مدارس غولن.. أسرار «الكيان الموازي» في 100 دولة

«الشرق الأوسط» تفتح ملفات المؤسسات التعليمية وحملة تركيا للقضاء عليها

الداعية فتح الله غولن مؤسس ورئيس حركة «خدمة» في منزله بولاية بنسلفانيا (رويترز)
الداعية فتح الله غولن مؤسس ورئيس حركة «خدمة» في منزله بولاية بنسلفانيا (رويترز)
TT

مدارس غولن.. أسرار «الكيان الموازي» في 100 دولة

الداعية فتح الله غولن مؤسس ورئيس حركة «خدمة» في منزله بولاية بنسلفانيا (رويترز)
الداعية فتح الله غولن مؤسس ورئيس حركة «خدمة» في منزله بولاية بنسلفانيا (رويترز)

في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا منتصف يوليو (تموز) الماضي والتي فاجأت العالم، انطلقت حملة تطهير موسعة شملت مختلف مؤسسات الدولة من الجيش إلى القضاء إلى الشرطة. غير أن أكثر القطاعات التي سجلت أرقاما عالية فيمن أقيلوا من أعمالهم كان قطاع التعليم الذي تتركز فيه كتلة كبيرة من أتباع حركة «الخدمة» التابعة للداعية فتح الله غولن الذي تتهمه الحكومة بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية، التي تسميها الحكومة بمنظمة فتح الله غولن أو «الكيان الموازي».
حركة «الخدمة» الغامضة تروج نفسها للغرب بوصلة «الإسلام المعتدل»، وتحاول ربط اسمها «بأمجاد تركيا بنكهة أتاتوركية» لكسب الأتراك. ولسريتها وآليتها التي تركز على التوسع من خلال سبل القوى الناعمة كالإعلام والتعليم والتركيز على «نخبة» المجتمعات، أطلق عليها باحث في الشؤون التركية «الماسونية الإسلاموية». ولا تعد الحملة على مدارس ومؤسسات غولن والمؤسسات الأخرى القريبة منه وليدة محاولة الانقلاب الفاشلة لكنها بدأت مع تفجر فضائح الفساد والرشوة وتحقيقاتها في تركيا في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) 2013 التي طالت حكومة رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان قبل انتخابه رئيسا للجمهورية في أغسطس (آب) 2014، التي وصفها بأنها محاولة من جانب الكيان الموازي (حركة الخدمة) للإطاحة بحكومته.
إلى ذلك، نتناول أبرز مستجدات الحملة الدولية التي انطلقت من تركيا للقضاء على كيان المدارس في مختلف الدول ونكشف أسرار آليتها في غرض الإجابة عن سؤال ملح: هل بدأت إمبراطورية غولن التعليمية بالتهالك؟
جماعة «الخدمة» التي أسسها فتح الله غولن في عام 1971 أخذت اسمها من كونها أسست في البداية لخدمة الطلاب بحكمها كانت تشخص أمراض الشرق الأوسط بثلاثة محاور أهمها الجهل والفقر والتشرذم أو الفرقة. وبالفعل وجهت معظم عملها في البدايات إلى بناء المدارس والمعاهد التعليمية ومساكن الطلبة وغيرها بحيث كان تركيزها تماما على الأعمال التعليمية والتربوية في هذا الإطار، ولذلك سُميت جماعة «الخدمة». لاحقًا، على مدى عشرات السنوات تحولت إلى إمبراطورية ضخمة ليس فقط على مستوى المدارس، بل على مستوى التعليم والاقتصاد والمؤسسات المالية والإعلامية وغيرها. حتى في موضوع المدارس تحولت إلى إمبراطورية ضخمة، إذ نتحدث عن آلاف المدارس داخل تركيا وآلاف المدارس في نحو أكثر من 100 دولة حول العالم.
عملت الحركة في قطاع التعليم وأنشأ رجال الأعمال المنتسبون لها نحو ألف مدرسة في أنحاء تركيا وألفي مدرسة في أكثر من 100 دولة في أنحاء العالم، لا سيما في دول أفريقيا التي كانت ظروفها في غاية الصعوبة عندما كانت الحركة تعمل هناك. كما تمددت في هذه الأنشطة، لا سيما التعليمية منها التي تقدمها مدارس الخدمة بمستوى راقٍ. واجتذبت هذه المدارس أبناء الصفوة في الدول التي تعمل بها إضافة إلى تخصيص منح دراسية للطلاب المتميزين من غير المقتدرين. ونجحت الحركة في الاندماج في المجتمعات التي تعمل بها، لا سيما الفقيرة منها من خلال حفر آبار المياه وتقديم المساعدات الغذائية والطبية والمنح الدراسية كما في الدول الأفريقية وبعض دول آسيا والقوقاز.
وطالت الحملة الأمنية في تركيا عقب الانقلاب العسكري الفاشل نحو ألف مدرسة ومؤسسة تعليمية و15 جامعة و109 مساكن طلابية، إضافة إلى 1125 جمعية خيرية ووقفًا للمساعدات الإنسانية أبرزها جمعية «هل من مغيث؟» (كيمسا يوكمو)، التي نشطت في تقديم المساعدات الإنسانية والغذائية في مناطق الكوارث والحروب والمناطق الفقيرة حول العالم و35 جمعية طبية و19 نقابة مهنية وعمالية.
وبحسب آخر حصيلة أعلنها وزير التعليم التركي عصمت يلماز ألغت السلطات التركية تصاريح عمل 27 ألفًا و242 من العاملين في قطاع التعليم بينهم 21 ألف معلم كانوا يعملون في مدارس تابعة لحركة «الخدمة» التي أسهها ويديرها الداعية فتح الله غولن، كجزء من التحقيقات التي تجريها السلطات في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة، التي تتهم الحكومة غولن المقيم في أميركا منذ عام 1999 بتدبيرها، فيما ينفي غولن، الذي يعيش في منفاه الاختياري في ولاية بنسلفانيا الأميركية، أية مشاركة أو صلة له في المحاولة الانقلابية.
وقال يلماز في تصريحات الأسبوع الماضي إن هؤلاء الأشخاص «لن يُسمح لهم بالعمل في معاهد القطاع العام، أو القطاع الخاص مرة أخرى». كما أعلن مجلس التعليم العالي الجمعة أنه تم إبعاد 5 آلاف و342، أكاديميا وإداريا عن العمل بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، كانوا يعملون بالجامعات التابعة لغولن والمساكن التابعة لها وبعض الجامعات.
ولا تعد الحملة على مدارس ومؤسسات غولن والمؤسسات الأخرى القريبة منه وليدة محاولة الانقلاب الفاشلة في منتصف يوليو الماضي، لكنها بدأت مع تفجر فضائح الفساد والرشوة وتحقيقاتها في تركيا في 17 و25 ديسمبر 2013 التي طالت حكومة رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان قبل انتخابه رئيسًا للجمهورية في أغسطس 2014، التي وصفها بأنها محاولة من جانب الكيان الموازي (حركة الخدمة) للإطاحة بحكومته.
واتخذت الحكومة سلسلة من الإجراءات ضد مؤسسات غولن امتدت إلى فرض الوصاية على جميع مدارسه وجامعاته ومؤسساته الاقتصادية والإعلامية المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بحركة الخدمة، كما قادت وزارة الخارجية التركية حملة دبلوماسية في الخارج في مسعى لإغلاق مدارس الحركة ومؤسساتها الأخرى خارج تركيا. ولم تلق التحركات الدبلوماسية من جانب الحكومة التركية خلال عامي 2014 و2015 صدى لدى الدول التي توجد بها مدارس ومؤسسات غولن الأخرى من مراكز ثقافية وتعليمية ومؤسسات اقتصادية.

بين الرفض والترحيب
عقب محاولة الانقلاب الفاشلة صعّدت تركيا حملتها الدبلوماسية ووجدت استجابة من بعض الدول مثل الأردن التي أغلقت مدرسة للحركة وأذربيجان والسودان، وليبيا التي أغلقت المدارس الموجودة والصومال التي تقوم فيها الحكومة التركية بأنشطة كبيرة من خلال وكالة التنسيق والتعاون الدولي بها، كما أعلنت باكستان أنها ستدرس وضع 24 مؤسسة تعليمية أنشئت منذ 21 عاما بواسطة رجال أعمال.
كما وعدت كازاخستان بالنظر في الأمر خلال زيارة رئيسها لتركيا الأسبوع قبل الماضي بعد أن حذر السفير التركي في كازاخستان نوزات أويانيك من المدارس المرتبطة بالداعية غولن قائلا إنها لا علاقة لها بأجهزة الدولة الرسمية في تركيا وردت وزارة التعليم في كازاخستان بأن هذه المدارس تخضع لقوانين الدولة. أما ألمانيا، فرفضت فرض الرقابة على مدارس غولن كما رفضت نيجيريا إغلاق هذه المدارس التي تعمل بها منذ أكثر من 20 عاما، وكان هذا هو الحال في مصر أيضا.
وبالنسبة للولايات المتحدة التي يوجد بها نحو 200 مدرسة ومركز تعليمي وثقافي للحركة فترفض إغلاقها لأنها تخضع في الأساس للقانون الأميركي الذي يتيح للأوقاف من مختلف الديانات بإنشاء المدارس.
قرغيزستان، التي تعد نقطة تمركز مهمة لحركة غولن في آسيا الوسطى فقد رفضت طلبا من الخارجية التركية بإغلاق مدارس غولن فيها قائلة إنها دولة ذات سيادة ولا تقبل إملاءات من وزير خارجية دولة أخرى.
وتواصل تركيا قدما حملتها الدبلوماسية على أمل تطويق حركة غولن خارج البلاد، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، الأسبوع الماضي، إن 15 مؤسسة تابعة لـ«منظمة فتح الله غولن (الكيان الموازي)» تنشط في مجالات التعليم والثقافة والتجارة باليابان، داعيًا طوكيو إلى إيقاف عمل تلك المنظمات لما تشكله من خطر على أمن البلاد واستقرارها.

ترحيل وحظر في الخليج
من جهة أخرى، أكدت الحكومة التركية رفض السعودية فتح مدارس تابعة لتنظيم فتح الله غولن على أراضي المملكة، وأن المعلمين المنتمين للتنظيم الموازي الذين تم رصدهم في السعودية كانوا قد حاولوا التغلغل داخل مدارس تركية تابعة للحكومة ومخصصة لأبناء الجالية التركية. وأشارت إلى أن تلك المدارس حاصلة على التراخيص اللازمة من وزارتي التعليم في السعودية وتركيا.
وفي هذا الشأن، قال القنصل التركي في جدة فكرت أوزر لـ«الشرق الأوسط» إن الحكومة التركية رصدت العام الماضي 22 شخصًا ينتمون إلى تنظيم فتح الله غولن من منتسبي التعليم ما بين إداريين ومعلمين في ثماني مدارس تركية في السعودية تابعة لوزارة التعليم التركية. وبين أنهم انضموا إلى المدارس الثماني، دون أن يكشفوا عن توجهاتهم المناهضة للحكومة الشرعية في تركيا، بعد أن يئسوا من سماح السعودية بفتح مدارس تابعة لأعداء تركيا.
وأمام ذلك، وفقا لأوزر، عمدت الحكومة التركية إلى «إنهاء خدمات المعلمين المتورطين بأفكار هدامة من أتباع غولن»، مبينا أن المعلمين المتورطين بالانتماء للكيان الموازي تمت إعادتهم إلى تركيا في فترة سابقة من العام الماضي. وركز على أنه «فور معرفة حقيقة انتمائهم تم فصلهم وإعادتهم إلى تركيا».
وشدد أوزر على أن السعودية وتركيا حريصتان على عدم وجود أي منتسبين من التعليم في المدارس التركية في السعودية ينتمون لهذا التنظيم، وأنه في حال اكتشاف انتماء أحد منهم سيتم فصله وإعادته إلى تركيا على الفور. ولفت إلى أن دول الخليج لم تسمح بفتح هذه المدارس على أراضيها، وأن إمارة أبوظبي كانت قد سمحت بفتح مدرسة ولكن تم إغلاقها بعد أقل من سنتين وإعادة الطاقم الذين كانوا يعملون فيها إلى تركيا.
وبين القنصل التركي أن فتح الله غولن استطاع فتح 4 مدارس من مدارسه في اليمن، ولكنها توقفت مع الحرب، يوجد ثلاث منها في صنعاء وواحدة في عدن، تم مغادرة منتسبيهم إلى تركيا أثناء الحرب.

مدارس غامضة.. وتحقيق فيدرالي لم يكتمل
في عام 2011، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرا عن ظاهرة جديدة في عالم المدارس الخاصة، عن مدارس إسلامية تنتشر في عدة ولايات أميركية، خصوصًا ولاية تكساس. كان عنوان التقرير: «مدارس خاصة لها صلة بحركة دينية في تركيا تنتشر في ولاية تكساس». وبحسب التقرير، كانت توجد أكثر من 120 مدرسة «تركية»، 33 منها في ولاية تكساس. وفي الوقت ذاته، نشرت صحيفة «فلادلفيا انكوايرار» تقريرا عن وجود 20 مدرسة في ولاية بنسلفانيا.
ورغم أن غولن كان موجودا في الولاية في ذلك الوقت لم يركز عليه التقرير. لكن، لاحظت الصحيفة أن «المدارس التركية» تستخدم مدرسين أجانب، ومن تركيا بصورة خاصة، يأتون إلى الولايات المتحدة بتأشيرة «إتش 1 بي» (عمل مؤقت).
وكان سبب نشر التقرير تحقيقات أجرتها «إف بي آي» بالتعاون مع وزارة التعليم الفيدرالية عن ممارسات فاسدة في منح هذه التأشيرة. واكتشف المحققون أن المدرسين الذين يأتون بهذه التأشيرة يتبرعون بنسبة كبيرة من رواتبهم للجهات التي تحضرهم.
لكن، لم تستمر التحقيقات لسببين: أولا: لم تعثر السلطات الأميركية على دليل بوجود «نشاط إرهابي»، ثانيا: لم تعثر على دليل بوجود «أجندة دعوية» في المقررات المدرسية.
وفي عام 2012، ازدادت شهرة غولن بعد أن ظهر في مقابلة في برنامج «60 دقيقة» (برنامج تحقيقات صحافية). وحينها، قال الداعية إن المدارس ليست دينية، ولا حتى إسلامية. ونفى وجود صلة مباشرة بينه وبين المؤسسات التي تديرها. وأشار إلى أسماء المؤسسات التي تديرها: «هارموني» (الود)، و«كوزموس» (الكون)، و«هورايزون» (الأفق). وقال إنها «أسماء غير إسلامية»، وقال إن المدارس تركز على الأحياء الفقيرة، وعلى تدريس الرياضيات والعلوم.
لكن، قال معلق خلال المقابلة، إن «السرية التي تدار بها المدارس، وعزلة صاحبها (غولن)، تشجع الذين يقولون إنه يريد السيطرة على تركيا من الولايات المتحدة، أو السيطرة على العالم، في شكل (خلافة إسلامية)»، بحسب قوله.
في الشهر الماضي، نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية تقريرًا ربط المدارس مباشرة مع غولن. إلى ذلك قال جوشوا هندريك، أستاذ علم الاجتماع في جامعة لوليولا (ولاية ماريلاند)، ومؤلف كتاب: «غولن: السياسات الغامضة للإسلام الاقتصادي في تركيا والعالم»، الأسبوع الماضي، إن نجاح المدارس يعود إلى الأساتذة الذين يتطوعون للعمل في أماكن بعيدة (مثل دول في أفريقيا)، مقابل رواتب منخفضة، ثم يتبرعون بجزء كبير من هذه الرواتب لصالح حركة «خدمة» التي تدير المدارس. وقال إن غولن كان حليفا للرئيس التركي إردوغان في انتخابات عام 2002 (التي كانت بداية حكم حزب العدالة والتنمية). لكن «يبدو أن زيادة قوة غولن في تركيا وفي العالم فرقت بينهما».

«الغولونيون» على قائمة التطرف في روسيا
يُطلق في روسيا على أتباع غولن «الغولونيون»، أو أتباع حركة «نورغولار»، وقد ظهر هؤلاء مطلع التسعينات عندما بدأت شركات تابعة لفتح الله غولن بالتغلغل في مشاريع اقتصادية وافتتاح مؤسسات تعليمية (إسلامية) في الجمهوريات السوفياتية السابقة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
وفي إطار هذا النشاط افتتح غولن مطلع التسعينات من القرن الماضي، مدارس له في عدد كبير من «الجمهوريات القومية الروسية» مثل تتارستان، وباشكيرستان، وداغستان، وفي خاكاسيا شرق روسيا، فضلا عن مدارس في المدن الكبرى مثل موسكو، ويكاتيرينبورغ، وبطرسبورغ. كما افتتح مدارس في القرم (عندما كانت تابعة لأوكرانيا) حيث تعيش تاريخيا هناك أعداد كبيرة من التتار.
إلا أن عمل تلك المدارس والمعاهد، مثل مجمل نشاط المنظمات والجماعات التابعة لغولن لم تستمر لفترة طويلة في روسيا. وفي عام 2002 اتهمت هيئة الأمن الفيدرالي الروسي (الكي جي بي سابقًا) المجموعات التي تعمل ضمن نشاط غولن في روسيا بأنها «تقدم الدعم للعصابات المسلحة في الشيشان، وتمارس التجسس وجمع المعلومات لصالح أجهزة استخبارات خارجية، وعملت على تشكيل (لوبي) في مؤسسات السلطة المحلية»، وفق ما أعلن نيكولاي باتروشيف مدير هيئة الأمن الروسية حينها.
وقال إن تلك الجماعات مارست نشاطها في روسيا عبر شركات تجارية ومؤسسات أخرى افتتحتها في البلاد. وبعد تلك التصريحات تم ترحيل 20 مواطنا تركيا على صلة بتلك الجماعات ما بين عامي 2002 و2004، وفي عام 2007 غادر الأراضي الروسية 41 معلما تركيا بطلب من النيابة العامة في جمهورية تتارستان العضو في الاتحاد الروسي، وتم إغلاق كل المؤسسات التي أشار إليها الأمن الروسي بما في ذلك مدارس فتح الله غولن. كما صُنفت حركة «نورغولار» على أنها حركة متطرفة، وتم حظر أدبيات كثيرة من مؤلفات بديع الزمان النورسي، الذي تشكل أدبياته أساسًا لنهج وأفكار فتح الله غولن ونشاطه في العالم.

باكستان.. وكردستان العراق
في هذه الأثناء، خرجت سلسلة مدارس «باك ترك» التركية في باكستان بتصريحات لتنأى بنفسها عن عملية التخطيط المزعومة لمحاولة الانقلاب في تركيا. وجاءت التصريحات عقب مطالبة الحكومة التركية نظيرتها الباكستانية بإغلاق 13 مدرسة تديرها جمعية خيرية تركية يعتقد ارتباطها بفتح الله غولن.
وفي تصريح رسمي، قال مسؤول بسلسلة مدارس وكليات «باك ترك» الدولية الواقعة في منطقة «إتش 8» بمدينة إسلام آباد: «لقد انزعجنا بشدة من المزاعم المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي حاولت الربط بين سلسلة مدارس وكليات باك ترك الدولية في باكستان وفتح الله غولن، والتحرك السياسي المشئوم والمشجوب في تركيا الذي نسب إليه أخيرا».
أضاف المسؤول أن المدرسة تود أن توضح وبشكل جلي أن سلسة مدارس وكليات باك ترك الدولية في باكستان لا تربطها أي صلة مع أي شخص أو حركة أو تنظيم، سواء سياسي أو خيري، وليست لنا أي علاقة مالية بأي جهة كانت. وأضاف المسؤول بالمدرسة: «إدارة سلسلة المدارس تحتفظ بحقها في اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة في هذا الصدد».
وامتلأت وسائل الإعلام الباكستانية بالقصص عن الصلة المزعومة بين المؤسسة التركية التي تدير سلسة مدارس باك ترك في باكستان والداعية الإسلامي الذي يعيش في المنفى، وذلك بعدما طالب السفير التركي في إسلام آباد الحكومة الباكستانية بإغلاق جميع فروع مدارس باك ترك بسبب ارتباطها بـ«الكيان الموازي».
وفي السياق ذاته، طالب السفير التركي وبعض المسؤولين التركيين علانية، أثناء زيارتهم لباكستان، الحكومة الباكستانية بإغلاق مدارس وكليات «باك ترك». وفي تصريح لصحيفة «الشرق الأوسط»، قال مسؤول بإدارة المدرسة إن «السلطات الباكستانية لم تطالب إدارة المدرسة باتخاذ أي إجراء حتى الآن، لكننا قلقون من التقارير المتداولة في الإعلام التي توقعت إغلاق المدرسة بالقوة».
وفي إقليم كردستان العراق، وفي خضم الحرب الداخلية التي كانت تدور رحاها بين الحزبين الرئيسيين (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) بدأت مؤسسة «فزالر» للتربية والتعليم العائد للداعية التركي فتح الله غولان عملها في الإقليم من خلال افتتاح أول مدرسة ثانوية في مدينة أربيل تحت اسم كلية عشق (ئيشق) أي «النور» بالتركية، ومن ثم اتسع عمل هذه المؤسسة فافتتحت كثيرًا من الثانويات والمدارس الخاصة بالبنات والبنين ومدارس ابتدائية ورياض الأطفال.
ورغم التوترات التي شابتها العلاقات بين إقليم كردستان وتركيا خلال تسعينات القرن الماضي، فإن عمل هذه المؤسسة التعليمية لم يتأثر بها، بالعكس، استمرت في التوسع والتطور، لكن الانقلاب الفاشل الذي شهدته واتهام حركة الخدمة بالوقوف خلفها عرض هذه المدارس في كل أنحاء العالم، بما فيه إقليم كردستان لتهديد الإغلاق.
إلى ذلك، أعلن المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان، سفين دزيي، في تصريحات صحافية إن المدارس المرتبطة بالداعية ستصبح تابعة لوزارة التربية في الإقليم. في غضون ذلك، ذكر بيان لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي في حكومة إقليم كردستان، حصلت «الشرق الأوسط»، على نسخة منه، إن «أي قرار يُصدر من قبل الوزارة بصدد جامعة عشق سيُراعى فيه مصلحة الطلبة واستمرارية العملية الدراسية».
ووفقا لإحصاءات نشرتها مؤسسة «فزالر»، وحصلت «الشرق الأوسط» عليها، فإن ما يقرب من 14 ألف طالب يتلقون التعليم في 33 مركزًا تعليميًا تابعًا لها في العراق، تنتشر في مدن أربيل والسليمانية ودهوك وسوران وحلبجة وكركوك، إضافة إلى بغداد والبصرة. ويحتضن الإقليم نحو عشرين مدرسة من مدارس النور التابعة لمؤسسة «فزالر» (موزعة ما بين مدارس ابتدائية ومتوسطة وابتدائية ورياض أطفال) وجامعة عشق الموجودة في مدينتي أربيل والسليمانية، فيما يبلغ عدد طلاب هذه المدارس والجامعات في الإقليم نحو 13 ألف طالب. وأنشأت المؤسسة في عام 2008 جامعة عشق التي توفر خدمة تعليمية في 6 كليات مختلفة لنحو 2350 طالب وطالبة.
وبحسب مصادر في إدارة مؤسسة «فزالر»، فإن مدارسها ومناهجها تخضع إلى رقابة الإشراف التربوي التابع لوزارة التربية في حكومة إقليم كردستان منذ تأسيسها حالها حال المدارس الحكومية الأخرى في الإقليم.

مفارقات السياسة تمنح المدارس قبلة الحياة في مصر والشمع الأحمر بالسودان
خلال السنوات التي أعقبت الإطاحة بنظام الرئيس المصري محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان، ظلت مدارس صلاح الدين التركية في القاهرة تحت مجهر السلطات المصرية التي توترت علاقتها بشدة مع النظام التركي الذي ألقى بثقله على الساحة الدولية لدعم جماعة الإخوان، لكن مفارقات السياسة كانت كفيلة بأن تمنحها قبلة الحياة.
وبينما سعت إدارة المدرسة التركية ذات التعليم الأميركي بصبغته «إسلامية»، إلى نفي أي علاقة لها بجماعة الإخوان المسلمين «المحظورة» في مصر، جاءت حقيقة تبعيتها لحركة «الخدمة» بقيادة فتح الله غولن لتنقذها من ذلك الاتهام، ولتفتح صفحة جديدة من الثقة مع السلطات المصرية.
يقول أحمد نظاروف، مدير العلاقات العامة بالمدرسة لـ«الشرق الأوسط» في «أعقاب الانقلاب الفاشل في أنقرة، طلبت السلطات التركية من القاهرة، إغلاق المدارس، ضمن الحملة الحالية لمطاردة أي أشخاص أو مؤسسة متهمة بدعم محاولة انقلاب يوليو الماضي، غير أن الحكومة المصرية رفضت ذلك الطلب، وأكدت التزام المدرسة بالمعايير التعليمية المصرية، وعدم رصدها أي مخالفات بشأن نشاط المدرسة التعليمي أو المالي».
وتأتي المدرسة ضمن سلسلة مدارس يمولها رجال أعمال أتراك بتوجيهات من الداعية الإسلامي غولن، بهدف الجمع ما بين التعليم بالمناهج الأميركية وتدريس الدين الإسلامي وتحفيظ القرآن.
وتأسست مدارس صلاح الدين في مصر عام 2009، وخلال السنوات الماضية اكتوت المدرسة بنار السياسة، في ظل القطيعة السياسية بين القاهرة وأنقرة، عقب ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013 في مصر، ودعم تركيا لجماعة الإخوان، التي تم تصنيفها جماعة «إرهابية» في مصر. لكن نظاروف، والذي يتحدث العربية بطلاقة، قال إن «مدارس صلاح الدين تتبع حركة (الخدمة)، لكنها مستقلة ماليا وإداريا، وليس لها أي صلة مباشرة مع غولن».
وتقع المدرسة في مدينة القاهرة الجديدة شرق العاصمة، وتخضع لإشراف وزارة التربية والتعليم في مصر، شأنها شأن جميع المدارس الدولية ذات المصاريف المالية المرتفعة نسبيا. ويدير المدرسة حاليا التركي حمزة أكصوي، ويصل عدد الطلاب بها أكثر من ألفي طالب. وتعد المدرسة التركية الوحيدة في البلاد.
ولم يكن هذا الحال في السودان، ففي أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة، أغلقت الحكومة السودانية مدرستين إحداهما مدرسة (عبد الله ابن أبي السرح العالمية) بالخرطوم، وهما مملوكتان للكيان الموازي وحولت إدارتها لشركة سودانية خاصة للحفاظ على مصالح طلابهما. ومن المتوقع وصول وفد من وزارة التعليم التركية لبحث مصير المدرستين اللتين أغلقتهما حكومة الخرطوم وفقًا لقرار رئاسي جاء استجابة لطلب حكومة أنقرة.
ورغم أن المسؤولية عن هذه المدارس تقع على وزارة التربية والتعليم السودانية، فإنها لم تقدم أية تفاصيل عن كيفية التصرف في ملكيات خاصة، وهو ما يتوقع بحثه مع وفد تعليمي تركي أعلن سفير أنقرة في الخرطوم جمال الدين آيدين عن قرب وصوله.
ومن جانبه، قال وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور إن الرئيس البشير أصدر قرارًا بإغلاق جميع ممتلكات غولن في البلاد ومن بينها شركات واستثمارات، بما في ذلك بتحويل المدارس الإسلامية التركية إلى القطاع الخاص بوزارة التعليم السودانية.
ونقل عن المتحدث باسم الخارجية السودانية السفير قريب الله خضر، أن الحكومة التركية طلبت من الخرطوم إغلاق مدارس غولن، وأن وزارته أبلغت وزارة التربية والتعليم المختصة، وهما مدرستان يدرس فيهما أكثر من 800 طالب من جنسيات مختلفة معظمهم سودانيون، وأوضح أن وزارة التربية ومنعًا لتضرر الطلاب حولتهما إلى مدرستين تديرهما شركة سودانية مما يمثل قوة العلاقة بين البلدين.

 

مدرسة في لندن يديرها رجال أعمال أتراك مناهضون لحكومة إردوغان

باحث في الشؤون التركية لـ «الشرق الأوسط» : رأسمال «الكيان الموازي» بات يبلغ 150 مليار دولار
تحوم عدة نظريات وتسريبات وشبهات حول مدارس فتح الله غولن حول العالم، ولكن هناك أمورًا ثابتة عنها، إذ يقول الدكتور سعيد الحاج الباحث في الشأن التركي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إنه «على مدى سنوات طويلة جدا، حصلت تلك المدارس على الدعم من الحكومة التركية وتسهيلات وأراضٍ من سفاراتها في الخارج باعتبارها كانت تعد قوة ناعمة للبلاد وحتى كانت تسمى المدارس التركية باسم عام لأنها كانت تمثل البلاد». ويضيف: «شملت التسهيلات أيضًا تيسير المناهج وتسفير الطلاب برحلات لتركيا لحضور مناسبة سنوية تحت اسم (أولمبياد اللغة التركية) يشترك فيها طلاب من مختلف دول العالم يرتادون هذه المدارس يقولون الشعر والنثر باللغة التركية، فكان هناك احتفاء واحتواء رسمي لهذه المدارس».
نشرت هيئة «مواطنون ضد جماعات الضغط الخاصة (لوبي) في المدارس» التي تنشط في أميركا قائمة غير رسمية تدرج فيها المدارس التابعة لحركة غولن حول العالم. ومع أن القائمة غير رسمية، فإنها تكشف مدى توغل الكيان الموازي في السلك التعليمي بمختلف دول العالم. وعن سهولة ذلك، يقول الدكتور الحاج: «حتى في الدول الأجنبية كان هناك تسهيلات كبيرة جدا باعتبار أن هذه المؤسسات غير ربحية فمعفاة من الضريبة». ويوضح مستطردًا: «كثير من الدول كانت تمنح تلك المدارس أراضي من دون مقابل، كهبة أو منحة. إما عن طريق الدولة بشكل مباشر أو عن طريق رجال أعمال يرون في هذه المدارس مشروعًا تعليميًا وخدميًا».

مدرسة «نورث لندن غرامر سكوول».. تحقيق مفصل
وفي قائمة الهيئة غير الرسمية ثلاث مدارس في بريطانيا. اختارت «الشرق الأوسط» أن تسلط الضوء على أكبر مدرسة من الثلاث. مدرسة «نورث لندن غرامر سكوول» الواقعة شمال العاصمة البريطانية موثقة في السجلات الحكومية البريطانية جمعية خيرية تساعد «أناسًا معينين من عرق إثني معين»، بحسب الموقع الحكومي الرسمي.
وسميت المدرسة عند تأسيسها عام 2006 «ويزدوم سكوول» أي مدرسة الحكمة. وغير مجلس الامناء اسمها مع نقلها إلى الحرم الجديد عام 2014 إلى «نورث لندن غرامر سكوول».
ويوفر الموقع جميع أوراق المدرسة الرسمية من أوراق تسجيل المدرسة إلى تقرير حساباتها ونفقاتها السنوي.
وتباينت بعض بنود أوراق التسجيل مع سجل الحسابات المتوفر على الموقع الإلكتروني الحكومي. فمع أن أوراق التسجيل تؤكد أن «معظم تمويل المدرسة يؤمن من خلال دفعات أقساط الطلبة». إلا أن حساباتها للسنة المالية 2014 - 2015 تكشف أن الكم الأكبر من التمويل الذي يبلغ أكثر من 4 ملايين جنيه إسترليني مصدره «عطاءات وتبرعات خيرية» من ممول مجهول.
ولكشف تلك الملابسة، اتصلت «الشرق الأوسط» بهيئة تنظيم الجمعيات الخيرية في بريطانيا، وأكد متحدث باسم الهيئة أن «الجمعيات الخيرية في بريطانيا غير ملزمة بالإفصاح عن مصدر التبرعات التي تصلها ولكنها ملزمة بإدراجها في حساباتها السنوية». وفي سياق متصل، يشير الدكتور الحاج إلى أن تمويل المدارس ذات الانتماء لفكر «الكيان الموازي» له ثلاثة أبعاد: «البعد الأول هو أن تكاليف تشغيل المدارس ليست باهظة بسبب وجود التسهيلات المذكورة سابقا، ودعم رجال الأعمال الأتراك»، ويضيف: «البعد الثاني هو أن هذه المدارس هي مشاريع استثمارية تتقاضى رسومًا باهظة من أهالي الطلبة ولذلك تنفق على نفسها».
ويستطرد موضحًا: «أما البعد الثالث، وهو الأهم، فإن الكيان الموازي تحول لإمبراطورية ضخمة من مؤسسات مالية وإعلامية وشركات قابضة تتضمن أكثر من 9 آلاف شركة على مستوى العالم». ويردف مؤكدًا: «صحيفة الادعاء كانت قد نشرت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة أن رأسمال الجماعة بات يبلغ 150 مليار دولار، وبالتالي ليس لديهم مشكلة كبيرة بالتمويل فلديهم بنوك وشركات تصرف على المشاريع بالإضافة للإمبراطورية الإعلامية التي يملكونها».
وبخصوص مناهج مدرسة «نورث لندن غرامر سكوول» وآلية عملها للتحقق ما إن كانت توفر أفضلية للطلاب الأتراك، وتمارس نوعًا من الدعوة المباشرة، تواصلت «الشرق الأوسط» مع هيئة تقييم المدارس البريطانية (أوفستيد) التي أكدت بدورها أنها قامت بزيارة المدرسة والتحقق من مناهجها، وأن المدرسة نجحت بالحصول على تقييم «جيد». وعند سؤال «أوفستيد» عن سر تمويل المدرسة عن طريق التبرعات «السخية جدا»، وعن بند تأسيسها لدعم فئة معينة، لم يملك المتحدث باسم «أوفستيد» الإجابة، ونصح بالتواصل مع وزارة التعليم في بريطانيا. وعند تواصل «الشرق الأوسط» مع وزارة التعليم، أكدت الوزارة أن المدرسة خاصة ولا تتبع الوزارة، ولا سلطة عليها. مما أثار كثيرًا من الشكوك.
وحققت «الشرق الأوسط» في هويات مجلس إدارة المدرسة، لتكتشف أن عضوًا واحدًا على الأقل من مناهضي نظام إردوغان. وتأكد ذلك من خلال تغريداته على موقع «تويتر»، ففي إحدى التغريدات، نشر هذا العضو صورة تُشبِّه إردوغان بهتلر. وعندما تواصلت «الشرق الأوسط» مع هذا العضو الذي فضل عدم الكشف عن هويته، قام بتحويل الأسئلة لمدير المدرسة هاكان غوك. وعندما جرى التواصل مع غوك بالبريد الإلكتروني قام بالإجابة عن بعض الاستفسارات.
وأكد غوك لـ«الشرق الأوسط» أن «المدرسة مدرجة جمعية خيرية لأنها تساعد الطلبة من كل الأعراق والأديان لتوفير تعليم متكامل ومتميز لهم بالتركيز على المواد العلمية كالرياضيات والعلوم». وأضاف: «مع أن المدرسة قامت باجتذاب الطلبة الأتراك في بادئ الأمر، فإنها باتت تحتضن طلبة من جنسيات وأديان متنوعة من أكثر من 15 دولة ونقل حرم المدرسة إلى حي هندون الذي لا تسكنه غالبية تركية ساعد على ذلك».
وعن مصادر تمويل المدرسة، قال غوك إن معظمها يأتي من أقساط الطلبة، وبرر سبب ارتفاع التبرعات في السنتين الماليتين 2013 - 2014 و2014 - 2015 على أنها نفقات نقل حرم المدرسة إلى منطقة هندون. وعن محتوى المناهج واحتمالية وجود دعوة مباشرة فيها، نفى مدير المدرسة ذلك، وشدد على أن المناهج تركز على المواد العلمية. إلى ذلك، يقول الباحث الدكتور الحاج: «المناهج في تلك المدارس حسبما ذُكر في تقارير كثيرة لا تدعو لفكر معين أو لدعوة إسلامية معينة ينشرها فتح الله غولن. بالعكس تمامًا حتى كثير من هذه المدارس تعلم باللغة الإنجليزية عوضًا عن التركية. وبالتالي الأساس لهذه المدارس ليس قوة تركية ناعمة ولا حتى فائدة بشكل مباشر تصب في تضخيم عدد أبناء فكرة إسلامية معينة».
وعند سؤال مدير المدرسة إن كانت تنتمي لفكر «الكيان الموازي»، طلب وبحرارة عدم ربطها مع الداعية غولن، خصوصًا في ظل اتهامه بتسيير محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا. ولكنه أرفق في الرسالة الإلكترونية التي أرسلها ردًا على أسئلة «الشرق الأوسط» وثيقة تدعم حركة غولن ومدارسه. وتقول الوثيقة: «مدرسة نورث لندن جرى افتتاحها من قبل رجال أعمال بريطانيين مؤمنين بتعاليم حركة (الخدمة)، وأهمية مساعدة الطلاب في تلقي تعليم متميز». وتضيف الوثيقة: «تعاليم حركة (الخدمة) تقوم على أسس غير ربحية وتعمل على توفير جو يشجع التعايش بين كل الأطياف والإثنيات، وهذا هو الأمر الوحيد من الكيان الموازي الذي تبنته هذه المدرسة».
وحول أسباب نأي المدرسة بنفسها من حركة غولن يقول الباحث الحاج: «في طبيعة الحال هذا له سببان: الأول طبيعة الجماعة التي تتبع التقية السياسية والسرية التامة ولا تعلن ولاءها ولا أفكارها ولا آيديولوجياتها وسرية تمامًا، ودائمًا لم يكونوا يقولون إنهم تابعون لغولن بل يقدمون أنفسهم كمدارس تركية على مستوى العالم تعطي صورة حضارية عن الدولة التركية وقوة ناعمة والحوار مع الآخر والتعايش والتقارب... إلخ الشعارات الكبيرة هذه.. فهم لا يعتبرون أنفسهم تابعين لغولن». ويضيف: «أما السبب الثاني فهو أن هذه الجماعة دخلت في مواجهة مع الحكومة التركية في 2013 وأخيرا بعد محاولة الانقلاب بات الكيان الموازي مصنفًا كتنظيم (إرهابي)، وبات مراقبًا وملاحقًا في تركيا وفي كثير من الدول باعتبار أن علاقات تركيا الدبلوماسية باتت تعمل لصالح إغلاق المدارس أو وضع اليد عليها». ويستطرد: «لذلك من الطبيعي والمتفهَّم أن القائمين على المدارس ينفون صلتهم بغولن حفاظا على أنفسهم ومشاريعهم ومدارسهم بطريقة أو بأخرى».

الكيان الموازي جماعة نخبوية غامضة
ما تبين من تحقيق «الشرق الأوسط» في تلك المدرسة التي لم يكن بمقدورها ولا بمقدور الحكومة البريطانية تحديد تمويلها ولا ولائها بشكل مباشر، يصبح من مقدورنا التأكيد على سرية آلية هذه الحركة التي توغلت عالميًا. وغموضها يقف في وجه محاولات الحكومة التركية بالقضاء عليها. ويقول الحاج: «طريقة عمل جماعة الخدمة (الكيان الموازي) هو زيادة عدد الأنصار واختيار نماذج مميزة تحديدًا تنضم لمؤيدي الكيان. أسميها (الماسونية الإسلاموية) لأنها تعتمد على اختيار النابغين الأذكياء الأغنياء وترتيب الولاء لهم، وليس الضرورة التفكير بطريقة معينة».
ويضيف: «بالتالي هذه المدارس في كثير من الدول تهتم بأبناء المسؤولين والدبلوماسيين والأغنياء. وهي باب أو مدخل لزيادة نفوذ الجماعة فضلاً عن أن أحد أهم أسباب تخوف الحكومة التركية من تلك المدارس أنها تفتح علاقات خارجية ودعمًا لـ(الكيان الموازي) من دول مختلفة».
ويكشف الباحث أن «هناك نظرية أيضًا بأن هذه المدارس تنشط في منطقة آسيا الوسطى وفي أفريقيا، المناطق التي لا تنشط فيها الاستخبارات الأميركية. وهذا الكلام فيه أساطير وفيه حقيقة. مثلا المؤسسات التابعة لغولن في الولايات المتحدة فيها مئات المدارس بمختلف الولايات موجودة على قائمة المؤسسات التي تساعد الاستخبارات الأميركية. هذا التعاون موجود وموثَّق». ويؤكد: «حتى، للمثال، عندما واجه فتح الله غولن مشكلات في الإقامة طلب منه بعض أوراق التوصية، أحضرها من مسؤولين سابقين في المخابرات الأميركية، وقالوا إن هذا داعية، ويعمل على الحوار بين الأديان وهذا بُعد آخر من تخوف الحكومة التركية من هذه المدارس، رغم أنها ليست أولوية. الأولوية للحكومة التركية القضاء على المدارس في الداخل باعتبارها التي تفرخ أنصارًا لـ(الكيان الموازي) بطريقة أو بأخرى، وتعتبر مصدر تمويل لهم. تدعم الكيان الموازي بالأنصار وتقدم لهم تمويلا لأنها تأخذ رسومًا باهظة من الطلاب».
ويستطرد أخيرًا: «في الخارج تكمن قوتها في تعبيد الطريق لعلاقات بين الكيان والحكومات الأجنبية، وترى الحكومة التركية أن تلك المدارس تعمل ضد صالح تركيا في كثير من الملفات السابقة، بما فيها التنصت على مسؤولين أتراك، فكانت الحكومة التركية تتهم الكيان الموازي بتسريب هذه المعلومات وإعطائها لجهات خارجية، وكان يقصد بها إما الولايات المتحدة أو إسرائيل».

كشف حسابات المدرسة لعام 2014 يكشف استلامها تبرعات من مصدر مجهول بقيمة 4 مليون جنيه استرليني (موقع هيئة تنظيم الجمعيات الخيرية في بريطانيا)



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.