السعودية.. حركة الثقافة بين مد المركزية وجزرها

إعلان ميلاد «الهيئة العامة للثقافة» خطوة مثالية رحب بها المجتمع الثقافي

جهود كبيرة بُذلت في السعودية لإشعال منارات الثقافة المجتمعية تتوّجت بخطوة الحرس الوطني في تبنّي المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية»
جهود كبيرة بُذلت في السعودية لإشعال منارات الثقافة المجتمعية تتوّجت بخطوة الحرس الوطني في تبنّي المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية»
TT

السعودية.. حركة الثقافة بين مد المركزية وجزرها

جهود كبيرة بُذلت في السعودية لإشعال منارات الثقافة المجتمعية تتوّجت بخطوة الحرس الوطني في تبنّي المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية»
جهود كبيرة بُذلت في السعودية لإشعال منارات الثقافة المجتمعية تتوّجت بخطوة الحرس الوطني في تبنّي المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية»

لم تكن المجتمعات العربية مختلفة عن غيرها من المجتمعات في حيرتها ونظرتها وتعاملها مع الحراك الثقافي لديها، من حيث محاولة وضع تعريف محدّد للمصطلح، ثم من حيث أسلوب العناية بها والتعامل الإداري معها بين المركزية واللامركزية، فـ«الثقافة» تشبه إلى حدّ معاني الجمال في الحياة حين يحسّها الإنسان، ولكنه قد يعجز عن أن يُعبّر عنها، ولو بحثنا في القواميس عن تعريف دقيق متفق عليه لمفهوم الثقافة، لوجدناها تشرّق وتغرب في التنظير، ومع ذلك تنشغل المجتمعات جرّاها وتختصم حول ضرورة الاهتمام بها وخدمتها.
في السعودية، وفي سياق الإشارة للتاريخ والتراث والفنون، يتحدّث الإعلام عن عراقة البُعدين الحضاري والثقافي، ثم لا يتوصّل إلى تعريف العمق الثقافي، ولا إلى كيفية إبراز هذا الجانب في سياسات الحكومة واستراتيجيتها، ويتحدث المجتمع كثيرًا عن المثقفين وعن الثقافة، ثم لا يقدّم تعريفًا لهم ولها، وذلك ربما ناتج عن الحيرة في التوصّل إلى تحديد المفهوم منها، ومن ثمّ إلى رسم خطوات التعامل مع متطلّباتها، ومع ذلك فما أكثر ما يُكتب عن البُعد الثقافي وعن العمق الحضاري، وما أكثر ما تنشغل الساحات الفكرية بالنقاش فيهما.
تاريخيًا، مرّ الشأن الثقافي في السعودية - التي تشهد في العقود الأخيرة وعلى كل الأصعدة، حراكًا ثقافيًا نشطًا - بمراحل عدّة من حيث التنظيم الإداري، فأنشأت وزارة المعارف عام 1973 أمانة عامة للمجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب، لكنها ظلّت محصورة في نطاق الوزارة، ثم عملت رعاية الشباب على إطلاق منابر ثقافية مع النوادي الرياضية، وعلى تأسيس جملة من الأندية الأدبية، وعلى عقد مؤتمرات دورية للأدباء، وإنشاء جوائز الدولة للمبرّزين، في جهود متقدّمة لإشعال منارات الثقافة المجتمعية، وتتوّجت تلك الجهود بخطوة الحرس الوطني في تبنّي المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، الذي لحق به بعد عقدين إحياء مهرجان (سوق عكاظ التاريخي) على مقربة من مدينة الطائف.
وكانت وزارة التخطيط حاولت في منتصف الثمانينات جمع شتات الثقافة المتناثر في قطاعات الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني في كيان موحّد، وهو ما نتج عنه بعد حين ضمّ شؤون الثقافة مع شؤون الإعلام في وزارة واحدة، لكن الإجراء الذي نال من الترحيب ما يستحق وقتذاك في اتجاه الاعتراف بالثقافة مكوّنًا من المكوّنات الأساسيّة في اهتمام الحكومة، عجز عن أن يحقق أهدافه كاملة، فوُلد قطاع الثقافة في الوزارة المزدوجة «مشلولاً» غير مكتمل النموّ.
ثم جاءت في هذا العام خطوة أخرى مثالية رحّب بها المجتمع الثقافي بقوّة، وهي إعلان ميلاد «الهيئة العامة للثقافة» في خطوة يؤمّل منها أن تحقق الرعاية الشاملة، والمرونة والاستقلالية الإدارية والماليّة، وحريّة الإبداع للأنشطة الثقافية، وتطوير حركة الفكر والفنون، وتنمية نشاط التأليف والترجمة والنشر، ومدّ جسور التواصل المعرفي والإنساني مع الثقافات الأخرى.
في التنظيم الإداري السعودي، يُعدّ نمط الهيئة العامة (the commission) أفضل صِيغ الهياكل التنظيمية المرنة، التي تفوق في صلاحياتها صلاحيات الوزارات، ولهذا يتطلّع المجتمع الثقافي في البلاد، إلى أن تكون الهيئة العامة الجديدة جهة إشرافية وتنظيمية، ترتقي بالشأن الثقافي كمًا ونوعًا، وأن يكون لها لوائح توظيفيّة وماليّة ونظام جامع مانع، يكفل لها التميّز وعدم تدخّل الجهات الرقابيّة الأخرى - غير الماليّة - باختصاصاتها، وأن يقتصر دورها التنفيذي على المناشط الكبرى التي لا تستطيع الكيانات التابعة لها ومؤسسات المجتمع المدني القيام بها، وأن يُرافق الخطوة تشكيل مجلس وطني أعلى للثقافة، يكون بمثابة مجلس إدارة من مهماته وضع سياسة ثقافية (استراتيجية وطنية) لا تُمعن في التنظير، بقدر ما تستفيد من التجارب والخبرات الداخلية والخارجية المتقدّمة، بما فيها الجهود التي سبقت، هذا بالإضافة إلى سنّ اللوائح التنظيمية لرعاية المفكرين والمبدعين، وأن يتمّ كل ذلك عبر لقاءات عصف ذهني مع المفكّرين والأدباء والفنانين، من الشباب ومن الجنسين.
من جانب آخر، ينظر البعض إلى الهيئة من منظور مغاير، وهو احتمال خسران «اللامركزية» التي تنعم بها الثقافة في الوقت الحاضر، وهنا ينبغي الحرص على أن يكون من وظائف الهيئة الجديدة التنسيق مع كل الجهات التي تستطيع العطاء؛ لأن الثقافة شأن وطني مشترك تتعاون فيه كل القطاعات الحكومية والأهلية ولا تنحصر مسؤوليته في جهة واحدة. ومن ينظر في أي مجتمع إلى أوعية الثقافة، المتمثّلة في رعاية الأدب والفنون والتراث المادي والأندية والمهرجانات والمعارض وحقوق المؤلفين والملكية الفكرية، وتوثيق التراث واكتشاف المواهب الإبداعية، وإيجاد معاهد الفنون وأكاديميّاتها، والارتقاء بالمسرح والتصوير والرسم والسينما والصالونات الأهلية، وإدارة المراكز الثقافية الخارجية، والعلاقات الدولية والمكتبات العامة، وإقامة المهرجانات وتنظيم جوائز الدولة، ودعم فِرق التراث الوطنية، في جميع أرجاء الوطن المتنوّع ثقافيًا، يلحظ أن ميدان الثقافة واسع ومُتشعّب، يكاد يستحوذ على معظم ما تقوم به حاليًا الأجهزة الحكومية ومؤسسات المجتمع الأهلي المعنيّة بالثقافة.
وبعد؛ فهذا المقال مثل غيره، قد يختزل تشخيص جانب من الحالة، لكنه لا يقدّم وصفة علاجية لها، فالأمر قد يظل على هذا المنوال إلى أن يحلّ المثقفون هذه الإشكاليّات بفكرهم!

* كاتب سعودي



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!