هيدغر: آلام الوجود... وغموض البرهان

ابن صانع البراميل الذي شغل العالم

مارتن هيدغر
مارتن هيدغر
TT

هيدغر: آلام الوجود... وغموض البرهان

مارتن هيدغر
مارتن هيدغر

لم يدر بخلد «فريدريش» صانع البراميل في «مسكرش» تلك المقاطعة الصغيرة من (بادن) في ألمانيا، أن ولادة ابنه هيدغر في 20 سبتمبر (أيلول) 1889 ستكون حدثا من أحداث التاريخ. فقست هذه المقاطعة عن فيلسوف عريق أشعل الأسئلة الكبرى منذ مطلع القرن العشرين، جاء الابن من نسل صانع البراميل، وأيضا أمين خزانة كنيسة القديس مارتن ليحفر اسمه مؤسسا للوجودية بالمعنى العميق الذي شغل العالم وغير من مفاهيم الفكر والفلسفة، وجددت من عدة المفاهيم نحو البحث في الوجود.
ألقى موقفه من النازية ظلالا كثيفة على اسمه، مما حدا بفيلسوف زميل وصديق له في تقييم كتبه في جامعة فرايبورغ في نهاية عام 1945 إلى أن يكتب عنه لـ«لجنة التطهير السياسي» وجاء فيه:«عقلية هيدغر في ماهيتها غير حرة تماما، بل ديكتاتورية وغير تواصلية»، وهذه الرؤية علق عليها يورغن هابرماس في بحثه «مارتن هيدغر - عمله ونظرته إلى العالم» ولينتقد هابرماس ياسبرز عادًّا شخصيته هو غير تواصلية أيضا.
كانت شخصية هيدغر أسطورية بين طلابه كما سنشير إلى أوصافهم له، وكانت حياته هي فلسفته، غير أن الأهم موضوع فلسفته وجوهرها. ربما كان كتابه «الكينونة والزمان» الصادر لأول مرة عام 1927 من بين أهم كتبه، بالإضافة إلى شروحاته ومحاضراته، من بينها كتابه عن «الشيء في ذاته» حافرا في مقولة كانط. وكتابه الذي يعد أبرز دراسة فلسفية عن نيتشه وذلك في مجلدين، ودراسة في المقارنة بين مذهبي هيغل وشلنغ، بالإضافة إلى محاضرات في مناقشة مفاهيم وفلسفات كانت تشغله وضمن حيز التدريس، أما أعماله الكاملة التي بدأت في الظهور عام 1975 فزادت على مائة مجلد.
فيلسوف ألف في «العمل الفني» وفي «الشعر»، وله قصائد ونصوص، وله أطروحات في مجالات متعددة، مثل قامة كهذه يصعب أن تختزل، غير أن شرح بعض المفاهيم المطروحة ضمن فلسفته الواسعة سيكون مثمرا في مثل هذه المساحة.
كانت مهمة هيدغر أن يغير من أساليب البحث الفلسفي حول «الوجود» ومشكلاته، فتجاوز الدرس التقليدي، وتجاوز أستاذه إدموند هوسرل الذي نفى أن تكون فلسفته يمكن أن تولد نزعة وجودية. تجاوز طريقة البحث التي تقوم على القبض على الوجود المطلق ومن ثم يجري تحديد الموجودات الأخرى.
مطاع صفدي في دراسة له عن «الكينونة المنسية» ضمن كتابه «استراتيجية التسمية» يشرح أن «هيدغر انطلق أولا من تحديد معنى الوجود الإنساني، وتحليل صيغه، بصورة لم يسبق أن عرفت الفلسفة»، عادًّا تحليل وجود الإنسان هو الوسيلة الوحيدة، والحقيقية، التي يمكنها أن تطلعنا على حقيقة الوجود المطلق. غاية الفلسفة في كتابه «الكينونة والزمان» أن تحدد مشكلة الوجود والكينونة الشاملة.
يكتب هيدغر في مقدمة كتابه «الكينونة والزمان» مقدمة عن «عرض السؤال عن معنى الكينونة، وفي ضرورة مسألة الكينونة وبنيتها وأوليتها، في ضرورة معاودة صريحة للسؤال عن الكينونة» يقول فيه: «وليس يمكن في هذا البحث أن تبين بالتفصيل الأحكام المسبقة التي تزرع وترعى دوما من جديد عدم الحاجة إلى سؤال عن الكينونة، فإن لها جذورها في صلب الأنطولوجيا القديمة نفسها». وفي الصفحة التالية يقارب مفهوم الكينونة بأنها «التصور المفهوم بنفسه، فإن في كل معرفة وتلفظ في كل سلوك إزاء الكائن، في كل سلوك إزاء - ذات - أنفسنا إنما يجري استعمال الكينونة، والعبارة هي بذلك مفهومة بلا أي زيادة فكل يفهم السماء (هي) جميلة، أنا (كائن) مبتهج وماشابه ذلك»، غير أن هذه المقاربة، بحسبه، «لا تبرهن إلا على عدم المفهومية»، بل رأى أن «أي تصور للكينونة إنما هو غير قابل للتعريف، وهذا يستنتجه المرء من كليته القصوى».
يعلق فتحي المسكيني مترجم كتاب هيدغر: «المفقود (في تعريف الكينونة) ليس هو المفقود فقط، بل طرح السؤال على نحو مناسب».
ربما كان من أشهر المعرفين بالفلسفة الألمانية خاصة في عصره وبالفلسفة الوجودية تحديدا وبفلسفة هيدغر هو الوجودي الراحل عبد الرحمن بدوي، الذي كان معجبا بهيدغر على مستوى الحياة والنزق والبعد عن الآخرين، وعلى مستوى طريقة التأليف كما نرى في كتاب بدوي «الزمان الوجودي» أطروحته التي نشرها عام 1945. وبدوي يشرح هيدغر ببساطة على أن: «المنهج الذي استخدمه هيدغر في سبيل إيضاح معنى الوجود هو الإشارة Aufweisung لأن الوجود لا يقبل البرهان للتدليل عليه، بل الإيضاح والكشف وذلك بالإشارة إليه، ذلك أن الوجود اسم مشترك بين كل الأشياء الأحياء، وهو يشمل السائل نفسه الذي يسأل عن معنى الوجود، ومن المستحيل النظر إليه من الخارج، أو استنباطه من شيء أسبق، لأنه لا شيء أسبق عليه، فهو يقوم بتمييز أساسي بين ميدان الوجود، وميدان الموجود، أو بين الوجودي (الأنطولوجي) وبين الموجودي ontisch فالأنطولوجي يرجع إلى ما يجعل الموجود موجودا، أي يرجع إلى تركيبه الأساسي، أما الموجودي فيشمل الموجود كما هو معطى».
حاول هيدغر تحويل وظيفة الفلسفة لجهة علاقتها بالميتافيزقيا، فهو ناحت المفهوم الأشهر في القرن العشرين «التقويض» الذي أيقظ شرر النار لفلسفات «الاختلاف» وبخاصة «التفكيك»، يكتب هيدغر: «إن الذي يفكر في حقيقة الوجود، لا يقتصر على الميتافيزقيا، بيد أن هذا لا يعني أنه يفكر ضد الميتافيزقيا، وإذا أردنا أن نستعمل عبارة مجازية لقلنا إنه لا يجتث شجرة الفلسفة، ولا يقتلعها من جذورها، إنه يقلب الأساس ويفلح الأرض، إن الميتافيزقيا تظل أول مادة للفلسفة، بيد أنها لا تبلغ أن تكون المادة الأولى للفكر، ذلك أن الفكر الذي يفكر في حقيقة الوجود مرغم على أن يتجاوز الميتافيزقيا».
من مفاهيم هيدغر الخاصة «الدازاين» أو الإنسان في العالم، وبغض النظر عن ممكنات الدلالة التي تمحضها الترجمة، غير أنه يعد مصدر قلق الإنسان خوفه من إدراك وجوده، لهذا يقتصر إدراكه للوجود على «حاجاته اليومية» ومن ثم ينسى «الوجود الحقيقي» بالارتباط بـ«الوجود الزائف» الذي يعتمد على الثرثرة والاستطلاع وحب الفضول، والعيش كما يعيش كل من نسي وجوده ضمن «الهم» أي الجموع، في المادة التالية سأتطرق إلى جانب من شخصيته وفلسفته في الحياة، فلسفته التي عاشها كل لحظة، وكل يوم.

* كاتب وباحث سعودي
عضو مؤسس لحلقة الرياض الفلسفية



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.