الادعاء الفرنسي يحيل الرئيس السابق إلى المحاكمة

المشهد السياسي الفرنسي قبل ثمانية أشهر من الانتخابات الرئاسية يعتبر الأكثر تعقيدًا منذ عقود

الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أثناء خطاب له في إطار حملة حزبه الانتخابية (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أثناء خطاب له في إطار حملة حزبه الانتخابية (أ.ف.ب)
TT

الادعاء الفرنسي يحيل الرئيس السابق إلى المحاكمة

الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أثناء خطاب له في إطار حملة حزبه الانتخابية (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أثناء خطاب له في إطار حملة حزبه الانتخابية (أ.ف.ب)

وقع قرار الادعاء العام في باريس الذي كشف النقاب عنه أمس بإحالة الرئيس السابق وأحد أبرز مرشحي اليمين إلى محكمة الجنح بتهمة التمويل غير المشروع لحملته الانتخابية للعام 2012 وقع الصاعقة على نيكولا ساركوزي. وسارع محاميه تييري هرتزوغ إلى اتهام السلطة الاشتراكية باللجوء إلى «المناورة» السياسية، باعتبار أن النيابة العامة «أي الادعاء» تتبع وزارة العدل لا بل ذهب مقربون من الرئيس السابق إلى العودة لنغمة وجود «مجموعة ظل» في قصر الإليزيه غرضها قطع الطريق على ساركوزي ومنعه من خوض الانتخابات الرئاسية باستخدام سيف القضاء. وبحسب هرتزوغ، فإن توقيت نشر الخبر «ليس بريئًا» خصوصًا أن قرار الادعاء صدر يوم الأربعاء الماضي، وسرب أمس ليتزامن مع بدء محاكمة الوزير السابق جيروم كاهوزاك بتهمة التهرب الضريبي ومخالفة القوانين المالية، وبالتالي فإن غرضه «التغطية على فضائح الاشتراكيين».
ويأتي قرار النيابة العامة المطالب بإحالة ساركوزي، و13 شخصًا آخرين، إلى المحاكمة في ظل معركة حامية بل دامية يخوضها أقطاب اليمين المتمثل بحزب «الجمهوريون» للفوز بترشيح الحزب للانتخابات الرئاسية ربيع العام القادم. وينافس ساركوزي الراغب بالعودة إلى قصر الإليزيه بعد أن «طرده» منه الرئيس الحالي فرنسوا هولاند عام 2012، شخصيات يمينية من الطراز الأول أخطرها رئيس الوزراء الأسبق ووزير الخارجية السابق، ألان جوبيه، الذي يتقدم على ساركوزي في استطلاعات الرأي. ويجاور جوبيه رئيس الوزراء السابق فرنسوا فيون الذي شغل لخمس سنوات منصب رئيس حكومات ساركوزي بين العامين 2007 و2012. ثم يتعين الإشارة إلى «النجم الصاعد» في حزب «الجمهوريون» وزير الزراعة السابق برونو لومير، والوزيرة السابقة ناتالي كوسيوسكو موريزيه وآخرين، بحيث يبلغ مجموع مرشحي اليمين الكلاسيكي 13 مرشحًا. إلا أن القاعدة التي تلزم كل مرشح بالحصول على تزكية 250 نائبًا ومستشارًا بلديًا وإقليميًا، فضلاً عن تزكية 2500 محازب من كل المناطق الفرنسية ستحول دون مشاركة ما لا يقل عن عشرة مرشحين، بحيث ينحصر السباق بالأربعة الأوائل «ساركوزي، جوبيه، فيون، لو مير وكوسيوسكو موريزيه، وربما رئيس الحزب السابق جان فرنسوا كوبيه». لكن يبدو بوضوح ووفق استطلاعات الرأي العام أن السباق سيكون بين ساركوزي وجوبيه. وحتى اليوم، يبدو الثاني أوفر حظًا. إلا أن الأول آخذ في قضم الفارق، ما يعني أن الفوز بترشيح الحزب ليس محسومًا.
ويجمع المراقبون على أن «دموية» المعركة عائدة لليقين المتجذر من أن المرشح اليميني الذي سيفوز في الانتخابات التمهيدية سيكون الرئيس الفرنسي القادم. والسبب في ذلك تراجع شعبية الاشتراكيين وعلى رأسهم الرئيس فرنسوا هولاند الذي يبدو عازمًا على الترشح. وبما أن شعبيته في الحضيض فإنه لن يكون قادرًا على التأهل للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في شهر مايو (أيار) / من العام القادم. ولذا، فإن المرجح جدًا أن تجري المنافسة بين مرشحة اليمين المتطرف مارين لو بن، زعيمة الجبهة الوطنية التي تضعها استطلاعات الرأي في الموقع الأول، في دورة الانتخابات الأولى، وبين مرشح اليمين الكلاسيكي، أكان ذلك جوبيه أو ساركوزي. من هنا، فإن قرار النيابة العامة الفرنسية يعد ضربة قد لا تكون قاصمة للرئيس السابق، لكنها تضعفه وتعيد إلى الواجهة الفضائح التي رافقت عهده، والتي تصيب الكثير من الشخصيات التي كانت مقربة منه.
تعرف الفضيحة التي تكاد تدفع ساركوزي إلى باب المحكمة بـ«فضيحة بيغماليون»، وهو اسم الشركة التي كانت مسؤولة عن إعلام الرئيس السابق، وعن تنظيم مهرجاناته الانتخابية بالتعاون مع فريق حملته. وبموجب القوانين الانتخابية، فإن سقف المصاريف الخاصة الحملة الانتخابية الرئاسية لا يجب أن تتخطى سقف الـ22.5 مليون يورو. وبما أن حملة ساركوزي تجاوزت السقف الرسمي، فإن الشركة عمدت إلى إصدار فواتير «وهمية» موجهة لحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، وهو الاسم السابق لحزب «الجمهوريون». وعثر المحققون على وثائق تبين أن ساركوزي كان «على علم» بهذه التجاوزات التي من شأنها أن تقود مرتكبها إلى السجن. وفي أي حال فإن اللجنة القانونية المكلفة بالتدقيق في الحسابات الانتخابية رفضت، قبل شيوع خبر الفضيحة، المصادقة على حسابات ساركوزي؛ لأنها تجاوزت السقف بعشرات الآلاف من اليورو.
هكذا يبدو المشهد السياسي على مسافة 8 أشهر من الانتخابات الرئاسية الأكثر تعقيدًا منذ عقود، حيث تتداخل المزايدات، فيما لم يعد يعرف الناخب العادي التمييز بين برامج هذا وذاك. أما مصير ساركوزي فإنه في يد قضاة التحقيق الذين يعود لهم إما إرساله إلى المحاكمة أو إغلاق الملف. ولن يترك ساركوزي الوسائل القانونية لتأجيل المحاكمة أو الاستئناف أو الضغوط السياسية لإزالة العوائق التي تحول دون حلم العودة رئيسًا لمرة ثانية.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟