«البوركيني».. والتطرف اللاديني

أمام تحدي تجديد العلمانية وتجاوز فكر اليمين الفرنسي

أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)
أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)
TT

«البوركيني».. والتطرف اللاديني

أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)
أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)

ظهرت قضية «البوركيني» في فرنسا بعد منع 30 بلدية للباس البحر الذي ترتديه النساء المسلمات. أثار المنع جدلاً واسعًا على مستوى البلاد وفي وسائل الإعلام العالمية، كما جدّد الجدل الدائر في فرنسا حول العلمانية والحرية الدينية. كذلك صاحب النقاش الدائر حول خطوة البلديات، توسّع مخيف من طرف الشرطة في التضييق على المسلمات القاصدات البحر، ووصل التضييق لتحرير محاضر لنساء محجبات فقط واتهامهن بتهم غريبة من مثل إزعاج الناس. ومن الأشرطة التي توثق لهذا السلوك الفيديو المصوّر يوم الثلاثاء 23 أغسطس (آب) من طرف فايزة بن محمد، المتحدثة باسم «اتحاد مسلمي الجنوب» وأمينته العامة.
من واقع أن الجدل المثار حول «البوركيني» في فرنسا كانت له أسس قانونية، وجاء مدعومًا من طرف قرار لمحكمة إدارية بجنوب فرنسا بمدينة كان، استدعت الضجة الإعلامية، ومعها شدة الجدل السياسي والحقوقي الداخلي، تدخلا مباشرا من مجلس الدولة الفرنسي.
وعلى عكس قرار البلديات التي يسيطر على معظمها اليمين الفرنسي المناهض للإسلام، قرر مجلس الدولة يوم 26 أغسطس 2016 لا قانونية قرار منع «البوركيني»، ورفض مزاعم محكمة مدينة كان التي اعتبرته مسا بالنظام العام. وأبعد من ذلك، اعتبرت الفتوى القانونية لمجلس الدولة «القرار البلدي مساسا خطيرا بالحريات الأساسية» وهي حرية التنقل وحرية المعتقد والحرية الشخصية. وهذا رأي قانوني يعيد للأذهان ما أثير في إسبانيا عام 2010، حين صوتت 30 مدينة في إقليم قطالونية (كتالونيا) على قرار يقضي بمنع ارتداء «البرقع» في الإدارات العامة، لكنّ قرار المحكمة العليا رفض هذا المنع، واعتبره معاديا للحرية الدينية. وفي حين رأى كثيرون من المثقفين الفرنسيين قرار مجلس الدولة الأخير أنه «إنقاذ لسمعة العلمانية الفرنسية والحرية الفردية» باعتبار الفضاء العام مكانا للحرية وممارسة المعتقد، رآه آخرون «مكسبًا جديدًا للمسلمين وعودة غير علمانية للدين في المجتمع الفرنسي. وتراجعًا عن المسار الذي دشنته سياسة حظر ارتداء الحجاب في المدارس والإدارات العامة في العام 2004؛ ومنع النقاب في الأماكن العامة عام 2010»، وبالتالي، فهم يرون أن تدخل مجلس الدولة الأخير من شأنه عرقلة مسيرة سيطرة الدولة على الدين السائدة في فرنسا التي رسمها قانون جمهوري بتاريخ 9 ديسمبر (كانون الأول) 1905 فصل بين الدولة والدين.
ثم إن هذا القرار، قد لا يتوافق مع المزاج العام الفرنسي الذي يوجّهه الإعلام في زمن انتشار «الإسلاموفوبيا» (العداء للمسلمين والخوف منهم) في فرنسا عبر الأوساط الإعلامية والثقافية والإدارية وبعض الأجهزة الأمنية. ويبدو أن العداء للدين ورموز الدين الإسلامي، خاصة، أصبح له جذور اجتماعية صلبة، فحسب استطلاع رأي أجرته جريدة «لوفيغارو» اليمينية أياما قليلة قبل قرار مجلس الدولة، فيما يتعلق بوجهة نظر الفرنسيين الخاصة حول «البوركيني»، أجاب 76 في المائة من المصوّتين بـ«نعم» على سؤال «هل ترى أن ارتداء (البوركيني) يمكن أن يشكل خطرا على النظام العام؟».
نظرة تاريخية
من الناحية التاريخية والسوسيولوجية، فإن الميل المجتمعي في فرنسا لاستبعاد الدين، خاصة الأديان الأجنبية مثل الإسلام، يبدو طبيعيا لاعتبار أساسي، أوضحه فيلسوفا العلمانية الفرنسيان جون بيبيرو ومارسيل غوشي. إذ يرى هذا الأخير، أن «الشكل التفاعلي الذي نسميه اليوم بعلمانية الدولة ظاهرة خاصة بالغرب. وعلى وجه الخصوص، هو قلق يشغل بال فرنسا، التي أنتجت النسق العلماني وطبّقته في مستعمراتها». ورفض الدولة لكل انقياد تجاه الكنيسة في معناه العام هو العلمانية، ومصطلح العلمانية laïcité هو اختراع وحالة فرنسية خاصة بتعبير جون بيبيرو jean Baubéro.
ولئن كانت اختيارات الأفراد، أو الفرد، اختيارات دينية كما هو الحال في قضية لباس البحر «البوركيني»، فكيف يتحرك الفرد داخل الاجتماع البشري الذي يعيش فيه؟
الجواب على مثل هذا السؤال، تطبعه صرامة العلمانية الفرنسية بطابعها السوسيو-تاريخي الذي جسده قرار المنع من 30 بلدية. إن الموظف داخل أجهزة الدولة، والمصطاف في البحر، أو غيره يلزمه المبدأ العلماني بالحياد تجاه المعتقدات الأخرى جميعا، والانتماءات الوسيطة الأخرى كافة. والحقيقة أن فكرة الحيادية المتبناة من طرف العلمانية مثالية (طوباوية) لاعتبارين:
الأول، اعتبار معرفي، يرجع بنا إلى صراع الكنيسة والحركة العلمانية حول التعليم ومؤسسات المعرفة، والسلطة. فالسلطة المعرفية في حالة قيام الدولة العلمانية هي القاعدة الخلفية لدوام المرجعية الوضعية. ذلك أن المؤسسة التعليمية ستكون بالضرورة أشد المدافعين والناشرين للعلمانية من خلال التنشئة السياسية، والثقافة السياسية المبثوثة وسط المناهج التعليمية. فإذا كانت الدولة الدينية تعني الحكم باسم الله، فإن الدولة العلمانية تعني الحكم باسم السلطة المعرفية الوضعية المادية.
والثاني، يتعلق بالحياد المطلوب، فهو في العلمانية الفرنسية حياد تجاه المعتقدات الأخرى جميعًا، والانتماءات الوسيطة الأخرى كافة. وبهذه الحمولة يفقد الحياد معناه أصلاً، لأنه من جهة حياد وفق رؤية وفلسفة للحياة هي العلمانية. ومن جهة أخرى صعب التحقق خاصة عند وجود مرجعيات أخرى غير المرجعية العلمانية، عند الفرد أو الجماعة مثل المرجعية الإسلامية في حالة لباس المسلمات في البحر.
إن الحياد هنا يعني بالضرورة الدفاع عن التصوّر المنطلق منه، أضف إلى أنه، من الناحية العملية، فإن العلمانية تتحوّل إلى معول لهدم الحرية لتضمن هذا الحياد المثالي. إن التفاعلات الاجتماعية تعطي للسياسي أهمية كبيرة، وبالتالي، فمنع الحجاب بقرار قضائي أو قانوني، كما يقع في فرنسا مثلا، يحوّل الدفاع عن العلمانية إلى حركة مرتدّة عن حقوق الإنسان، ويظهرها كتصوّر متطهِّر، ومرجعية فوق بشرية، بل ديانة منافسة للديانات المعلومة.
ثم إن التطور التاريخي للعلمانية، ووجود الدين في الفضاء العام، تطوّر سار عبر مسارين خاصين: ففي أوروبا الغربية حافظت الكثير من البلدان على الوصل مع هوية الدين. في حين أن بعض البلدان كانت تخضع لنظام فردي شمولي، كما هو الحال أوروبا الشرقية سابقًا. وعلى الجانب الآخر، تعمل أنظمة ديمقراطية طويلة في معظمها على ضمان الحرية الدينية في دساتيرها، ومع ذلك تحظر العلمانية والدين في كثير من الأحيان، بشكل ضمني في الحاضر والممارسات الاجتماعية. وهو ما يفسر كون «عدد من الدول الأوروبية لا تزال تعاني من دين الدولة، وفق ليليان فوييه Liliane Voyé في دراسة قيمة حول الدين والسياسة بأوروبا». أكثر من ذلك فإن الواقع السوسيولوجي وفق الباحث في علم الاجتماع السياسي إيف لامبير Yves Lambert يؤكد أن هناك «حالة دينية تقبع داخل العَلمانية وتتكيف باستمرار مع الفضاء العام».
ولأن المسار المجتمعي الفرنسي والأوروبي يتغير دينيًا وعرقيًا، فإن الفيلسوف غي هارشر Guy Haarscher يؤكد أننا في حاجة إلى الاختلاف مع العلمانية الكلاسيكية. فالجوهر العلماني ما يزال صامدًا داخل المجتمع الفرنسي، وهذا ما يجعل النظرة الراديكالية حيال الدين ورموزه مثل «البوركيني» توافق المفهوم التقليدي للعلمانية الذي يحصر الدين في المجال الشخصي بعيدا عن المدرسة. فالحجاب ما هو إلا «غطاء للرأس»، بينما التوافق مع الحداثة يجعلنا نقبل بالتعددية، والدول الديمقراطية تستطيع أن تبقى في الجوهر علمانية. غير أن «العلمانية الفرنسية ليست محمية من طرف القانون الدولي».
وبشكل أكثر وثوقية ووضوحًا - كما يقول هارشر - «ليس هناك نص في الدول الديمقراطية يفرض فصلا دقيقا بين الدين والدولة». هنالك وزارات تهم الشأن الديني... ويتضح الأمر أكثر إذا نظرنا إلى الفصل بين الدولة والدين في بريطانيا والدنمارك واليونان وإسبانيا، حيث يبرز الطابع الديني في المدرسة والأسرة والمجتمع، فأطروحة كوي تغوص للبحث عن الأساس المرجعي للدولة.
في ظل الدولة المعاصرة، نلاحظ غياب العلمانية في غالبية دول العالم، ذلك أن «المنطلقات العامة لا تكترث لا للحقيقة العلمانية ولا للإرادة الجماعية للمؤمنين، بل يبحث عنها في الفضاء الحر الذي تفتحه الحريات العامة وخاصة حريات (العلمانية)».
وكما ذهب غي هارشر، يؤكد جون بوبيرو أن «العلمانية الفرنسية ليست النموذج الوحيد، بل هناك النموذج البلجيكي الذي كوّن عائلة من المفاهيم، وله نمطه الخاص في ظل تعددية الأديان، وفرنسا نفسها تعيش هذه الحالة، لهذا فإن النقاش المستمر في الدائرة الأنجلوساكسونية حول العلمانية يجب أن يؤخذ به في الدائرة الفرنسية، لتجاوز المشاكل التي تطرحها العلمانية من الزاوية السوسيولوجية».
أما مارسيل غوشي في كتابه «الدين في الديمقراطية» (ص 98)، فيرى «أننا أمام تحول تاريخي كبير في علاقة المجتمع والدولة. إذ راهنت العَلمانية على حصر الدين في النطاق الخاص الفردي، غير أنها فشلت، وفي «هذا الإطار يجب فهم السياق الذي وضع فيه إعادة تعريف العلمانية الذي يجري حاليا».
فهل يسمح قرار مجلس الدولة الفرنسي يوم 26 أغسطس 2016 بتغيير مسار الاختيار العلماني لفرنسا بتغيير قانون 1905 ليستجيب للتغيرات الطارئة على المجتمع الفرنسي؟
وهل تستطيع فعلا العلمانية الفرنسية الصارمة أن تحافظ على الحقوق والحريات في زمن الإسلاموفوبيا والإرهاب العابر للحدود؟
وكيف ستتعامل الطبقة الفرنسية المولعة باستغلال قضايا الهجرة والمسلمين في المعارك السياسية والانتخابية مع مثل هذه المستجدات القانونية، في زمن الصعوبات الاقتصادية، وتزايد مطالب الشباب الاجتماعية، وإصلاح التعليم بفرنسا؟
* جامعة محمد الخامس - الرباط



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.