حنة أرنت.. مواجهة الذات.. مواجهة الآخر

اهتمت مبكرًا بمسألتين كبريين ومتداخلتين: النظام الشمولي ومعاداة السامية

لقطة من فيلم «حنة أرنت» بإخراج باربرا سوكوا - مارتن هايدغر
لقطة من فيلم «حنة أرنت» بإخراج باربرا سوكوا - مارتن هايدغر
TT

حنة أرنت.. مواجهة الذات.. مواجهة الآخر

لقطة من فيلم «حنة أرنت» بإخراج باربرا سوكوا - مارتن هايدغر
لقطة من فيلم «حنة أرنت» بإخراج باربرا سوكوا - مارتن هايدغر

يواجه الذين يكتبون عن المفكرة الألمانية حنة أرنت Arendt صعوبة في تصنيفها. تصر هي أنها ليست فيلسوفة رغم تخصصها في الفلسفة وتتلمذها على اثنين من أشهر الفلاسفة المعاصرين لها هما مارتن هايدغر وكارل ياسبرز وما تفيض به كتاباتها من اشتغال فلسفي مكثف، كما أنها لا ترى نفسها مؤرخة أو عالمة سياسة رغم هيمنة التاريخ والعلوم السياسية على مؤلفاتها، نظرًا لأنه لا التاريخ ولا العلوم السياسية هي تخصصها. تفضل أن توصف بـ«منظّرة سياسية». وقد يكون هذا الوصف دقيقًا فعلاً لأنه يجمع بين الرؤية الفلسفية والانشغال برصد الأحداث وتحليلها، والتنظير ضرب من الفكر دون شك وليس بمقدور أحد أن يكون منظرًا ما لم يتمكن من الفلسفة، أو فلسفة العلم الذي يتخصص فيه. غير أن تنظير أرنت السياسي على ما فيه من عمق فلسفي واستيعاب للتاريخ والسياسة يخرج عن المألوف من حيث أنها كانت إلى جانب ذلك ناشطة سياسية تعمل وتتفاعل مع الأحداث. انتماؤها اليهودي وحياتها في ألمانيا في خضم التطورات التي أدت إلى صعود النازية ثم الحرب العالمية الثانية والنشاط الصهيوني بعد ذلك في تأسيس إسرائيل كانت عوامل حاسمة في تشكيل رؤيتها للأحداث وما قامت به من جهود وأنتجته من أعمال ما تزال تشد الباحثين وتجعلها بتعبير غرامشي مثقفة عضوية بامتياز. ولا شك أن بعض تفاصيل حياتها الشخصية - علاقتها العاطفية بالفيلسوف الألماني هايدغر بشكل خاص - ألقت بألوان أخرى مختلفة تمامًا على سيرتها وإن لم تخل من صلة بنشاطها الفكري والسياسي. وأود في هذا المقال والذي يليه أن أسلط بعض الضوء على جوانب مهمة من نشاط أرنت على الصعيدين المشار إليها، الفكر والسياسة.
لقد اتسمت حياة حنة أرنت بالجدل، شأن كل المفكرين الذين تركوا أثرًا عميقًا في المجالات التي عملوا فيها، لكن ظروف نشاطها من حيث كونها يهودية منتمية للعمل الصهيوني في بداية نشاطها ثم معارضتها له بعد ذلك، وتأليفها في موضوعات كبيرة وحساسة مثل الهيمنة السياسية والحرية والعنف، زاد من معدل الجدل في نشاطها الفكري والعملي. بعد دراستها للفلسفة على يد عمالقة في الفكر الألماني مثل مارتن هايدغر وكارل ياسبرز وجدت أرنت نفسها في خضم الأحداث المرعبة التي رافقت سيطرة النازية على مقاليد الأمور في ألمانيا، ومع اتساع نطاق الملاحقات النازية لليهود استطاعت أرنت الهرب إلى فرنسا. كان ذلك عام 1933، مع أن عملية هروبها لم تكن سهلة، فقد سجنت لفترة قصيرة ثم أطلق سراحها لتخرج من ألمانيا مرة أخرى. كانت في السابعة والعشرين من عمرها (فهي من مواليد عام 1906) وأنهت رسالة الدكتوراه وهي في الرابعة والعشرين في الفلسفة، الأمر الذي يفسر اتصالها المبكر وعلاقتها بهايدغر، العلاقة التي كانت من القوة بحيث أن أرنت صدمت حين علمت بتأييده للنازيين ورفضه التراجع عن ذلك حين كتبت له ترجوه أن يؤكد أن ذلك غير صحيح. غير أن مواجهتها للنازية واضطهاد النازيين لليهود من ناحية، وعلاقتها العاطفية بمن كان مؤيدًا للنظام المضطهد لليهود، أدى إلى اهتمام مبكر بمسالتين كبريين ومتداخلتين من وجهة نظرها: النظام الشمولي، ومعاداة السامية. جاء ذلك في أولى مؤلفاتها الرئيسة وأحد أشهرها: «أسس التوتاليتارية».
يتألف كتاب «أسس التوتاليتارية» من ثلاثة أجزاء أعادت أرنت كتابة بعضها وإضافة مقدمات على مدى السنوات التي اقتضتها طبعاته المختلفة منذ نشره أواسط القرن العشرين. ويتضح للقارئ أن «معاداة السامية» التي تشكل الجزء الأول كانت المحرض الأساسي على تأمل المفكرة الألمانية اليهودية في موضوعها الرئيس، أي التوتاليتارية أو الشمولية سواء أتمثلت في الحكم النازي أو الحكم البلشفي في عهد ستالين بوجه خاص. في مقدمتها للطبعة الأولى من الكتاب، في صيف عام 1950، تتحدث أرنت عن كيفية فهم حركة التاريخ وأنها تقتضي تفاديا للتفاؤل أو التشاؤم السهلين، مثلما أنها تقتضي الاستيعاب الواعي للحقائق، الاستيعاب المؤسس على القناعة بأن ثمة ما لا يمكن استيعابه، أن التاريخ مثقل بما هو شنيع وفظيع، دون أن يؤدي ذلك إلى التخلي عن محاولة التحليل والاستيعاب. ثم تصل إلى المثال الذي يوضح ما تقصد: «بهذا المعنى يمكن مواجهة وفهم الحقيقة الفظيعة المتمثلة في أن ظاهرة صغيرة (وغير مهمة في عالم السياسة) مثل المسألة اليهودية ومعاداة السامية يمكن أن تكون عاملاً مساعدًا، أولاً، في ظهور الحركة النازية، وبعد ذلك في نشوء حرب عالمية، وأخيرًا في تأسيس مصانع الموت».
تناول أرنت لمعاداة السامية ينقلها من مستوى التفاصيل الصغيرة وغير المهمة إلى مستوى بالغ الأهمية، وأي مستوى أقل من أن تكون محرضًا على حرب عالمية. المواجهة التي تشير إليها هي مواجهة التقليل من شأن تلك الظاهرة، المواجهة التي تنهض بها في محاججة فكرية وتاريخية عميقة وقوية. وإذا كان التقليل من شأن الظاهرة يحتاج إلى مواجهة، فإن هناك حاجة أيضا إلى مواجهة ليس مع المبالغة في إعطاء الأهمية لتلك الظاهرة، وإنما مع من يلبسها لباسًا أسطوريًا. المقللون في الغالب من غير اليهود، ومن حججهم أن اليهود كانوا مهيمنين، في حين أن اليهود يقعون في الغالب أيضًا في الفئة الثانية، ومن حججهم أن اليهود هم الضحايا دائمًا. تفسر أرنت معاداة السامية التي كانت وراء الهولوكوست تفسيرًا علمانيًا مختصره أن اليهود عندما كانوا يملكون القوة الاقتصادية والتأثير السياسي في المجتمع كانوا محل احترام العامة التي لا ترى غضاضة في الاضطهاد طالما أن من يمارسه يمتلك التأثير الاقتصادي والسياسي، لكن اليهود فيما بعد فقدوا تأثيرهم السياسي مع احتفاظهم بالثروة مما جعلهم محل احتقار ورفض بوصفهم عالة على المجتمع. هذا التفسير لم يرق للكثير من اليهود ممن يؤمنون بتحليلات مغايرة لا سيما تلك المتكئة على مقولات دينية أسطورية مثل الشعب المختار.
يتضح إذا أن أرنت كانت تخوض مواجهة مزدوجة على مستويين، مستوى المؤرخين والمحللين السياسيين الغربيين من غير اليهود، ومستوى الجماعات اليهودية التي تنتمي إليها. هذه المجابهة الثانية ستؤدي إلى الموقف الحاد الذي اتخذته أرنت من إسرائيل وبعض زعامات اليهود حين حضرت المحاكمة الشهيرة لأدولف آيخمان في إسرائيل في ستينيات القرن الماضي. في التقارير الخمسة التي بعثت بها أرنت إلى مجلة «النيويوركر» بعد حضورها المحاكمة شجبت أرنت المحاكمة والحكم وأدانت الزعيم الإسرائيلي بن غوريون على أساس أن ما فعله كان عملاً آيديولوجيا هدفه تثبيت شرعية إسرائيل وذلك بمحاكمة وإعدام رجل لم يكن هو المسؤول عن المحرقة النازية وإنما الأداة التي وظفها الحكم النازي. الكتاب الذي تأسس على تلك التقارير تضمن رأيا رفضه الصهاينة عامة والإسرائيليون ومناصرو إسرائيل بشكل خاص، ليس في نقده الحاد لإسرائيل فحسب، وإنما في وصفه لآيخمان بأنه مجرد موظف يؤدي عمله دون أن تكون لديه قناعة بما يفعل. اتضح ذلك من عنوان الكتاب: «آيخمان في إسرائيل: تقرير حول تفاهة الشر» (1963). لقد سبب ذلك الكتاب الكثير من المتاعب لأرنت، لكنها أصرت على أنها لم تفعل أكثر من قول الحق في وجه القوة، أنها لم تحاب أحدًا وإنما فعلت ما تراه ضروريًا ونافعًا. ولها في الدفاع عن رأيها وآرائها الأخرى حجاج كثير سأقف على بعضه في مقالة أخرى.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.