من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية
TT

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

إذا كان مشروع الاتحاد الأوروبي قد تطور من مجرد حلم رومانسي مبنى على القومية المسيحية منذ قرون ممتدة إلى بناء راسخ على أساس التكامل، بل والتوحّد، فإن هناك كثيرًا من النظريات التي فسرت النجاح الباهر لهذا المشروع التكاملي بين دول لا تمتلك بالضرورة القواسم المشتركة، مثل اللغة أو القومية أو حتى الوحدة المذهبية في الدين، مثل العالم العربي، على سبيل المثال لا الحصر. ولعل أهم ما يميز هذه النظريات هي أنها بُنيت كلها تقريبًا على الدراسة العملية أو التجريبية لتطور الاتحاد الأوروبي من دول متناحرة إلى وحدة تقرب الكونفدرالية اليوم. وثمة من يرى أن محاولة فهم هذا النجاح مرتبط بفهم هذه النظريات المتعمقة التي توفر لنا غطاءً فكريًا ونوعًا من خريطة الطريق لنجاح عمليات التكامل، خصوصًا أنها تدرّس مثالاً لدول خرجت من الحرب العالمية الثانية منهكة اقتصاديًا وسياسيًا، وفي حالة عداء تاريخي بين بعض دولها.
وفي هذا الإطار فإن المفكر الأميركي إرنست هاس يعد من أوائل الذين حاولوا شرح نظريات التكامل بصفة عامة وعرّفها بأنها «عملية سعي الفاعلين السياسيين من قوميات مختلفة لتحريك ولائهم وطموحاتهم وتوقعاتهم وسلوكهم السياسي تجاه مركز جديد تتطلب مؤسساته سيادة تعلو على سيادة الدولة التي ينتمون إليها». وتابع: «ويكون الهدف من وراء هذه العملية التوصل إلى ما يطلق عليه في علم العلاقات الدولية (صيغة المكسب المشترك) Win - Win Situation الذي ليس بمقدور الدولة بالضرورة أن تحصل عليه بالعمل الفردي. ويرى أصحاب هذه النظرية أن الدولة يكون لها مصلحة في خلق علاقات تعاون تبدأ غالبًا بما سموه بالـLow Politics، أي في المجالات التي لا تمثل أولوية سياسية عليا بين الدول المتكاملة، حتى لا تصطدم العملية التكاملية بعوائق السياسات العليا للدولة. كما يميز هذا التعاون امتداده إلى المجالات التي لا تستطيع الدولة بمفردها تحقيق المكاسب القصوى فيها، وبالتالي تحاول مجموعة من الدول التركيز على المواضيع ذات الأهداف المشتركة وسط عالم يوصف بأنه فوضوي الطابع.
لقد فسّرت النظرية التبادلية الوظيفية Functionalism ما حدث في الاتحاد الأوروبي على أساس ثلاث مراحل:
1- تخطي النخب السياسية والاقتصادية الواعية أهمية تنفيذ هذا المشروع، العداوات التقليدية وتركيزها على النظرة المستقبلية بعيدًا عن الحساسيات والتوترات السائدة. ووضعها نصب عينيها المكاسب المحتملة، وأولها فرض السلام والمكاسب الاقتصادية والتجارية والاستثمارية وغيرها. وهو ما يؤدي بدوره إلى عملية تواصل بين النخب متشابهة التفكير في الدول المختلفة بغية تطوير مفهوم التعاون تمهيدًا لبداية طريق التكامل.
2- التسييس التدريجي Gradual Politicization للفاعلين السياسيين، وهذه المرحلة مرتبطة بالتأثير على المؤثرين القادرين على اتخاذ القرارات.
3- الانتقال من مجال إلى مجال أو الـRamification - Spill Over، أي أن يؤدي النجاح المشترك للتكامل في مجال إلى تكامل في مجالات أخرى لتحقيق الفائدة المشتركة وهلم جرًا. وهو ما يؤدي في النهاية إلى الوصول لمرحلة التكامل، ثم التوحد بدرجاته المتفاوتة سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو إداريًا، وهو ما يستتبع بالضرورة خلق كيانات فوق الدولة تدير هذا النوع من التكامل، وتكون الدول راضية عن تسليم جزء من سيادتها إلى هذا الكيان الجديد.
ولقد وضعت النظريات الأحدث خريطة طريق أو شروطًا مستقاة من تجربة الاتحاد الأوروبي لنجاح عملية التكامل بين الدول المعنية، نورد منها أهم الخطى التالية:
أولاً: أهمية وجود نوع من المساواة الاقتصادية بين الدول الراغبة في التكامل. وهو ما يعني ضمنيًا أن تكون هذه الدول معتنقة التوجهات الاقتصادية نفسها، وعلى رأسها الرأسمالية والسوق الحر وغيرها من القيم الاقتصادية المشتركة، إضافة إلى نوع من التوازن الاقتصادي، حتى وإن اختلفت أحجامها وقدراتها.
ثانيًا: أهمية إيجاد نوع من القناعة بالمساواة في توزيع الفوائد المنتظرة من التكامل بين الدول، فالدولة لن تقبل الدخول في مشروع تكاملي، طالما استشعرت وجود توزيع غير متوازن للمكاسب المتوقعة. وهنا لا يكون البعد الاقتصادي وحده، ولكن الصفقة المتكافئة التي يقبلها ساسة الدول المعنية حتى لا تفقد الدولة الحافز للدخول في المشروع من الأساس.
ثالثًا: أهمية وضع رؤية منخفضة التكلفة لعملية التكامل بين الدول. فإذا ما ارتفعت تكلفة التكامل، ولو لأسباب سياسية، ستفقد على المدى الطويل العائد الاقتصادي لاستمرارها، ومن ثم ضرورة العمل على خفض هذه التكلفة كمًا وكيفًا.
رابعًا: أهمية زيادة حجم التبادلات بين الدول، سواء السياسية أو التجارية أو حركة رأس المال أو الاتصالات أو الأفراد.. إلخ. وهو ما يكون سببًا في توسيع انتقال التعاون من مجال إلى آخر أو حركة الـOver Spill أو يكون نتيجة له وفقًا لكل مجال، وهذه كانت أهم الشروط لنجاح العملية التكاملية داخل الاتحاد الأوروبي.
خامسًا: أهمية الإمداد السياسي والآيديولوجي لهذا للمشروع التكاملي الذي كان شرطًا أساسيًا لنجاح المشروع الأوروبي. ذلك أن الفكرة أو التحرك السياسي وحده لا يكون كافيًا، لأن الأمر يحتاج إلى نشر ما يمكن وصفه بالعقيدة التكاملية على مستوى الساسة والشعب لضمان استمرارية المشروع حتى لا تتعرض شرعيته للتشكيك والفشل من ناحية أو لهبوط العزيمة السياسية لدى النخب والمواطنين على حد سواء للمضي قدما من ناحية أخرى.
سادسًا: ضرورة بناء التحالفات الداخلية في الدول حول مواضيع بعينها من أجل الدفع بالمشروع، فدون التحالفات لن تنجح عملية التكامل من الأساس. وارتباطًا بهذا الأمر فإن النجاح يتطلب أيضًا ما سمي بالـElite Socialization أو التجانس بين النخب، خصوصًا بين البيروقراطيات القائمة على المجالات المختلفة للتكامل، وهو ما يحتاج معه أيضًا إلى عملية انخراط منظمات المجتمع المدني، بالأخص بين الدول المختلفة لتخلق الروابط عبر الدولية المطلوبة لدفع عملية التكامل.
سابعًا: ضرورة العمل على خلق هوية آيديولوجية مشتركة لهذا المشروع مقبولة لدى كل الأطراف، وهو ما يتطلب نوعًا النسق المتتالية لشرح الهدف لجعله هدفًا مشتركًا لكل دولة وشعبها.
ثامنًا: ضرورة وضع آليات لتسوية الخلافات وتقريب المصالح المتناقضة بين الدول. وهذا التكامل دونه لأن الفكرة الأساسية هي اصطدام المصالح، حيث تسعى كل دولة لمحاولة تعظيم الفائدة، وهذا شيء طبيعي، ومن ثم أهمية توفيق هذه المصالح كخطوة أولى يعقبها عملية تسوية الخلافات بشكل مفيد لكل الأطراف، حتى لا تنفر دولة من الانخراط في مشروع التكامل.
تاسعًا: وارتباطًا بما سبق، فإن الأمر يحتاج إلى صياغة معادلات تضمن أن يكون خيار التكامل دائمًا أفضل من خيار الانفصال، وهو ما يتطلب نوعًا من المرونة والنظرة الإجمالية للمكاسب التي ستحصل عليها الدول المتكاملة.
عاشرًا: ضرورة بناء مواقف موحَّدة للدول المتكاملة مقابل العالم الخارجي، فهذا الأمر يساعد بشكل كبير على خلق الهوية الداخلية الموحّدة للدول المتكاملة، ويضع غطاءً لمصالح الدول في التعامل مع العالم الخارجي.
كل هذه الشروط المستقاة من التجربة الأوروبية تضع نصب أعيننا مكونات نجاح مشروع الاتحاد الأوروبي اليوم. وهي كما نرى تتضمن أبعادًا عملية وآيديولوجية وسياسية واقتصادية لا غنى عنها على الإطلاق لنجاح العملية التكاملية. وبالتالي، فإن نجاح التجارب التكاملية لا يتأتي بالقواعد التقليدية المرتبطة بالتركيز على وحدة الكيان أو المصير أو اللغة أو الديانة. ذلك أن كل هذه عوامل مساعدة تدفع نحو التكامل بين الدول، ولكنها لا تضمن له النجاح في أغلب الأحيان، فالنجاح يرتبط في الأساس بعمليات ممنهجة وآليات تعتمد على المبادئ السابقة الذكر، وليس باللغة والدين وحدهما يبنى صرح التكامل والوحدة.



تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)
TT

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)

سينغمان ري (الصورة الرئاسية الرسمية)

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

وفي سلسلة من التاريخ المظلم لقادة البلاد، عزل البرلمان الرئيسة بارك غيون - هاي، التي كانت أول امرأة تتولى منصب الرئاسة الكورية الجنوبية، ثم سُجنت في وقت لاحق من عام 2016. ولقد واجهت بارك، التي هي ابنة الديكتاتور السابق بارك تشونغ - هي، اتهامات بقبول أو طلب عشرات الملايين من الدولارات من مجموعات اقتصادية وصناعية كبرى.

وفي الحالات الأخرى، انتحر روه مو - هيون، الذي تولى الرئاسة في الفترة من 2003 إلى 2008، بصورة مأساوية في مايو (أيار) 2009 عندما قفز من منحدر صخري بينما كان قيد التحقيق بتهمة تلقي رشوة، بلغت في مجموعها 6 ملايين دولار، ذهبت إلى زوجته وأقاربه.

وعلى نحو مماثل، حُكم على الرئيس السابق لي ميونغ - باك بالسجن 15 سنة في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 بتهمة الفساد. ومع ذلك، اختُصرت فترة سجنه عندما تلقى عفواً من الرئيس الحالي يون سوك - يول في ديسمبر (كانون الأول) عام 2022.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أدين تشون دو - هوان، الرجل العسكري القوي والسيئ السمعة، الملقّب بـ«جزار غوانغجو»، وتلميذه الرئيس نوه تاي - وو، بتهمة الخيانة لدوريهما في انقلاب عام 1979، وحُكم عليهما بالسجن لأكثر من 20 سنة، ومع ذلك، صدر عفو عنهما في وقت لاحق.

بارك غيون- هاي (رويترز)

الأحكام العرفية

باعتبار اقتصاد كوريا الجنوبية، رابع أكبر اقتصاد في آسيا، وكون البلاد «البلد الجار» المتاخم لكوريا الشمالية المسلحة نووياً، تأثرت كوريا الجنوبية بفترات تاريخية من الحكم العسكري والاضطرابات السياسية، مع انتقال الدولة إلى نظام ديمقراطي حقيقي عام 1987.

والواقع، رغم وجود المؤسسات الديمقراطية، استمرت التوترات السياسية في البلاد، بدءاً من تأسيسها بعد نيل الاستقلال عن الاستعمار الياباني عام 1948. كذلك منذ تأسيسها، شهدت كوريا الجنوبية العديد من الصدامات السياسية - الأمنية التي أُعلن خلالها فرض الأحكام العرفية، بما في ذلك حلقة محورية عام 1980 خلّفت عشرات القتلى.

وهنا يشرح الصحافي الهندي شيخار غوبتا، رئيس تحرير صحيفة «ذا برنت»، مواجهات البلاد مع الانقلابات العسكرية وملاحقات الرؤساء، بالقول: «إجمالاً، أعلنت الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية 16 مرة على الأقل. وكان أول مرسوم بالأحكام العرفية قد أصدره عام 1948 الرئيس (آنذاك) سينغمان ري، إثر مواجهة القوات الحكومية تمرداً عسكرياً بقيادة الشيوعيين. ثم فرض ري، الذي تولى الرئاسة لمدة 12 سنة، الأحكام العرفية مرة أخرى في عام 1952».

مع ذلك، كان تشون دو - هوان آخر «ديكتاتور» حكم كوريا الجنوبية. وتشون عسكري برتبة جنرال قفز إلى السلطة في انقلاب إثر اغتيال الرئيس بارك تشونغ - هي عام 1979، وكان بارك جنرالاً سابقاً أعلن أيضاً الأحكام العرفية أثناء وجوده في السلطة لقمع المعارضة حتى لا تنتقل البلاد رسمياً إلى الديمقراطية. نيودلهي: «الشرق الأوسط»