«الاستثناء التونسي» والفرصة الأخيرة

حرب ليبيا والتهريب والإضرابات أولويات حكومة «الوحدة الوطنية» الجديدة

رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)
TT

«الاستثناء التونسي» والفرصة الأخيرة

رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)

خلافا لما ورد في أغلب التقارير الإعلامية، نجح الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي وشركاؤه في الأحزاب والنقابات الكبرى في إنجاح مبادرته السياسية التي أعلن عنها قبل 3 أشهر التي دعا فيها إلى تشكيل حكومة «وحدة وطنية» تذكر بالحكومات الأولى التي شكلها الحبيب بورقيبة زعيم تونس الراحل بعد الاستقلال عن فرنسا. وخلافا لتوقعات المتشائمين والمعارضين اليساريين والنقابيين صوت لصالح هذه الحكومة ثلاثة أعضاء البرلمان بينهم نواب يمثلون أحزابا رفضت المشاركة في تشكيلتها.
وخلافا لتشكيلة الحكومات السابقة عُين على رأس هذه الحكومة وزير شاب في الأربعين من عمره ينتمي إلى حزب الرئيس، كما اختارت الأحزاب لتمثيلها فيها سياسيين من بين «المعتدلين» الذين لم يكونوا طرفا في الصراعات الآيديولوجية والسياسية وأعمال العنف التي شهدتها البلاد في العقود الماضية. فهل تنجح هذه الحكومة في تحقيق الأهداف التي تشكلت من أجلها وعلى رأسها معالجة ملفات الإرهاب ومضاعفات الحرب مع ليبيا واستفحال العجز التجاري وعجز كبرى المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التابعة للدولة؟ وهل تنجح تونس - من خلال حكومة يوسف الشاهد في إثبات صواب «النموذج التونسي للانتقال الديمقراطي السلمي وللتوافق بين الليبراليين واليساريين المعتدلين والإسلاميين الديمقراطيين» أم يحصل العكس؟

تتباين المواقف والتقديرات في صفوف المراقبين والباحثين التونسيين هذه الأيام بين متفائل ومتشائم ومتعامل بحذر مع «الطبخة التونسية الجديدة».
ولعل من أبرز مفارقات هذه الحكومة، التي هي التاسعة منذ انفجار «الربيع العربي»، أن بعض منتقديها والمتخوفين من إخفاقها ينتمون إلى قيادات النقابات والأحزاب المشاركة في تشكيلتها.
لكن حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي لحزب «نداء تونس»، ونور الدين البحيري، نائب رئيس حزب «حركة النهضة» الإسلامي ورئيس كتلته في البرلمان، يؤكدان مع عدد آخر من الساسة والنقابيين وزعماء الأحزاب الصبغة التاريخية للتحالف الحكومي الجديد الذي ضم لأول مرة ليبراليين وشخصيات من نظام زين العابدين بن علي ورموزا من التيارات اليسارية والنقابية «المتشددة» وقيادات من تيار «المسلمين الديمقراطيين» من خريجي الجامعات الأوروبية والأميركية.
* ورقة رابحة؟
ويفتخر يوسف الشاهد، رئيس الحكومة الجديدة، بكونه نجح في الحصول على ثقة البرلمان في فريق يضم لأول مرة زعماء نقابيين بارزين بينهم الوزراء الجدد للشؤون الاجتماعية والوظيفة العمومية والتربية والتعليم والزراعة، وهم على التوالي محمد الطرابلسي وعبيد البريكي وناجي جلول وسمير الطيب. كما يفتخر رئيس كتلة حزب «نداء تونس» في البرلمان سفيان طوبال بكون رئيس الحكومة الجديد ينتمي بوضوح للقيادة العليا لحزبه، الذي كان الفائز بالمرتبة الأولى في انتخابات 2014. خلافا لسلفه الحبيب الصيد الذي كان يصنف «مستقلا» رغم أنه كان وزيرا للداخلية في حكومة الباجي قائد السبسي الأولى عام 2011. وينوه قياديون في الحزب نفسه بكون نوابه الـ67 والمنشقين عنه الـ22 دعموا سياسيا رئيس الحكومة الجديد يوسف الشاهد، بما حسن موقعه التفاوضي مع منافسيهم الرئيسيين نواب «حركة النهضة»، وفي المقابل حسنت «الحركة» حجم تمثيلها في التشكيلة الجديدة «لكنها بقيت في الصف الثاني بعد حزب قائد السبسي رغم كونها أصبحت صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان بـ69 مقعدا»، على حد تعبير الأكاديمي والمحلل السياسي عبد اللطيف الحناشي.
* الدولة أولاً
تصريحات راشد الغنوشي زعيم حزب «حركة النهضة»، الذي خرج بـ6 حقائب وزارية بينها الصناعة والتجارة والاتصالات والاقتصاد الرقمي، شددت على أن مفاوضاته مع الرئيس التونسي قائد السبسي ومع رئيس الحكومة المعين يوسف الشاهد حول توزيع الحقائب «أعطت الأولوية لمصالح الدولة على المصالح الحزبية». ولذلك دعم الحزبان الكبيران - النداء والنهضة - بقوة مبدأ عدم تغيير وزراء الدفاع والداخلية والخارجية والتربية، كما وافقا على إشراك قيادات من نقابات العمال ورجال الأعمال والفلاحين «بهدف توجيه رسالة طمأنة للشعب التونسي والمستثمرين والمراقبين العرب والأجانب حول بروز مؤشرات جديدة للإصلاح واستقرار الأوضاع في البلاد». والموقف نفسه الذي يؤكد «انتصار المصالح العليا للدولة على الاعتبارات الحزبية» برز على لسان برلمانيين من عدة أحزاب وثلة من مستشاري قائد السبسي ومقربين منه، بينهم فيصل الحفيان ورؤوف الخماسي ونور الدين بن نتيشة. ودعم هذا التوجه بشكل غير مسبوق أمين عام اتحاد نقابات العمال حسين العباسي، ورئيس نقابات الفلاحين عبد المجيد الزار، ورئيس نقابة الصناعيين والتجار وداد بوشماوي، فضلا عن قادة الأحزاب الصغرى المشاركة في الائتلاف الحكومي الجديد.
* استبعاد «الصقور» و«المناضلين»
لعل من أهم مميزات الحكومة الجديدة أن الشخصيات التي تمثل الأحزاب فيها لا تصنف ضمن «الصقور» و «المناضلين» و «الزعماء التاريخيين» «خلافا للحكومات المتعاقبة منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2014، فقد وقع تمثيل حزب قائد السبسي بـ«تكنوقراط» من بين المقربين منه ليس بينهم أحد المؤسسين للحزب قبل 4 سنوات، بعد سلسلة الاستقالات والإقالات التي شملتهم. كما اختار زعيم «النهضة» راشد الغنوشي أن يكون ممثلوه في هذه الحكومة سياسيين من «الجيل الجديد» ليس بينهم أي عضو من «القيادة التاريخية» لمرحلة «سنوات الجمر» ومرحلة الصراع الطويلة بين التيار الإسلامي ونظامي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي في العقود الماضية.
ولقد أسندت الحقيبة الأهم من حصة «النهضة» أي الصناعة والتجارة للأمين العام الجديد للحزب زياد العذاري، وهو محام في العقد الخامس من عمره من بين خريجي جامعة باريس - السوربون الفرنسية - ممن لم يسبق لهم أن عرفوا السجون والمنافي والمعارك مع النظام، كما أسندت حقيبة التشغيل إلى الناطق الرسمي السابق للحركة وهو برلماني سابق عرف باعتداله ودفاعه عن خيار «المصالحة الوطنية الشاملة» ويرفض تصنيف حركته ضمن تيار «الإسلام السياسي» العربي ويعتبرها تيارا من «المسلمين الديمقراطيين» على غرار الأحزاب «المسيحية الديمقراطية» في أوروبا.
وقد عوّض العذاري في هذا المنصب رئيس الحكومة الأسبق علي العريّض الذي حوكم بالإعدام والمؤبد أكثر من مرة في عهد بورقيبة وبن علي وقضى 16 سنة في السجن قبل أن يشغل رئاسة الوزراء بعد تولي «النهضة» السلطة ضمن ترتيب الشراكة الوطنية.
في المقابل، استبعد يوسف الشاهد من حكومته زعماء أحزاب حرصوا على المشاركة فيها، مثل ياسين إبراهيم زعيم حزب «آفاق» وسليم الرياحي زعيم «الحزب الوطني الحر» واكتفى بتعيين شباب وسياسيين من الصف الثاني يمثلونهما.
هذا، ونسبت مصادر مسؤولة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى الرئيس قائد السبسي حرصه على أن تكون «حكومة الوحدة الوطنية» ممثلة لأغلب التيارات والقوى السياسية دون أن تتطور إلى «ناد لكبار الزعماء الحزبيين» بما قد يهدد تماسكها بعد مدة على غرار ما حصل مرارا في بعض حكومات لبنان وإيطاليا.
* قطيعة مع المناضلين
هذا التوجه يتناسق مع ترفيع نسبة الشباب والنساء في الفريق الحكومي لتبلغ نحو نصف أعضائها. إذ ينتمي الوزراء ووزراء الدولة الشبان إلى كل التيارات بما في ذلك الحزبين الكبيرين - النداء والنهضة - اللذين يتحكمان في ثلثي مقاعد البرلمان، لكن بعض السياسيين مثل مصطفى بن أحمد، البرلماني القيادي في حزب مشروع تونس الذي لديه 22 نائبا، يحذر من مخاطر الرهان على الشباب الذين قد لا تتوفر فيهم شروط الخبرة والكفاءة والنزاهة والإخلاص للوطن. وسار في التوجه نفسه سامي الطاهري الناطق الرسمي باسم اتحاد نقابات العمال. وفي هذا السياق حذر مراقبون ومختصون في علم الاجتماع السياسي، مثل المنصف وناس من سيناريوهات قد تواجه الوزراء والجيل الجديد من السياسيين في صورة اندلاع اضطرابات شبابية واجتماعية وأمنية جديدة. وعلى رأس تلك السيناريوهات وصول البلاد إلى مرحلة يعجز فيها «التكنوقراط» و «السياسيون الشبان والنساء» عن إقناع الشباب المهمش والثائر والعاطلين عن العمل والمضربين بسبب غياب «الكاريزماتية» والقدرة على الإقناع لديهم. ويعتقد عالم الاجتماع المهدي مبروك أن «استبعاد جيل المناضلين من القيادات السياسية والشخصيات الكاريزماتية سلاح ذو حدين، لأن الأوساط الشبابية والشعبية والنقابية تحتاج إلى زعماء قادرين على قيادتهم وليس إلى مجرد تكنوقراط وفنيين وشباب متخرج من الجامعات الأوروبية والأميركية.
* ملفات الأمن والإرهاب
إلا أن من أبرز التحديات التي سوف تحكم لصالح هذه الحكومة أو ضدها ملفات التنمية المستعجلة والأمن والإرهاب وانعكاسات حرب ليبيا على تونس. وفي هذا الإطار أكد خميس الجهيناوي، وزير خارجية تونس، «ألا نجاح ولا استقرار في تونس إذا لم تحسم الحرب في ليبيا وإذا تجددت التهديدات الإرهابية خصوصا في المناطق الحدودية». ورغم نجاح الحكومة السابقة في توجيه ضربات موجعة للمجموعات الإرهابية التي تسللت من حدود البلاد الجنوبية والغربية، بالشراكة مع الجزائر وعواصم غربية، فإنه يبقى خطر تجدد أعمال العنف السياسي واردا.
وللعلم، تزامن تشكيل حكومة يوسف الشاهد والأيام الأولى من تنصيبها بسلسلة من الهجمات والعمليات الإرهابية التي قتل فيها عسكريون ومدنيون في غابات جبال المحافظات المتاخمة للحدود الجزائرية التونسية. ويكشف تجدد مثل هذه الهجمات بعد نحو عام من التهدئة عن تشابك الأوضاع في تونس بالمستجدات الأمنية في جارتها ليبيا وفي عمقهما الاستراتيجي العربي والأفريقي، حيث تؤكد التقارير العسكرية والأمنية تضاعف عدد «المسلحين المتطرفين» الفارين من نيران الحروب مع مقاتلي «داعش» وحلفائه في سوريا ومالي ونيجيريا وتشاد.
* الوضع المالي
من جهة أخرى تعتبر التحديات الاقتصادية الاجتماعية بدورها من أخطر ما يواجه «الاستثناء التونسي»، حسب محافظ البنك المركزي السابق مصطفى كمال النابلي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»؛ إذ حذر النابلي مع اقتصاديين وخبراء مستقلين آخرين من مخاطر «عدم مصارحة الشعب والنقابات ورجال الأعمال بحقيقة المصاعب الاقتصادية التي تواجه البلاد، ومن بينها عجز ميزان المدفوعات والعجز التجاري وتراكم الديون الخارجية وعجز كثير من المؤسسات الوطنية، مثل الصناديق الاجتماعية وشركات الطيران والنقل البري ومؤسسات الفوسفات والأسمدة الكيمياوية والمصانع المصدرة.
بل إن الخبيرة الاقتصادية، جنات بن عبد الله، تحذر من وصول البلاد في عهد الحكومة الجديدة لأول مرة إلى مرحلة «العجز عن احترام تعهداتها المالية، بما في ذلك العجز عن تسديد الرواتب والأجور بعدما تضاعف حجم الأجور في ميزانية الدولة 3 مرات منذ ثورة 2011 في مرحلة تراجع فيها الإنتاج والإنتاجية والاستثمار».
ولقد كان الخطاب الافتتاحي لرئيس الحكومة الجديد أمام البرلمان مناسبة أطلق فيها صيحات فزع بسبب «الخطوط الحمراء الاقتصادية والاجتماعية» ومن بينها تراجع موارد الدولة من صادرات الفوسفات بسبب الإضرابات إلى نحو 30 في المائة فقط من قيمتها قبل 5 سنوات. لكن الشاهد بدا رغم ذلك متفائلا بـ«نجاح تونس الجديدة» و «النموذج التونسي للتغيير السلمي» رغم إقراره بتأثيرات الحرب في ليبيا والمحيط الإقليمي المتقلب «الذي تزايدت فيه مخاطر العنف السياسي والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة».
* أوضاع هشة
وهكذا، بسبب تراكم التحديات الاقتصادية والمالية تبدو الأوضاع في تونس في عهد الحكومة الجديدة هشة رغم رسائل التطمين التي وجهتها الأحزاب الكبرى وثلاثة أرباع أعضاء البرلمان الذين صوتوا لفائدتها، بل إن وزير المالية السابق والأكاديمي حسين الديماسي ذهب إلى حد توقع «انهيار قريب» لهذه الحكومة بسبب «الإفراط في الانفتاح على الأحزاب». واعتبر الديماسي مع عدد من السياسيين التونسيين، بينهم وزير التجارة السابق محسن حسن، أن «مشاركة 7 أحزاب و3 نقابات في تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية سيؤدي إلى شلل رئيس الحكومة الشاب بسبب صعوبة التوفيق بينها في القضايا المستعجلة والقرارات الوطنية الموجعة التي ستضطر إلى اتخاذها إذا تواصلت الأزمة الاقتصادية، وبينها قرارات بطرد عشرات الآلاف من العمال تشكو مؤسساتهم صعوبات مالية».
أما زعماء اليسار «الراديكالي» وقيادات «الجبهة الشعبية» الممثلة في البرلمان بـ15 نائبا فقد بدأوا مبكرا إصدار تصريحات وبلاغات وتقارير تنذر بـ«انهيار» هذه الحكومة التي يصفونها بأنها «حكومة ترضيات ومحاصصة بين الحزبين الكبيرين النداء والنهضة»، ويتهمونها بـ«التحالف مع صندوق النقد الدولي ومافيات المال الفاسد في الداخل والخارج ضد مصالح العمال والفقراء والمهمشين والشباب».
* الورقة الدولية
في هذا المناخ العام يتابع قادة الأحزاب الكبرى الليبرالية والإسلامية والقومية إعلان تفاؤلهم بانتصار «النموذج التونسي للانتقال السلمي والتغيير الهادئ» بالاعتماد على المجتمع المدني «على غرار ما جرى في صائفة 2013 عندما احتكم الفرقاء السياسيون إلى حوار وطني ساهم فيه قادة المنظمات الحقوقية والنقابية واستبعدوا فيه «الحل العسكري». وهنا يشير وزير الخارجية السابق رفيق عبد السلام إلى أهمية «الورقة الدولية» وتشجيع صناع القرار في عدة عواصم غربية للمسار السياسي التونسي الذي يقوم على «التوافق بين العلمانيين والإسلاميين وبين الليبراليين واليساريين، مع احترام نتائج صناديق الاقتراع والمؤسسات المنتخبة.
فهل تبادر واشنطن والعواصم الأوروبية بتقديم دعم مادي أكبر لتونس حتى تكسب رهانات رفع التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها؟
البداية ستكون من مقر صندوق النقد الدولي في واشنطن الذي تعهد بإسناد حكومة تونس بنحو 3 مليارات دولار من القروض الجديدة لتضمن احترام تعهداتها المالية الداخلية والدولية.. وحتى لا تضطر لإعلان «سياسة تقشف» قد تتسبب في اضطرابات اجتماعية وأمنية واسعة ينهار بسببها «نموذج الانتقال الديمقراطي» و «الاستثناء التونسي للتغيير السلمي».

* أكاديمي وإعلامي تونسي



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.