السعودية: عين زبيدة تجسيد لبراعة الهندسة الإسلامية منذ 1200 عام

استغرق إنشاؤها 10 سنوات وتضم 51 خزانًا للمياه تحت الأرض

عين زبيدة - منظر جانبي لعين زبيدة  (تصوير: أحمد حشاد)
عين زبيدة - منظر جانبي لعين زبيدة (تصوير: أحمد حشاد)
TT

السعودية: عين زبيدة تجسيد لبراعة الهندسة الإسلامية منذ 1200 عام

عين زبيدة - منظر جانبي لعين زبيدة  (تصوير: أحمد حشاد)
عين زبيدة - منظر جانبي لعين زبيدة (تصوير: أحمد حشاد)

تبرز عين زبيدة التي تقع أسفل جبال الحجاز، مثالاً على تميز الهندسة المعمارية الإسلامية في العصر العباسي التي تمكنت من جر المياه من وادي نعمان إلى مكة المكرمة قبل نحو 1200 عام، لتنهي معاناة الناس وقتها في تأمين الماء أثناء أداء شعيرة الحج.
وقال المؤرخ السعودي الدكتور فواز الدهاس لـ«الشرق الأوسط» إن «عين زبيدة شاهدة على براعة الهندسة المعمارية الإسلامية، وكيف استطاع المسلمون حساب النسبة والانسيابية العجيبة للمياه إلى مكة المكرمة في ذلك الوقت».
وتعد «عين زبيدة» التي تنسب إلى زبيدة بنت جعفر بن المنصور زوجة هارون الرشيد، أبرز الخلفاء العباسيين، أول مشروع مائي، وتشكل نموذجًا فريدًا للهندسة الإسلامية في ذلك الزمان.
كما تنحدر العين من وادي نعمان أسفل جبال الحجاز عبر قنوات مائية يصل عمقها إلى 40 مترًا تحت الأرض ومبنية من الحجر المخرم، تم تشييدها بطريقة دقيقة بحيث تصل إلى المشاعر المقدسة على سطح الأرض ويرتوي منها الحجاج مباشرة.
وأشار الدهاس إلى أن مكة المكرمة قليلة الماء منذ عهد إبراهيم عليه السلام، حتى أغاثها الله بزمزم، وتابع: «عندما جاء عهد الدولة العباسية أرادت السيدة زبيدة أن توصل الماء إلى مكة، فمدت أولاً (عين حنين) وهي (الشرائع) اليوم، حيث اشترت كثيرا من الآبار والعيون في هذه المنطقة ومدت الأنابيب وحولت مياهها إلى الحرم، وبعد فترة من الزمن لاحظوا أن هذه العين لا تفي بالغرض ولا تسد حاجة الحجاج والمعتمرين والقادمين إلى مكة المكرمة، ففكروا في مد المياه من جبال الهدا بوادي نعمان المشهورة بأمطارها الغزيرة».
ولفت إلى أن زبيدة أمرت بعمل حياض أو سدود لجمع المياه في تلك الجبال، ثم مد الأنابيب من هذه المنطقة حتى تصل إلى مكة بطريقة عجيبة، وعندما وصلت المشاعر التفت حول جبل الرحمة بحيث تسقي الحجاج في عرفات، ثم بدأت تسير محاذية للجبال متجهة إلى مكة المكرمة.
وأردف: «العجيب في الأمر كيف استطاع مهندسو ذلك الزمن أن يدرسوا انسيابية الماء في منطقة جبلية مثل مكة المكرمة، لكنهم أبدعوا في هذا، وأصبحت عين زبيدة هي العين التي تغذي مكة حتى عهد قريب بالمياه، ولا تزال آثارها موجودة لليوم على الطريق الواصل بين الطائف ومكة المكرمة».
ومن أعمال «زبيدة» أيضا بناء أحواض لسقاية الحجاج خلال دربهم من بغداد إلى مكة، فيما عرف بـ«درب زبيدة» تكريمًا لها.
وتنحدر المياه إلى المشاعر المقدسة عبر القنوات وصولاً إلى «البازانات» (خزانات تحت الأرض) ويصل عددها إلى نحو 51 في مكة المكرمة. واستغرقت عملية البناء نحو 10 سنوات، واضطرت زبيدة إلى بيع كل ما تملك من أجل إكمال هذا المشروع الحيوي لتوصيل المياه.
وقال المؤرخ فواز الدهاس: «عندما انتهت زبيدة من هذا المشروع، جمعت المهندسين والعلماء والبنائين وكل من عمل فيه لتعطيهم حقوقهم، وجاءوها بالدفاتر والسجلات بما صرف في المشروع، فقالت لهم: (اتركوا الحساب ليوم الحساب. من بقي لديه شيء من حقنا فهو له، ومن بقي له شيء عندنا سيأخذه».
وتشير بعض الروايات إلى أن زبيدة رمت بالسجلات والدفاتر التي تضم تكاليف المشروع في نهر دجلة ولم تقرأها.
وأوضح الدهاس أن الملك عبد العزيز - رحمه الله - وجد أن هنالك حاجة ماسة للمياه، بعد أن قلت المياه في عين زبيدة مع الزمن وأصبحت لا تفي بالغرض مع زيادة الكثافة السكانية والتقلبات الجوية، لأن مصدرها الأمطار، فأنشأ «عين العزيزية» التي تعتمد على الآبار في الأودية حول مكة المكرمة، ثم أصبحت لا تفي، فاتجهت الدولة لتحلية مياه البحر، وأصبحت مصدرًا أساسيًا لمياه مكة المكرمة.
وكانت العين تضخ بين 30 و40 ألف متر مكعب يوميًا، أي ما يعادل 3 إلى 4 آلاف شاحنة يوميًا، وأعيد ترميم العين من قبل كريمة السلطان سليمان خان (خانم سلطان) إبان الحقبة العثمانية عام 1571، كما تناوب على عمليات الترميم عدد من حكام البلاد الإسلامية خلال 1200 عام بعدما دهمتها السيول مرات عدة.
وأمر الملك عبد العزيز - رحمه الله - بإنشاء هيئة خاصة لـ«عين زبيدة»، وجعل لها تنظيمًا إداريا وماليًا، كما رمم البازانات، وكان ذلك أواخر أربعينات القرن العشرين.
وأمرت زبيدة بعدد من الأوقاف الإسلامية في مكة المكرمة من أجل ضمان استمرارية عطائها في سقي الحجاج والمعتمرين بعد وفاتها، وهذه الأوقاف لا تزال موجودة حتى اليوم، وهناك دراسات لترميمها وإصلاحها.
وتعمل الحكومة السعودية حاليًا على إجراء كثير من الدراسات لإعادة إحياء «عين زبيدة» والاستفادة منها بشكل أكبر خلال السنوات المقبلة.
يذكر أن كميات المياه التي توزعها المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة بمكة المكرمة والمشاعر المقدسة خلال موسم الحج، تصل لأكثر من 18 مليون متر مكعب، بحسب بيانات رسمية.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».