حزّ الرقاب.. فزّاعة «داعش»

لتأكيد أنه «ما زال باقيًا» رغم الهزائم

مشهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» والأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية
مشهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» والأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية
TT

حزّ الرقاب.. فزّاعة «داعش»

مشهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» والأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية
مشهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» والأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية

مشاهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» الإرهابية، لا تنتهي، فكل يوم نشاهد مشهدا صادما، والأرجح أنها لن تنتهي لاعتقاد التنظيم الأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية المنتشرة حول العالم، أن هذه المشاهد القاسية هي «فزاعته» لتأكيد سيطرته وإظهار قوته لدى العالم، وأن الهزائم التي مني بها خلال الفترة الماضية لم تؤثر عليه. وكان أحدث المشاهد في سوريا خلال عيد الأضحى عندما نحر التنظيم 19 سوريًا، وفي حينه جرّ عناصر التنظيم الإرهابي ضحاياهم في مشهد مخيف وذبحوهم وعلقوهم كالذبائح. هذا المشهد المقزّز - على ما يبدو - كان مهما لـ«داعش» في هذا التوقيت، بالتحديد، في أعقاب الهزائم المتتالية التي مني بها في العراق وليبيا وسوريا، لتأكيد عبارته القديمة أنه «ما زال باقيًا ويتمدد»، وهي العبارة التي أطلقها التنظيم وقت ظهوره عام 2014.
ارتبطت فظائع تنظيم داعش الإرهابي المتطرف بفيديوهات قطع رؤوس المدنيين والعسكريين على حد سواء. ويشار إلى «داعش»، خلال السنة الأولى من إعلانه «خلافته» المزعومة في سوريا والعراق، قطع رؤوس ما يزيد عن 3 آلاف من المواطنين ومن عناصره بتهم مختلفة منها التجسس لصالح دول أجنبية.
ويقول مراقبون إن «داعش» يستخدم قطع الرؤوس لترهيب السكان في سوريا والعراق وليبيا، حيث أصدر سلسلة من أشرطة الفيديو الدعائية، وبث التنظيم عمليات إعدام علنية وجماعية، واحتوى بعضها على سجناء أجبروا على حفر قبورهم بأيديهم قبل إعدامهم، وكذلك أعدم عشرات المقاتلين السوريين المنتمين إلى المعارضة الثائرة ضد نظام بشار الأسد.
الهدوء واستسلام الضحايا لعناصر التنظيم، كان سمة أساسية في جميع مشاهد «النحر»، وهنا أعرب خبراء في الطب النفسي عن اعتقادهم أن «داعش» يستخدم نوعا من الحرمان الحسي لفترة معينة للضحية، وفي هذه الحالة يجري عزل الأسير عن إثارة كل الحواس، خصوصًا السمع والبصر، ما يجعله في حالة خنوع كاملة ويواجه الموت من دون مقاومة، ويقولون: إنه في هذه الحالة الإنسان يفضل الموت على انتظار مصيره. ورجح خبراء علم النفس أيضًا وجود احتمال آخر هو تخدير الضحايا بدليل أنهم لم يبدوا ردود فعل.
على صعيد آخر، قال معنيون بشؤون الجماعات المتطرفة والإرهاب إن «داعش» يرسل إلى العالم عبر مناظر إعدام الضحايا رسالة مضمونها أن من يخالفونه في الفكر والمعتقد سيكون مصيرهم الذبح. وتابعوا أن التنظيم يعمد لنشر مشاهد حزّ الرقاب نتيجة هروب الكثير من أنصاره في العراق وسوريا بسبب الخسائر والهزائم التي يتلقاها بشكل يومي على يد التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، ولتأكيد أنه لا يزال قويا وأوراق اللعبة في يده. ويذكر أن الأردني أبو مصعب الزرقاوي مؤسس التنظيم في بداياته، كان أول من مارس الإعدام ذبحًا عندما حزّ عنق الرهينة الأميركي يوجين أرمسترونغ في العراق عام 2004. ومن ثم، ذبح «داعش» رهينة يابانيًا وسوريين وعراقيين ولبنانيين، بالإضافة لاثنين من الصحافيين الأميركيين، ومصريين أقباط في ليبيا.

دراسة مصرية
دراسة مصرية أعدتها أخيرًا دار الإفتاء في مصر، ذكرت أن أفعال وجرائم الدواعش تخالف كل القيم والمبادئ الدينية والإنسانية وما جاءت به جميع الأديان السماوية، ولاحظت أن أكثر ضحايا التنظيم هم من المسلمين من سكان المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق وليبيا، ما يعني أن التنظيم إنما يحمل القتل والذبح أينما وجد.
وأشارت الدراسة إلى أن قادة تنظيم داعش يعتقدون أن القتل بوحشية يساهم في تثبيت سيطرتهم وخضوع الناس لهم خوفا من البطش في مختلف مناطق سيطرتهم، وذلك على الرغم من أن التراث الإسلامي لا يدعو إلى القتل وسفك الدماء أو إرهاب الناس وتخويفهم كي يذعنوا لهم ويعلنوا البيعة والولاء.
وعن عقيدة الذبح لدى «داعش»، قالت الدراسة إن «المرجعية الفكرية التي يستند إليها التنظيم في الذبح ترجع إلى جماعات متطرفة كانت أول من فعلوا هذه الفعلة الشنيعة في الإسلام»، مضيفة «أن قطع الرؤوس ممارسة قديمة عرفتها البشرية بمختلف أجناسها وثقافاتها، وأن هذه العملية اللاإنسانية كانت معروفة لدى بعض العرب في الجاهلية، وبعد أن جاء الإسلام لم يثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه حُمل إليه رأس كافر بعد قطعه، ولا أنه أمر بحزّ الرؤوس؛ بل إن النصوص الشرعية لم تؤسس لمثل تلك العقيدة التي ينتهجها تنظيم داعش في القتل والذبح والتمثيل بالضحايا».
ورأت الدراسة «أن الكارثة الكبرى تكمن في محاولات هذا التنظيم الإرهابي إيجاد مبرّرات من الدين الشريف لشرعنة هذه الانتهاكات»، مع أنها لا تمت للإسلام بصلة.
وعن الأسباب التي تدعو «داعش» لقطع الرؤوس، تقول الدراسة إنها تشمل: إشباع سادية القائمين على التنظيم الذين أدمنوا رؤية الدماء، فأصبحت رؤية هذه الرؤوس المقطوعة عامل نشوة لهم، ومن ثم التأثير على الأهالي في الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم، حتى يأتمروا بأمرهم وينضووا تحت سلطانهم. بالإضافة إلى رفع معنويات المقاتلين في صفوف التنظيم بإظهار قوة التنظيم. وإيصال رسالة لأعداء التنظيم بأن هذه هي نهاية من يعاديهم وأن قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث جزاء من يحاربهم. وشن حرب أعصاب باستخدام وسائل الإعلام المختلفة كي يصل الخبر بكل مقوماته العنيفة لجميع أنحاء العالم.
حول ما يظهر من استسلام ضحايا «داعش»، تقول عبير مرسي، وهي خبيرة نفسية في مصر: «هناك نوعان من الوعي يسيطران على الإنسان في كل الأوقات: الأول الوعي العادي المتمثل في الفعل ورد الفعل، والآخر هو حالة الذهول التي تسيطر على الشخص، بحيث يكون عاجزًا عن استيعاب الوضع ما يجعله في حالة استسلام شديدة». موضحة أن من يأسرهم «داعش» يسيطر عليهم الوضع الثاني، فضلا عن احتمال أن يتم تخدير الضحايا، وأن يحقنهم بمواد معينة قوية وشديدة التأثير.
من جانبه، يقول الدكتور عبد الحليم منصور، وهو أستاذ للفقه المقارن، إن «من أسوأ أنواع القتل ما يفعله (داعش) ومن على شاكلته من التنظيمات المتطرفة من ذبح البشر، وسفك دمائهم على النحو الذي تظهره وسائل الإعلام المختلفة، وهذا الأمر يدل على وحشية لا نظير لها في عالم البشر اليوم، وأن هذه القلوب هي كالحجارة بل أشد أقسوة، ذلك أن الحجارة ترق وتهبط من خشية الله»، مضيفا: «إنهم بذلك يرسلون رسالة إلى العالم أن من يخالفونهم سيكون مصيرهم إلى الذبح، وأن من لا يؤمن بفكرتهم فهو كالحيوانات لا قيمة له، ولا يستحق إلا القتل على هذه الصفة. وهؤلاء القتلة وسفاكو الدماء ينطلقون في جرائمهم هذه من منطلق تكفيرهم لكل من يخالفهم، واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم على النحو الذي تنقله وسائل الإعلام المختلفة في العالم».
وعن استسلام الضحايا في مشاهد الإعدامات، قال منصور «الملاحظ أن قتل الضحايا يتم في هدوء تام، واستكانة كاملة دون مقاومة، وهذا يعود إما لأن هؤلاء الضحايا يخضعون للتعذيب والضرب المبرح في أماكن متفرقة وغير ظاهرة من البدن، الأمر الذي يجعل هؤلاء الضحايا خائفين مستكينين يمشون طوع ما يريده الدواعش خوفا من التعذيب والضرب المبرح لا سيما أنهم يعلمون أن مصيرهم إلى القتل لا محالة، فيكون هذا سببا في الاستكانة والطاعة الكاملة لهم، أو أن الضحايا يمكن أن يكونوا قد خضعوا لتأثير عقاقير مهدئة تجعلهم هادئين مستجيبين للأوامر دون أدنى مقاومة». وتابع منصور «أما فكرة الوعد بالعفو هذه التي يرددها البعض والتي من شأنها أن تجعل الأسير هادئا ولا يقاوم، فأرى أنها غير واردة بالمرة لأنهم من الجبروت بمكان، ولديهم من وسائل التعذيب المختلفة، والوسائل العلمية الحديثة ما يخضعون به ضحاياهم لما يريدون دون وعد بعفو أو غيره».
وفي السياق ذاته، قال الدكتور أحمد علي سليمان، المدير التنفيذي السابق لرابطة الجامعات الإسلامية، إن «جرائم تنظيم داعش لم تتوقف عند قتل وذبح المدنيين والعسكريين في البلاد العربية والمناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا أو حتى ليبيا؛ بل امتدت لذبح الرعايا الأجانب الذين يعملون في الدول العربية، وكله باسم الدين والدين منه براء». أما عن التصوير الذي يقوم به «داعش»، فلم يستبعد سليمان استخدام «داعش» للخدع السينمائية والصور المركبة والتكنولوجيا البصرية عند ذبح الأجانب، لافتًا إلى أن «داعش» برع في إنتاج دعاية الرعب عبر تصوير عمليات الإعدام المروّعة لمن يقعون تحت قبضته «وهذه الفيديوهات المفبركة أو الحقيقية التي يبثها مع استخدام طريقة تخدير الضحايا تصيب من يشاهدها بالرعب والألم والتوتر، وهذا مقصود ومستهدف وليس اعتباطًا».
من ناحية أخرى، رصدت الدراسة المصرية، أن تنظيم داعش يعتمد في رؤيته القتالية على عدد من الأحاديث والروايات «التي يسيء تأويلها وتفسيرها، ويلوي أعناق نصوصها لتتوافق مع سياسته الإجرامية في القتال والحرب، ليبرّر بها شرعيته المزعومة وادعاءاته التي يزعم من خلالها زورًا وبهتانا تأسيس الخلافة الإسلامية في الأرض، كما يبرر بها ما يرتكبه من فظائع وجرائم في حق الإنسانية». وقالت: إن التنظيم الإرهابي أصدر فتوى تبيح لمقاتلي التنظيم ذبح كل من يخالفهم، ونصّت فتوى «داعش» على أن «الذبح فريضة إسلامية غائبة» واستدل التنظيم بعبارة من حديث نبوي شهير «جئتكم بالذبح» دون الوقوف على مدلولاته وسياقه.
وتابعت الدراسة «استند التنظيم التكفيري إلى جزء من حديث آخر وهو (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، وهو ما نشره التنظيم في مجلة (دابق) أحد أذرعته الإعلامية، حيث أوضح التنظيم أن هذا الحديث إشارة إلى أن الله لم يبعث الرسول (صلى الله عليه وسلّم) بالسعي في طلب الدنيا ولا بجمعها واكتنازها ولا الاجتهاد في السعي في أسبابها، وإنما بعثه داعيا إلى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم». وفندت تأويلات تنظيم داعش لمثل هذه الأحاديث.
وأضافت الدراسة أن «داعش» ارتكب جرما كبيرا في حق الكلام النبوي، حيث انتزع عبارة من الحديث الشريف الذي رواه أحمد وغيره، وفيه «استمعوا يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح»، فذهبوا في فهمها مذهبا غريبا لا أساس له، ينسبون به إلى الهدي النبوي ظلمات وجرائم، مشيرة إلى أن التنظيمات الإرهابية زعمت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل الذبح والقتل شعارا لهذا الدين وحاشاه صلى الله عليه وسلم من هذا الفهم المنحرف، وسوّغوا به لأنفسهم قطع الرقاب، وذبح الآدميين بصورة مفعمة بالبطش والفتك، لا يرضاها دين الله ولا يقرها؛ بل ينكرها أشد الإنكار.
واختتم الدكتور سليمان أن التمويل الضخم ووسائل التقنية الحديثة الماثلة للعيان في الفيديوهات والمنشورات التي ينشرها «داعش» عبر آلياته الإعلامية تدل دلالة واضحة على أن الدوائر التي تقف خلف التنظيم كبيرة جدا، وهي تمده بأرقى وأحدث ما وصلت إليها من تكنولوجيا الاتصالات وآليات الإعلام الحديث، فضلا عن إمداد التنظيم بالموارد المالية والأسلحة.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.