الغابون.. إرث بونغو

صراع سياسي في بلد تعددي تفاقمه الحساسيات الشخصية

الغابون.. إرث بونغو
TT

الغابون.. إرث بونغو

الغابون.. إرث بونغو

استقلت الغابون عن فرنسا عام 1960. إلا أنها ظلت دومًا الحديقة الخلفية للأنظمة الحاكمة في فرنسا، خاصة بعد اكتشاف مخزون نفطي هائل قبالة سواحل المستعمرة السابقة. وجاء نفط الغابون ليحل محل النفط الجزائري الذي خرج عام 1962 من قبضة الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول الساعي نحو جعل فرنسا قوة عظمى، وهو أمر ما كان ليتحقق من دون سد حاجياتها من الطاقة.
وفعلاً، استفادت الغابون طيلة العقود الماضية من دعم فرنسي كبير، لتضمن بذلك أكبر قدر ممكن من الاستقرار في محيط إقليمي مضطرب. فالقوات الفرنسية لم تتأخر في التدخل لإفشال أول انقلاب عسكري عام 1964 وقع ضد أول رئيس للبلاد ليون مبا. كذلك ضمنت باريس انتقال السلطة بشكل سلس عام 1967 بعد وفاة مبا إلى الرئيس السابق عمر بونغو، ولم يكن خافيًا على أحد أن علي بونغو هو مرشح فرنسا في الانتخابات الرئاسية التي أجريت بعد وفاة والده عمر بونغو عام 2009.
ولكن الغابون التي تدخل الموت مرتين لإحداث التغيير الرئاسي فيها، تقف اليوم عند نقطة حاسمة من تاريخها السياسي، فهنالك رجلان تربيا في حضن نظام الرئيس السابق الراحل عمر بونغو، يعلن كل منهما فوزه بالانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم السبت 27 أغسطس (آب) الماضي. وبينما يراهن علي بونغو، الرئيس الفائز بولاية جديدة، على قوة القانون والأمن، لا يتردد زعيم المعارضة جان بينغ في الاستناد إلى الشارع. أما فرنسا فقد أعلنت على لسان وزير خارجيتها أنها لن تنحاز لأي من الرجلين، فيما يبدو أن الصراع على إرث الراحل عمر بونغو سيهز واحدًا من أكثر البلدان الأفريقية استقرارًا.
انتشرت الحواجز الأمنية في شوارع ليبريفيل، عاصمة دولة الغابون. جنود يتحركون بحذر في الساعات الأولى من الصباح، وسيارات الشرطة تجوب بعض الأحياء، فيما ينشغل عدد من المواطنين بالبحث عن مواصلات بدت حركتها ضعيفة منذ الانتخابات التي أدخلت البلاد في موجة من العنف. تحولت بعض الشوارع إلى ساحة معركة بين عناصر الأمن ومئات الشباب الغاضبين، كانوا يرفضون إعادة انتخاب الرئيس علي بونغو لولاية رئاسية ثانية مدتها سبع سنوات، ستمد عمر حكم عائلته لأكثر من نصف قرن.
حالة من الانقسام تعيشها البلاد منذ أسابيع، ما بين الرئيس المنتهية ولايته علي بونغو (57 سنة)، وزعيم المعارضة جان بينغ (73 سنة)، بعدما تنافسا في حملة انتخابية شرسة غلب عليها الصراع الشخصي وغابت عنها البرامج الانتخابية، وتخللتها أعمال عنف واتهامات للحكومة بالانحياز للرئيس المنتهية ولايته.
استبق مرشح المعارضة الأحداث وأعلن فوزه بالانتخابات قبل أن تعلن النتائج النهائية، إذ قال أمام أنصاره مساء الأحد 28 أغسطس (آب) الماضي «لقد فزت بالانتخابات وأنتظر من علي بونغو أن يتصل بي للتهنئة». ولكن هذا الاتصال لم يتحقق لأن بونغو أعلن النصر هو الآخر يوم الأربعاء الموالي؛ وهكذا عاشت البلاد عدة ساعات منقسمة ما بين «رئيسين»، يضغط كل منهما على اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، فقد بدا واضحًا أن النتيجة التي ستعلنها – مهما كانت – ستدخل البلاد في أزمة حقيقية.
وبعد أيام من الترقب الحذر أعلنت اللجنة فوز بونغو بنسبة 49.80 في المائة من الأصوات، مقابل 48.23 في المائة لمرشح المعارضة، أي أن الفارق بين الرجلين لا يزيد على 5594 صوتًا فقط. ومن ثم، أشعلت هذه النتائج الشارع في الغابون، حيث خرج مئات الشبان الغاضبين ووضعوا الحواجز على الشوارع الكبيرة، كما أحرقوا مبنى البرلمان في العاصمة. وأسفرت الصدامات بين الأمن والمحتجين – حسب تقارير غير رسمية – عن سقوط سبعة قتلى ومئات المعتقلين. وتعيد هذه الأحداث إلى أذهان الغابونيين ما شهدته بلادهم من صدامات عنيفة عام 2009 بعد انتخاب علي بونغو.
* «جزيرة استقرار»
كثيرًا ما وصفت الغابون بأنها «جزيرة استقرار»، رغم كونها تقع في منطقة ملتهبة بالحروب، وذلك ما تعيده فلورنس بيرنولت، أستاذة التاريخ الأفريقي في الجامعات الأميركية، إلى اليد الفرنسية الحاضرة بقوة. وتقول الباحثة «منذ استقلالها، لم تغادر الغابون فلك القوة الاستعمارية السابقة، هناك علاقات اقتصادية متينة جدًا، وحضور عسكري فرنسي داخل الأراضي الغابونية».
وعلى غرار الكثير من المستعمرات الفرنسية في غرب ووسط أفريقيا، حصلت الغابون على استقلالها بشكل تدريجي، وسلّمتها فرنسا لنخبة تضمن ولاءها المطلق، حتى أن الرئيس ليون مبا الذي حكم البلاد سبع سنوات بعد الاستقلال، كان محاطًا بمستشارين فرنسيين يتولون تسيير البلاد ووضع أسس الدولة الحديثة، ولكن في الحقيقة كان هؤلاء المستشارون مرتبطين بشكل مباشر مع الخلية المكلّفة بالشؤون الأفريقية في قصر الإليزيه.
وحقًا أظهر الرئيس ليون مبا خلال فترة حكمه ولاء مطلقًا لفرنسا. إذ كان يرى فيها الضامن لاستمرار حكمه، خاصة بعد انقلاب 1964 الذي أفشلته القوات الفرنسية. بيد أن مبا في المقابل بدا ضعيف الشخصية وعاجزًا على مواجهة الأزمات، وما كان ذلك الرجل القادر على أن يُحكم قبضته على البلد ويضرب بيد من حديد. هذه الصفة كانت متوافرة في أحد الشباب العاملين في القصر، يدعى ألبير بيرنار بونغو، الذي سرعان ما رصدته أعين المستشارين الفرنسيين في القصر فبدأت الأبواب تفتح أمامه.
* عصر بونغو
برز نجم الشاب الواعد في الفترة التي أمضاها مبا يتلقى العلاج في فرنسا. بل إن الرئيس بإشارة من مستشاريه الفرنسيين استحدث منصب نائب رئيس الجمهورية وعيّن فيه الشاب بونغو، في مسرحية مثلت فصولاً في سفارة الغابون بباريس، بينما كانت صحة الرئيس لا تسمح بالعودة إلى الغابون؛ ولاحقًا توفي مبا وأصبح بونغو رئيسًا للبلاد.
ولم يخيّب بونغو ظن المستشارين الفرنسيين، فقد أحكم قبضته بسرعة على بلده الصغير، وخدمته في ذلك الاكتشافات النفطية الهائلة، وما أعقبها من نهضة اقتصادية سريعة. كذلك فإنه إبان حكمه رفع شعار الوحدة الوطنية، الذي تصفه الباحثة بيرنولت بقولها «استطاع بونغو طيلة حكمه أن يحيط نفسه بفريق يضم ممثلين لمعظم الفئات الاجتماعية والعرقية المتفرقة في البلد، كما نجح دائمًا في إقناع معارضيه بالتعاون والتفاهم».
وتشرح بينولت «يتحدر بونغو من قبيلة التيكي (أو الباتيكي) Teke التي تعد أقلية في الغابون، وذلك ما ساعده في إدارة التنوع الثقافي والتمايز العرقي داخل بلد بالكاد يتجاوز عدد سكانه مليونا ونصف المليون نسمة، ويتكلمون أكثر من خمسين لهجة محلية. إن نظام المحاصصة الذي اعتمده كان يطمئن ويريح الغابونيين، سواء كانوا موالين أو معارضين لحكمه».
بعدها، اعتنق ألبير بيرنار بونغو الإسلام، وغيّر اسمه ليصبح عمر بونغو، واتسعت دائرة نفوذه لتصل إلى الكثير من البلدان الأفريقية. وفي هذه الأثناء، كان تأثيره كبيرًا في الساحة السياسية الفرنسية، حيث اشتهر بمتابعته لأدق التفاصيل فيها، وحرصه على بناء علاقات صداقة قوية مع الشخصيات التي يرى أنها ستلعب أدوارًا مهمة في دوائر الحكم الفرنسي. بل إن عدة تقارير أشارت إلى تمويلات كانت تخرج من خزائنه لتصل إلى جيوب كثرة من هؤلاء السياسيين الذين أصبح فيما بعد من بينهم رؤساء ووزراء. وتحدثت شخصيات فرنسية عن وزراء عيّنهم بونغو وآخرين أقالهم من الحكومات الفرنسية؛ وهو ما بات يسميه بعض الإعلاميين الفرنسيين بأنه «استعمار غابوني» خطط له عمر بونغو وموّله بعائدات النفط الهائلة.
وحسب الباحثة بيرنولت، أجبرت وفاة عمر بونغو عام 2009 فرنسا على الوقوف مع ابنه علي. وتشرح «كانت فرنسا تحاول تفادي انهيار إمبراطورية بونغو بشكل مفاجئ وغير مخطّط له، ما قد يؤدي لخروج أسرار من تحت ركام إمبراطورية عاصرت عدة أنظمة فرنسية، وكانت تلعب دورًا محوريًا في السياسات الفرنسية في أفريقيا».
* القطيعة مع الماضي
خرج علي بونغو منتصرًا من انتخابات رئاسية نظمت بعد أشهر قليلة من وفاة والده، وبدت رغبته واضحة في شق طريق غير الذي سلكه أبوه، وأن يعلن القطيعة مع العهد القديم. غير أنه سرعان ما اصطدم بالزعامات التقليدية والشخصيات السياسية، التي كان يمنحها والده امتيازات خاصة ليضمن ولاءها. وفي هذا السياق يقول الصحافي المتخصص في الشأن الأفريقي جورج دوغيلي «كانت رغبته كبيرة في القطيعة مع حكم والده، فرفض علي بونغو الاستسلام للراغبين في الاحتفاظ بامتيازاتهم. لكن هذا الأمر أثار غضب الرفاق السابقين، فاستقالوا من الحزب الحاكم واحدًا تلو الآخر، قبل أن يلتحقوا بصفوف المعارضة».
من جهة أخرى تقول حسب الباحثة الأميركية بيرنولت إن بونغو بمجرد وصوله إلى الحكم «تخلى عن نظام والده القائم على التوازن والمزج بين مختلف الأعراق والفئات الاجتماعية، ليختار فريقًا صغيرًا من الذين يثق فيهم؛ وهكذا ضعف التوازن الجهوي والسياسي». ولكن في المقابل، ركز بونغو الابن على الاقتصاد والاستثمار، وأعلن مشروع «الغابون الناهض» الذي قال عنه إنه سيغير وجه البلاد في المدى القريب، لتخلص إلى القول: إنه «من الواضح أن سبع سنوات من الحكم لم تكن كافية ليقنع علي بونغو مواطني بلاده».
* بوادر الأزمة
وهكذا، خلال السنوات الأخيرة شهدت الغابون الكثير من الغليان السياسي، وتعرض علي بونغو لهجمات كثيرة تستهدف إضعاف حكمه، بدأت بانقسامات داخل الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم، وانتهت بالتشكيك في أصوله، بالإضافة إلى حرب كلامية شرسة أنهكت قوى النظام.
وهنا يقول دوغيلي «لم يدخر خصوم علي بونغو أي جهد لمنعه من الترشح للانتخابات؛ حتى أنهم شككوا في نسبه، ورفعوا دعوى قضائية أمام محكمة فرنسية. إلا أن هذه الهجمات التي كانت تقوم على حرب كلامية عنيفة، انتهت بالفشل حين صادقت المحكمة على وثيقة ميلاد علي بونغو».
ولكن اللافت أن الأزمة السياسية التي عاشت الغابون بوادرها في السنوات الأخيرة، تأتي أيضا في فترة ضعف وتشرذم للمعارضة التقليدية، خاصة بعد وفاة بيير مامبودو (2011) وآندريه مبا أوبامي (2015)، وهما شخصيتان من أبرز زعامات المعارضة الراديكالية. غياب هاتين الشخصيتين خلق ظروف التأزم داخل الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم، وفق ما يشير إليه دوغيلي، قبل أن يضيف: «لقد هيأ ضعف المعارضة بعد وفاة قادتها، ظروف التأزم داخل الحزب الحاكم، خاصة بعد الخلاف القوي بين الرئيس علي بونغو والقيادات التقليدية للحزب».
ومن ثم، حدثت موجة انسحابات واسعة من الحزب الحاكم، وكان أغلب المنسحبين زعامات تقليدية تعتقد أنها لم تجد المكانة التي تستحق مع الرئيس علي بونغو، فظهرت معارضة جديدة هي في الحقيقة جزء من النظام مغاضب للرئيس. وكانت هذه المعارضة الجديدة تراهن على أن علي بونغو لن يكمل ولايته الرئاسية الأولى، ويتكلمون في أنشطتهم السياسية عن «انقلاب عسكري وشيك» أو «تمرّد شعبي على الأبواب».
في هذه الأجواء المتأزمة ظهر جان بينغ، الذي قدم نفسه كمعارض شرس لنظام بونغو، فتلقفته المعارضة بسرعة لأنه يملك مؤهلات تجعل منه ندًا مناسبًا للرئيس. فهو ابن تاجر صيني وسيدة تتحدر من قبيلة الأومبووي بجنوب الكاميرون (المجاورة للغابون)، وسبق أن شغل منصب وزير الخارجية في عهد الرئيس الراحل عمر بونغو الذي كان قد وقف خلفه عام 2008 حتى أصبح الأمين العام لمفوضية الاتحاد الأفريقي. إلا أن بينغ غادر المفوضية عام 2012 وهو يتهم حكومة بلاده بالتخلي عنه والتقاعس عن دعمه، فتفجر الخلاف الشخصي بينه والرئيس. وهذا الخلاف تطور إلى قطيعة تامة عام 2014. مع أن بينغ سبق له الزواج من باسكالين ابنة عمر بونغو وأخت علي بونغو، وهي أم ولديه. وبالنظر إلى مسار العلاقة ما بين الرجلين يتضح مدى التعقيد الذي يطبع الأزمة في الغابون.
إن ما يجري في الغابون ليس مجرد أزمة سياسية ذات طرفين: معارضة تسعى للسلطة ونظام مصر على البقاء، بل هو أكثر تعقيدًا بكثير. فأولئك الذين يقفون اليوم ضد الرئيس علي بونغو، ويحرّكون الشارع ضده بحجة هيمنة عائلته على الحكم لنصف قرن، كانوا من ضمن الدائرة المقربة منه ومن والده عمر بونغو، في مقدمتهم جان بينغ صهر الرئيسين الأب والابن السابق الذي ترعرع في حضن نظام عائلة بونغو وكان قريبًا جدًا منها؛ بالإضافة إلى رئيس الوزراء السابق كازيمير إيوي مبا؛ ورئيس البرلمان السابق نزوبا انداما.
* الإخوة الأعداء
يطغى الجانب الشخصي على الأزمة المحتدمة في الغابون، لتتحول إلى صراع ما بين رجلين، خرجا من رحم نظام عمر بونغو الذي حكم البلاد لأكثر من نصف قرن، إنهما الرئيس الحالي علي بونغو وزعيم المعارضة جان بينغ.
علي بونغو اونديمبا: ولد عام 1959. في مدينة برازافيل، العاصمة الحالية للكونغو الديمقراطية، وذلك قبل استقلال بلاده عن فرنسا بعام واحد، وتولى والده الحكم وهو في الثامنة من العمر. بعدها تلقى تعليمه في فرنسا حيث تخرج بشهادة عليا في القانون، ثم بدأ مساره المهني عام 1987 في ديوان رئيس الجمهورية الذي هو والده.
وتقلّب علي بونغو في المناصب الحكومية وزيرا للخارجية (1989 - 1991)، ثم نائبا في البرلمان (1991 - 1999)؛ ثم وزيرا للدفاع (1999 - 2009). وفي الفترة نفسها كان يشغل منصب نائب رئيس الحزب الديمقراطي الغابوني الذي رشحه للانتخابات الرئاسية التي نظمت عقب وفاة والده عام 2009. ليحقق الفوز بنسبة 42 في المائة.
جان بينغ: ولد عام 1942 في مدينة بور جانتيل، العاصمة الاقتصادية الحالية للغابون، وكان والده تاجرًا صينيًا وصل إلى البلاد في عشرينات القرن الماضي، ثم تزوج من فتاة غابونية من أصل كاميروني. ونجح التاجر الصيني في ابتعاث ابنه إلى فرنسا من أجل الدراسة، ليتخرج بشهادة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية من جامعة باريس - السوربون.
بدأ بينغ مساره المهني كموظف دولي في منظمة اليونيسكو بباريس عام 1972، ليصبح الممثل الدائم للغابون في المنظمة الدولية (1978 - 1984). ثم ترأس عن بلاده عام 1993 منظمة الدول المصدرة للبترول؛ ولكنه دخل الحكومة في بلاده من بوابة وزارة الخارجية (1999 - 2008)، وفي الفترة نفسها ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة (2004 - 2005)؛ كما ترأس مفوضية الاتحاد الأفريقي (2008 - 2012).
كان عدم التجديد له على رأس المفوضية الأفريقية واحدًا من الأسباب التي أدت إلى الشرخ القوي بينه والرئيس علي بونغو، بالإضافة إلى أن جان بينغ يرى أن مساره المهني ومؤهلاته تجعل منه الوريث الحقيقي لعمر بونغو.



قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
TT

قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)

جاء الإعلان عندما أبلغ وزير الخارجية الهندي فيكرام ميسري وسائل الإعلام أن «الهند والصين توصلتا إلى اتفاق على طول خط السيطرة الفعلية»، ولم يلبث أن أكد لين جيان، الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، إبرام الاتفاق.

يُذكر أن المواجهة على امتداد «خط السيطرة الفعلية» (الحدودي)، بدأت بمناوشات بين القوات الهندية والصينية على ضفاف بحيرة بانغونغ خلال مايو (أيار) 2020. ثم توترت العلاقات بين البلدين بعد اندلاع اشتباكات مميتة في يونيو (حزيران) 2020 – تضمنت استخدام الصخور والقضبان الحديدية وتبادل اللكمات - حول نهر غالوان، الواقع على ارتفاع كبير، وبانغونغ تسو في إقليم لاداخ؛ ما أسفر عن مقتل 20 جندياً هندياً، إلى جانب عدد غير معروف من القوات الصينية، قدّرته وسائل إعلام روسية بما يتجاوز 40. سقوط أول الضحايا على «خط السيطرة الفعلية» منذ 45 سنة دفع العلاقات الثنائية إلى أدنى مستوى لها منذ حرب الحدود عام 1962. وأدّت التدابير المضادة القوية للهند، والوجود العسكري الكثيف لها، إلى مواجهة حدودية استمرت لأكثر من أربع سنوات، مع تمركز أكثر من 50 ألف جندي على الجانبين. ومن ناحيته، أكد الجانب الهندي أن مجمل العلاقات مع الصين «يتعذر تطبيعها من دون إقرار حالة من السلام والهدوء على الحدود» بينهما.

«خط السيطرة الفعلية»... نقطة اشتعال تاريخية

يكمن السبب الجذري للصراع بين الهند والصين، في حدودهما المشتركة الممتدة لمسافة 3440 كيلومتراً، والتي يشار إليها عادةً باسم «خط السيطرة الفعلية». ولطالما كانت هذه الحدود الجبلية غير المحدّدة على نحو واضح، ولا سيما أنها تمر عبر تضاريس وعرة، مصدراً دائماً للتوتر بين القوتين النوويتين. وبعكس الحدود الدولية التقليدية، يشكل «خط السيطرة الفعلية» خط الحدود بين الصين والهند فقط «بحكم الأمر الواقع»؟ ذلك أن ثمة تبايناً كبيراً بين البلدين حيال تصوره وتعريفه.

تاريخياً، لدى كل من الهند والصين وجهة نظر خاصة مختلفة بشأن ترسيم خط السيطرة الفعلية؛ الأمر الذي أدى إلى اشتعال نزاعات متكرّرة حول السيطرة على النقاط الاستراتيجية على طول الحدود. وبناءً عليه؛ ما دفع إذن باتجاه هذا التطور الإيجابي في العلاقات؟

في هذا الصدد، أعرب الصحافي الهندي جواراف ساوانت، الذي يزور روسيا حالياً لتغطية أخبار مجموعة «البريكس»، عن اعتقاده بأن بين العوامل وراء ذوبان الثلوج بين نيودلهي وبكين «انتخابات الشهر المقبل في الولايات المتحدة». وشرح أن «السباق الانتخابي (الأميركي) متقارب، وثمة احتمال واضح لعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض». وأردف أن تراجع مستوى التوتر بالعلاقات بين البلدين سيخدم كلاً منهما. ومن وجهة نظر الصين، فإن قيادة هندية تسعى إلى سياسة خارجية مستقلة منفصلة عن المصالح الغربية أفضل بالتأكيد لبكين.

أهمية قمة «البريكس»

والآن، لماذا تشكّل قمة «البريكس» السادسة عشرة لحظة مهمة، في الدبلوماسية العالمية؟

في الواقع، للمرة الأولى منذ الحرب بين روسيا وأوكرانيا اجتمع عدد كبير من قادة العالم في روسيا، وهو ما فُسّر بأنه فشل للمحاولات الغربية في عزل موسكو، وهذا أمر قد يؤثر كذلك على توازن القوى العالمي. ثم إنه يدور موضوع قمة هذا العام حول «تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين».

معلومٌ أن مجموعة «البريكس» انطلقت، بداية الأمر، من البرازيل، وروسيا، والهند، والصين وجنوب إفريقيا. إلا أنها سرعان ما برزت منصةً رئيسية للتعاون الاقتصادي والسياسي العالمي. وفي عام 2023، انضم أعضاء جدد للمجموعة، بينهم المملكة العربية السعودية، وإيران، ومصر والإمارات العربية المتحدة؛ ما جعلها أكثر شمولاً.

واليوم، مع ناتج محلي إجمالي يبلغ 60 تريليون دولار، تمثل دول «البريكس» 37.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متجاوزة بذلك «مجموعة الدول السبع». ومع مواصلة «البريكس» توسعها، كبر دورها وازداد وضوحاً على صعيد إعادة تشكيل ديناميكيات القوة العالمية. وهنا أضاف الصحافي الهندي ساوانت أن «هذا النوع من الود الذي يتأمله الهنود والروس والصينيون على الأرض - إلى جانب آخرين داخل (البريكس) - من شأنه أن يثير قلق الغرب»، مشيراً إلى أن مودي وشي سيعقدان لقاءً ثنائياً على هامش القمة.

ولجهة مسألة «العزلة»، تكشف قمة «البريكس» عن أن روسيا بعيدة كل البعد عن العزلة، لدى توجه قادة من مختلف الدول إلى قازان للمشاركة في مناقشات يمكن أن تشكل مستقبل الحكم العالمي. واللافت، طبعاً، أن القمة لم تجتذب حلفاء روسيا المقربين فحسب، بل اجتذبت أيضاً عدداً من الدول التي تتطلع إلى تعزيز العلاقات مع موسكو.

قمة «البريكس» المنعقدة لثلاثة أيام، وسط إجراءات أمنية مشددة، تعد أكبر حدث دولي تستضيفه روسيا منذ أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواته بغزو أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. وفي حين يسعى بوتين، صراحةً، إلى بناء تحالف من خلال «البريكس» قادر على تحدّي «هيمنة» الغرب، صرّح رئيس الوزراء الهندي مودي أثناء زيارته روسيا بأن زيارتيه إلى روسيا في الأشهر الثلاثة الماضية «تعكسان التنسيق الوثيق والصداقة العميقة بين البلدين». وأضاف: «لقد عزّزت قمتنا السنوية في موسكو في يوليو (تموز)، تعاوننا في كل المجالات... وفي غضون 15 سنة، بنت مجموعة (البريكس) هويتها الخاصة. واليوم، تسعى الكثير من دول العالم للانضمام إليها».

وحول الموضوع الأوكراني، من وجهة نظر هندية، يرى المحلل السياسي سوشانت سارين أنه «على الصعيد الدبلوماسي، سار مودي على حبل مشدود منذ بدء الصراع في أوكرانيا... إذ تعهّدت نيودلهي بتقديم الدعم الإنساني لكييف، لكن مع تجنب الإدانة الصريحة للهجوم الروسي بالوقت ذاته. ثم في يوليو، زار مودي موسكو، أعقب ذلك بزيارة إلى كييف خلال أغسطس (آب)، داعياً إلى عقد مباحثات لإنهاء الصراع. وأثمرت جهوده بالفعل إلى دعوات إلى أن تضطلع الهند بدور وسيط بين الجانبين».

كذلك، مع إعراب مودي عن دعم الهند «حل عاجلاً» للوضع في أوكرانيا، ومعه مختلف جهود إرساء السلام والاستقرار، خاطب الزعيم الهندي نظيره الروسي قائلاً في حديث بينهما: «كنا على اتصال دائم بشأن الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ونعتقد أن النزاعات يجب أن تُحل سلمياً فقط. ونحن ندعم تماماً الجهود الرامية إلى استعادة السلام والاستقرار سريعاً... وكل جهودنا تعطي الأولوية للجوانب الإنسانية».

الرئيس الروسي يلقي كلمته في القمة (رويترز)

من جهتها، أضافت مصادر بوزارة الشؤون الخارجية الهندية، على صلة بمكتب «البريكس» أن «المناقشات حول إقرار عملة للـ(بريكس)، لتحدي هيمنة الدولار الأميركي تكتسب زخماً. كما تقدّم القمة منصّة للدول تعينها على توحيد صفوفها ضد العقوبات التعسفية التي يفرضها الغرب. ومع توسع (البريكس) وتطورها، بات من الواضح أن هذه المجموعة تستطيع أن تلعب دوراً مركزياً في تشكيل نظام عالمي جديد، وتحدي الهيمنة الغربية التقليدية. وسيكون دور الهند في (البريكس)، إلى جانب علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، أساسياً في تحديد كيفية تطور هذا التوازن الجديد للقوى».

لقاء محتمل بين مودي وشي

وعودة إلى موضوع العلاقات الهندية - الصينية، ذكّر الصحافي مانيش جها، بأنه «لم يعقد الطرفان مباحثات رسمية ثنائية منذ عام 2019؛ ولذا فإن أي تقارب اليوم سيكون تطوّراً محموداً... وسيحظى بمتابعة أميركية من كثب». وأضاف جها: «الواضح أن واشنطن استغلت فتور العلاقات بين مودي وشي للتقرّب من نيودلهي، وتعزيز التجمّعات الإقليمية مثل مجموعة (الكواد «الرباعية»)، التي تضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، مع العمل على الضغط على الهند للانضمام إلى العقوبات ضد روسيا؛ الأمر الذي رفضته نيودلهي حتى الآن». ثم تابع: «لا يمكن تجاهل دور روسيا بصفتها وسيطاً في هذه العملية، ذلك أنها تظل شريكاً استراتيجياً رئيسياً لكل من الهند والصين. ورغم التحديات التي تفرضها الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حافظت الهند على علاقة متوازنة مع روسيا؛ ما يضمن بقاء مكانتها على الساحة العالمية قوية».

في الحقيقة، هذا الوضع مربح لكل من الهند والصين. فبالنسبة للصين، التي تمرّ بفترة ركود اقتصادي، سيكون استئناف النشاط الاقتصادي الطبيعي مع الهند بمثابة مكافأة. وبسبب حروب التعرفات الجمركية مع الولايات المتحدة - التي بدأت مع إدارة دونالد ترمب واستمرت خلال رئاسة جو بايدن - بدت بكين حريصة على استئناف العلاقات الاقتصادية مع نيودلهي، بينما يواصل القادة الميدانيون العسكريون والدبلوماسيون مناقشة وحل السقطات التي وقعت عام 2020، وهذا رغم إصرار نيودلهي على عدم استئناف العلاقات الطبيعية مع بكين إلى حين تسوية القضايا العالقة منذ وقوع المواجهات العسكرية ذلك العام.

في هذه الأثناء، تراقب واشنطن التطوّرات. وفعلاً صرّح ناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، بأن واشنطن تتابع هذه التطورات (في العلاقات الهندية – الصينية عن قرب». لكن الوزارة لم تذكر ما إذا كانت نيودلهي قد أبلغت واشنطن - الشريك الجيوسياسي الرئيسي – بالاتفاق.

في هذا السياق، نشير إلى أنه منذ مواجهات عام 2020، عززت نيودلهي علاقاتها مع واشنطن لمواجهة ما تعتبره الدولتان «تحركات بكين العدوانية ضد جيرانها». وجرى تسليط الضوء على هذه العلاقة المتعمقة من خلال توقيع «اتفاقيات التعاون الدفاعي»، بما في ذلك تقارير عن تبادل المعلومات الاستخباراتية.

ومع ذلك، ظهرت مخاوف في واشنطن بشأن التقارب المتزايد بين نيودلهي وموسكو، وخصوصاً في خضم الضغوط الغربية لعزل الرئيس بوتين دولياً، في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا.

من جانب آخر، من وجهة نظر الصين، فإن القضاء على أسباب الانزعاج من الهند قد يجعل الفلبين نقطة الاشتعال الرئيسية بسبب مطالبات إقليمية متضاربة. (إلى جانب تايوان، التي تدّعي الصين أحقية السيادة عليها). أما الهند فترى أن تحقيق انفراج في العلاقات مع الصين، أمر بالغ الأهمية؛ لأنه يتيح لها مساحة أكبر للمناورة التفاوضية مع شركائها الغربيين، خصوصاً واشنطن، في أعقاب التوتر الدبلوماسي مع كندا.