دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً

من شتم باراك أوباما.. إلى فرق قتل «مافيات» المخدرات

دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً
TT

دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً

دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً

أثار رئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي خلال «قمة العشرين» ثم قمة مجموعة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) جدلاً بالكلام النابي الذي صدر عنه بحق الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو ما حدا بالأخير إلى إلغاء اجتماعه بدوتيرتي. وفيما بعد حاول الرئيس الفلبيني توضيح ملابسات ما حدث وما قيل، وادعى أن الكلام ما كان موجهًا إلى أوباما، وأنه نقل في غير سياقه.
غير أن مشاكل دوتيرتي لا تقتصر على أقواله، بل تشمل سياساته التي هي الأخرى تثير لغطًا، ولا سيما ملاحقته شبكات المخدرات بصورة خارجة على نصوص القانون، مع أنه محام ممارس. وكان مسؤولون أميركيون وحقوقيون قد دعوا بالأمس إلى فتح تحقيق مستقل في مزاعم أدلى بها «قاتل تائب» مضمونها أن الرئيس الفلبيني أمر بقتل ألف من المجرمين ومن خصومه عندما كان رئيسا لبلدية مدينة دافاو لأكثر من عشرين سنة. وقال الرجل أمام لجنة تحقيق تابعة لمجلس الشيوخ إنه شارك مع مجموعة من الشرطيين في قتل نحو ألف شخص في دافاو بأمر من دوتيرتي بين العامين 1988 و2013، بل إنه شخصيًا قتل بنفسه أحد الضحايا. كذلك يزعم معارضوه أن أعمال القتل في دافاو انتشرت لاحقًا إلى مختلف أنحاء البلاد بعد توليه السلطة.
شهدت الحياة السياسية في الفلبين، إحدى الدول المحورية في شرق آسيا، خلال الجزء الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحالي شخصيات كثيرة مثيرة للجدل. وقد يكون أهم هذه الشخصيات فرديناند ماركوس الذي حكم البلاد كديكتاتور لمدة 21 سنة بين 1965 و1986، شاركته الأضواء واللغط زوجته إيميلدا الشغوفة بالبذخ والأزياء والأحذية الفاخرة. كذلك شهدت فترات نفوذ لبيوت وعائلات سياسية منها عائلة ماكاباغال، التي جاء منها ديوسدادو ماكاباغال، الرئيس الذي سبق ماركوس في السلطة وتولى الرئاسة بين 1961 و1965، ثم شغلت منصب الرئاسة ابنته غلوريا ماكاباغال - أرويو بين 2001 و2010.
وكذلك عائلة أكينو السياسية العريقة التي خرج منها بنينيو أكينو (الثاني)، السياسي المعارض العنيد أيام ديكتاتورية ماركوس الطويلة الذي اغتيل في مطار مانيلا لدى عودته إلى البلاد من المنفى عام 1983، وأدى اغتيال أكينو إلى ركوب أرملته كورازن أكينو مد الغضب الشعبي وقادت «الثورة الصفراء» واستفادت من ابتعاد عدد من أركان نظام ماركوس - على رأسهم الجنرال فيديل راموس قائد الأمن الداخلي يومذاك - عن الديكتاتور العجوز.. فانتخبت رئيسة للجمهورية عام 1986 وظلت رئيسة حتى 1992. وبعدما خلفها راموس في الرئاسة (بين 1992 و1998)، ثم جوزيف استرادا الممثل السينمائي السابق وعمدة مانيلا، ثم ماكاباغال أرويو، انتخب ابنها بنينيو أكينو (الثالث) رئيسًا وتولى المنصب بين 2010 و2016.
* دوتيرتي الشخص والسياسي
يوم 30 مايو (أيار) من العام الحالي، فاز رودريغو دوتيرتي بالرئاسة وخلف أكينو (الثالث) مرشحًا عن حزب الفلبين الديمقراطي - «قوة الشعب» PDP - Laban الذي تعود جذوره إلى مقاومة ديكتاتورية ماركوس، والذي تشكل بكيانه الحالي من حزبين هما حزب الفلبين الديمقراطي وحزب «قوة الشعب» الذي أسسه الزعيم المعارض الراحل أكينو.
انتخب دوتيرتي في أعقاب حصوله على أكثر من 16 مليون صوت، متغلبًا بفارق يزيد عن 6.6 ملايين صوت على منافسه مار روكساس. وهو من مواليد يوم 28 مارس (آذار) 1945 في مدينة ماسين بجنوب جزيرة لايته بوسط أرخبيل الفلبين، والعاصمة الإدارة لمحافظة جنوب لايته. وبانتخابه بات أول رئيس للفلبين من جزيرة مينداناو بجنوب البلاد، ورابع رئيس تعود أصوله إلى جزر الأرخبيل الوسطي بين جزيرتي لوزون (شمال) ومينداناو (جنوب) الكبيرتين. وللعلم، كانت عائلته قد استقرت في مينداناو بين 1948 و1950 إلا أن دوتيرتي، مثل كثيرين من الساسة الذين لمعوا في الفلبين خلال العقود الأخيرة، سليل عائلة سياسية نشطت ونجحت في العمل السياسي المحلي. إذ تولّى أبوه المحامي فيتشنتي دوتيرتي منصب عمدة مدينة دافاو - كبرى مدن مينداناو - وحاكم ولاية دافاو قبل تقسيمها، وابن عمه رولاند عمدة لمدينة سيبو، وكان عمه رامون (والد رامون) عمدة أيضا قبل ابنه.
تلقى رودريغو تعليمه في ماسين ثم في دافاو حيث أكمل دراسته الثانوية. وبعدها التحق بجامعة ليسيوم الفلبين في العاصمة مانيلا وتخرّج فيها حاملاً درجة بكالوريوس في العلوم السياسية عام 1968، ثم درس الحقوق بكلية سان بيدا للحقوق أيضًا في مانيلا وتخرّج مجازًا في الحقوق عام 1972، ثم، بعدما أكمل تأهيله القانوني ودخل نقابة المحامين، عمل في عام 1972 أيضًا مستشارًا في مكتب الادعاء العام في مدينة دافاو، وتدرج في المناصب القانونية هناك حتى عام 1986.
* «الثورة الصفراء»
في أعقاب «ثورة قوة الشعب» - أو «الثورة الصفراء» الشعبية، نسبة لشعارها وهو الأشرطة الصفراء - التي أطاحت ديكتاتورية فرديناند ماركوس عام 1986، عيّن دوتيرتي نائبا لعمدة مدينة دافاو. وفي عام 1988 ترشح للانتخابات المحلية وفاز بمنصب العمدة واحتفظ بالمنصب حتى عام 1998.
بعد ذلك دخل دوتيرتي مجلس النواب عام 1998 عن الدائرة الانتخابية الأولى في مدينة دافاو، وعاد عام 2001 ليترشح لعمودية دافاو ويفوز، ثم يكرّر فوزه عامي 2004 و2007. وحقّق إبان هذه الفترة نجاحات لافتة انعكست بفوز دافاو ثلاث مرات بجائزة «أفضل حكم محلي» على مستوى البلاد. واشتهر عنه أنه كان يُباغت السكان المحليين بظهوره بينهم مترجلا من سيارة أجرة متفقدًا أحوالهم. ولكن لم تقتصر شهرته وسمعته الطيبة كمسؤول محلي على الفلبين وحدها، بل نشرت مجلة «تايم» الأميركية المرموقة صورًا له وهو يقوم بجولات ودوريات تفقدية داخل شوارع مدينته ممتطيًا إحدى دراجاته النارية المفضلة الضخمة، على رأس قوة مسلحة. في المقابل، أخذت عليه عدة أوساط، ولا سيما جماعات حقوق الإنسان والشرطة الوطنية وبعض الصحافة، ناهيك من الأمم المتحدة نفسها، اعتماده أساليب عنفية خارج حرفية القانون عبر فرق ميليشياوية تلاحق وتعاقب بالقتل الضالعين بتجارة المخدرات و«مافياتها» الإجرامية، وهذا، مع أنه بنى مراكز إيواء وإعادة تأهيل لضحايا المخدرات من المدمنين، ورغم خلفيتهم القانونية كمحام.
وعلى هذا الصعيد تشير الأرقام التي أعلنها دوتيرتي عن حملاته ضد الجريمة المنظمة وشبكات المخدرات تراجعت بدرجة كبيرة بين عامي 1985 و2000، ويدعي أن معدلات الجريمة انخفضت من مستوى بالمئات لكل 1000 نسمة عام 1985 إلى 0.8 لكل 10 آلاف نسمة في الفترة بين 1999 و2005، ولكن في المقابل، في دحض لفاعلية إجراءات دوتيرتي، تقول الشرطة الوطنية إنه في حين ازداد عدد سكان دافاو بنسبة 29 في المائة (من نحو مليون و120 ألف نسمة إلى نحو مليون و440 ألف نسمة) بين 1999 و2008، ارتفع معدل الجرائم الموثقة بنسبة 248 في المائة (من 975 جريمة إلى 3391 جريمة). كما تقول الشرطة الوطنية إن دافاو تحتل المرتبة الرابعة بين مدن البلاد على قائمة جرائم القتل، والمرتبة الثانية في قائمة جرائم الاغتصاب الجنسي. غير أن المؤشر العام للجرائم انخفض كثيرًا بين 2013 و2015 وكان العدد الأكبر من الوفيات قد سجّل خلال عمليات الشرطة.
من ناحية أخرى، يسجَّل لدوتيرتي أنه أول عمدة مدينة في الفلبين خصّص تمثيلاً رسميًا للمواطنين الأصليين من قومية اللوماد، وكذلك للمسلمين في البلديات والجهات الإقليمية، وإسناد مناصب لهم في مناطقهم للاهتمام بشؤونهم. ويقال إن دوتيرتي - الذي يتحدر من شجرة عائلية فيها مسلمون - تبنى إجراءات مكافحة التمييز ردًا على تقارير كان تلقاها عن تعرض المسلمين لتمييز ديني وعنصري ضدهم من السماسرة العقاريين. وتجدر الإشارة إلى أن معظم المسلمين في الفلبين يعيشون بجزيرة مينداناو وأرخبيل سولو وجزيرة بالاوان بجنوب البلاد وجنوب غربها. وقبل انتخابه رئيسًا، وبفضل شعبويته وانفتاحه على الأقليات، بات دوتيرتي أحد أطول عُمُد المدن حكمًا في الفلبين إذ بلغ طول مدة توليه المنصب في دافاو أكثر من 22 سنة (موزعة على سبع دورات).
* معركة الرئاسة
دوتيرتي كان قد لمّح إلى اعتزامه الترشح لرئاسة الجمهورية في الأشهر الأولى من عام 2015 غير أنه كان ينفي وجود خطط جدية بهذا الشأن، بينما كان مؤيدوه يناشدونه بإصرار خوض انتخابات 2016، وحقًا، يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، وهو آخر مهلة لشهادات الترشيح، تقدم السياسي مارتين دينيو بترشحه للرئاسة عن حزب دوتيرتي، وأثار مناصرو الأخير فكرة أن يكون دوتيرتي مرشحًا احتياطيًا لدينيو في حال رفضت المفوضية الانتخابية ترشيحه أو قرر لاحقًا الانسحاب من الميدان. ثم يوم 26 أكتوبر أعلن دوتيرتي أن آخر موعد سيعلن فيه عن نيته الترشح أو العزوف عنه سيكون يوم 10 ديسمبر (كانون الأول)، ونبه مناصريه إلى ضرورة الالتزام بالهدوء والانضباط إذا ما فاز. وفي اليوم التالي، أعلن الحزب رسميًا ترشيح دوتيرتي كمرشح احتياطي في حال خروج دينيو أو إخراجه من الحلبة. وبعد يومين فقط سحب دينيو ترشحه وسُمّي دوتيرتي بديلاً من منطلق أن المفوضية الانتخابية قد تعتبر دينيو «مرشح مشاغبة» غير جدي. ووسط مناورات وأخذ ورد بين المرشحين.
* رئيسًا للجمهورية
فوز دوتيرتي الكبير في الانتخابات الرئاسية سلط عليه الأضواء لجملة من الأسباب المحلية والودلية، أبرزها كونه من أبناء مينداناو التي شهدت على امتداد سنوات كثيرة معارك طاحنة بين سلطات مانيلا وثوار مورو بشتى تلاوينهم الوطنية والإسلامية، وكذلك الأزمة الدولية الكبرى في الشرق الأقصى بين عدة دول منها الصين والفلبين وفيتنام حول أرخبيل سبراتلي المتنازع عليه في بحر الصين الجنوبي، ما يستحق الذكر أن للأرخبيل غير المأهولة جزره أهمية بالغة في رسم الحدود البحرية الدولية بين الدول المتنازعة عليه، وبالتالي، ثروات النفط والغاز، ناهيك من مصائد الأسماك.
إلا أن الأزمة الأخطر التي يواجهها اليوم، ولا سيما إذا قررت الولايات المتحدة، الحليف التقليدي القديم للفلبين، التصعيد مع الرئيس دوتيرتي هي سجله في موضوع التعاطي الدامي و«غير القانوني» مع شبكات المخدرات والجريمة المنظمة منذ كان عمدة في مدينة دافاو. وتجدر الإشارة إلى أنه مع إثارة المسؤولين الأميركيين وعدة جهات قانونية مسألة فتح تحقيق مستقل في تهم أمر دوتيرتي الشرطة والميليشيات الموالية له بقتل من يعتبرهم مجرمين وكذلك من خصومه السياسيين، علّق مارك تونر نائب الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية قائلا: «هذه مزاعم خطيرة ونحن نأخذها على محمل الجد، إننا نتفحصها».
وفي سياق متصل زعم معارضو دوتيرتي، أمام مجلس الشيوخ الأميركي، أن عمليات القتل التأديبي في الحملة المستمرة ضد تجار المخدرات أدت لتصفية أكثر من ثلاثة آلاف شخص خلال 72 يوما من تنصيبه رئيسًا للجمهورية. كذلك، حثت منظمة «هيومن رايتس ووتش» السلطات الفلبينية على السماح للأمم المتحدة بالتحقيق في التهم الموجهة إلى الرئيس، واعتبر براد آدامز، مدير المنظمة في آسيا، عبر في بيان أنه «يستحيل أن يتولى الرئيس دوتيرتي التحقيق مع نفسه، ولذا من الضروري أن يُطلب من الأمم المتحدة تولي هذه المهمة».
* دوتيرتي.. في سطور
- ولد رودريغو روا دوتيرتي في مدينة ماسين بالفلبين يوم 28 مارس (آذار) 1945.
- تشير شجرة عائلية إلى أصول برتغالية وإسبانية ومالاي وصينية وعربية (لجهة أمه) بجانب السكان الأصليين.
- تزوج إليزابيث زيمرمان (أميركية ألمانية الأصل) عام 1973، وطلقا عام 2000، يعيش حاليًا مع خليلة اسمها سييليتو آفانسينيا.
- أولاده: باولو وسارا وسيباستيان (من زيمرمان) وفيرونيكا (من آفانسينيا).
- محام، وسياسي، برز في الحكم المحلي عمدة، وبرلماني، قبل انتخابه رئيسًا، خلفًا للرئيس السابق بنينيو أكينو «الثالث»
- ينتمي إلى حزب الفلبين الديمقراطي - قوة الشعب.
* نائبه، نائب رئيس الجمهورية، ليني روبريدو.
- يعرف عنه شغفه الشديد بالدراجات النارية.
- ابنته سارا هي العمدة الحالية لمدينة دافاو، معقل العائلة السياسي.



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.