جيجيك.. المفكر أمام الرقيب

نجوميته تقربه من نجوم البوب ويسميه البعض «إلفيس برسلي الفلسفة»

سلافوي جيجيك  -  يرى جيجيك أن انتخاب جورج بوش الابن عام 2001 تم بناء على قواعد يقبلها الناس حتى مع عدم قناعتهم بها أو تصديقهم نتائجها
سلافوي جيجيك - يرى جيجيك أن انتخاب جورج بوش الابن عام 2001 تم بناء على قواعد يقبلها الناس حتى مع عدم قناعتهم بها أو تصديقهم نتائجها
TT

جيجيك.. المفكر أمام الرقيب

سلافوي جيجيك  -  يرى جيجيك أن انتخاب جورج بوش الابن عام 2001 تم بناء على قواعد يقبلها الناس حتى مع عدم قناعتهم بها أو تصديقهم نتائجها
سلافوي جيجيك - يرى جيجيك أن انتخاب جورج بوش الابن عام 2001 تم بناء على قواعد يقبلها الناس حتى مع عدم قناعتهم بها أو تصديقهم نتائجها

ظهر نجم الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك Zizek في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، حين بدأت أعماله الفلسفية تتخذ مكانها في الخطاب الفلسفي الأوروبي، وتحوله إلى نجم في المحافل الأكاديمية والثقافية العامة، يعبر من خلالها عن رؤى ماركسية تمتزج فيها أفكار هيغل وجاك لاكان مع أطروحاته الغريبة والاستفزازية أحيانًا، ولكن العميقة غالبًا تجاه معظم القضايا المطروحة ليس على ساحات الحوار الفلسفي فحسب وإنما على الساحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فجيجيك مثقف مناضل، وإن على مستوى أقل حدة ربما من نعوم تشومسكي مثلاً، مع أنه يبدو أكثر لفتًا للانتباه من المفكر الأميركي ومن كثيرين بالتيشيرت وفرط الحركة وطريقة الكلام والهيئة العامة الأقرب إلى هيئة الهبيين، ولكن بنجومية تقربه من نجوم البوب وتجعله سوبر ستار، إلفيس برسلي الفلسفة كما سماه البعض، بين فلاسفة تتسم أساليبهم بالهدوء وشخصياتهم بسمة الحكمة والمظهر المقبول.
ولد جيجيك عام 1948 وتعلم في سلوفينيا اليوغوسلافية، ويشير في حديثه عن نفسه إلى شاب نشأ بتوجهات معارضة للسائد السياسي والآيديولوجي. تقدم للحصول على الماجستير في جامعة لوبليانا، عاصمة سلوفينيا والمدينة التي تعلم فيها، إلا أن رسالته رفضت، لأنها لم تكن ماركسية الرؤية والمنهج فأبعد عن الجامعة. لكن خروجه، كما يقول عنه، كان نعمة خفية حولته إلى أستاذ ومفكر تسعى له الجامعات ومنها الجامعة التي أبعدته، حيث يعمل حاليًا فيها برتبة باحث متميز في معهد علم الاجتماع، إضافة إلى تعيينه «أستاذا عالميًا متميزًا للألمانية» في جامعة نيويورك، وإلى جانب كونه مدير معهد الإنسانيات في جامعة لندن. غير أن نزعته للمعارضة في مقاربة السائد من الآيديولوجيات وإعادة النظر في المستقر من المفاهيم لا تزال تمنحه اختلافه وتجتذب إليه الجمهور، حيث ذهب وإن لم تخل سبيله من ألوان الرفض والقيود التي يعرفها ويتحدث عنها.
في مناظرة جمعته بآلان باديو في فيينا عام 2004 ونشرت تحت عنوان «الفلسفة حاليًا»، عبر جيجيك عن جملة من الآراء تجاه قضيتين من القضايا المطروحة هما الديمقراطية وحرية التعبير. ومع أن القضيتين متداخلتان في طرحه لهما فإنه يتناول كل واحدة على حدة. الديمقراطية تأتي في سياق ما يشير إليه بـ«موضوعي الحقيقي»: «لكنني أود العودة مرة أخرى إلى موضوعي الحقيقي. كما رأينا، كل المبالغات تبدو مسموحًا بها. لكن حاول فقط أن تلمس وثن الديمقراطية وانظر ماذا يحدث». وبعد أن يتساءل عن معنى الديمقراطية وكيف تعمل يعمد إلى أحد محددات ذلك المفهوم، وهو أن الديمقراطية «من الناس وإلى الناس»، ليشكك في المفهوم بالإشارة إلى أن الديمقراطية عبارة عن قواعد مقررة نطيعها «بغض النظر عن النتائج». ثم يضرب مثلاً بانتخاب جورج بوش الابن الذي تم بناء على قواعد يقبلها الناس، ولا يستطيع أو يود أحد أن يخالفها حتى مع عدم قناعته بها أو تصديقه لنتائجها: «لا يوجد ديمقراطي في أي لحظة حتى خطر بباله ألا يعترف بنتائج الانتخابات وينزل إلى الشارع - مع أن الجميع يعلم أنهم غشوا في فلوريدا». إنها «صناعة الموافقة» التي أشار إليها تشومسكي، وكانت عنوانًا وموضوعًا لأحد كتبه الشهيرة، الموافقة التي يرى جيجيك أيضًا أهمية الخروج عليها، وأن مهمة الفلسفة والفكر الجاد هي في ذلك الخروج. «تبدأ الفلسفة»، كما يقول الفيلسوف السلوفيني: «في اللحظة التي لا نقبل فيها ببساطة ما هو موجود بوصفه معطى (هكذا هي الأمور، القانون هو القانون، إلخ)، وإنما تثير السؤال حول الكيفية التي صار بها ما نواجهه كشيء فعلي ممكن». الفلسفة، بتعبير آخر، تضطلع بدور نضالي كالذي رآه باديو وغيره لها.
ومثل باديو وغيره من المفكرين اليساريين، سبق الوقوف عند بعضهم في مقالات سابقة، يروي جيجيك مواقف تذكر بأن الاعتقاد بحرية التفكير والتعبير في ثقافة ترفع شعارات الحرية يحتاج إلى إعادة نظر. من تلك المواقف ندوة نظمها حول لينين في مدينة إيسين الألمانية. يقول جيجيك إنه اكتشف أن الحديث أو الكتابة عن لينين يستثير حساسية عالية لدى كثيرين ومنهم بعض أصدقائه: «يمكنك أن تتحدث عن ماركس دون أي مشكلات... أما إن أشرت إلى لينين فتلك قصة أخرى، قصة مختلفة تمامًا». ويشير في ذلك السياق إلى كتاب ألفه عن لينين: «هل تتخيل الثمن الذي دفعت بسبب ذلك الكتاب؟ لقد فقدت ثلثي أصدقائي بسببه». إنها عكس الحكاية التي يرويها فوكو وغضب الماركسيين منه، لأنه لم يقتبس من ماركس، لكن النتيجة واحدة. ومما لا يقل أهمية عن ذلك ما حدث حين نظم جيجيك ندوة لينين في مدينة إيسين.
عندما نظمتُ ندوة في إيسين، وكما تبين لي بعد ذلك، جاءت الخدمة السرية الألمانية وسألت سكرتيري عما كنا نفعل. فكما ترى، ليس الأمر بالتسامح الظاهر. إنها مفارقة الوضع الحالي: حسب الآيديولوجيا الرسمية، كل شيء مسموح به، لا توجد رقابة، وكل شيء يسير بانتظام. ولكن يجب ألا ننخدع.
على المستويين الشخصي - الاجتماعي والرسمي، إذن، تقف التحديات المختلفة في شكل قيود ورقابة ومقاطعة. لا أحد يُمنع، لكن الثمن يُدفع والضغوط تُمارس على أي حال.
نوع آخر من القيود يتصل بالتهمة المسلطة على الرقاب وهي معاداة السامية. وكان نصيب جيجيك من تلك التهمة لا بأس به. ففي محاضرة ألقاها في المدرسة الأوروبية للدراسات العليا EGS في سويسرا عام 2009، ناقش جيجيك معاداة السامية، مستعرضًا تحولاتها طوال فترة الحضور اليهودي في التاريخ الأوروبي. وفي المناقشة ذكر عبارة يقول إنها جلبت له المتاعب، هي أن هناك صهاينة معادين للسامية، عبارة بناها على قناعته بأن عداء السامية ليس حكرًا على غير اليهود، وإنما هي حاضرة بين اليهود أنفسهم ووجدها لدى بعض الصهاينة. ويذكر في هذا السياق أنه ألقى محاضرة في إسرائيل وكان معه على المنصة المخرج الإسرائيلي الأميركي أودي ألوني Aloni الذي استفز وجوده بعض الحاضرين فقال مخاطبا جيجيك: كيف يخدعك هذا، أي ألوني؟! عندها قال له الفيلسوف السلوفيني: «إذن هو يهودي قذر!»، مشيرًا إلى الصورة النمطية في الخطاب الأوروبي المعادي للسامية. ويخلص جيجيك من هذا إلى أن ما سمعه في إسرائيل أكد اعتقاده بوجود صهيونية معادية للسامية، صهيونية ترفض اليهود الذين لا يتماهون مع إسرائيل، يهود اليهود، كما يسميهم، أي اليهود الذين يحملون الصفات العنصرية النمطية لليهودي في الثقافة الأوروبية. منتقدو جيجيك، من اليهود وغيرهم، سيجدون في هذه المجادلة تبريرًا لمعاداته هو للسامية، بادعاء أنه كمن يقول إن وجود صهاينة معادين لليهود يبرر أو يخفف من أثر وجود آخرين معادين لليهود أيضًا. وقد انبرى لجيجيك من قال ما يشبه ذلك، لكن الفيلسوف السلوفيني يمضي في مشروعه الفكري غير عابئ بما يقال، فهو لا يزال نجم المحافل التي تضج بالجماهير.



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.