريا أكثر من 30 عاما، حتى عام 2010).
في كل مرة، كان يعود إلى جامعة أميركية مختلفة. وكانت جامعة نيفادا هي الأخيرة، حيث عمل أستاذا، ثم عضوا في مجلس إدارة معهد «بلاك هيل»، ثم مديرا لمركز باسمه.
* في قرية «اكي»
ناقشت واحدة من حلقات معهد «بلاك هيل» أشهر كتب سوينكا، والذي كان من أسباب نيله جائزة نوبل، وهو «سنوات الطفولة» (نشر الكتاب في عام 1981). وكان قد نشر كتاب مذكرات ثان في عام 2006، هو: «يجب أن تهرب في الفجر» (إشارة إلى سلسلة عوداته إلى نيجيريا، ثم الهروب منها).
في قرية «اكي»، كان والده قسيسا في كنيسة إنجليكية. وكانت والدته بنت قسيس، ومتحمسة للمسيحية ربما أكثر من والده. لهذا، سماها ابنها في الكتاب: «المسيحية الثائرة».
لكن، كان أكثر السكان يدينون بدين قبيلة يوروبا. لهذا، تربي سوينكا تربية دينية مختلطة. في وقت لاحق، بسبب غضبه على سنوات ما سماه «الاستعمار الأوروبي المسيحي الأبيض»، ابتعد عن المسيحية.
سئل مرة عن «التناقض» في حياته، بين «الروائي الهادئ» و«الوطني المتمرد». وأجاب: «أنا مثل أوغون. يفضل الهدوء، ولكنه عندما يثور يدمر كل شيء».
وهكذا سلسلة تناقضات تتحكم في حياة سوينكا: الدين المسيحي، أو دين قريته البدائي؟ اللغة الإنجليزية، أو لغة اليوروبا؟ والده الليبرالي، أو والدته التقليدية؟ الثقافة الغربية، أو ثقافة القرية؟ زوجته البريطانية، أو زوجتاه النيجيريتان؟
في تقرير عنه، لاحظت مجلة «أتلانتيك» أنه نادرا يلبس ملابس أوروبية. حتى عندما نال جائزة نوبل، ذهب إلى أوسلو وهي في عباءة أفريقية بيضاء وفضفاضة.
* سنوات الطفولة
في هذا الكتاب، وصف سوينكا وكان عمره أربعة أعوام، فرقة موسيقية بريطانية كانت تجوب قرى المنطقة. أبهرته الأشكال، والألوان، والأنغام، فتبع الفرقة إلى خارج قريته. وضل الطريق. وجلس يبكي، حتى جاء رجل من قريته، وأنقذه. وتحدث أيضا عن موت أبيه، وكان في التاسعة من عمره، ومراسيم الدفن التي كانت مزيجا من المسيحية والقبلية. ووصف ما وصل إلى قريته من آثار الحرب العالمية الثانية (كانت بريطانيا تستعمر نيجيريا، وأرسلت جنودا نيجيريين إلى ساحات الحرب في شمال أفريقيا وفي أوروبا. وكتب: «ما كنت أقرأ الصحف، لكني كنت أسمع الإذاعة. كل ليلة نجتمع حول الراديو الوحيد، ونسمع عن هتلر. لم نشاهده، ولم نعرف عنه كثيرا. لكن كان وكأنه يعيش معنا. وكذلك تحدث عن سماعه في المذياع خبر إلقاء قنبلة أميركية النووية فوق هيروشيما. لم يكن يعرف كثيرا عن الموضوع. لكنه تذكر نقاشا وسط الكبار، وصياح مديرة منظمة نسائية محلية: لماذا رمى الأميركيون قنبلة نووية فوق اليابانيين؟ لماذا لم يرموها فوق الألمان، وهم الذين بدأوا كل هذه الحروب؟ لماذا؟ لأن الألمان بيض مثل الأميركيين. لهذا، رمى الأميركيون القنبلة النووية فوق شعب من شعوب العالم الثالث. دائما يحتقرون الشعوب الملونة: الصفر، والسود، والسمر».
* زوجات وثقافات
عندما كان عمره 24 عاما، وهو في بعثة دراسية في جامعة ليدز، بريطانيا، تزوج باربرا. لكن، لم يدم الزواج طويلا، وذلك لأن البريطانية لم تكن متحمسة للعودة معه إلى نيجيريا بعد أن أكمل دراسته. وعندما عادا، بدأت المشاكل، ليس فقط بينهما، ولكن، أيضا، بين البريطانية وثقافة قبيلة اليوروبا. (بالإضافة إلى اتهامات بأنه كان يعاشر فتيات من قبيلته). بعد سنوات قليلة، طلق البريطانية باربرا، وتزوج النيجيرية أوليدي ايدويو، وعندما كان عمره 55 عاما طلقها ليتزوج فوليك التي كانت تلميذته في جامعة أولووو، في نيجيريا. وهي تصغره بثلاثين عاما، وما تزال زوجته.
«احتقار» الرواية الأفريقية
في ديسمبر (كانون الأول) القادم، سيعود سوينكا إلى مركزه في جامعة نيفادا، ليترأس ندوة يتحدث فيها روائيون أفريقيون عن «احتقار الرواية الأفريقية». وكان بعض هؤلاء ناقشوا نفس الموضوع في ندوة مماثلة قبل خمس أعوام.
في ذك الوقت، قال الروائي شيماماندا اديشي (أميركي نيجيري): «أتنقل بين أميركا ونيجيريا منذ ثلاثين عاما. لكن، فقط في أميركا أحس باني أفريقي. أحس بنفسي، وبقارتي. وأحس باني في موقع المدافع أمام عداوة، حقيقية أو وهمية».
وأضاف: «يعيش الاحتقار داخل ثقافة الصمت التي نعاني منها. نعيش أوقاتا دراماتيكية وتراجيدية». وسأل: «متى سنثق في أنفسنا؟ متى سنسيطر على أنفسنا؟»
وقال الروائي شنجراي هوفي (من زيمبابوي): «أكاد أتقيأ من الغضب عندما أسمع الغربيين يفتخرون بالمساعدات المادية التي يرسلونها إلى الأفريقيين. لهذا، أحلم بأن يأتي اليوم الذي سيرسل فيه الأفريقيون بعثات تبشيرية مسيحية إلى الغرب. نعم، يوجد ما هو أهم من دفتر الشيكات، يوجد القلب».
واشتركت في النقاش البريطانية البيضاء ألكساندر فولار، بنت مستوطن أبيض كان في زيمبابوي (كانت زيمبابوي تسمى روديسيا، نسبة إلى «مكتشفها» البريطاني السير سيسل رودس). وقالت، وهي تخاطب الروائيين الأفارقة: «إنا بنت بريطانيين بيض يجب أن يوصفوا بالاحتقار. لكنهم يريدون أن يصفوكم أنتم بالاحتقار. يقولون إنكم صفوة أفريقيا، ويجب أن تفرحوا بذلك. لا تنتقدوا. اصمتوا».
وقال سوينكا، في نهاية النقاش: «لن نقدر على أن ننقذ أفريقيا. لكن، أحسن شيء بالنسبة للروائي، في أي دولة، وبأي لغة، هو أنه يحكي روايات. يصف ما حدث، ولا يقدم أجوبة أو حلولا». وأضاف: «ربما توقظ رواية ضمير شخص، وربما توقظ روايات ضمائر أشخاص. إنها مهمة طويلة المدى».



مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي
TT

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

لا نكاد نجد على طول الخريطة العربية اليوم مهرجاناً للشعر العربي الفصيح يجمع هذا العدد الهائل سنوياً من الشعراء إلا في الشارقة. إنه مهرجان يتجاوز بالتأكيد صفة الحدث الثقافي التقليدي الذي يستضيف شعراء بارزين من العالم العربي ويقيم لهم أمسيات أنيقة مؤثثةً بجمهور تفاعلي يضمن التواصل الضروري بين المبدع والمتلقي. وهكذا، نجد في هذا المهرجان سمات عديدة تميزه عن طابع الموسمية الذي يهيمن عادةً على الفعل الثقافي في كثير من فعالياتنا العربية، ونخص بالذكر تلك التي تُعنى بالثقافة والفن، لا سيما الشعر. جملة ما يمكن أن يخلص إليه من تابع أو حضر فعاليات هذا المهرجان هو أنه سعى ونجح إلى حد كبير في صنع مجتمع شعري متكامل الأركان يتعايش فيه المبدعون - وإن بصفة مؤقتة - لفترات غير قصيرة يتصل فيها النهار بالليل، فمن ندوات صباحية إلى أمسيات باذخة للشعر إلى سمر ليلي موسيقي في نُزل الشعراء يستمر حتى ساعات متأخرة من الليل على أنغام الطرب العربي الأصيل من أقطار ومدارس غنائية شتى. ثم يتواصل اللقاء بعدها في بهو الفندق في جلسات متفرقة هنا وهناك حتى ليُخيل للمتابع أن المكان تحول إلى حي سكني يقطنه شعب من الشعراء لا يتحدثون سوى في الشعر وعنه. وبالتوازي مع ذلك، يتناوب الشعراء الضيوف طيلة أيام المهرجان على مكاتب القنوات الفضائية والصحف والإذاعات لتسجيل عدد من اللقاءات الإعلامية التي تصب كلها في أنهار الجدل الشعري والحوار الإبداعي الذي يناقش القصيدة، والقصيدة فقط.

لا أعرف مهرجانات عربية كثيرة للشعر يرفع منظموها في مدنهم لافتات إعلانية كبيرة تروج للحدث الشعري وتعلق صوره في الشوارع والممرات. هناك في الشارقة نجد في كل الشوارع المحاذية لقصر الثقافة الذي يتوسط بفخامته المدينة صوراً للمهرجان تروج لأماسيه الرئيسية. وعند كل مساء نرقب توافد عائلات بأكملها على القصر باحثين عن موائد الشعر ومنصتين لما يقوله الشعراء، مصطحبين مسنّيهم وأطفالهم في مشهد عائلي يحتضن الثقافة كما لم نعتد أن نراه اليوم وسط عالم تسوده آلة النيو ليبرالية الاقتصادية التي همّشت الفنون الجميلة لمصلحة قيم الاستهلاك. وبالانسجام مع النشاط المسائي في قصر الثقافة، وفي الشارقة نفسها خلال أيام المهرجان الشعري، ما إن تمر على ساحل «شاطئ المجاز» الساحر، والذي يعبر اسمه عن توجه المدينة الثقافي، حتى ترى بالعين المجردة شعراء يمشون على الأقدام محتفين بنسائم الشتاء العليل في الشارقة، ومنهمكين في خوض حواراتهم الثقافية حول هذا الكائن الفني الهلامي الذي لا يمنحك بعضه حتى تمنحه كلك وأكثر.

إن مجتمعاً عربياً من الشعراء يمكن القول إنه قد تحقق بالفعل على أرض الشارقة، ولو لأسبوع واحد. جغرافياً حضوره كانت الشارقة وبالضبط بين النُّزل الفندقي والمسرح والمقاهي، حيث يتجمع الشعراء من مختلف الأقطار العربية، ويتحدثون ويتسامرون وقد يتشاجرون أيضاً حول هذا الموقف الشعري أو ذاك. يتحدثون بصوت مرتفع ويصرخ بعضهم، وبعضهم الآخر يكتفي بالصمت متابعاً ما يقوله الأكثر سناً وتجربة. إنهم يسائلون الحداثة الشعرية عن منجزها، فهناك منهم من ينتصر لضرورة الموقف الحداثي أيّاً كان شكل النص، وهناك من لا يزال راديكالياً في موقفه من حيث ضرورة التركيز على قدسية الشكل الذي يُعبر من وجه نظره عن صلابة عمود الشعر وأصالة بنيته. أحاديث تطول وتتوسع إلى تقييم حالة المشهد الثقافي العربي من حيث مساحة حضور الشعر ومصداقية الجوائز والتواصل المفقود أو الموجود على مضض بين الأجيال الشعرية في عالم عربي أثمن ما يغيب عنه هو التواصل. ولعل هذا التواصل يعد من سمات مهرجان الشارقة أيضاً وفضائله، فإذا كان اليوم الأول الافتتاحي للمهرجان يعمد دائماً إلى تكريم تجربة شعرية فردية أو أكثر تنتمي غالباً إلى جيل رائد، فإن الافتتاح أيضاً يتضمن التنويه بعدد من المواهب الشابة التي توَّجَتها قصائدها المنشورة في «مجلة القوافي». هذه الأخيرة تقدم نفسها مجلةً خالصةً للشعر العربي الفصيح، فهي لا تنشر غيره ولا تكتب عن شيء آخر سواه، تتواتر أعدادها شهرياً حتى تتوج ختامها السنوي باختيار بضعة قصائد منشورة على طول السنة كي يُحتفى بها في المهرجان الرئيسي في مستهل السنة الموالية. تتطور حالة التواصل داخل مجتمع الشعراء حتى تصبح أمتن من الصلة العائلية، فتجدهم يتفقدون بعضهم في البهو والغرف مع كل موعد انطلاق للمسرح، يتفقدون بعضهم في مقاعد الباصات ثم يبدأون بالغناء طول مسافة السير، ويشربون قهوة الوصول أمام المسرح منتظرين بدء الأمسية. هكذا إذن تتواصل الحساسيات والحركات والأجيال الشعرية المختلفة بيُسر وسلاسة دون قطائع نظرية أو أخرى نفسية واجتماعية، وهكذا يتوحد الشعر بقرائه ومبدعيه.

إن ما يميز هذا المهرجان ليس صنعه مجتمعاً شعرياً مفترضاً فقط، بل هو أنه بات يحفز كل الشعراء الذين باعدتهم المسافات الجغرافية وفرقتهم سبل العيش على تقديم أنفسهم مع أوراق اعتمادهم الشعري لهذ المهرجان من بوابة القصيدة، والقصيدة فقط، دون وسطاء ودون محسوبيات. ذلك أن من حق أي شاعر أن يحضر مشاركاً في هذا المهرجان، ما دام قادراً على تقديم قصيدته للنشر، وهي وحدها من ستؤهله للمشاركة ضيفاً مُقدّراً، ومن ثم الانضمام إلى أسرة الشعر التي تتعاظم بأفرادها وبأجوائها لتكون مجتمعاً فسيحاً يمد أطرافه من الخليج إلى المحيط.

مجتمع الشعراء الذي تحدثنا عنه ملياً في هذه المقالة يشكل جزءاً من مشروع بدأ بالفعل منذ سنوات ويتعلق بمبادرة «بيوت الشعر» التي أصبحت تتنامى أعدادها في أكثر من قُطر عربي غير الشارقة. حدث ذلك لأول مرة منذ حوالي عشر سنوات حين أطلق حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي مبادرة تهدف إلى إحداث ألف بيت للشعر في العالم العربي يكون نشيطاً طول السنة ويرعى المواهب الشعرية على غرار تجربة «بيت الشعر» في الشارقة. تطور الأمر وتم افتتاح عدد كبير من بيوت الشعر في الأردن ومصر والسودان والمغرب وموريتانيا وتونس. هذا المشروع أسس حالة جديدة في المشهد الثقافي يمكن أن نسميها «اللجوء الشعري» للشعراء داخل بلدانهم إلى مؤسسة «بيت الشعر» التي تعزل نفسها عن ضجيج الحياة الاعتيادية، وتقيم وطناً شعرياً موازياً يحتفي فيه الشعراء بقصائدهم، ويعانقون بعضهم بعد الإنصات والإنشاد والكتابة. إنه وطن الشعراء الذي يتشكل ومجتمع يضم كل أفراد عائلاته الشعرية التي تكبر كل يوم. وفي الحقيقة، لقد أسهم نشاط هذه البيوت داخل كل بلد في خلق حالة الانتماء لوطن القصيدة التي لا يعترف بالحدود الفاصلة ولا ينغلق فيه الفرد الشاعر على انتمائه القطري أو الثقافي أو حتى العرقي والطائفي. كيف يمكن لأي منا أن يتجاوز فرحته بجمالية هذا الإنجاز الذي جعل الشعر مفتاحاً للوحدة العربية في أبهى تجلياتها الفنية والإنسانية!

إن زبدة ما نود قوله عن مهرجان الشارقة للشعر العربي، هو أننا اليوم وفي بلدان عربية كثيرة باتت محجاً للمبدعين بحاجة لدعم فكرة المجتمع الشعري والإبداعي، وليس فقط لفعاليات ثقافية تنشط وتخمد بصفة روتينية بين موسم وآخر. وإذا كانت بشائر هذا التصور الجديد للقاء الشعري قد أصبحت تنضج بوضوح في مراكز ثقافية عربية كبرى كالسعودية والإمارات، فإن الحاجة اليوم باتت ملحة لتعميم وتكريس النموذج على امتداد الخريطة العربية كلها. فمجتمع الشعراء كما هو معلوم يخدم مسيرة السلام وينحاز بالضرورة لقيم الحضارة في مفهومها الكوني، إنه مجتمع مسالم ينتصر للجمال ويناهض الكراهية والتطرف والانغلاق. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتجسد حضوره عربياً، كما تجسد بالفعل في مهرجان الشارقة.

* شاعر من المغرب