المشهد: أي ناقد؟ أي قارئ؟

المشهد: أي ناقد؟ أي قارئ؟
TT

المشهد: أي ناقد؟ أي قارئ؟

المشهد: أي ناقد؟ أي قارئ؟

* يتميّـز الكاتب بشيء خاص ما يجعل القارئ يلحظه أولاً ثم يتابعه في كل مرة. هذا يحدث مع كل الكتاب في كل أنواع الكتابة. في الرواية وفي العمود اليومي ومع كتّـاب التحقيقات أو محللي الأحداث، كذلك النقاد ونقاد السينما على وجه الخصوص.
* الشيء الخاص قد يكون سعة اطلاع أو أسلوب طرح أو قدرة على كشف ما لا يثير اهتمام سواه. وهذا أيضًا ينطبق على الناقد السينمائي الذي قد تميّـزه سعة معلوماته أو الطريقة التي يتناول فيها ما يكتبه أو قدرته على تحليل الفيلم والذهاب إلى حيث لم يذهب سواه. إذا ما اجتمعت هذه الصفات في ناقد واحد زاد تميّـزه. وجد فيه القراء شيئا يشبه المدرسة في حد ذاتها. يتعرّف منها إلى خصائص السينما وخصائص الكتابة عنها في وقت واحد.
* غني عن القول، بالتالي، أن من لا يتميّـز يمر في سماء الكتابة مثل طائرة على ارتفاع عال. حتى ولو كتب في مجلة أو صحيفة مشهورة. وتاريخ نقد الأفلام والكتابة عن السينما في العالم العربي حفل بهم ولا يزال. معظم هؤلاء سارعوا في كتاباتهم لتأكيد الذات عبر إطلاق الرأي، بدءًا من العناوين وانتهاء بالكلمة الأخيرة في المقال.
* في الاعتبار هنا، أن النقد هو رأي الناقد، وهذا ليس صحيحًا. والبعض يعتقد أن على النقد أن يكون بناءً، لكن الناقد ليس «معمرجيًا» ليبني. حسبه أنه يشير إلى حيث توجب الإشارة بحسنات العمل وسيئاته، وطريقته في ذلك أن يكون مثقفًا، ويملك دراية في كل جوانب العمل ويوردها لكي يوسع أفق القارئ، وليس لكي يظهر بمظهر العارف.
* ومن حسن الحظ، أن النقد السينمائي في العالم العربي حفل، ولا يزال، بمن تميّـز في جوانب النقد المختلفة وأصبح نجمًا في مجاله. بما أن النقد ليس مجرد رأي في العمل، وبما أن الكتابة النقدية هي السعي لإشراك القارئ في المعرفة؛ فإن ثراء المادة يصبح مضمونًا كذلك نسبة المتابعين لها.
* من يكتب في السينما منذ سنوات بعيدة استمر لأنه تميّـز بما أثار له معجبين ومتابعين. من كتب وانصرف، انصرف لأنه لم يجد الصلة الصحيحة بينه وبين القراء الذين هم ليسوا مجرد عدد يقرأ كل شيء، بل يمحص (اليوم أكثر من أي وقت مضى) فيما يقرأه. يقارن بين النقاد ويختار من يداوم قراءته وحده أو أكثر من سواه.
* بما أن القراء يعكسون بدورهم تبدّل الأجيال، فإن الناقد الأكثر نجاحًا هو من لا يزال مصدر متابعة القراء الذين صاحبوه في شبابه، إضافة إلى الجيل الجديد الذي يريد التهام المعرفة السينمائية متجاوزًا مبدأ المشاهدة لذاتها. هؤلاء لم يعاصروا العهد الذهبي للمخرجين، لكنهم تواقون للمعرفة. وهم يعيشون عصر السينما السائدة وعلى الناقد تأمينها لهم أيضًا.



أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
TT

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

بعد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك. «لا يهم»، تقول: «على الأفلام التي تعني لنا شيئاً أن تشقّ طريقاً للعروض ولو على مدى سنة أو أكثر».

فيلمها الأخير «حدود خضراء» نال 24 جائزة صغيرة وكبيرة واجتاز حدود نحو 30 دولة حول العالم. ترك تأثيراً قوياً منذ افتتاحه في المهرجان الإيطالي، حيث نال جائزةَ لجنة التحكيم الخاصة وفوقها 8 جوائز فرعية.

مردّ ذلك التأثير يعود إلى أن الفيلم (بالأبيض والأسود) تحدّث عن مهاجرين سوريين (ومهاجرة من أفغانستان) علِقوا على الحدود بين بروسيا وبولندا، وكلّ حرس حدود كان يسلبهم شيئاً ومن ثمّ يعيدهم إلى حيث أتوا. الحالة لفتت نظر جمعية بولندية أرادت مساعدة هؤلاء الذين تناقص عددهم بعدما اختفى بعضهم وسُجن آخرون. الدراما كما قدّمتها هولاند (75 سنة حالياً) نابعة من مواقف ونماذج حقيقية وأحداثٍ وقعت عالجتها المخرجة بأسلوب تقريري غير محايد.

نقطة حياة: «حدود خضراء» (مترو فيلمز)

لحظات إنسانية

> حال مشاهدتي لفيلم «حدود خضراء» في «مهرجان ڤينيسيا» خطر لي أنه يلتقي مع أفلام سابقة لكِ تناولت قضايا مهمّة وحادّة مثل «يوروبا، يوروبا» و«الحديقة السّرية» و«أثر» (Spoor) الذي عُرض في «برلين». كيف تُصنّفين أفلامك؟ وكيف تختارين قضاياها؟

- أفلامي السابقة تنوّعت كثيراً في موضوعاتها باستثناء أنني قصدت دوماً تناول ما اعتقدت أنه أجدى للمعالجة. والأفلام التي ذكرتها هي بالنسبة لي من بين أهم ما أخرجته. اخترتها لجانبها الإنساني أو، أُصحّح، لقضاياها الإنسانية. اخترتها لأن الأحداث وقعت في لحظات تاريخية ليست فقط مهمّة، بل هي لحظاتٌ بدت فيها الإنسانية بمنحدرٍ. هناك كثيرٌ ممّا يحدث في هذا العالم، وما حدث سابقاً يشكّل صدمة لي ولملايين الناس والفيلم هو صلتي مع هذه الأحداث. رأيي فيها.

«حدود خضراء» الفرار صوب المجهول (مترو فيلمز)

> «حدودٌ خضراء» هو واحد من أفلام أوروبية تناولت موضوع المهاجرين، لكن القليل منها انتقد السّلطات على النحو الذي ورد في فيلمك.

- أنا لست في وارد تجميل الأحداث. ولا أريد الكذب على المشاهد وأقول له إن ما تعرّض له مهاجرون مساكين على الحدود التي لجأوا إليها بحثاً عن الأمان غير صحيح، أو أنه حدث في شكل محصور. ومهنتي هذه استخدمها لقول الحقيقة، ولأفيد المشاهد بما أصوّره ولا يمكنني الكذّب عليه أو خداعه. ما شاهدته أنتَ على الشّاشة حصل وربما لا يزال يحصل في دول أوروبية أخرى.

نحو المجهول

> كيف كان رد فعل الجمهور البولندي حيال فيلمك؟

- إنها تجربة مهمّة جداً بالنسبة لي. سابقاً كان هناك حذرٌ من قبول ما أقدّمه لهم من حكايات. كثيرون قالوا إن هذا لا يمكن أن يحدث. نحن في أوروبا والعالم تغيّر عمّا كان عليه. والآن، مع هذا الفيلم، وجدتُ أن غالبية النّقاد وقراء «السوشيال ميديا» يوافقون على أن هذا يحدث. هناك من يأسف وهناك من يستنكر.

> نقدُك لحرس الحدود البولندي والبروسي في هذا الفيلم يؤكّد أن المعاملة العنصرية لا تزال حاضرة وربما نشطة. اليمين في أوروبا يجد أن طرد اللاجئين الشرعيين أو غير الشرعيين بات أولوية. صحيح؟

- نعم صحيح، لكن الاكتفاء بالقول إنه موقف عنصريّ ليس دقيقاً. نعم العنصرية موجودة ولطالما كانت، وعانت منها شعوب كثيرة في كل مكان، ولكن العنصرية هنا هي نتاج رفض بعضهم لقاء غريبٍ على أرض واحدة، هذا رفض للإنسانية التي تجمعنا. للأسف معظمنا لا يستطيع أن يمدّ يده إلى الآخر في معاملة متساوية. الحروب تقع وتزيد من انفصال البشر عن بعضهم بعضاً. ثم لديك هذا العالم الذي يسير بخطوات سريعة نحو المجهول في كل مجالاته.

> هل تقصدين بذلك التقدم العلمي؟

- بالتأكيد، لكني لست واثقة من أنه تقدّمَ حقاً. الذكاء الاصطناعي؟ هذا وحده قد يذهب بما بقي من ضوابط أخلاقية ومجتمعية. أعتقد أن التأثير الأول لذلك أننا نعيش في زمن نعجِز عن فهم تغيّراته، والنتيجة أننا بتنا نهرب إلى حيث نعتقده ملجأً آمناً لنا. نهرب من التّحديات ونصبح أكثر تقوقعاً معتقدين أن ذلك خير وسيلة للدفاع عن مجتمعاتنا.

ضحايا

> عمَدتِ في «حدود خضراء» إلى تقسيم الفيلم إلى فصول. هذا ليس جديداً لكنه يطرح هنا وضعاً مختلفاً لأننا ننتقل من وضع ماثلٍ ومن ثَمّ نعود إليه لنجده ما زال على حاله. ما الذي حاولتِ تحقيقه من خلال ذلك؟

- هذه ملاحظة مهمّة. في الواقع هناك قصصٌ عدة في هذا الفيلم، وكل شخصية تقريباً هي قصّة قابلة للتطوّر أو التوقف. وهناك 3 فرقاء هم الضحايا والمسعفون ورجال السُّلطة. بعضُ هذا الأسلوب المطروح في الفيلم مشتقٌ من العمل الذي مارسته للتلفزيون وهو يختلف عن أسلوب السّرد السينمائي، وقد اعتمدت عليه هنا لأنني وجدته مناسباً لفيلمٍ يريد تقديم الأحداث في شكلٍ ليس بعيداً عن التقريرية.

> هناك أيضاً حربٌ أوروبية دائرة على حدود بولندا في أوكرانيا. هل يختلف الوضع فيما لو كان أبطال فيلمك أوكرانيين هاربين؟

- نعم. يختلف لأنّ الرموز السياسية للوضع مختلفة. البولنديون يشعرون بالعاطفة حيال الأوكرانيين. السلطات لديها أوامر بحسن المعاملة. لكن هذا لم يكن متوفراً وليس متوفراً الآن للاجئين غير أوروبيين.