ليبيا بأسرها اجتمعت في عدة أمتار مربعة

مستشفى مصراتة يختصر معاناتها ويستقبل أهلها

المدخل الرئيسي لمستشفى مصراتة (أ.ف.ب)
المدخل الرئيسي لمستشفى مصراتة (أ.ف.ب)
TT

ليبيا بأسرها اجتمعت في عدة أمتار مربعة

المدخل الرئيسي لمستشفى مصراتة (أ.ف.ب)
المدخل الرئيسي لمستشفى مصراتة (أ.ف.ب)

الواقف قبالة مستشفى مصراتة المركزي يخال نفسه أمام أحد مستشفيات أوروبا؛ مبانٍ حديثة وسيارات مركونة بترتيب في مواقف تباعد بينها مساحات خضراء، وحدها نقطة تفتيش أمنية وشاحنة يعلوها سلاح مضاد للطيران عند مدخل المستشفى تذكران من يدخله بأنه ما زال في ليبيا الغارقة في الحرب.
لكن صورة المباني الزاهية سرعان ما تضمحل حال الدخول إلى قسم الطوارئ والحوادث، فالبوابة الرئيسية مغلقة والمدخل الجانبي مكتظ بأطباء وممرضين ومقاتلين ومدنيين من كل الأعمار.
كأن ليبيا بأسرها اجتمعت في عدة أمتار مربعة. هنا عجوز تسأل أين يرقد ابنها، وهناك كهل يريد الاطمئنان على أخيه، وبينهما مقاتل بزيه العسكري يستأذن طبيبًا لإيصال ملابس لرفيق له.
بضع خطوات إلى الأمام ويتضح سبب إغلاق المدخل الرئيسي ويظهر حجم المعاناة. «الجرحى كثر والمساحة محدودة ولم نجد حلاً سوى بتحويل قاعة الاستقبال إلى صالة لعلاج الجرحى»، يقول المتحدث باسم المستشفى أكرم قليوان، وهو يشير بسبابته إلى الأسرة المتراصة أمام المدخل المغلق.
ويتابع الجراح الشاب: «في أحد الأيام استقبلنا 160 جريحًا (...) وبالأمس تحديدًا استقبلنا 97 جريحًا، أين نضعهم؟ ماذا نفعل؟ علينا أن نتدبر أمورنا بما لدينا من إمكانيات محدودة، سواء لناحية المساحة أو لناحية الكادر الطبي والطبي المساعد».
«ومنذ بدأت معارك سرت قبل 3 أشهر سقط في صفوف القوات الموالية للحكومة أكثر من 350 قتيلاً و1900 جريح، وبين هؤلاء «هناك حالات بتر كبيرة جدًا، حالات إعاقة وشلل نصفي (...) وغالبية المصابين هم شباب في مقتبل العمر، وسيحتاجون إلى تأهيل جسدي ونفسي أيضًا»، كما يضيف.
وينقل جرحى المعارك في سرت إلى مستشفى ميداني أول يقع على مقربة من الجبهة، ثم ينقلون إلى المستشفى الميداني الأساسي الذي يبعد نحو 50 كلم من خط الجبهة والمجهز، لإجراء عمليات طارئة وفيه إسعاف طائر يتولى نقل الجرحى بالمروحيات إلى مستشفى مصراتة.
ومن هؤلاء الشبان محمود بن عائشة (22 عامًا) الذي لم تستطع الرصاصة التي اخترقت ساعده أن تسرق منه ابتسامة لا تبارح وجهه. يقول الشاب الملتحي بينما هو يرقد في سريره ويده اليمنى مضمدة من أعلاها إلى أسفلها: «أنا جندي وكنت في الجبهة في الحي رقم اثنين حين أصابتني رصاصة القناص. لقد رأيته. كانت بيني وبينه عمارة واحدة. الحمد لله أنني أصبت في يدي فقط».
وليس محمود الوحيد الذي أصيب برصاص قناصي تنظيم داعش في ذاك اليوم، فعبد الفتاح الفرجاني (45 عامًا)، وهو أب لـ4 أبناء أصيب برصاصة في ذقنه، كادت تكون قاتلة.
ويقول عبد الفتاح بينما هو جالس على سريره بسرواله العسكري المرقط وذقنه المتورمة: «مهمتي على الجبهة كانت إيصال التموين إلى عناصر الكتيبة التي أتبع لها. كنت أقود السيارة متجهًا إليهم في الحي رقم 2، التفت للحظة فسمعت صوت طلق ناري. نظرت إلى زجاج النافذة فإذا به ثغرة. أيقنت أن رصاصة قناص دخلت منه، ولكني لم أشعر بها. تلمست نفسي فلم أجد شيئًا. استغربت، فكل ما وجدته هو بضع قطرات من الدماء على ذقني».
ويضيف: «لم أعِ أن الرصاصة اخترقت ذقني وخرجت من أعلى ظهري إلا بعد دقائق، عندها نقلني رفيق لي إلى المستشفى الميداني، حيث تم إسعافي ومن ثم نقلت إلى هنا».
وإذا كانت المستشفيات تعمل في العادة وفق نظام المناوبة، فإن الحال في مستشفى مصراتة ليس كذلك، فالعاملون هنا لا يفرقون بين ليل ونهار، إذ غالبًا ما يضطرون للوصل بينهما، في حين أن عاملات النظافة يتحيّن متى تهدأ الحركة، كي يمسحن أرضيات الأروقة والغرف.
في إحدى هذه الغرف يرقد محمد قليوان (44 عامًا) وهو أب لـ6 أبناء، أصيب قبل شهر في ساقه بجروح خطرة ناجمة عن تفجير انتحاري استهدف المستشفى الميداني في سرت.
خلافًا لرفيقيه الراقدين عن يمناه ويسراه، لا يستطيع قليوان الحراك في سريره، فجروحه ملتهبة وآلامه بادية على وجهه رغم الأدوية المهدئة. ويقول لـ«الصحافة الفرنسية» بصوت بالكاد يسمع: «كانت مهمتي نقل المواد التموينية. يومها أنهينا نوبتنا أنا وصديقي حسني وغادرنا في السيارة. كان حسني يقود حين قال لي: (اتشاهد، اتشاهد)، فنطقت الشهادتين، وإذا بالسيارة المفخخة تنفجر وتنفجر معها عبوات الأكسجين التي كانت داخل المستشفى».
وباتت السيارات المفخخة التي يقودها انتحاريو تنظيم داعش شبحًا يطارد المقاتلين في سرت أينما حلوا، لدرجة أنهم أطلقوا عليها اسمًا هو «دقمة». ومع أن لا أحد تقريبًا من مقاتلي سرت يعرف لماذا سميت كذلك، فإن مجرد النطق بهذه الكلمة كافٍ لكي يعلم الواحد منهم أن ساعة أجله قد دنت.
عبد الله الصادق (36 عامًا) الذي أصيب بشظية إحدى هذه «الدقمات»، يقول إن هذه السيارات المفخخة التي يقودها انتحاريو تنظيم داعش لا يمكن أن يوقفها أي سلاح، إلا سلاح الطيران، فـ«الدواعش يصفحونها بشكل لا تنفع معه حتى القذائف المضادة للدروع».
وإذا كانت السيارات المفخخة تحصد نسبة كبيرة من ضحايا قوات «البنيان المرصوص»، فإن النسبة الأكبر تحصدها الألغام الأرضية والمفخخات التي يتفنن الجهاديون في زرعها وإخفائها، إذ يكاد لا يوجد منزل أو مبنى في سرت إلا وتم تفخيخه، كما يؤكد المقاتلون.
محمد أبو قرين (28 عامًا) دفع ضريبة مضاعفة نتيجة هذا التفخيخ، فهو خسر شقيقه إمحمد (43 عامًا) في انفجار لغم أصيب فيه هو أيضًا بشظايا في ساقيه ويده.
ويقول الشاب الذي لم يستفق بعد من صدمة خسارته شقيقه: «دخلنا المنزل وكان أخي يتقدم المجموعة، فشاهد سلكًا رقيقًا مربوطًا بلغم أرضي، فعلم أن المنزل مفخخ، ولكن ما إن استدار للخروج، حتى داس على لغم أرضي لم يره، فانفجر به، واستشهد على الفور، وأصبنا نحن».
وكان مصور «الصحافة الفرنسية» شاهدًا على هذه الواقعة، فقد صور في شريط فيديو المجموعة وهي تفتح كوة في جدار المنزل ثم دخولها إليه ووقوع الانفجار، فانتشال جثة إمحمد وإخلاء الجرحى.
على كل سرير من أسرة مستشفى مصراتة يرقد جريح، ومعه ترقد آلام ومعاناة شاب وعائلة ومدينة وبلد بأكمله. هي معاناة ليبيا بأسرها وقد اختزلت خلف مبنى براق وزجاج لامع.



اللاجئون الفلسطينيون يعودون إلى مخيم «اليرموك» في سوريا

اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)
اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)
TT

اللاجئون الفلسطينيون يعودون إلى مخيم «اليرموك» في سوريا

اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)
اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)

كان مخيم اليرموك للاجئين في سوريا، الذي يقع خارج دمشق، يُعدّ عاصمة الشتات الفلسطيني قبل أن تؤدي الحرب إلى تقليصه لمجموعة من المباني المدمرة.

سيطر على المخيم، وفقاً لوكالة «أسوشييتد برس»، مجموعة من الجماعات المسلحة ثم تعرض للقصف من الجو، وأصبح خالياً تقريباً منذ عام 2018، والمباني التي لم تدمرها القنابل هدمت أو نهبها اللصوص.

رويداً رويداً، بدأ سكان المخيم في العودة إليه، وبعد سقوط الرئيس السوري السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول)، يأمل الكثيرون في أن يتمكنوا من العودة.

في الوقت نفسه، لا يزال اللاجئون الفلسطينيون في سوريا، الذين يبلغ عددهم نحو 450 ألف شخص، غير متأكدين من وضعهم في النظام الجديد.

أطفال يلعبون أمام منازل مدمرة بمخيم اليرموك للاجئين في سوريا (أ.ف.ب)

وتساءل السفير الفلسطيني لدى سوريا، سمير الرفاعي: «كيف ستتعامل القيادة السورية الجديدة مع القضية الفلسطينية؟»، وتابع: «ليس لدينا أي فكرة لأننا لم نتواصل مع بعضنا بعضاً حتى الآن».

بعد أيام من انهيار حكومة الأسد، مشت النساء في مجموعات عبر شوارع اليرموك، بينما كان الأطفال يلعبون بين الأنقاض. مرت الدراجات النارية والدراجات الهوائية والسيارات أحياناً بين المباني المدمرة. في إحدى المناطق الأقل تضرراً، كان سوق الفواكه والخضراوات يعمل بكثافة.

عاد بعض الأشخاص لأول مرة منذ سنوات للتحقق من منازلهم. آخرون كانوا قد عادوا سابقاً ولكنهم يفكرون الآن فقط في إعادة البناء والعودة بشكل دائم.

غادر أحمد الحسين المخيم في عام 2011، بعد فترة وجيزة من بداية الانتفاضة ضد الحكومة التي تحولت إلى حرب أهلية، وقبل بضعة أشهر، عاد للإقامة مع أقاربه في جزء غير مدمر من المخيم بسبب ارتفاع الإيجارات في أماكن أخرى، والآن يأمل في إعادة بناء منزله.

هيكل إحدى ألعاب الملاهي في مخيم اليرموك بسوريا (أ.ف.ب)

قال الحسين: «تحت حكم الأسد، لم يكن من السهل الحصول على إذن من الأجهزة الأمنية لدخول المخيم. كان عليك الجلوس على طاولة والإجابة عن أسئلة مثل: مَن هي والدتك؟ مَن هو والدك؟ مَن في عائلتك تم اعتقاله؟ عشرون ألف سؤال للحصول على الموافقة».

وأشار إلى إن الناس الذين كانوا مترددين يرغبون في العودة الآن، ومن بينهم ابنه الذي هرب إلى ألمانيا.

جاءت تغريد حلاوي مع امرأتين أخريين، يوم الخميس، للتحقق من منازلهن. وتحدثن بحسرة عن الأيام التي كانت فيها شوارع المخيم تعج بالحياة حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحاً.

قالت تغريد: «أشعر بأن فلسطين هنا، حتى لو كنت بعيدة عنها»، مضيفة: «حتى مع كل هذا الدمار، أشعر وكأنها الجنة. آمل أن يعود الجميع، جميع الذين غادروا البلاد أو يعيشون في مناطق أخرى».

بني مخيم اليرموك في عام 1957 للاجئين الفلسطينيين، لكنه تطور ليصبح ضاحية نابضة بالحياة حيث استقر العديد من السوريين من الطبقة العاملة به. قبل الحرب، كان يعيش فيه نحو 1.2 مليون شخص، بما في ذلك 160 ألف فلسطيني، وفقاً لوكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين (الأونروا). اليوم، يضم المخيم نحو 8 آلاف لاجئ فلسطيني ممن بقوا أو عادوا.

لا يحصل اللاجئون الفلسطينيون في سوريا على الجنسية، للحفاظ على حقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم التي أُجبروا على مغادرتها في فلسطين عام 1948.

لكن، على عكس لبنان المجاورة، حيث يُمنع الفلسطينيون من التملك أو العمل في العديد من المهن، كان للفلسطينيين في سوريا تاريخياً جميع حقوق المواطنين باستثناء حق التصويت والترشح للمناصب.

في الوقت نفسه، كانت للفصائل الفلسطينية علاقة معقدة مع السلطات السورية. كان الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد وزعيم «منظمة التحرير الفلسطينية»، ياسر عرفات، خصمين. وسُجن العديد من الفلسطينيين بسبب انتمائهم لحركة «فتح» التابعة لعرفات.

قال محمود دخنوس، معلم متقاعد عاد إلى «اليرموك» للتحقق من منزله، إنه كان يُستدعى كثيراً للاستجواب من قبل أجهزة الاستخبارات السورية.

وأضاف متحدثاً عن عائلة الأسد: «على الرغم من ادعاءاتهم بأنهم مع (المقاومة) الفلسطينية، في الإعلام كانوا كذلك، لكن على الأرض كانت الحقيقة شيئاً آخر».

وبالنسبة لحكام البلاد الجدد، قال: «نحتاج إلى مزيد من الوقت للحكم على موقفهم تجاه الفلسطينيين في سوريا. لكن العلامات حتى الآن خلال هذا الأسبوع، المواقف والمقترحات التي يتم طرحها من قبل الحكومة الجديدة جيدة للشعب والمواطنين».

حاولت الفصائل الفلسطينية في اليرموك البقاء محايدة عندما اندلع الصراع في سوريا، ولكن بحلول أواخر 2012، انجر المخيم إلى الصراع ووقفت فصائل مختلفة على جوانب متعارضة.

عرفات في حديث مع حافظ الأسد خلال احتفالات ذكرى الثورة الليبية في طرابلس عام 1989 (أ.ف.ب)

منذ سقوط الأسد، كانت الفصائل تسعى لتوطيد علاقتها مع الحكومة الجديدة. قالت مجموعة من الفصائل الفلسطينية، في بيان يوم الأربعاء، إنها شكلت هيئة برئاسة السفير الفلسطيني لإدارة العلاقات مع السلطات الجديدة في سوريا.

ولم تعلق القيادة الجديدة، التي ترأسها «هيئة تحرير الشام»، رسمياً على وضع اللاجئين الفلسطينيين.

قدمت الحكومة السورية المؤقتة، الجمعة، شكوى إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تدين دخول القوات الإسرائيلية للأراضي السورية في مرتفعات الجولان وقصفها لعدة مناطق في سوريا.

لكن زعيم «هيئة تحرير الشام»، أحمد الشرع، المعروف سابقاً باسم «أبو محمد الجولاني»، قال إن الإدارة الجديدة لا تسعى إلى صراع مع إسرائيل.

وقال الرفاعي إن قوات الأمن الحكومية الجديدة دخلت مكاتب ثلاث فصائل فلسطينية وأزالت الأسلحة الموجودة هناك، لكن لم يتضح ما إذا كان هناك قرار رسمي لنزع سلاح الجماعات الفلسطينية.