وودي ألان بين اليهود وهوليوود

يمثل حالة خارجة عن المألوف في السينما المعاصرة

مشهد من فيلم «مجتمع المقهى»
مشهد من فيلم «مجتمع المقهى»
TT

وودي ألان بين اليهود وهوليوود

مشهد من فيلم «مجتمع المقهى»
مشهد من فيلم «مجتمع المقهى»

يمثل المخرج والممثل والكاتب الأميركي وودي ألان حالة متفردة أو خارجة عن المألوف في السينما المعاصرة، حالة تجتذب الباحثين عن السينما الجادة سواء من الجمهور أو النقاد المختصين. ولأني أعد نفسي من الجمهور الباحث، قدر الإمكان، عن الجاد، سواء في السينما أو غيرها، فمن الصعب أن أعرف عن فيلم جديد لألان دون أن أسعى لحضوره سواء في دار سينما إن كنت في بلد تتاح فيه الدور - وهي في كل بلاد العالم ما عدا بلدي - أو من خلال وسيلة أخرى.
تفرد ألان يأتي من جمعه بين الكوميديا - السوداء أحيانا - وخطاب الاحتجاج سواء الاجتماعي/ الثقافي أو السياسي، إلى جانب الكاريزما والحضور الشخصي الضاغط على الشاشة. فأنت في أفلام ألان لا تضحك أو تتأمل الناقد المثقف فحسب؛ وإنما أيضًا تشاهد ألان نفسه؛ حيث هو المخرج والممثل والكاتب في معظم الأحيان، وإن لم يحضر ممثلاً جاءت شخصية رئيسية، أو الرئيسية في الغالب، لتمثله. بعض أفلام ألان لا تحقق هذه المعادلة تمام التحقيق، كما هي الحال في أعمال كل المبدعين، لكن ما يلتصق بالذاكرة هي تلك التي تحققها، ومنها: «مانهاتن»، و«آني هول»، و«حنا وأخواتها»، و«وردة القاهرة الأرجوانية»، ومؤخرًا «منتصف الليل في باريس». في هذا الأعمال وغيرها تتكرر معادلة باتت معروفة لمتابعي أعمال ألان: نقد اجتماعي/ سياسي ساخر يرويه مراقب من داخل الأحداث أو خارجها ويكشف مشكلات؛ منها النفاق والعزلة الفردية، ضمن طرح فكري تتخلله أفكار فرويد أو ماركس وتطغى عليه الكوميديا. ومع أن هذه التوقعات تضعف بعض الأعمال، فإن الجيد منها يتجاوز توقعاتنا على الرغم من وقوعه ضمن الإطار المألوف.
فيلم ألان الأخير، وعنوانه «كافي سوسايتي»، (مجتمع المقهى)، من تلك التي تتجاوز المألوف. يغيب ألان شخصيًا ممثلا ويحضر راويًا، وكالعادة أيضًا من خلال إحدى الشخصيات الناظمة لكثير من أعماله. الحكاية تأتي من ثلاثينات القرن الماضي وتتمحور حول شاب من أسرة يهودية من نيويورك يقرر الذهاب إلى عاصمة البريق السينمائي والمجتمع المخملي هوليوود حيث يعمل خاله الثري وصاحب المؤسسة الضخمة المتخصصة في البحث عن مواهب للتمثيل السينمائي أثناء فترة صعود تلك المدينة وازدهار صناعة السينما. ليس لدى الشاب موهبة تمثيل، لكنه يبحث عن عمل بعيدًا عن ظروفه الأسرية المملة؛ حيث والده بائع جواهر فاشل، ووالدته عجوز كثيرة الشجار مع زوجها، وأخوه عضو في إحدى العصابات. في هوليوود يوظف الخال ابن أخته ويكلف إحدى سكرتيراته الجميلات (تمثلها الصاعدة بسرعة صاروخية كريستين ستيوارت) بمرافقة الشاب، لتنشأ من ذلك علاقة بين الشاب والفتاة، ولتنكشف جراء ذلك العلاقة السرية التي أقامها الخال المتزوج نفسه مع تلك السكرتيرة، وتضارب العلاقتين في توتر يستمر طوال الفيلم، وتتولد منه مواقف ومفارقات ضاحكة وساخرة على طريقة ألان في أفلامه الأخرى.
بقي أن أشير إلى أن اسم الفيلم هو اسم النادي الليلي الذي نجح الشاب، بطل الفيلم، في امتلاكه وإدارته في نيويورك وصار ملتقى لأثرياء نيويورك ومشاهيرها.
ما استرعى انتباهي بشكل خاص في الفيلم، عودة ألان إلى موضوعه المحبب: نقد اليهود الأميركيين وإبراز دورهم من خلال ذلك النقد. فألان الذي يتحدر هو نفسه من أسرة يهودية يتكئ كثيرًا على انتمائه الإثني في كثير من أفلامه، ويولّد نكته في تلك الأفلام من حياة اليهود وأساليبهم وثقافتهم.. في «مجتمع المقهى» نجد نكتًا كثيرة على اليهود يصعب على غير اليهود إطلاقها. نضحك على أمور مختلفة؛ أبرزها بخلهم وحرصهم على جمع المال، وهي من الصور النمطية التي لو ذكرها غير ألان أو غير يهودي لاتهم بمعاداة السامية. لكن أمثال ألان من اليهود لهم تهم خاصة بهم أيضًا، فهم عند اليهود المتعصبين كارهون لذواتهم. غير أن ألان يعوض نقده لليهود في الفيلم بإبراز تفوق اليهود أيضًا وتكاتفهم، والإشارة إلى صناعة السينما مهمة في هذا السياق، فالمعروف أن لليهود دورًا مؤسسًا في تطور صناعة السينما في هوليوود بعد الحربين العالميتين وهجرة العديد من المواهب اليهودية الألمانية إلى أميركا في مختلف المجالات. كانت صناعة السينما من المجالات التي أسهم اليهود في امتلاكها وإدارتها، وقد سبق للمثل الأميركي الشهير مارلون براندو أن قال بأن اليهود يديرون هوليوود. تلك المقولة أثارت كثيرين، خصوصا حين كرر ممثل شهير آخر هو ميل غيبسون ما يشبهها، ثم تواتر ذلك في تصريحات لآخرين مثل كاتب السيناريو الشهير أوليفر ستون.
إن القول بهيمنة اليهود على السينما والإعلام لا يخلو من مبالغة وتصوير نمطي، كما لا يخلو من كراهية لليهود، لكن الحقائق تقول إن «الإخوة وارنر» الذين أسسوا شركة «وارنر» العملاقة في صناعة السينما، يهود، وإن مدير شركة «ديزني» مايكل آيزنر يهودي، وإن من أكثر موضوعات السينما الهوليوودية تكرارًا الهولوكوست، إلى جانب مؤشرات أخرى تدل ضمن أمور أخرى على أن اليهود أقلية يتمتع كثير من أفرادها بالمواهب المختلفة وبالتأهيل العالي والثروات، وأنهم استطاعوا من خلال ذلك، وحيثما حلوا، أن يؤسسوا لأنفسهم مكانًا مهمًا يثرون ويؤثرون من خلاله في مجالات كثيرة.
فيلم وودي ألان، الذي نحن هنا بصدده، يؤكد مثل غيره ذلك التكاتف بين الجماعة اليهودية، تمامًا كما هي الحال لدى جماعات أخرى. ولكن ألان نفسه بإسهامه الكبير في إثراء الفن السينمائي عبر ما يقارب العقود الخمسة وعشرات الأفلام، مثال آخر على قدرة إبداعية متفردة لا تتردد في مكاشفة المجتمع الأميركي - والإنساني - بتناقضات ليست محصورة في اليهود أو غيرهم من الجماعات. شخصية الخال المتنفذ في الفيلم نموذج لشخص حقق نجاحًا في مهنته وإن كان سلوكه لا أخلاقيًا، وحين يعجب به المشاهد أو ينتقده، فإنه ينتقد نموذجًا شائعًا في المجتمع ككل، بل في كل المجتمعات. حين تتصل الأخت بأخيها في أول الفيلم بشأن ابنها طالبة مساعدته فإنه لا يعرفها إلى أن تعرّفه بنفسها وبابنها، الأمر الذي يؤكد انقطاع الصلات الأسرية من ناحية؛ وخضوع أفراد الأسرة من ناحية أخرى لمطالب الدعم، وهو أمر تعرفه كل الأسر تقريبًا. نضحك على الموقف ثم نكتشفه في أنفسنا التي نسخر منها في النهاية. الغلاف البراق الذي يلف الحياة اليومية يتكشف بسهولة عن تناقضات إنسانية وزيف كثير. ذلك الزيف يلمع عاليًا في اسم الفيلم؛ حيث «المقهى» نادٍ ليلي تغيب فيه القهوة وتسود الكحوليات الثقيلة.
النقد الذي يوجهه ألان يأتي من خلال سلوك الشخصيات في الفيلم من ناحية، ومن ناحية أخرى، من خلال، الصوت السارد، صوت الكاتب/ المخرج نفسه، أثناء العرض، وهو صوت شبه محايد وشبيه بما يشيع في الرواية الأميركية حين نرى شخصيات تروي الأحداث أكثر مما تشارك فيها (شخصية «نك كاراوي» مثلاً في رواية فيتزجيرالد «غاتسبي العظيم»). هو صوت يسعى للحياد لكسب ثقة المتلقي، ولكن التلقي الواعي سيبين سريعًا أن الراوي في النهاية جزء مما يروي، فألان يتحدث عن بيئة ينتمي إليها ليس اجتماعيًا وإثنيًا فحسب؛ وإنما فنيًا ومهنيًا أيضًا، لا سيما أنه المخرج والكاتب والراوي معًا



حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب
TT

حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب

في عام 2011 كنت على موعد للحصول على فيزا لإقامة معرض في نورث كارولينا بدعوة من جامعة دافيدسون وحصلت على الفيزا في آخر يوم قبل إغلاق السفارة بدمشق.

سافرت عام 2012 ورجعت إلى دمشق، وكانت المظاهرات والاحتجاجات تعم المدن السورية والقرى وأنا أعيش في دمشق أحاول أن أساعد بجهد شخصي أبناء الريف المتضرر والمحاصر، فهناك الكثير من المهنيين والمعارف الذين تضرروا وبحاجة لكثير من الطعام والمستلزمات. كنت أحملها بسيارتي وأحمل معها روحي وأمضي وفي رأسي سيناريوهات العالم كلها. أحضر أجوبة على كل احتمالات الحواجز والشبيحة وعناصر الأمن، عما كنت أكتب بحس ساخر على فيس بوك وأناهض الفساد والقتل. أنا امرأة متمردة بطبعي على الظلم وأمشي عكس التيار، أعشق الحرية والسفر لأعود إلى بلدي بشوق أكثر. هناك تحديات كثيرة كانت أمامنا في بلد كل زاوية فيها حاجز أمني وشبيحة. كانت رعاية ملائكية تنقذني دوماً من رش للرصاص على سيارتي في حاجز حرستا ووضع عبوة ناسفة قرب سيارتي أمام بيتي بعد أن نزلت منها، وتصويب البندقية عليَّ في تأبين باسل شحادة. هربت بأعجوبة. هذه ليست بطولات أرويها ولكن كان حماساً وواجباً علي. ويوماً كنت على حدود لبنان للسفر إلى المغرب لإقامة معرض. أخذوني من الحدود وبدأت التحقيقات معي عن كتاباتي على صفحتي بفيسبوك. وانتهى التحقيق بالتوقيع على ورقة بعدم كتابة أي شيء. وفي اليوم التالي أُلغي منع السفر. وعندما عدت استدعوني مرة أخرى. قلت للمحقق ضاحكة لم أكتب شي مثل ماوعدتكم، فقال لي: رسمتِ. لقد شاهد لوحة فيها قطعة ممزقة من كلمة الثورة التي على الجريدة، فأجبته باستغباء: هذه الجريدة الوطنية ليش ممنوع نحطها، فقال لي: أعرف ما تريدين أن تقولي مع هذه الشخبرة. يصف لوحاتي بـ«الشخابير».

ثم قال لي: نريدك أن ترسمي لنا صورة المعلم، فقلت له: أنا أرسم مناظر وزهوراً لا أرسم حيوانات ولا بشراً واسأل عني مرة باسل الأسد فقد طلب مني ومن مجموعة من الفنانين رسم أحصنته فرفضت لأني لا أعرف، فأجابني: لا أنت فنانة قديرة رح ترسميها فقلت له سأحاول سأطلب من أحد يجيد رسم البورتريه، فقال لي: لا أنت يجب أن ترسميها وتوقعي عليها اسمك.

بقيت أشهراً أماطل ويسألني دائماً على الهاتف: ما خلصتِ، ألاقي الأعذار كل مرة بالكهرباء والتدفئة وعدم جفاف الألوان بالبرد. كنت أنام وأصحو في رعب وسخرية أيضاً. أحياناً أفكر أن أرسم حماراً وفوقه أرسم صورته بألوان تزال بالماء وأرسلها بعد أن أخرج من البلد مع رسالة «امسح الصورة تجد المعلم». المهم كان هذا مسلياً لي في أوقات القلق والتوتر إلى أن قدمت استقالتي من عملي وطلبت من الأمن موافقة أمنية للسفر لمرة واحدة قبل انتهاء الفيزا، وحصلت عليها.

قبل يومين من تحرير حلب كنت في حالة شوق مكبوت لسوريا، وأتمنى بشدةٍ العودة. وكنت أحاول أن أقنع نفسي بأن وضعي في أميركا جيد وصرت مواطنة أميركية وعندي جواز سفر مثل جناحين أطير به بين البلدان بكل سلاسة. وأقنعت نفسي من أول يوم أتيت إلى شيكاغو أنني سأبدأ حياة جديدة وتناسيت بيتي بالشام ومرسمي ولوحاتي وذكرياتي وأصدقائي الذين لم يبق منهم إلا القليل في دمشق. أخوتي قاطعتهم لاختلافي معهم في المبدأ فقد كانوا يقفون مع النظام.

وزاد فقداني لابني الذي قُتل عام 2014 كرهاً لتلك البلاد التي لفظتنا ولم تقدم لنا إلا العنف والنبذ والقتل والتهميش. أنا قدمت الكثير لسوريا، وكنت أقوم بأعمال تطوعية مع الأطفال والشباب لتأجيج روح الفن والحب والحياة والحرية. كنت أعيش مع أجيال متتابعة في عملي معلمة فنون في مدارس سوريا ومعاهدها وجامعاتها.

تحرير حلب كان فرحاً مشوباً بالخوف... أتابع ليل نهار كل وسائل التواصل. لم أعد أنام. عاد الأدرنالين للصعود مثل بدايات الثورة عام 2011 والترقب والحماس، وكنت أقول لنفسي إن لم يصلوا إلى دمشق لن أفرح. كنت ذلك اليوم أبكي، ولم أخرج إلى الشارع لأن دموعي كانت لا تتوقف.

فجأة الحلم عاد، واليأس اختفى، وصار عنا مستقبل مختلف. صار عندي وطن أعود إليه مع أبنائي وأحفادي. صار عندي أمل أعود لأعرف أين قتل ابني وأين رفاته، أعود لأقبل بناته حفيداتي اللاتي لم أرهن منذ سافرت.

* فنانة تشكيلية