دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً

من شتم باراك أوباما.. إلى فرق قتل «مافيات» المخدرات

دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً
TT

دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً

دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً

أثار رئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي خلال «قمة العشرين» ثم قمة مجموعة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) جدلاً بالكلام النابي الذي صدر عنه بحق الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو ما حدا بالأخير إلى إلغاء اجتماعه بدوتيرتي. وفيما بعد حاول الرئيس الفلبيني توضيح ملابسات ما حدث وما قيل، وادعى أن الكلام ما كان موجهًا إلى أوباما، وأنه نقل في غير سياقه.
غير أن مشاكل دوتيرتي لا تقتصر على أقواله، بل تشمل سياساته التي هي الأخرى تثير لغطًا، ولا سيما ملاحقته شبكات المخدرات بصورة خارجة على نصوص القانون، مع أنه محام ممارس. وكان مسؤولون أميركيون وحقوقيون قد دعوا بالأمس إلى فتح تحقيق مستقل في مزاعم أدلى بها «قاتل تائب» مضمونها أن الرئيس الفلبيني أمر بقتل ألف من المجرمين ومن خصومه عندما كان رئيسا لبلدية مدينة دافاو لأكثر من عشرين سنة. وقال الرجل أمام لجنة تحقيق تابعة لمجلس الشيوخ إنه شارك مع مجموعة من الشرطيين في قتل نحو ألف شخص في دافاو بأمر من دوتيرتي بين العامين 1988 و2013، بل إنه شخصيًا قتل بنفسه أحد الضحايا. كذلك يزعم معارضوه أن أعمال القتل في دافاو انتشرت لاحقًا إلى مختلف أنحاء البلاد بعد توليه السلطة.
شهدت الحياة السياسية في الفلبين، إحدى الدول المحورية في شرق آسيا، خلال الجزء الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحالي شخصيات كثيرة مثيرة للجدل. وقد يكون أهم هذه الشخصيات فرديناند ماركوس الذي حكم البلاد كديكتاتور لمدة 21 سنة بين 1965 و1986، شاركته الأضواء واللغط زوجته إيميلدا الشغوفة بالبذخ والأزياء والأحذية الفاخرة. كذلك شهدت فترات نفوذ لبيوت وعائلات سياسية منها عائلة ماكاباغال، التي جاء منها ديوسدادو ماكاباغال، الرئيس الذي سبق ماركوس في السلطة وتولى الرئاسة بين 1961 و1965، ثم شغلت منصب الرئاسة ابنته غلوريا ماكاباغال - أرويو بين 2001 و2010.
وكذلك عائلة أكينو السياسية العريقة التي خرج منها بنينيو أكينو (الثاني)، السياسي المعارض العنيد أيام ديكتاتورية ماركوس الطويلة الذي اغتيل في مطار مانيلا لدى عودته إلى البلاد من المنفى عام 1983، وأدى اغتيال أكينو إلى ركوب أرملته كورازن أكينو مد الغضب الشعبي وقادت «الثورة الصفراء» واستفادت من ابتعاد عدد من أركان نظام ماركوس - على رأسهم الجنرال فيديل راموس قائد الأمن الداخلي يومذاك - عن الديكتاتور العجوز.. فانتخبت رئيسة للجمهورية عام 1986 وظلت رئيسة حتى 1992. وبعدما خلفها راموس في الرئاسة (بين 1992 و1998)، ثم جوزيف استرادا الممثل السينمائي السابق وعمدة مانيلا، ثم ماكاباغال أرويو، انتخب ابنها بنينيو أكينو (الثالث) رئيسًا وتولى المنصب بين 2010 و2016.
* دوتيرتي الشخص والسياسي
يوم 30 مايو (أيار) من العام الحالي، فاز رودريغو دوتيرتي بالرئاسة وخلف أكينو (الثالث) مرشحًا عن حزب الفلبين الديمقراطي - «قوة الشعب» PDP - Laban الذي تعود جذوره إلى مقاومة ديكتاتورية ماركوس، والذي تشكل بكيانه الحالي من حزبين هما حزب الفلبين الديمقراطي وحزب «قوة الشعب» الذي أسسه الزعيم المعارض الراحل أكينو.
انتخب دوتيرتي في أعقاب حصوله على أكثر من 16 مليون صوت، متغلبًا بفارق يزيد عن 6.6 ملايين صوت على منافسه مار روكساس. وهو من مواليد يوم 28 مارس (آذار) 1945 في مدينة ماسين بجنوب جزيرة لايته بوسط أرخبيل الفلبين، والعاصمة الإدارة لمحافظة جنوب لايته. وبانتخابه بات أول رئيس للفلبين من جزيرة مينداناو بجنوب البلاد، ورابع رئيس تعود أصوله إلى جزر الأرخبيل الوسطي بين جزيرتي لوزون (شمال) ومينداناو (جنوب) الكبيرتين. وللعلم، كانت عائلته قد استقرت في مينداناو بين 1948 و1950 إلا أن دوتيرتي، مثل كثيرين من الساسة الذين لمعوا في الفلبين خلال العقود الأخيرة، سليل عائلة سياسية نشطت ونجحت في العمل السياسي المحلي. إذ تولّى أبوه المحامي فيتشنتي دوتيرتي منصب عمدة مدينة دافاو - كبرى مدن مينداناو - وحاكم ولاية دافاو قبل تقسيمها، وابن عمه رولاند عمدة لمدينة سيبو، وكان عمه رامون (والد رامون) عمدة أيضا قبل ابنه.
تلقى رودريغو تعليمه في ماسين ثم في دافاو حيث أكمل دراسته الثانوية. وبعدها التحق بجامعة ليسيوم الفلبين في العاصمة مانيلا وتخرّج فيها حاملاً درجة بكالوريوس في العلوم السياسية عام 1968، ثم درس الحقوق بكلية سان بيدا للحقوق أيضًا في مانيلا وتخرّج مجازًا في الحقوق عام 1972، ثم، بعدما أكمل تأهيله القانوني ودخل نقابة المحامين، عمل في عام 1972 أيضًا مستشارًا في مكتب الادعاء العام في مدينة دافاو، وتدرج في المناصب القانونية هناك حتى عام 1986.
* «الثورة الصفراء»
في أعقاب «ثورة قوة الشعب» - أو «الثورة الصفراء» الشعبية، نسبة لشعارها وهو الأشرطة الصفراء - التي أطاحت ديكتاتورية فرديناند ماركوس عام 1986، عيّن دوتيرتي نائبا لعمدة مدينة دافاو. وفي عام 1988 ترشح للانتخابات المحلية وفاز بمنصب العمدة واحتفظ بالمنصب حتى عام 1998.
بعد ذلك دخل دوتيرتي مجلس النواب عام 1998 عن الدائرة الانتخابية الأولى في مدينة دافاو، وعاد عام 2001 ليترشح لعمودية دافاو ويفوز، ثم يكرّر فوزه عامي 2004 و2007. وحقّق إبان هذه الفترة نجاحات لافتة انعكست بفوز دافاو ثلاث مرات بجائزة «أفضل حكم محلي» على مستوى البلاد. واشتهر عنه أنه كان يُباغت السكان المحليين بظهوره بينهم مترجلا من سيارة أجرة متفقدًا أحوالهم. ولكن لم تقتصر شهرته وسمعته الطيبة كمسؤول محلي على الفلبين وحدها، بل نشرت مجلة «تايم» الأميركية المرموقة صورًا له وهو يقوم بجولات ودوريات تفقدية داخل شوارع مدينته ممتطيًا إحدى دراجاته النارية المفضلة الضخمة، على رأس قوة مسلحة. في المقابل، أخذت عليه عدة أوساط، ولا سيما جماعات حقوق الإنسان والشرطة الوطنية وبعض الصحافة، ناهيك من الأمم المتحدة نفسها، اعتماده أساليب عنفية خارج حرفية القانون عبر فرق ميليشياوية تلاحق وتعاقب بالقتل الضالعين بتجارة المخدرات و«مافياتها» الإجرامية، وهذا، مع أنه بنى مراكز إيواء وإعادة تأهيل لضحايا المخدرات من المدمنين، ورغم خلفيتهم القانونية كمحام.
وعلى هذا الصعيد تشير الأرقام التي أعلنها دوتيرتي عن حملاته ضد الجريمة المنظمة وشبكات المخدرات تراجعت بدرجة كبيرة بين عامي 1985 و2000، ويدعي أن معدلات الجريمة انخفضت من مستوى بالمئات لكل 1000 نسمة عام 1985 إلى 0.8 لكل 10 آلاف نسمة في الفترة بين 1999 و2005، ولكن في المقابل، في دحض لفاعلية إجراءات دوتيرتي، تقول الشرطة الوطنية إنه في حين ازداد عدد سكان دافاو بنسبة 29 في المائة (من نحو مليون و120 ألف نسمة إلى نحو مليون و440 ألف نسمة) بين 1999 و2008، ارتفع معدل الجرائم الموثقة بنسبة 248 في المائة (من 975 جريمة إلى 3391 جريمة). كما تقول الشرطة الوطنية إن دافاو تحتل المرتبة الرابعة بين مدن البلاد على قائمة جرائم القتل، والمرتبة الثانية في قائمة جرائم الاغتصاب الجنسي. غير أن المؤشر العام للجرائم انخفض كثيرًا بين 2013 و2015 وكان العدد الأكبر من الوفيات قد سجّل خلال عمليات الشرطة.
من ناحية أخرى، يسجَّل لدوتيرتي أنه أول عمدة مدينة في الفلبين خصّص تمثيلاً رسميًا للمواطنين الأصليين من قومية اللوماد، وكذلك للمسلمين في البلديات والجهات الإقليمية، وإسناد مناصب لهم في مناطقهم للاهتمام بشؤونهم. ويقال إن دوتيرتي - الذي يتحدر من شجرة عائلية فيها مسلمون - تبنى إجراءات مكافحة التمييز ردًا على تقارير كان تلقاها عن تعرض المسلمين لتمييز ديني وعنصري ضدهم من السماسرة العقاريين. وتجدر الإشارة إلى أن معظم المسلمين في الفلبين يعيشون بجزيرة مينداناو وأرخبيل سولو وجزيرة بالاوان بجنوب البلاد وجنوب غربها. وقبل انتخابه رئيسًا، وبفضل شعبويته وانفتاحه على الأقليات، بات دوتيرتي أحد أطول عُمُد المدن حكمًا في الفلبين إذ بلغ طول مدة توليه المنصب في دافاو أكثر من 22 سنة (موزعة على سبع دورات).
* معركة الرئاسة
دوتيرتي كان قد لمّح إلى اعتزامه الترشح لرئاسة الجمهورية في الأشهر الأولى من عام 2015 غير أنه كان ينفي وجود خطط جدية بهذا الشأن، بينما كان مؤيدوه يناشدونه بإصرار خوض انتخابات 2016، وحقًا، يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، وهو آخر مهلة لشهادات الترشيح، تقدم السياسي مارتين دينيو بترشحه للرئاسة عن حزب دوتيرتي، وأثار مناصرو الأخير فكرة أن يكون دوتيرتي مرشحًا احتياطيًا لدينيو في حال رفضت المفوضية الانتخابية ترشيحه أو قرر لاحقًا الانسحاب من الميدان. ثم يوم 26 أكتوبر أعلن دوتيرتي أن آخر موعد سيعلن فيه عن نيته الترشح أو العزوف عنه سيكون يوم 10 ديسمبر (كانون الأول)، ونبه مناصريه إلى ضرورة الالتزام بالهدوء والانضباط إذا ما فاز. وفي اليوم التالي، أعلن الحزب رسميًا ترشيح دوتيرتي كمرشح احتياطي في حال خروج دينيو أو إخراجه من الحلبة. وبعد يومين فقط سحب دينيو ترشحه وسُمّي دوتيرتي بديلاً من منطلق أن المفوضية الانتخابية قد تعتبر دينيو «مرشح مشاغبة» غير جدي. ووسط مناورات وأخذ ورد بين المرشحين.
* رئيسًا للجمهورية
فوز دوتيرتي الكبير في الانتخابات الرئاسية سلط عليه الأضواء لجملة من الأسباب المحلية والودلية، أبرزها كونه من أبناء مينداناو التي شهدت على امتداد سنوات كثيرة معارك طاحنة بين سلطات مانيلا وثوار مورو بشتى تلاوينهم الوطنية والإسلامية، وكذلك الأزمة الدولية الكبرى في الشرق الأقصى بين عدة دول منها الصين والفلبين وفيتنام حول أرخبيل سبراتلي المتنازع عليه في بحر الصين الجنوبي، ما يستحق الذكر أن للأرخبيل غير المأهولة جزره أهمية بالغة في رسم الحدود البحرية الدولية بين الدول المتنازعة عليه، وبالتالي، ثروات النفط والغاز، ناهيك من مصائد الأسماك.
إلا أن الأزمة الأخطر التي يواجهها اليوم، ولا سيما إذا قررت الولايات المتحدة، الحليف التقليدي القديم للفلبين، التصعيد مع الرئيس دوتيرتي هي سجله في موضوع التعاطي الدامي و«غير القانوني» مع شبكات المخدرات والجريمة المنظمة منذ كان عمدة في مدينة دافاو. وتجدر الإشارة إلى أنه مع إثارة المسؤولين الأميركيين وعدة جهات قانونية مسألة فتح تحقيق مستقل في تهم أمر دوتيرتي الشرطة والميليشيات الموالية له بقتل من يعتبرهم مجرمين وكذلك من خصومه السياسيين، علّق مارك تونر نائب الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية قائلا: «هذه مزاعم خطيرة ونحن نأخذها على محمل الجد، إننا نتفحصها».
وفي سياق متصل زعم معارضو دوتيرتي، أمام مجلس الشيوخ الأميركي، أن عمليات القتل التأديبي في الحملة المستمرة ضد تجار المخدرات أدت لتصفية أكثر من ثلاثة آلاف شخص خلال 72 يوما من تنصيبه رئيسًا للجمهورية. كذلك، حثت منظمة «هيومن رايتس ووتش» السلطات الفلبينية على السماح للأمم المتحدة بالتحقيق في التهم الموجهة إلى الرئيس، واعتبر براد آدامز، مدير المنظمة في آسيا، عبر في بيان أنه «يستحيل أن يتولى الرئيس دوتيرتي التحقيق مع نفسه، ولذا من الضروري أن يُطلب من الأمم المتحدة تولي هذه المهمة».
* دوتيرتي.. في سطور
- ولد رودريغو روا دوتيرتي في مدينة ماسين بالفلبين يوم 28 مارس (آذار) 1945.
- تشير شجرة عائلية إلى أصول برتغالية وإسبانية ومالاي وصينية وعربية (لجهة أمه) بجانب السكان الأصليين.
- تزوج إليزابيث زيمرمان (أميركية ألمانية الأصل) عام 1973، وطلقا عام 2000، يعيش حاليًا مع خليلة اسمها سييليتو آفانسينيا.
- أولاده: باولو وسارا وسيباستيان (من زيمرمان) وفيرونيكا (من آفانسينيا).
- محام، وسياسي، برز في الحكم المحلي عمدة، وبرلماني، قبل انتخابه رئيسًا، خلفًا للرئيس السابق بنينيو أكينو «الثالث»
- ينتمي إلى حزب الفلبين الديمقراطي - قوة الشعب.
* نائبه، نائب رئيس الجمهورية، ليني روبريدو.
- يعرف عنه شغفه الشديد بالدراجات النارية.
- ابنته سارا هي العمدة الحالية لمدينة دافاو، معقل العائلة السياسي.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.