ولادة شعب من المشوهين من أب مشوّه

التشكيلي العراقي يحيى الشيخ يرسم روايته «بهجة الأفاعي»

غلاف «بهجة الأفاعي»
غلاف «بهجة الأفاعي»
TT
20

ولادة شعب من المشوهين من أب مشوّه

غلاف «بهجة الأفاعي»
غلاف «بهجة الأفاعي»

في زمن التشوّه والمشوهين تنطلي اللعبة، مهما كانت غير معقولة، على أكثر العقول. بينما نستزيد من واقع مشوه على خلفية من التاريخ الموغل في الخداع تكبر الأكذوبة وتصبح حقيقة، ليست نظريًا، إنما على أرض بلدة عقيم يتزعمها «طليعي» يبرر للنجل من هو أبوه وللأب من هو ابنه، على مساحة تلك البلدة- الفانتازيا، ويتبنى فيها خطاب الإنجاب الشرعي من أب غير شرعي، يتولاه السحرة ويسوّقه الإعلام ويضع ديباجته فقهاء محترفون، وهم في حالة من السعادة والتهليل لأطفال الحياة الجديدة التي غمرت البلاد السعيدة بمواليد من صنف مختلف، التقوا جميعًا في احتفال مهيب نقلته أكبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية، بينما جندت أكثر دور الأزياء العالمية شهرة كل طاقتها الفنية والتسويقية لتصميم أزياء مبتكرة تليق بالمواليد الجدد وأمهاتهم.
في سرديته المرسومة صورة لغوية، يضعنا العراقي يحيى الشيخ في روايته القصيرة «بهجة الأفاعي» - منشورات «المعقدين»، البصرة، 2016 - أمام مرآة من صناعته، تتكفل بعرض صورتنا كما في المرايا المحدبة، أو المقعرة، لنرى أنفسنا ضحايا تلك المرايا التي صنعناها بأنفسنا لكي نخدع أنفسنا، لكنها هي التي خدعتنا بنجاح ساحق.
تبدأ الرواية بشخصية «العانس» التي تحلم بزوج وذرية، مثل بقية الخلق، حتى «رُزقت» بمبني للمجهول. زواج «العانس» المباغت من عابر سبيل حطّ في ضيافة أبيها ليلة واحدة؛ ما جعل أهالي البلدة يشعرون بأن ثمة اختراقًا ما وضعهم أمام إهانة لا تغتفر وجرح لكرامة شخصية، وأقاويل وتأويلات جراء عابر السبيل الذي سيغير حياتهم في العمق.
الفنان التشكيلي المعروف (من الأسماء المعروفة في حركة التشكيل العراقية منذ الستينات) يكتب روايته بعينين: عين على السرد وأخرى على الرسم، خصوصًا في تجسيد شخصية «الفحل-المسخ» الذي تسبب بكل ما حدث لأبناء وأحفاد وزيجات، بل لشعب برمته، بعد ما تقمص دور الساحر الذي سيكون في مقدوره معالجة «العقم الشامل» بسحره وألاعيبه ومقتنيات فكره الاحتيالي، بل إن الشيخ وظف موهبته في الفن التشكيلي بأن زين بعض الصفحات برسوم تخطيطية تمثل تلك الأدعية التي يكتبها الشيوخ للأشخاص الذين يطلبونها بغية إنجاب أو نجاح، أو رد غريب إلى أهله، وغيرها من حاجات البسطاء الذين يؤمنون بسحر تلك الأدعية.
«البورتريه» يرسمه سارد، هو فنان تشكيلي، اختار السرد ليملأ ثغرات لوحته بما ينقصها من كلام أو العكس أيضًا، حين يختار سرده ليملأه بما ينقصه من بورتريهات، فرسم شخصيته الأولى صبيًا بوجهين، أحدهما وسيم، والآخر الذي يلتصق به من الخلف بشع، بل إن هذا الصبي ذا الوجهين هو الذي غير التركيبة الديموغرافية للبلدة، وقلبها رأسًا على عقب بفعل سحره الفاعل وأدعيته المستجابة، لتتوالى الولادات ويتكاثر الأبناء، ذكورًا وإناثًا، يشبهونه ليجد الناس أنفسهم أمام ظاهرة اجتماعية وأخلاقية، بل ثقافية حتى، تتعلق بتكاثر هؤلاء الأبناء؛ مما استدعى تشكيل هيئات نفسية وتربوية لإدارة المجتمع الجديد المتكون من أطفال بوجهين، كل وجه يفكر بشكل مختلف عن الوجه الثاني.
«أوضح مظاهر المشكلة التربوية، أن الأطفال تتنازعهم رغبتان متناقضتان: الرأس الأمامي يرغب في اللعب مع من يحب، والرأس الخلفي يحب اللعب مع الطفل الآخر، يعاني أيضًا، من المشكلة ذاتها. الاستبيان الذي أجرته هيئة مشرفة على سآمة العقل الاجتماعي، انبثقت عن هذا المجلس، خلت إحصائياتها من وجود طفل يتفق مع نفسه، ويتفق طفل آخر».
«.. والحال هذه، عطلت المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية أعمالها وتفرغت لهذا الشأن، لكنها لم تتوصل اإلى وسيلة تصلح الخلل وتقنع الجميع. فالمعضلة لا تتفتت بحلول جزئية، بل بحل شامل كما كان «الطليعي» يرى، فأخذ الدور بلا منازع. تقدم ببرنامج غني يستهله بجدول ينظم علاقات الأطفال وبأسمائهم العائلية، وساعات مولدهم ومواصفاتهم، وتوزيعهم على مجموعات بحسب أهوائهم، بحيث يلعب الرأس الأمامي مع من يحب نصف نهار، على أن يلتزم الرأس الخلفي بالصمت طيلة فترة اللعب. ثم يذهب الرأس الخلفي للعب بقية النهار مع من يحب، ويلتزم الأمامي بالصمت، وهكذا حتى يشبع الأطفال رغباتهم المتناقضة والمتصارعة. انتهت الدراسة التي أجريت بعد تلك التجربة الرائدة، إلى أن المجتمع أخذ يميل إلى الهدوء النسبي والسلام النفسي، فنصف صامت ونصف يلعب، ثم ذاك يلعب وهذا صامت. على الرأسين أن يتفقا على طريقة مشتركة للعيش، وتحمل مصيرا واحدا، ما داما قد خلقا في جسد واحد».
الحق، أن الثيمة التي بنى عليها السارد سرده، جديدة، وإن ذكرتنا بمسخ التشيكي فرانتز كافكا، رغم أن مساري العملين وتوصلاتهما الفكرية مختلفان جدًا، ولسنا هنا في وارد النقد المقارن، إنما لتقريب الصورة من ذهن القارئ العربي، فيمكن القول إن هذه القصة الطويلة أو الرواية القصيرة (Novella) عبر هذه الثيمة الغريبة تشد قارئها بتشويق ضروري، أحسبه أحد أهم عناصر السرد، أي سرد.
فانتازيا تولد المتعة مثلما تتيح التأويل وطرح الأسئلة، مكثفة ومقصودة، ترسم شيزوفرينيا الإنسان الذي بلا جذور، الموجود من العدم والذاهب إلى العدم.
والحال: «هي حالة اللامعنى، وفقدان الوزن، وتعاطي السخافات..غير أن تلك السخافات واللامعنى كان لها عمق غير مرئي، ينطوي على سر خطير، ونية فعل ملموس شديد الجدية، هو ما كانوا يبيتون له: ينتظرون خروجه للتخلص منه. البلدة كلها كانت تتناوب على ذلك، بلا كلل، وبشوق وبهجة تدفع للبكاء. قال أحدهما لآخر:
* الكل مبتهج.
* بهجة لا تختلف عن بهجة الأفاعي وهي تخلع جلدها، وتنسى أن جلدًا آخر ينمو تحته.



روائي فرنسي يواجه روبوت الذكاء الاصطناعي... والنتيجة مذهلة

هيرفي لوتوليي والآلة التي هزمته
هيرفي لوتوليي والآلة التي هزمته
TT
20

روائي فرنسي يواجه روبوت الذكاء الاصطناعي... والنتيجة مذهلة

هيرفي لوتوليي والآلة التي هزمته
هيرفي لوتوليي والآلة التي هزمته

مباراة من نوع جديد قد تشّكل منعطفاً تاريخياً كتلك التي جمعت لاعب الشطرنج العالمي كاسباروف بآلة الذكاء الاصطناعي ديب بلو عام 1997. هذه المرة موضوع المنافسة يخصّ الإبداع والأدب أكثر التخصّصات إنسانيةً، حيث جمعت هذه المباراة الكاتب الفرنسي هيرفي لوتيلي الحاصل على جائزة الكونغور عام 2020 عن روايته «الخلل» بـ«كلود» مساعد الذكاء الاصطناعي وأحدث نماذجه. وهو يتميز بقدرته على فهم وإنتاج النصّوص بقدر كبير من الدّقة. والمهمة التي أعطيت لكلا الطرفين هي تأليف قصّة بوليسية قصيرة من ثلاثة آلاف حرف شرط أن تبدأ بالجملة التالية: «لمح في المكتب الجثّة الهامدة للكاتب...» وأن تنتهي بهذه الجملة: «ثم قالت لنفسها كل شيء يغتفر... قبل أن تختفي». بعد أسبوع جاءت النتيجة مذهلة لم يتوقعها أحد، حيث تفوّق مساعد الذكاء الاصطناعي «كلود» بنصوص أدبية فائقة الجودة وأسلوب أدبي قوي وسلّس بشهادة الجميع بما فيهم الكاتب هيرفي لوتيلي نفسه.

صحيفة نوفيل أوبسرفتوار التي نظمت المقابلة وخصّصت لها ملفاً كاملاً في طبعة شهر مارس (آذار) نقلت انطباع الكاتب الفرنسي في مقال بعنوان «مباراة بين هيرفي لوتيلي والذكاء الاصطناعي والنتيجة مفاجئة ومرعبة في آن واحد»، حيث كتبت مايليي: «بعد أن قرأ هيرفي رواية كلود ظل صامتاً للحظات ثم نظر إلينا مذهولاً وتفّوه بهذه الجملة (يا للهول...انه أمر مذهل...!) ثم أضاف: (قد تكون هذه النصّوص التي أنتجها الذكاء الاصطناعي هي أفضل ما كُتب من إنتاج روائي فرنسي هذه السنة، وإذا أراد الكُتّاب رفع التحّدي فعليهم من الآن فصاعداً التشمير عن ساعد الجّد!)». في حواره عبَّر الكاتب عن استعداه لرفع تحديات المستقبل، فقد تكون الآلة سبباً في رفع مستوى المنافسة الأدبية، وهذا شيء إيجابي، ولكنه عبَّر أيضاً وبصراحة عن مخاوفه، حيث قال: «لم أشعر يوماً بأن وجودي ككاتب مهدّد بالذكاء الاصطناعي، لكن هذه التجربة فتحت عيني نحو حقيقة جديدة: التكنولوجيا في تطور مستمر، وإذا كنا لغاية الآن مرتاحين لفكرة أن الذكاء الاصطناعي قد جاء ليكمل ويحسّن نشاطنا الإبداعي، فإن المستقبل قد يخبئ لنا مفاجآت لن تكون دائماً سارة».

وفي موضوع آخر بعنوان «كيف تحديت كاتباً حائزاً على الغونكور بالذكاء الاصطناعي» كتب بونوا رافاييل الخبير الذي كُلّف بتدريب مساعد الذكاء الاصطناعي «كلود» بمساعدة «تشات جي بي تي» ما يلي: «صراحة توقعت أن أخسر الرهان وحضّرت نفسي لكي أتقبلّ الهزيمة بكل روح رياضية، فالكاتب هيرفي لوتيلي معروف بموهبته الفذّة في الكتابة، وأنا شخصياً قرأت له رواية «الخلل»، التي بيع منها أكثر من مليون نسخة، وأذكر أني أجبت مدير صحيفة نوفيل أوبسرفتوار حين عرض علي موضوع المقابلة بأن الآلة لن تتغلب على الإبداع البشري، واستشهدت بتجاربي السابقة حيث حاولت قبل سنة طرح نصوص أدبية بمساعدة «شات جي بي تي» وكانت النتائج مخيبة للآمال، ولكن هذه المرة لم تسر الأمور كما كان متوقعاً والنتيجة كانت مذهلة !!». أضاف الخبير الفرنسي بأن تدريب الآلة استغرق أسبوعاً كاملاً لم يكتف فيه بتغذية نظامها بروائع الأدب الكلاسيكي والحديث ومختلف الدراسات المقارنة لقواعد اللغة الفرنسية وأنماطها وتطور الكلمات على مّر التاريخ ثم مطالبتها بتأليف رواية بوليسية شيّقة، ولو فعل ذلك لحصّل على مجرد تقليد لأنماط سبق وأن تدربت عليها، بل إنه ذهب لأبعد من ذلك، حيث اعتمد على سلسلة محادثات طويلة مع مساعد الذكاء الاصطناعي كلود «لإجباره»، كما يكتب، على الاقتراب من عملية الإبداع البشري بتوجيهه نحو توليد محتوى أدبي فريد و«متميز»، مضيفاً أن هذه الخطوة كانت أشبه بـ«تحضير وصفة»، فكان هنالك «وصفة للسّرد» و«وصفة للّغة» وأخرى للأسلوب.

الأدهى أن الخبير عرض القصّتين على عدد من الأشخاص وحتى على تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتقّصي مدى إمكانية التفريق بين التجربة الإنسانية والتجربة الآلية وكلهم أجابوا بالخطأ لأنهم نسبوا رواية الذكاء الاصطناعي إلى المؤلف وعكسوا الإجابة الصحيحة. حيث وُصفت الرواية التي ولّدها الذكاء الاصطناعي بعنوان «مرآة المرحوم» بما يلي: قصّة متميزة بأسلوب قوي وكثافة دلالية (المرآة كمفهوم سريالي). عمقها الموضوعي (الندم وخيارات الحياة) بنيتها السّردية الرمزية وتأثيرها العاطفي القوي جعلوا منها قصّة متكاملة. أما الثانية (رواية الكاتب هيرفي لوتيلي) وهي بعنوان «وصية حجر الذئب» فقد وُصفت بالقصّة البوليسية المسّلية إلا أنها تقليدية وأقل جاذبية من ناحية الأسلوب والعاطفة. هذه التجربة المذهلة أعادت فتح أبواب النقاش الفلسفي حول ماهية «الإبداع»، هل هو فعلاً مرتبط بالعوامل الشعورية والحياة العاطفية للإنسان؟ أم أنه حان الوقت لنعيد النظر في مفهومنا للإبداع والأصالة وحتى الفعل الكتابي. ماذا حدث هذه المرة لكي تتحول النصوص النمطية المكرّرة للخوارزميات إلى نصوص متميزة قوية حتى أصبحنا لا نفرق بين رواية لكاتب مرموق وأخرى لآلة من دون عاطفة أو إحساس؟ أهي نهاية الأدب كما تنبّأ به المؤلف البريطاني روالد دال في قصّة قصيرة كتبها عام 1953 حيث تخيل آلات تكتب الروايات في خمسة عشر دقيقة، فينهار سعر الكتب ويتوقف الكُتاب عن الكتابة؟ قطعاً لا، فالآلة بارعة في الكتابة لكنها لا تعرف لماذا تكتب، ليس لها هواجس ولا شكوك ولا عاطفة، لكن واقع التطور التكنولوجي فرض وجودها علينا، ولا مجال لتجاهلها أو الرجوع للوراء. فهي حاضرة بقوة في المنصّات الإلكترونية كأمازون التي تعرض آلاف الكتب التي ولدّها الذكاء الاصطناعي للبيع يومياً، وفي صناعة السينما أين يستبدل بكتّاب السيناريوهات تطبيق «شات جي بي تي». بعض الكتاب يفضلون التركيز على النصف الممتلئ من الكوب بالترويج لنموذج هجين من «الأدب التركيبي»، الذي يقترب أكثر فأكثر من الإبداع البشري بفضل التفوق التكنولوجي والتوجيهات الحاسمة للعنصر البشري. في كتابه «رواية الرواية» الذي ألفّه مع برنامج الذكاء الاصطناعي كلود يستعرض الكاتب تيري توزي من خلال محادثاته مع كلود، المفارقة التي يواجهها الكاتب المعاصر بين الذكاء الاصطناعي كمصدر للإلهام، وكتهديد محتمل للأصّالة، فهو يكتب مثلاً في الفصل العاشر: «لا أستطيع التركيز بسبب التعب سأترك لكلود مهمة قراءة بقية الفصول».

ورغم الضغط الذي عاشه هذا الكاتب في تجربته الإبداعية مع الآلة فهو ينصح زملاءه من الكتّاب باحتضان التقنيات الجديدة بدل النظر اليها كمنافس، لأنه ببساطة، لا مفر من ذلك.