انفصال جبهة فتح الشام عن «القاعدة»

الممارسة والعقلية المتطرفة أمام تحديات الواقع

مقاتلون من حبهة الشام (النصرة سابقا) في موقع متقدم أمام الأكاديمية العسكرية جنوب حلب بعد معركة صورة تعود إلى اسبوع مضى (أ.ف.ب)
مقاتلون من حبهة الشام (النصرة سابقا) في موقع متقدم أمام الأكاديمية العسكرية جنوب حلب بعد معركة صورة تعود إلى اسبوع مضى (أ.ف.ب)
TT

انفصال جبهة فتح الشام عن «القاعدة»

مقاتلون من حبهة الشام (النصرة سابقا) في موقع متقدم أمام الأكاديمية العسكرية جنوب حلب بعد معركة صورة تعود إلى اسبوع مضى (أ.ف.ب)
مقاتلون من حبهة الشام (النصرة سابقا) في موقع متقدم أمام الأكاديمية العسكرية جنوب حلب بعد معركة صورة تعود إلى اسبوع مضى (أ.ف.ب)

ما زالت كلمة «أبو محمد الجولاني» في 28 يوليو (تموز) 2016 تثير نقاشا واسعا بين الباحثين والمتخصصين في الموجة الجديدة الثالثة من الإرهاب التي أفرزتها انتكاسات التحولات الديمقراطية خاصة بعد الحراك المجتمعي - أو «الربيع العربي» - في المنطقة العربية عام 2011م. ذلك أن خطاب الجولاني ما كان كلامًا في الدين والسياسة وحسب، بل هو تعبير جديد على ظهور فاعل متميز، يتشابك، ويتعارض، ويتحارب، مع قوى وطنية قُطرية، وأخرى إقليمية حاول الاستئثار بالنفوذ ولعب دور الزعامة محليا وإقليميا. كذلك يخوض هذا الفاعل معركة متعددة الأطراف يظهر فيها تنظيم «الجولاني» وما شاكله من التنظيمات السورية، في تناقض مع قوى دولية كبرى؛ تحاول بكل قوة، الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية بالشرق الأوسط، وصولا للبحر الأبيض المتوسط.
يرى مراقبون أن إعلان «أبو محمد الجولاني»، الزعيم البارز في «جبهة النصرة» تأسيس «جبهة فتح الشام» وفك التنظيم الوليد الارتباط بـ«القاعدة»، يجد تفسيره في الوعي المتنامي لدى الجيل الجديد من الراديكاليين بالطبيعة المعقدة للصراعات الوطنية ذات البعد الدولي. إذ عملت «جبهة النصرة» منذ بداية تشكلها، على التقاطع الكبير مع «القاعدة» فكريا بالبيعة، وممارساتيا بالقتال؛ غير أنها خلقت لنفسها بعدًا وطنيًا سوريًا مستقلاً، ومنتجًا لخطاب وممارسة مرنة، تفتقر إليهما «قاعدة» أيمن الظواهري، و«الخلافة» المزعومة لـ«أبو بكر البغدادي».
صحيح أن البعض فسر هذه الخصوصية لـ«جبهة النصرة» بكونها مجرد «التعمية على دورها في الحرب السورية». وأبعد من هذا ذهب كل من ديفيد روس، الباحث في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» (FDD) وتوماس جاسلن، المحرر الأول في مجلة «الحرب الطويلة» إلى التأكيد على أن المستجدات التنظيمية لـ«جبهة النصرة» على الأراضي السورية، هي استراتيجية جديدة، توجت مسيرة من سياسة زرع «القاعدة» لقياداتها داخل الحركات، والتنظيمات السورية المحاربة للنظام الوحشي للأسد.
* الخصوصية السورية
غير أن هذا الرأي، لا يعطي الأهمية المستحقة لطبيعة تصورات «النصرة» الخاصة بالتكفير وممارسة الحرب، وطبيعة علاقاتها داخل وخارج سوريا. فمعلوم أن الرؤية الفقهية لـ«جبهة النصرة» لم تقتصر مع مرور الزمن على تنظيرات وكتابات «أبو مصعب السوري»، التي جمعها في كتبه، «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية» و«ملاحظات التجربة الجهادية في سوريا»، وكتابه الثالث «أهل السنة في الشام في مواجهة النصيرية والصليببية واليهود».
كذلك فإن هذا الطرح لا يولي الأهمية البالغة للنسق الفكري والتنظيمي السوري، الذي شكل «جبهة النصرة»، فهذا التنظيم الذي شهد تطورات مثيرة خلال سنوات قليلة، ينتظر أن يشهد تحولات أكثر إثارة وجلبا لانتباه الباحثين في الحركات الراديكالية والإرهابية. ذلك أن «أبو محمد الجولاني» وتنظيمه يجسدان نموذجا من الزعامات والتنظيمات غير التقليدية في المسار التاريخي للحركات المشار إليها. ومعلوم أن «جبهة النصرة» لم تكن وحدة منسجمة من حيث القيادة الفقهية، ولا من حيث القيادة العسكرية؛ بل كانت سرايا وألوية مستقلة عن الحركات الإرهابية بالشرق الأوسط، وهو ما منحها خصوصية محلية، وصلت إلى درجة القتال مع «داعش».
في خطاب «الجولاني» الأخير، يتضح أن الانفصال عن «القاعدة» واتخاذ اسم جديد «جبهة فتح الشام»، جاء ليتوافق مع طبيعة المعركة الدائرة في سوريا، وطبيعة تحالفات القوى الوطنية المعارضة لنظام الأسد، من جهة؛ ومن جهة ثانية جاء هذا التطور كمحصلة ونتيجة من نتائج الصراع الدولي حول تعريف الإرهاب، وتحديد التنظيمات الإرهابية.
* في مواجهة «داعش»
لكن الانفصال في الواقع قد يشكل بداية مرحلة جديدة من بناء التنظيمات المحلية، المستقلة فكريًا وفقهيًا، وعسكريًا عن «القاعدة» الأم؛ وفي الوقت ذاته، المحاربة عمليًا لتنظيم داعش، وهو ما يعني أن فكرة الزعامة العالمية الموحدة للراديكالية المسلحة الرافعة ألوية الإسلام، وكذلك عقيدة «عالمية الخلافة، ووحدة المجاهدين»، هما محط تساؤل من الراديكاليين أنفسهم. بل يمكن القول إنهما فكرتان من الماضي ولا تتوافقان مع «الجيل الثالث» من الحركات الراديكالية، التي أصبحت تضع اعتبارات «شرعية» تحدد ممارسة ما تزعم أنه «الجهاد» وتضعه في سياق وحدود التفاعلات المحلية والإقليمية والدولية. وهذا ما يعني كذلك أن الوعي بهذا السياق أصبح «موجهًا للاجتهادات الفقهية»، الخاصة بالقتال والولاء والبراء الذي تؤمن به هذه التنظيمات.
أكثر من ذلك أظهر «الجولاني» في خطاب الانفصال توجهًا إصلاحيًا غير معهود من «القاعدة» وفروعها. فهو تبنى في حديثه عن الأهداف خطابًا لا يتوافق وآيديولوجية «القاعدة» وتصوّرها لنظام العلاقات الإقليمية والدولية القائمة على البيعة، والحرب مع الشيعة والدروز والصليبيين. فـ«الجولاني» تحدث عن إقامة وتحكيم دين الله وتحقيق العدل بين الناس، كما تحدث، عن خدمة المسلمين والتخفيف من معاناتهم. ويبدو أن تصور «الدولة الجامعة» القائمة على أساس المواطنة ليس في برنامج التنظيم الجديد، وتحتاج هذه القضية من «الجولاني» وفريقه الفقهي مزيدًا من المراجعات الفكرية، رغم ما أشار إليه من تحقيق للعدل «بين الناس.. جميع الناس».
ولكن، رغم هذا النقص التصوّري البيّن، فإن إيمان «جبهة فتح الشام» بالتوحّد مع فصائل المعارضة، دون شروط من قبيل بيعة زعيمها واعتماد مبدأ «الولاء والبراء» بالمفهوم التقليدي الذي يستعمل التكفير ضد المخالف يُعد تحولاً نوعيًا على المستوى الفكري. وإذا ما استطاع تنظيم «الجولاني» الجديد الدخول في مسار جديد من التوحّد مع الفصائل السورية الأخرى، فإن ذلك يعني بالضرورة، إحداث مزيد من القطيعة مع فكر «القاعدة»، والدخول في مزيد من المواجهات الإعلامية والعسكرية مع تنظيم داعش. ذلك أن خطاب الانفصال تبنى مبدأ «حماية الجهاد الشامي» وضرورة اتخاذ واعتماد كل الوسائل الشرعية الضامنة لهذه الحماية. وهو ما يعني من الناحية العملية والواقعية، أن التراث الفقهي الذي تبنته «القاعدة» ورسخته، لم يعد بإمكان «جبهة فتح الشام» المحافظة عليه والانطلاق منه، لبناء الوحدة والحفاظ على الثورة السورية ومصالح الناس في سوريا.
* مرونة.. أم انتهازية؟
وحينما يتكلم «الجولاني» عن «اعتماد كل الوسائل الشرعية المعينة على ذلك»، فهذا يعني أن إمكانية حدوث مزيد من المراجعات وارد في ذهن زعامة التنظيم - خاصة، أن هناك تنظيمات سورية قوية ليس لها سابق انتماء لفكر «القاعدة» وليس لها ولاء ولا امتداد خارجي، بل إن لها رؤية فقهية أكثر اعتدالا من «جبهة فتح الشام - وأن التقارب والتنسيق أو الاندماج سيؤثران حتما على «الفريق الفقهي» و«مجلس الشورى» في تنظيم «أبو محمد الجولاني».
في هذا الإطار يمكن القول إن التنسيق القائم مع جماعة «أحرار الشام» ذات النفوذ القوي، لم يكن ليحصل لولا بعض المرونة التي يتميز بها رجال الفقه في تنظيم «جبهة النصرة» سابقًا.. «جبهة فتح الشام» حاليًا.
مع هذا، علينا أن ننتبه ونحن نناقش هذا الانفصال المعلن من الطرفين «القاعدة» و«جبهة النصرة» أنه على طول أكثر من عقدين من الزمن - وتحديدا منذ «هجمات 11 سبتمبر (أيلول)» 2011 - كان المسار المعولم للإرهاب يعتمد على انضمام الأطراف للمركز وإعلان بيعة «الأمير». وأي خروج عنه يعتبر كفرًا وردة تستوجب قتال مرتكب هذه الكبيرة.
ولقد توسعت «القاعدة» وبعدها ظهر «داعش» وفقًا لهذا المبدأ الذي يحمل ثقافة يزعم القائمون عليها أنها دينية. ويبدو أن هذا المسار التاريخي قد ينكسر على صخرة الصراع السوري الذي يعود له الفضل في تسجيل بداية لخلخلة كثير من المنطلقات العقدية للحركات الإرهابية، خاصة بين «القاعدة» و«داعش»، وهو ينتقل لمرحلة جديدة بين «القاعدة» وفروعها.
في الأرض السورية شهدنا منذ سنة 2013 رفض «الجولاني» دعوة «أبو بكر البغدادي» لحل «جبهة النصرة» والانضمام لـ«داعش». واليوم يقود «الجولاني» وفريقه العسكري والفقهي مسارًا لا يخلو من التشدد الديني والتطرف، لكنه يخرج من دائرة الانضمام وتوسع «الجهاد» المزعوم والإرهاب المعولم، ليبدأ بقوة مسارًا جديدًا هو مسار الانفصال والاستقلال ومراعاة الظروف الدولية والإقليمية، والعرقية والمذهبية، وجعل هذه المتغيرات حاكمة لسلوك التنظيمات الراديكالية والإرهابية الجديدة.
صحيح أن التنظيم الجديد حليف موضوعي للثورة السورية، وللقوى الدولية ضد تنظيم داعش الوحشي؛ لكنه من السابق لأوانه الجزم بأن «جبهة فتح الشام» منفصلة انفصالاً آيديولوجيًا وفكريًا عن «قاعدة» أيمن الظواهري. ذلك أن «القاعدة» أمام كثير من المتغيرات قد تتجه لتبني استراتيجية جديدة تقوم على اعتماد التنظيم الشبكية والمرونة التنظيمية والابتعاد عن نظام الأطراف والمركز؛ ومن ثم العودة بقوة وبأقل التكاليف، في زمن يشهد فيه تنظيم «البغدادي» تراجعًا ملحوظًا على المستوى المادي والجغرافي والبشري، وعلى مستوى التعاطف مع فكرة التوحش في القتال، والمس بالمدنيين والأماكن المقدسة.
بكل تأكيد يبقى للزمن القريب دور مهم في إظهار جدية التحولات التي تخضع لها بعض التنظيمات الإرهابية. وستكون الأشهر القليلة المقبلة اختبارا لـ«الجولاني» وتنظيمه لإظهار جديته في الابتعاد الحقيقي عن عقلية وفقه تنظيم يهدد الأمن المحلي والإقليمي والدولي. كذلك ستظهر الأشهر المقبلة صدقيه نيات «جبهة فتح الشام» فيما يخص المساهمة الفعالة في الحفاظ والانضباط للشعارات التي رفعت في الثورة السورية، والمتعلقة بالديمقراطية والمواطنة، والوحدة الوطنية والجغرافية. فهل يكون مسار الانفصال بداية لتاريخ جديد من الاجتهاد الفقهي المعتدل بقيادة «الجولاني»؟ أم سيثبت أنه مجرد تكتيك يحافظ على التطرف والممارسة الإرهابية التي تتبناها «القاعدة» في زمن انكماش «داعش»؟

*أستاذ العلوم السياسية - جامعة محمد الخامس في الرباط



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.