«البوركيني».. والتطرف اللاديني

أمام تحدي تجديد العلمانية وتجاوز فكر اليمين الفرنسي

أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)
أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)
TT

«البوركيني».. والتطرف اللاديني

أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)
أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)

ظهرت قضية «البوركيني» في فرنسا بعد منع 30 بلدية للباس البحر الذي ترتديه النساء المسلمات. أثار المنع جدلاً واسعًا على مستوى البلاد وفي وسائل الإعلام العالمية، كما جدّد الجدل الدائر في فرنسا حول العلمانية والحرية الدينية. كذلك صاحب النقاش الدائر حول خطوة البلديات، توسّع مخيف من طرف الشرطة في التضييق على المسلمات القاصدات البحر، ووصل التضييق لتحرير محاضر لنساء محجبات فقط واتهامهن بتهم غريبة من مثل إزعاج الناس. ومن الأشرطة التي توثق لهذا السلوك الفيديو المصوّر يوم الثلاثاء 23 أغسطس (آب) من طرف فايزة بن محمد، المتحدثة باسم «اتحاد مسلمي الجنوب» وأمينته العامة.
من واقع أن الجدل المثار حول «البوركيني» في فرنسا كانت له أسس قانونية، وجاء مدعومًا من طرف قرار لمحكمة إدارية بجنوب فرنسا بمدينة كان، استدعت الضجة الإعلامية، ومعها شدة الجدل السياسي والحقوقي الداخلي، تدخلا مباشرا من مجلس الدولة الفرنسي.
وعلى عكس قرار البلديات التي يسيطر على معظمها اليمين الفرنسي المناهض للإسلام، قرر مجلس الدولة يوم 26 أغسطس 2016 لا قانونية قرار منع «البوركيني»، ورفض مزاعم محكمة مدينة كان التي اعتبرته مسا بالنظام العام. وأبعد من ذلك، اعتبرت الفتوى القانونية لمجلس الدولة «القرار البلدي مساسا خطيرا بالحريات الأساسية» وهي حرية التنقل وحرية المعتقد والحرية الشخصية. وهذا رأي قانوني يعيد للأذهان ما أثير في إسبانيا عام 2010، حين صوتت 30 مدينة في إقليم قطالونية (كتالونيا) على قرار يقضي بمنع ارتداء «البرقع» في الإدارات العامة، لكنّ قرار المحكمة العليا رفض هذا المنع، واعتبره معاديا للحرية الدينية. وفي حين رأى كثيرون من المثقفين الفرنسيين قرار مجلس الدولة الأخير أنه «إنقاذ لسمعة العلمانية الفرنسية والحرية الفردية» باعتبار الفضاء العام مكانا للحرية وممارسة المعتقد، رآه آخرون «مكسبًا جديدًا للمسلمين وعودة غير علمانية للدين في المجتمع الفرنسي. وتراجعًا عن المسار الذي دشنته سياسة حظر ارتداء الحجاب في المدارس والإدارات العامة في العام 2004؛ ومنع النقاب في الأماكن العامة عام 2010»، وبالتالي، فهم يرون أن تدخل مجلس الدولة الأخير من شأنه عرقلة مسيرة سيطرة الدولة على الدين السائدة في فرنسا التي رسمها قانون جمهوري بتاريخ 9 ديسمبر (كانون الأول) 1905 فصل بين الدولة والدين.
ثم إن هذا القرار، قد لا يتوافق مع المزاج العام الفرنسي الذي يوجّهه الإعلام في زمن انتشار «الإسلاموفوبيا» (العداء للمسلمين والخوف منهم) في فرنسا عبر الأوساط الإعلامية والثقافية والإدارية وبعض الأجهزة الأمنية. ويبدو أن العداء للدين ورموز الدين الإسلامي، خاصة، أصبح له جذور اجتماعية صلبة، فحسب استطلاع رأي أجرته جريدة «لوفيغارو» اليمينية أياما قليلة قبل قرار مجلس الدولة، فيما يتعلق بوجهة نظر الفرنسيين الخاصة حول «البوركيني»، أجاب 76 في المائة من المصوّتين بـ«نعم» على سؤال «هل ترى أن ارتداء (البوركيني) يمكن أن يشكل خطرا على النظام العام؟».
نظرة تاريخية
من الناحية التاريخية والسوسيولوجية، فإن الميل المجتمعي في فرنسا لاستبعاد الدين، خاصة الأديان الأجنبية مثل الإسلام، يبدو طبيعيا لاعتبار أساسي، أوضحه فيلسوفا العلمانية الفرنسيان جون بيبيرو ومارسيل غوشي. إذ يرى هذا الأخير، أن «الشكل التفاعلي الذي نسميه اليوم بعلمانية الدولة ظاهرة خاصة بالغرب. وعلى وجه الخصوص، هو قلق يشغل بال فرنسا، التي أنتجت النسق العلماني وطبّقته في مستعمراتها». ورفض الدولة لكل انقياد تجاه الكنيسة في معناه العام هو العلمانية، ومصطلح العلمانية laïcité هو اختراع وحالة فرنسية خاصة بتعبير جون بيبيرو jean Baubéro.
ولئن كانت اختيارات الأفراد، أو الفرد، اختيارات دينية كما هو الحال في قضية لباس البحر «البوركيني»، فكيف يتحرك الفرد داخل الاجتماع البشري الذي يعيش فيه؟
الجواب على مثل هذا السؤال، تطبعه صرامة العلمانية الفرنسية بطابعها السوسيو-تاريخي الذي جسده قرار المنع من 30 بلدية. إن الموظف داخل أجهزة الدولة، والمصطاف في البحر، أو غيره يلزمه المبدأ العلماني بالحياد تجاه المعتقدات الأخرى جميعا، والانتماءات الوسيطة الأخرى كافة. والحقيقة أن فكرة الحيادية المتبناة من طرف العلمانية مثالية (طوباوية) لاعتبارين:
الأول، اعتبار معرفي، يرجع بنا إلى صراع الكنيسة والحركة العلمانية حول التعليم ومؤسسات المعرفة، والسلطة. فالسلطة المعرفية في حالة قيام الدولة العلمانية هي القاعدة الخلفية لدوام المرجعية الوضعية. ذلك أن المؤسسة التعليمية ستكون بالضرورة أشد المدافعين والناشرين للعلمانية من خلال التنشئة السياسية، والثقافة السياسية المبثوثة وسط المناهج التعليمية. فإذا كانت الدولة الدينية تعني الحكم باسم الله، فإن الدولة العلمانية تعني الحكم باسم السلطة المعرفية الوضعية المادية.
والثاني، يتعلق بالحياد المطلوب، فهو في العلمانية الفرنسية حياد تجاه المعتقدات الأخرى جميعًا، والانتماءات الوسيطة الأخرى كافة. وبهذه الحمولة يفقد الحياد معناه أصلاً، لأنه من جهة حياد وفق رؤية وفلسفة للحياة هي العلمانية. ومن جهة أخرى صعب التحقق خاصة عند وجود مرجعيات أخرى غير المرجعية العلمانية، عند الفرد أو الجماعة مثل المرجعية الإسلامية في حالة لباس المسلمات في البحر.
إن الحياد هنا يعني بالضرورة الدفاع عن التصوّر المنطلق منه، أضف إلى أنه، من الناحية العملية، فإن العلمانية تتحوّل إلى معول لهدم الحرية لتضمن هذا الحياد المثالي. إن التفاعلات الاجتماعية تعطي للسياسي أهمية كبيرة، وبالتالي، فمنع الحجاب بقرار قضائي أو قانوني، كما يقع في فرنسا مثلا، يحوّل الدفاع عن العلمانية إلى حركة مرتدّة عن حقوق الإنسان، ويظهرها كتصوّر متطهِّر، ومرجعية فوق بشرية، بل ديانة منافسة للديانات المعلومة.
ثم إن التطور التاريخي للعلمانية، ووجود الدين في الفضاء العام، تطوّر سار عبر مسارين خاصين: ففي أوروبا الغربية حافظت الكثير من البلدان على الوصل مع هوية الدين. في حين أن بعض البلدان كانت تخضع لنظام فردي شمولي، كما هو الحال أوروبا الشرقية سابقًا. وعلى الجانب الآخر، تعمل أنظمة ديمقراطية طويلة في معظمها على ضمان الحرية الدينية في دساتيرها، ومع ذلك تحظر العلمانية والدين في كثير من الأحيان، بشكل ضمني في الحاضر والممارسات الاجتماعية. وهو ما يفسر كون «عدد من الدول الأوروبية لا تزال تعاني من دين الدولة، وفق ليليان فوييه Liliane Voyé في دراسة قيمة حول الدين والسياسة بأوروبا». أكثر من ذلك فإن الواقع السوسيولوجي وفق الباحث في علم الاجتماع السياسي إيف لامبير Yves Lambert يؤكد أن هناك «حالة دينية تقبع داخل العَلمانية وتتكيف باستمرار مع الفضاء العام».
ولأن المسار المجتمعي الفرنسي والأوروبي يتغير دينيًا وعرقيًا، فإن الفيلسوف غي هارشر Guy Haarscher يؤكد أننا في حاجة إلى الاختلاف مع العلمانية الكلاسيكية. فالجوهر العلماني ما يزال صامدًا داخل المجتمع الفرنسي، وهذا ما يجعل النظرة الراديكالية حيال الدين ورموزه مثل «البوركيني» توافق المفهوم التقليدي للعلمانية الذي يحصر الدين في المجال الشخصي بعيدا عن المدرسة. فالحجاب ما هو إلا «غطاء للرأس»، بينما التوافق مع الحداثة يجعلنا نقبل بالتعددية، والدول الديمقراطية تستطيع أن تبقى في الجوهر علمانية. غير أن «العلمانية الفرنسية ليست محمية من طرف القانون الدولي».
وبشكل أكثر وثوقية ووضوحًا - كما يقول هارشر - «ليس هناك نص في الدول الديمقراطية يفرض فصلا دقيقا بين الدين والدولة». هنالك وزارات تهم الشأن الديني... ويتضح الأمر أكثر إذا نظرنا إلى الفصل بين الدولة والدين في بريطانيا والدنمارك واليونان وإسبانيا، حيث يبرز الطابع الديني في المدرسة والأسرة والمجتمع، فأطروحة كوي تغوص للبحث عن الأساس المرجعي للدولة.
في ظل الدولة المعاصرة، نلاحظ غياب العلمانية في غالبية دول العالم، ذلك أن «المنطلقات العامة لا تكترث لا للحقيقة العلمانية ولا للإرادة الجماعية للمؤمنين، بل يبحث عنها في الفضاء الحر الذي تفتحه الحريات العامة وخاصة حريات (العلمانية)».
وكما ذهب غي هارشر، يؤكد جون بوبيرو أن «العلمانية الفرنسية ليست النموذج الوحيد، بل هناك النموذج البلجيكي الذي كوّن عائلة من المفاهيم، وله نمطه الخاص في ظل تعددية الأديان، وفرنسا نفسها تعيش هذه الحالة، لهذا فإن النقاش المستمر في الدائرة الأنجلوساكسونية حول العلمانية يجب أن يؤخذ به في الدائرة الفرنسية، لتجاوز المشاكل التي تطرحها العلمانية من الزاوية السوسيولوجية».
أما مارسيل غوشي في كتابه «الدين في الديمقراطية» (ص 98)، فيرى «أننا أمام تحول تاريخي كبير في علاقة المجتمع والدولة. إذ راهنت العَلمانية على حصر الدين في النطاق الخاص الفردي، غير أنها فشلت، وفي «هذا الإطار يجب فهم السياق الذي وضع فيه إعادة تعريف العلمانية الذي يجري حاليا».
فهل يسمح قرار مجلس الدولة الفرنسي يوم 26 أغسطس 2016 بتغيير مسار الاختيار العلماني لفرنسا بتغيير قانون 1905 ليستجيب للتغيرات الطارئة على المجتمع الفرنسي؟
وهل تستطيع فعلا العلمانية الفرنسية الصارمة أن تحافظ على الحقوق والحريات في زمن الإسلاموفوبيا والإرهاب العابر للحدود؟
وكيف ستتعامل الطبقة الفرنسية المولعة باستغلال قضايا الهجرة والمسلمين في المعارك السياسية والانتخابية مع مثل هذه المستجدات القانونية، في زمن الصعوبات الاقتصادية، وتزايد مطالب الشباب الاجتماعية، وإصلاح التعليم بفرنسا؟
* جامعة محمد الخامس - الرباط



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».