من التاريخ: ظهور الاتحاد الأوروبي

فيم دفيسنبرغ
فيم دفيسنبرغ
TT

من التاريخ: ظهور الاتحاد الأوروبي

فيم دفيسنبرغ
فيم دفيسنبرغ

تطور مشروع التكامل الأوروبي، كما تابعنا خلال الأسابيع الماضية، من مجرد فكرة لتنسيق السياسات في إطار جماعة الفحم والصلب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى سوق مشتركة بمقتضى «اتفاقية روما» عام 1957، وهو ما فتح المجال أمام توسيع التكامل تدريجيًا دون الانتظار لنقل النجاح من قطاع إلى آخر. إذ رأت الدول الست أن الفرصة مواتية لخلق السوق المشتركة، لضمان الحرية الكاملة للتنقل بين الأفراد ورأس المال، وهو ما بدأ يأتي تدريجيًا.
بعدها رأت بعض الدول الأوروبية غير المنضمة الفرص التي يوفرها مشروع التكامل الأوروبي الجديد، فسعت للانضمام وعلى رأسها بريطانيا، بينما شهدت السوق الأوروبية المشتركة نجاحًا نسبيًا لمؤسساتها ممثلة في المجلس واللجنة والبرلمان والمحكمة الأوروبية. وهذا ما فتح المجال أمام توسيع رقعة التكامل بين الدول ودفع بطموحات الأعضاء إلى خطوات تكاملية إضافية، ليس فقط للإدارة المشتركة لاقتصاداتها، مما دفع السوق الأوروبية لوضع أطر أكبر في هذا الاتجاه.
لعل أهم هذه الخطوات كان التجهيز لاتفاقية إطارية جديدة توسع السلطات المركزية للسوق وتفتح المجال أمام مزيد من التكامل. ولقد قادت ألمانيا وفرنسا هذه الخطوة منذ عام 1984 بدفع فكرة توسيع سلطات المؤسسات الأوروبية، ومطالبة الدول الأعضاء بمراجعة القوانين الداخلية لبناء السوق الداخلية الموحّدة لأوروبا، تمهيدًا لإنشاء الاتحاد الأوروبي بدلاً من الجماعة الأوروبية. وهو ما تمخض عن التوقيع على اتفاقية القانون الأوروبي الموحّد (Single European Act) عام 1987. هذه الخطوة وضعت هدف إنشاء الاتحاد الأوروبي الكامل على أساس كفالة الحريات الأربع كفالة كاملة؛ وهي حرية انتقال الأفراد والأموال والخدمات والسلع بحلول عام 1992. كما طالب بإقامة سياسة خارجية وأمنية مشتركة وأدخل التعديلات اللازمة على «اتفاقية روما»، لتوسيع سلطات المؤسسات الأوروبية وتحريرها، خصوصًا المجلس الذي أصبحت قراراته بالأغلبية المؤهلة بدلاً من الإجماع، وإنشاء نظام قضائي داخلي لتسوية المنازعات. وأضاف إلى سلطات بعض المؤسسات الأخرى على رأسها البرلمان الأوروبي. كما أنشئت مؤسسة لضمان الانصهار الاقتصادي والاجتماعي بين الدول الأعضاء، من خلال تقديم الدعم للدول الأقل نموًا في التجمع، لضمان التزامها بالخطوات المقبلة دون الإخلال بأوضاعها الاقتصادية أو الاجتماعية.
بهذه الخطوة بدأ الاندماج الأوروبي للأعضاء يخرج من مجرد فكرة التكامل إلى مرحلة الاتحاد، ونحا منحنى جديدًا باتجاه الفيدرالية من خلال كثير من الخطوات التالية؛ لعل أهمها التوقيع على «اتفاقية ماستريخت» الشهيرة عام 1992 التي أنشأت كيان «الاتحاد الأوروبي» بدلاً من «الجماعة الأوروبية». فلقد وضعت الاتفاقية كل المؤسسات الأوروبية؛ وهي «اليوروأتوم» و«جماعة الفحم والصلب» و«الجماعة الأوروبية» و«محكمة العدل الأوروبية»، تحت مظلة «الاتحاد الأوروبي». وقضت بمزيد من التطوير لهذه المؤسسات، لتضطلع بالمهام الجديدة التي صارت موكلة إليها. كذلك أنشأت قطاع السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، بهدف توحيد السياسة الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد خلال السنوات التالية. ولكن أهم ما أقرته هذه الاتفاقية كان «الاتحاد النقدي الأوروبي» الذي يهدف في النهاية إلى اعتماد عملة أوروبية موحّدة في الدول الأعضاء، عبر ثلاث مراحل أساسية تتضمن: تنسيق السياسات النقدية بين الدول الأعضاء ومراقبة هذا التنسيق، ثم إقامة بنك مركزي أوروبي تمهيدًا لإدخال عملة «اليورو» لتحل محل العملة الحسابية للاتحاد، وهي «وحدة النقد الأوروبية»، ولتكون بديلاً عن العملات المختلفة لكل دولة. وكان الهدف من هذه الخطوة في الأساس، هو دعم الاندماج بين الدول الأعضاء وخفض تكلفة المعاملات الاقتصادية والتجارية وتحفيز الأسواق لمزيد من الاستفادة. كذلك، أقرت هذه الاتفاقية ما عُرف بالجنسية الأوروبية، وهي الجنسية التي يحصل عليها المواطن في أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، التي يترتب عليها حقوق للأفراد في الخدمات والامتيازات.
ربما كان أهم ما ميز هذه المرحلة الجديدة في الاتحاد الأوروبي إدخال عملة «اليورو» الموحدة بين الدول، من خلال ما عرف بآلية الصرف الأوروبية التي كانت الدول منضمة إليها منذ عام 1979، عندما كان حلم العملة الموحدة يداعب الدول الأعضاء. وكانت هذه الآلية تهدف إلى تنظيم التعامل بالعملات المحلية للدول، من خلال نظام ثابت للصرف بينها يضمن قدرًا من الاستقرار، فلا يحق للدول خفض عملتها بما يزيد على نسبة معينة منعًا للتذبذبات، لتأثير ذلك على عملية التكامل. وبمجرد الاتفاق على إنشاء بنك (مصرف) مركزي أوروبي وبرئاسة شخصية هولندية مرموقة، فيم دفيسنبرغ، بدأ الاستعداد لنشر العملة الأوروبية الموحّدة، فأسست «منطقة اليورو» أولاً في عام 1999 بمشاركة 11 دولة، تمهيدًا لإدخال العملة الموحدة في عام 2002، وهو ما تم بالفعل.
ثم جاءت «اتفاقية شينغن» بين عدد محدود من الأعضاء، لتضيف خطوة إضافية نحو الاندماج من خلال توحيد معايير الحدود بينها للأجانب. وبمقتضى هذه الاتفاقية يتيسر للزائر التنقل بحرّية كاملة بين الدول الأعضاء أيًا كانت الدولة مصدر التأشيرة، وهو ما فتح المجال أمام توسيع حركة السياحة بين هذه الدول والخارج، إضافة إلى توحيد القواعد المصاحبة لذلك ومتابعة الجرائم العابرة للحدود. أيضًا أقر الاتحاد ميثاق الحقوق الأساسية، الذي أصبح قانونًا ملزمًا لكل الدول الأعضاء يتضمن قطاعًا عريضًا من حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وكذلك شمل عمل الاتحاد التعاون في كل القطاعات على مصراعيها، بما في ذلك عمل الشرطة والشؤون الاجتماعية والتعاون يبن النيابات والقضاء وغيرها من القطاعات.
لقد شهدت الوحدة الأوروبية نجاحًا كبيرًا في كل المجالات، غير أن السياسة الخارجية والأمنية المشتركة لا تزال متأخرة نسبيًا، مقارنة بالقطاعات الأخرى في الاتحاد. إذ لم تستطع دول الاتحاد الاستقرار على توحيد كل جوانب السياسة الخارجية حتى الآن، لأسباب متعلقة بالسيادة والتوجهات الخارجية المختلفة للدول الأعضاء، ولكن المحاولات مستمرة لتوحيد المعايير الخاصة بالعلاقات الخارجية على الأقل في بعض المجالات.
وهكذا تحوّل مشروع التكامل الأوروبي، من مجرد حلم يداعب الساسة على مرّ العصور إلى حقيقة مطلقة اليوم، إذ غدا الاتحاد الأوروبي (قبل انسحاب بريطانيا) يضم 28 دولة أوروبية، ويمثل ثاني أكبر قوة اقتصادية على المستوى العالمي بناتج قومي إجمالي وصل إلى 19.2 مليار دولار. وهو يأتي في المرتبة الثانية عالميًا، بعد المارد الصيني ومن بعده الولايات المتحدة، محققًا متوسط دخل للفرد يصل إلى 34 ألف دولار سنويًا. وهذا تحقق بفضل تضامن دوله وتكاملها اقتصاديًا ضمن أمور أخرى، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم أكثر من أي وقت، هو لماذا نجح هذا الاتحاد بينما فشلت محاولات لتكتلات أخرى لديها قواسم مشتركة أكثر من دول الاتحاد؟



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.