حفتر يقلب الطاولة

تحالف القبائل والجيش يربك المشهد الليبي

حفتر يقلب الطاولة
TT

حفتر يقلب الطاولة

حفتر يقلب الطاولة

قَلَبَ الجنرال الليبي خليفة حفتر الطاولة على خصومه. فعلَ مثلما فعل أسلافه ممن وصلوا إلى حكم البلاد، خلال عشرات السنين الماضية، انطلاقًا من الشرق، أو مما يُعرف بـ«إقليم برقة». ليس شرطًا أن يتولى حفتر مسؤولية إدارة البلاد، لكن، على الأقل، يمكنه أن يمهد لمرحلة جديدة عقب سيطرته، قبل أيام، على نحو ستين في المائة من مصادر النفط وموانئ تصديره. وللعلم، يضم الشرق قبائل لها أصول منتشرة في عموم ليبيا. وأدى هذا إلى ظهور مقولات أصبحت شائعة منها أن مَن يسيطر على الإقليم يمكنه، بكل سهولة، أن يُخضع باقي البلاد لسلطته. وتوجد توقعات بتحرك جنرال الجيش لتحرير مناطق جديدة قرب العاصمة من «الميليشيات».
يقول الرئيس السابق للجنة القانونية لمؤتمر القبائل الليبية، الدكتور محمد الزبيدي، لـ«الشرق الأوسط»، لدى سؤاله عن مستجدات الوضع في ليبيا: «توقعوا مفاجآت جديدة من القوات المسلحة العربية الليبية». والواقع أن الجيش بقيادة خليفة حفتر أربك العالم بتحركه في الهلال النفطي، رغم أنه محروم من العتاد، بقرار دولي منذ 2011. ولكن يوجد مؤيدون لعمل الجيش، مثل الدكتور الزبيدي، والمحلل السياسي الليبي، ابن برقة، عبد العزيز الرواف، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط» من مدينة طبرق، إن «الجيش بقيادته المحترفة وبأفراده المدربين، استطاع أن يفاجئ العالم». لكن هناك في طرابلس ومصراتة، من يخشون من تزايد قوة حفتر. ومن بين هؤلاء مَن كان يعوِّل منذ البداية على المجلس الرئاسي، المدعوم من الأمم المتحدة ومن دول غربية أخرى، في توحيد البلاد، من خلال حكومة وفاق وطني.
ويحلو لمتحدثين في منتديات ليبية في القاهرة تناول موضوع بلادهم ببساطة شديدة.. أي باعتباره منافسة محمومة بين شرق البلاد وغربها. وعلى هذا القياس تبدو فرضية انتصار الغرب ضعيفة، حتى لو كانت الميليشيات التي لديه، بما فيها قوات «البنيان المرصوص»، مدججة بالأسلحة وتتلقى مساعدات في الخفاء من دول كبيرة ومقتدرة.
* البداية
بدأت المعضلة بين شرق ليبيا ذي الطابع القبلي وغربها الأقل تمسكا بتقاليد القبائل منذ انتخابات البرلمان في 2014. في الجانب الغربي من البلاد يعد اللاعب الرئيسي هما مدينتي طرابلس ومصراتة. طرابلس لها ميليشيات ومصراتة لها ميليشيات. شكلا وحدة واحدة عرفت باسم «فجر ليبيا» وبدأت الحرب ضد البرلمان الجديد، مما اضطره إلى نقل جلساته للانعقاد في طبرق، في أقصى الشرق، وسط قبائل القطعان والمنفة والحبون وغيرها بالإضافة إلى قبيلة العبيدات التي ينتمي إليها رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح.
وبدأ زعماء من إقليم برقة يشعرون بأنهم في حالة عداء مع قادة من إقليم طرابلس. وزاد الطين بلة قيام كثير من ميليشيات الغرب بدعم معظم ميليشيات مدينتي بنغازي ودرنة لقتل رجال الجيش والشرطة، ولمحاربة البرلمان وحكومته برئاسة عبد الله الثني. والثني الذي يدير وزارته من الشرق، من أبناء مدينة غدامس الواقعة جنوب غربي طرابلس. وعلى هذا استمر البرلمان والجيش والحكومة في العمل على أساس أنهم يمثلون ليبيا وليس الشطر الشرقي من البلاد فقط، كما كان يشيع قادة في طرابلس ومصراتة.
في هذه الأثناء كان الجيش يرتب أوضاعه، لكي يؤسس له مقرات وارتكازات عسكرية في الجنوب والغرب. وشعرت عدة ميليشيات من جماعة الإخوان ومن الجماعة الليبية المقاتلة، بخطر المنظومة الجديدة للقوات المسلحة، بقيادة حفتر. هنا ظهرت مقترحات البعثة الأممية بضرورة إجراء حوار بين الأطراف المتحاربة والمتخاصمة. وعلى ذلك وافق قادة البرلمان، ورئيسه صالح الذي يعد، وفقًا للإعلان الدستوري، أعلى سلطة في البلاد، وبمثابة رئيس للدولة، على الانخراط في الحوار برعاية الأمم المتحدة، لكنها كانت فيما يبدو موافقة تنقصها الحماسة.
* مساعي الأمم المتحدة
رغم كل شيء بدأت مفاوضات البعثة الأممية بين عدة أطراف ليبية في بلدة الصخيرات بالمغرب، واستمرت أكثر من سنة، إلى أن انتهت بمولد مجلس السراج مع وجود رائحة عن ميل المنظمة الدولية لقادة طرابلس ومصراتة.. لقد كان قادة الشرق يخشون، منذ البداية، من التهميش، ومن إعادة نظام حكم الميليشيات مرة أخرى. لا يملك البرلمان قوة يؤكد بها شرعيته إلا قوة الجيش وقائده حفتر ومساندة القبائل له.
وفي المقابل.. ولكي يتمكن السراج من العمل، كان لا بد من إجراءات يتخذها له البرلمان، مثل تضمين اتفاق الصخيرات في الإعلان الدستوري المعمول به كدستور مؤقت للبلاد، وحل مشكلة البند الوارد في الاتفاق، الخاص بتحكم المجلس الرئاسي في شؤون الجيش والمخابرات، ومنح حكومة التوافق الثقة. وظل البرلمان يماطل.
وعلى هذا أخذت قيادات في غرب البلاد تتهم قبائل في الشرق والجيش الوطني بأنها اختطف البرلمان وتمنعه من التصديق على حكومة السراج التي ظلت، حتى الآن، دون غطاء شرعي. وفي الوقت نفسه مطلوب من السراج أن يحل المشكلات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وكلها مشكلات كبيرة تراكمت وتضخمت في السنوات التي أعقبت سقوط نظام القذافي.
من جانبه لم يشأ السراج أن يقف مكتوف الأيدي. قام بجولات واستشارات مع مَن يدعمونه في غرب البلاد وفي الخارج. وأخيرا، اتخذ الرجل مجموعة قرارات، أيدها المبعوث الأممي لليبيا، مارتن كوبلر، للخروج من المأزق، لكنها تسببت على ما يبدو في تعقيد المشكلة مع قادة الشرق، خصوصًا البرلمان والجيش، بالإضافة إلى قبائل أخرى.
إغراء قبائل في شرق البلاد لتأييد السراج، كان رهانا محفوفا بالمخاطر. فإحدى هذه القبائل ينتمي إليها قائد الميليشيا المتحكمة في موانئ تصدير البترول في منطقة الهلال النفطي. والأخرى ينتمي إليها وزير الدفاع الذي اختاره السراج في حكومة الوفاق. لكن تحرك حفتر أطاح بكل الخطط.
من طرابلس يقول طارق القزيري، الرئيس السابق للمركز الليبي للدراسات، وأحد مستشاري الحوار والاتفاق السياسي الذي أنتج المجلس الرئاسي، إن المجلس، بعد التطورات الأخيرة، أي بعد دخول الجيش إلى منطقة الهلال النفطي، وبعد عراقيل مختلفة، أصبح موقفه «ليس على ما يرام». ويضيف موضحا أن المجلس الرئاسي «بات الآن في مهب الريح.. سواء من حيث الأداء، أو قوة المناهضين له، بالإضافة إلى عجز الغرب عن تقديم دعم فعلي. كل هذا جعل الحديث عن مصير (المجلس) الرئاسي، منطقيا وغير مستهجن حتى عند أقرب مؤيديه».
بينما يقول الدكتور خليل المجعي، ابن مدينة مصراتة، وهو أستاذ للقانون ومستشار وناشط سياسي معروف، إن سيطرة حفتر على الموانئ النفطية «هو أمر تختص به حكومة الوفاق الوطني. هي وحدها الحكومة الليبية الشرعية في البلاد. ويجب أن تنظر إلى الأمر وتدرسه في إطار المصلحة العليا للوطن».
* نظرة جغرافية وأنثربولوجية
وأيا ما كان الأمر فإن الشرق الليبي يعد مفتاح التغيير السياسي والعسكري في ليبيا. وقد يرجع السبب لمدينة بنغازي التي تعد ثاني أكبر المدن، وتضم خليطا من عشرات القبائل التي تعود أصولها إلى مناطق ليبية مختلفة. أي أن ما يمكن أن يتفق عليه القادة في عاصمة الشرق، من السهل أن يسري في النهاية على ليبيا ككل.. ينظر كثير من شيوخ العشائر إلى بنغازي التي يتخذ منها الجيش مركزا لعملياته في عموم البلاد، بوصفها «ليبيا مُصغَّرة». ويقول أحد القادة العسكريين من مقر العمليات إن المدينة تاريخيًا هي مفتاح الحل والربط، ومن يسيطر عليها يحكم ليبيا.
ومما يُذكر في هذا السياق أن الجيش الذي حرّر ليبيا من الاستعمار، في بداية أربعينات القرن الماضي، تحرك انطلاقا من الشرق. كما أن خطاب الاستقلال الذي ألقاه الملك من شرفة القصر، في مطلع الخمسينات، كان من الشرق أيضا. حتى الضابط الشاب معمر القذافي، حين أراد أن يعلن عن حركته التي أوصلته إلى الحكم عام 1969، اختار الشرق. كما أن «ثورة 17 فبراير» التي قضت على حكمه في 2011، انطلقت شرارتها الأولى، كذلك، من شرق البلاد.
ويعيش في الشرق الليبي، أكثر من ثلث سكان البلاد. ويحد المنطقة من الغرب، إقليم طرابلس الذي تشكلت فيه دويلة صغيرة مع نهاية العهد العثماني في ليبيا، قبل أكثر من مائة سنة، لكن هذه الدويلة لم تتمكن من الحياة والبقاء إلا بعد أن تحالف قادتها مع زعماء الشرق في «ليبيا موحدة».
ويحد المنطقة من ناحية الجنوب الغربي إقليم فزان الصحراوي الشاسع، والغني بالواحات والتمور والثروات المعدنية. وتطل معظم مدن إقليم برقة على ساحل البحر المتوسط، مثل درنة وطبرق وبنغازي، لكن الأغلبية من السكان لديها نزوع للتأقلم مع حياة الصحراء ورعي الأغنام وتربية الإبل أكثر من حياة البحر وصيد السمك والسياحة الشاطئية. كما تضفي مروج الجبل الأخضر مسحة شاعرية على الثقافة العامة. ومن مدن الشرق خرجت رموز في الفنون والثقافة وخرج كتاب ومطربون وموسيقيون، رغم أن بعض هذه المدن تحولت لملاذ للميلشيات المتطرفة بعد سقوط نظام القذافي، إلى أن تصدى لها الجنرال حفتر أخير.
وما زالت توجد بيوت قديمة تقع على اللسان البحري لمدينة طبرق وفي ضواحي بنغازي، تخص قادة عسكريين آخرين من قبائل الشرق والوسط والغرب والجنوب كانوا يعملون مع القذافي، بينهم من ينتمي لقبيلة الفرجان (قبيلة خليفة حفتر)، وقبيلة العواقير وقبائل القطعان والمنفة والورفلة والمقارحة والقذاذفة والمغاربة، وغيرها من القبائل.
وفي الخطوة الأخيرة التي أربكت المشهد، انتزع حفتر موانئ تصدير النفط، وهي موانئ يعتمد عليها الشعب الليبي في تمويل مأكله ومشربه. لك أن تتخيل حالة الفقر وارتفاع الأسعار وتأخر صرف الرواتب، إذا علمت أن كمية صادرات النفط لم تكن تزيد طوال الفترة الأخيرة، في المتوسط، عن ربع مليون برميل يوميًا، بعد أن كانت لا تقل، في السابق، عن مليون ونصف المليون برميل يوميًا.
هناك وقائع تاريخية ينبغي عدم تجاهلها في ليبيا، منها أهمية التحالف بين القبائل والجيش. ويقول الدكتور الزبيدي، وهو من قبيلة ورفلّة، ومن أبناء مدينة بني وليد شمال غربي سرت، إن القبائل كان لها دور مهم في استعادة الجيش لموانئ التصدير و«قوت الشعب». ويبدو أن الأمم المتحدة لم تضع هذين الفريقين في الحسبان، منذ بدأت في جمع بعض الليبيين حول مائدة الصخيرات.
حين جاء السراج إلى طرابلس، أواخر مارس (آذار) الماضي، لم تستقبله رموز القبائل الكبيرة ولا الجنرال حفتر، ولكنه وصل إلى شاطئ طرابلس في مركب تحت جنح الظلام. واستقبلته ميليشيات مسلحة من الغرب الليبي لحمايته على أمل أن تحصل على غطاء رسمي لعملها الموازي لعمل الجيش والشرطة. السراج ابن طرابلس. لا ينتمي إلى قبيلة كبيرة تُذكر مثل القبائل الرئيسية الأخرى. ومع ذلك كانت أطراف داخلية وإقليمية ودولية تضغط عليه لكي يسير بالمركب إلى بر الأمان.
وفي هذا الإطار اضطر أخيرًا لأن يلقي بكل ما معه من أوراق على الطاولة.. الورقة الأولى حشد بها ما تيسر من ميليشيات لمحاربة «داعش» في سرت. ونصَّب نفسه لهذا الغرض قائدًا أعلى للجيش الليبي. الورقة الثانية العمل على استقطاب قبائل الشرق. وساعد كلّ من كوبلر، وأطراف دولية أخرى، منها بريطانيا والولايات المتحدة، في هذا الاتجاه. كان الأمل حشد التأييد للسراج والثناء على نجاحه في «لمّ شمل الليبيين» قبل الاجتماع السنوي للأمم المتحدة. لكن البرلمان والقبائل وحفتر، أفسدوا الأمر برمته.
* دور مناصري القذافي
ويشير الدكتور الزبيدي إلى اشتراك قادة عسكريين كبار من الموالين لنظام القذافي ومن الموالين لـ«ثورة 17 فبراير » التي أطاحت به، في «تحرير الموانئ النفطية في المنطقة الشرقية والوسطى من سطوة الميليشيات، ويستعدون للتحرك في الجنوب والغرب أيضا». ويضيف أن المستغرب هو دعوة كوبلر للجيش بالانسحاب من موانئ التصدير، وكأنه يريد أن يحدد له أماكن تمركزه.
ويقول إنه رغم ذلك أثبت الجيش وطنيته بأن دعا المؤسسة الوطنية للنفط (تابعة لحكومة السراج) للحضور والإشراف على تصدير النفط وبيعه والتصرف فيه، وهذه الخطوة أدت إلى «إفراغ المجلس الرئاسي من محتواه»، لأن هذا المجلس نفسه كان وقتها يدعو الميليشيات إلى التوجه للموانئ النفطية ومواجهة الجيش وإشعال الحرب فيها، بينما المؤسسة الوطنية للنفط رأت فيما قام به الجيش «عملاً وطنيًا بامتياز».
ويضيف أن الجيش الليبي بتحريره موانئ النفط قطع الطريق بشكل نهائي على موضوع تقسيم ليبيا، وأفشله. وقضى على أفكار الفيدرالية.. «كل ذلك أدى أيضًا إلى تراجع السراج عن تصريحاته العنترية، وبدأ يتحدث طالبًا الحوار وعدم الاقتتال».
يبدو أن موقف المجلس الرئاسي أصبح معقدًا، لأن تحرك حفتر لم يكن فرديًا. يقول الرواف إن تحرك الجيش سبقه عمل سياسي واجتماعي قادته عدة أسماء سياسية واجتماعية منهم برلمانيون، وأيضًا شيوخ وعمد قبائل ليبية، في مقدمتهم شيخ مشايخ قبيلة المغاربة التي تمتد على مساحة شاسعة في ليبيا، ويعتبر قائد الميليشيات التي كانت تحتل موانئ النفط، إبراهيم الجضران، أحد أفرادها، لكن القبيلة آثرت الوطن ومصلحته.
على الجبهة الأخرى، وقبل أسابيع، كان يوجد اعتقاد بأن السراج لو تمكن من دحر «داعش» في سرت، سيحصل بكل سهولة على ثقة البرلمان. ولهذا وقف معه المجتمع الدولي في هذه الحرب. لكن البرلمان لم يعطه مراده. لو كان البرلمان صادَقَ على حكومته لكان في مقدوره الحصول على 67 مليار دولار من الأموال الليبية المجمدة في الخارج، ولأنعش بها السوق ولشعر عامة الناس بفاعليته.
أما ملف الشرق القبلي، فقد فتحه السراج أيضًا قبل ثلاثة شهور من أجل تفتيت التكتل المناوئ له، وذلك من خلال ما اعتقدَ أنه النجاح في استقطاب اثنتين من القبائل المعتبرة. هاتان القبيلتان هما قبيلة المغاربة التي ينتمي إليها الجضران، وقبيلة العواقير التي ينتسب لها وزير الدفاع في حكومة المجلس الرئاسي، مهدي البرغثي، وهو ضابط كان يعمل مع حفتر في بنغازي. لكن هذا كله اتضح أنه لم يكن يعني شيئًا، بعد طرد حفتر للجضران من الموانئ، وظهور الجيش متماسكًا حتى بعد موالاة البرغثي للسراج.
* النفط والتحديات الأخرى
ويقول القزيري إن «تحركات الجيش التابع للبرلمان كانت تستهدف بالأساس إقصاء أو تهميش خصوم خليفة حفتر في المنطقة الشرقية خاصة الجضران والبرغثي، لكي يتمكن بذلك من تأمين جبهته الداخلية عبر إتمام تحشيد قبائل المغاربة والعواقير». ويضيف أن خطوط التماس الآن باتت «واضحة جغرافيا»، و«إذا لم تحدث تفاهمات وصفقات سياسية منتجة وقابلة للحياة، فقد نشهد تصعيدا في الجنوب وفي تخوم العاصمة طرابلس».
ويتساءل القزيري عما إذا كان الحديث سيكون، بعد التطورات الأخيرة، عن «ما بعد (المجلس) الرئاسي؟ أم ما بعد الاتفاق السياسي؟»، ويقول إنه «ما لم تحدث تغيرات دراماتيكية سيكون السؤال: أي شكل جديد للمجلس الرئاسي؟ الذي لن يكون تُساعيًا (يضم تسعة أعضاء حاليا) ولا موسعًا، بلا أدنى شك».
وعلى كل حال فإن ما يهم الليبيين هو تصدير النفط. وهذا محور اهتمام عدة دول لديها شركات تعمل في هذا المجال.. هل ستذهب حصيلة النفط إلى الشرق أم إلى الغرب؟ ويقول القزيري إنه من الواضح أن تحرك حفتر في موانئ التصدير لم يحسب حساب ردود الفعل الدولية، في البداية، لكن حين ظهرت الضغوط «ترتب عليها تسليم الموانئ النفطية، واحتواء غضب الدول الغربية ومجلس الأمن الدولي، ليكون بيع النفط لصالح المجلس الرئاسي وبنك ليبيا في طرابلس».
ومن جانبه، يوضح الدكتور المجعي قائلا من مصراتة إن ليبيا اليوم أمام تحديات جسيمة، منها تحديات أمنية واقتصادية ملحة. واستمرار أزماتها قد يعصف بوحدة الوطن واستقراره. ويضيف أن «هذه الأزمة هي جزء من أزمة كبرى وهي الانقسام السياسي. انعكس هذا في تشظي المؤسسات العامة بالدولة، خصوصًا مؤسسة الجيش والشرطة. وهذه الأزمة لن تحل إلا بالحوار السياسي بين كل الأطراف. وهدا الحوار يجب أن ينطلق من حيث انتهت آخر نتائجه». أما إذا لم يكن هناك حوار، فيرى المجعي أن ليبيا «لن تنعم باستقرار أو أمان بل المزيد من الانهيار الأمني والاقتصادي الذي يمكن أن تمتد آثاره إلى خارج البلاد».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.