ليبيا.. صراع عابر للحدود

أميركا من الغرب وفرنسا من الشرق.. والدواعش يفرون للجنوب

ليبيا.. صراع عابر للحدود
TT

ليبيا.. صراع عابر للحدود

ليبيا.. صراع عابر للحدود

خلال أقل من ثلاثين يوما خرجت تصريحات رسمية في كل من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا تفيد بأن لهما قواتا تعمل على الأراضي الليبية. والظاهر الآن أن كلا من الدولتين الغربيتين الكبريين تعضد فريقا من الفريقين الليبيين المتنافسين على السيطرة على حكم البلاد. قوات أميركية في الغرب، وقوات فرنسية في الشرق.. كل منهما يساعد في محاربة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف، بطريقته، لكن يبدو أن عناصر التنظيم بدأت تفر إلى مناطق الجنوب تاركة ساحة الصراع بين السياسيين في شمال البلاد وقد أصبحت أكثر وضوحا من السابق.
حتى وقت قريب كان يسود اعتقاد بين كثيرين من الليبيين بأن أي تدخل دولي في الشأن الداخلي، خاصة توجيه ضربات دولية، من البر، ضد «داعش»، يمكن أن يؤدي إلى توحيد جبهة المتطرفين وضياع أي محاولة يبذلها السياسيون للم شمل الدولة التي تعاني الفوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011.
ما حدث، حقا، يبدو أنه أمر مغاير تمامًا لمثل تلك التوقعات والمخاوف. إذ دلت تصريحات من كل من فرنسا والولايات المتحدة، خلال الأسابيع الأخيرة، على وجود قوات على الأرض تعمل جنبا إلى جنب مع أطراف ليبية تحارب «داعش» والمتطرفين في محيطي مدينتي سرت وبنغازي، إلى فتح قنوات اتصال جديدة بين الخصوم المحليين المتحصنين وراء حكومات صغيرة وهشة في شرق ليبيا وغربها.
ما الحل؟ أخذ مثل هذا السؤال يتردد بين الحضور في قاعة تابعة لوزارة الخارجية المصرية مطلة على نيل القاهرة لدى حضور وفد برلماني ليبي هو الأول من نوعه الذي يلتقي مع مسؤولين مصريين قبل عدة أيام. هذا نوع من نواب الغرب الليبي ممن يصغى إليهم للمرة الأولى بشكل رسمي في مصر. وكان معظمهم يتخوف من انحياز القاهرة لنواب المنطقة الشرقية، لكن اتضح من خلال اللقاء الأخير أن هذا لم يكن صحيحا، وأن مصر تحاول جاهدة الوصول إلى حلول وسط بين الطرفين. ويمكن لحدوث تفاهم بين قيادات الشرق وقيادات الغرب في ليبيا، أن ينهي الكثير من الملفات العالقة بما فيها بوادر الصراع الأميركي - الفرنسي على أراضي هذا البلد الغني بالثروات. فرنسا أقرت في أواخر الشهر الماضي بمقتل ثلاثة من أفراد قواتها الخاصة بشرق ليبيا بعد إسقاط مروحيتهم قرب بنغازي. ويومها أكد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند أن قواتا فرنسية تنفذ «عمليات خطيرة» ضد المتشددين في ليبيا.

اعترافات واشنطن وباريس
وأضاف أن هناك حاجة إلى لمواجهة «داعش» ومحاربته في كل من العراق وسوريا وليبيا. إلى ذلك, وبعد بنحو ثلاثة أسابيع، أي يوم الثلاثاء الماضي، نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن مسؤولين أميركيين، لم تسمهم، أن جنودا من الوحدات الخاصة الأميركية قدموا إسنادا مباشرا لقوات «البنيان المرصوص»، وأنهم «يعملون بالتنسيق مع نظرائهم البريطانيين على تحديد مواقع للضربات الجوية ويزودون شركاءهم بالمعلومات الاستخبارية».
في البداية.. وفي الداخل الليبي، أي قبل نحو شهر، اتهمت قيادات في غرب البلاد، المنطقة الشرقية بالاستعانة بقوات فرنسية لمعاونة الجيش الوطني في حربه ضد المتطرفين. ويوجد في الشرق مقرات الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الله الثني، والبرلمان برئاسة عقيلة صالح، والجيش بقيادة حفتر، لكن التصريحات الأخيرة المنسوبة للمصادر الأميركية عن وجود قوات لها تعمل على الأرض في المنقطة الغربية لتعضيد عملية «البنيان المرصوص» التي تخوضها ميليشيات ضد «داعش سرت» جعل القضية بين طرفي النزاع في الدولة الليبية تبدو متعادلة. وللعلم، في الغرب مقار كل من المجلس الرئاسي وحكومته بقيادة فايز السراج، و«حكومة الإنقاذ» برئاسة خليفة الغويل، والمجلس الأعلى للدولة برئاسة عبد الرحمن السويحلي.
الجيش تمكن أخيرا من طرد المتطرفين من مناطق مهمة في بنغازي، وهم خليط من مقاتلي جماعة الإخوان وأنصار الشريعة و«داعش»، بعد حرب ضروس استمرت طوال حولي سنتين وما زالت مستمرة. وبالتوازي مع ذلك تمكنت قوات «البنيان المرصوص» التي يرعاها المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة، من تحقيق انتصارات لافتة على «داعش» سرت، بعد نحو ثلاثة أشهر من انطلاق العملية، لكن المشكلة أن «الجيش» بقيادة حفتر والبرلمان، وميليشيات «البنيان المرصوص» برعاية السراج، لا يتعاونان بل يتربص أحدهما بالآخر، وقد يضطران إلى الاقتتال إذا توغل الجيش ناحية الغرب، أو إذا انتقلت الميليشيات المنتصرة في سرت إلى الشرق.
حتى فيما يتعلق بوجود قوات أجنبية، سارع فريق السراج وفريق حفتر للتقليل من شأن هذا الأمر، فقال السراج إن بلاده ليست بحاجة إلى قوات أجنبية على الأرض، وأعلن مقربون من حفتر أن «مجموعة الاستطلاع» الفرنسية غادرت منطقة العمليات.
هذا الانقسام المحلي يبدو أنه أثَّر في مواقف الكثير من الدول وجعلها، بالمثل، تنقسم أيضا في تعاطيها مع الشأن الليبي. دول مثل فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة وبريطانيا ومصر وغيرها، تعترف بالبرلمان الذي يرأسه عقيلة صالح ويعقد جلساته في طبرق شرقا، ووفقا للإعلان الدستوري المعمول به منذ إسقاط القذافي، يعد صالح القائد الأعلى للجيش الليبي. وتعترف هذه الدول نفسها بالمجلس الرئاسي الذي أعلن رئيسه السراج أنه، هو الآخر، القائد الأعلى للجيش الليبي.

اللعب على المكشوف
ويقول أحد قادة جهاز المخابرات الليبية السابق (منذ أيام القذافي ويعيش حاليا في مصر) إن المتغير اللافت في ليبيا هو اضطرار الأطراف المحلية وحلفاء كل طرف من الدول الأجنبية إلى اللعب على المكشوف. وفي حال هزيمة المتطرفين بشكل تام في بنغازي وسرت، فإن أوراق اللعب ستكون مكشوفة على الملأ أكثر من أي وقت سابق، وبالتالي سيؤدي هذا إلى أحد أمرين: إما شعور المتنافسين الليبيين بالخطر، وبناء عليه سيتنازل كل طرف لصالح الوفاق والوحدة، أو أن الوضع سيزداد تعقيدا وندخل في نفق الاحتراب الأهلي وتشرذم البلاد بين شرق وغرب. ويضيف أن وجود قوات عسكرية واستخباراتية من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة في شرق ليبيا وغربها، يعود إلى أواخر العام الماضي ومطلع العام الحالي، لكنه كان وجودا غير معلن عنه بشكل رسمي، موضحًا «أعتقد أن التطورات على الأرض وتحقيق الليبيين انتصارات على الجماعات المتطرفة، جعل الدول الكبرى، خاصة أميركا ومن معها وفرنسا ومن معها، يكشفان، بشكل سافر، عن أنهما يشاركان في تنظيف ليبيا من الإرهابيين، على أمل أن يقفا في النهاية على خشبة الانتصار وما يتبع ذلك من تعاقدات على السلاح وعلى إعادة الإعمار واستئناف التنقيب والتصدير من حقول النفط والغاز».
من جانبه يقول عيسى عبد المجيد، المستشار السابق لرئيس البرلمان، إن الحالة الراهنة في ليبيا تتيح القول إن الدول الأجنبية تتصارع على الأراضي الليبية، ومن يدفع الثمن هو الشعب. ويزيد قائلا: «إن الولايات المتحدة وفرنسا تظهران في الواجهة كطرفين يتسابقان ويتنافسان على الاستحواذ على الكعكة الليبية»، مشيرا إلى أن هذه الدول لا يعنيها الشعب الليبي، بل مصالحها الخاصة، محذرا من انتقال الدواعش من سرت والتركز في الجنوب الليبي، «وعندها لن تتمكن طائرات أو قوات هذه الدول من الوصول إليهم، وهذا يشكل خطرا على مستقبل ليبيا ودول الجوار».

في فنادق القاهرة
في خلفية هذه الأحداث ظهرت وجوه الكثير من الشخصيات الليبية المتصارعة في فنادق العاصمة المصرية خلال الأيام الماضية. يمكن أن تضع مقياسا تحسب به التطورات. مقياس اليوم وفقا لما جرى بالفعل، هو القاهرة التي يوجد فيها غالبية قيادات النظام الليبي السابق، بالإضافة إلى عدد كبير من قيادات الجيش الليبي ممن فضلوا الابتعاد عن البلاد عقب انتهاء نظام القذافي. وفي المقابل كان الزعماء المتحكمون في المناطق الغربية يشيحون بوجوههم عن مصر، متهمين إياها بالانحياز إلى قيادات الشرق، لكن وصل أخيرا إلى هنا عشرات النواب. لقد تغيرت الصورة تحت ظلال البحث عن مخرج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومع ذلك فإن «داعش» ليس قضية ليبية فقط. فمنذ إعلان تمركزه في سرت العام الماضي، أصبح هذا التنظيم هاجسا لدول الجوار وأوروبا والولايات المتحدة.
تبعد سرت أكثر من 300 كيلومتر شرقي طرابلس، ويقول مسؤول في مركز دراسات الجنوب الليبي للبحوث والتنمية، وهو مركز ليبي يعمل باحثوه بعيدا عن الأضواء خشية تعرضهم للانتقام من المتطرفين، إنه كان من الطبيعي أن يفكر «داعش» في أن تكون له قاعدة في ليبيا؛ نظرا للظروف المساعدة والمشجعة على ذلك، مثل غياب دور الدولة المركزية، وانتشار الصراعات الأهلية في كامل التراب الليبي.
ويتابع الباحث قائلا إن تونس صاحبة الـ3 آلاف مقاتل ممن كانوا يحاربون في سوريا، أصبحوا مصدرا رئيسيا للمقاتلين الأجانب الذين قدموا إلى ليبيا، خاصة أولئك الذين عادوا من سوريا إلى تونس واختاروا المجيء إلى ليبيا خوفا من الملاحقة التي تعرض لها الكثيرون منهم في بلدهم. وبالفعل استجاب كثرة من المقاتلين لدعوة «أبو بكر البغدادي» زعيم «داعش» بالانتقال إلى ليبيا.. «فشملت قائمة القادمين - إضافة إلى المقاتلين الليبيين العائدين من سوريا - مقاتلين من تونس والسودان واليمن والشيشان والمغرب والجزائر، ودول أخرى. واستقر هؤلاء في سرت ودرنة وشنوا عمليات على الحقول النفطية والسفارات الأجنبية والمناطق الحيوية ليصبح وجود التنظيم رسميا في ليبيا بعد أن تشكلت أركانه كما ينبغي».

تركي البنعلي
لكن الحدث الأبرز الذي جعل من وجود «داعش» في سرت أمرا حقيقيا، كان وصول تركي البنعلي، عضو مجلس التنظيم الرئيسي، من خارج البلاد إلى سرت. والبنعلي - كما هو معروف - بحريني الأصل، ويعد من المقربين من البغدادي. وفور وصوله إلى سرت العام الماضي، أخذ يلقي فيها الخطب والدروس. ومنذ ذلك الوقت أصبحت جميع أحياء مدينة سرت في قبضة التنظيم ما عدا الحي رقم 3 الذي كانت تسيطر عليه قبيلة الفرجان وكتيبة «الجالط» التابعة لها، «لكن الأمر لم يستمر كثيرا إذ أحكم (داعش) سيطرته على كامل المدينة بعد اندلاع اشتباكات بينه وبين قبيلة الفرجان إثر مقتل شيخ وإمام مسجد قرطبة، الشيخ خالد بن رجب الفرجاني». وفقا لما ذكره مركز الجنوب المشار إليه، وبعد هذه الواقعة اندلعت اشتباكات بين «داعش» وكتيبة «الجالط» انتهت بسيطرة «داعش» بالكامل على سرت.
تتميز سرت، مسقط رأس معمر القذافي، بموقع استراتيجي حاول التنظيم الاستفادة منه في الإشراف على عملياته في ليبيا. ويوجد في المدينة ميناء بحري ومطار جوي حديث، وتعد أيضا نقطة اتصال بغرب البلاد وشرقها، إضافة إلى سهولة التحرك منها عبر الدروب إلى مناطق الجنوب الصحراوية، حيث يفد المقاتلون والأسلحة المهربة من الدول الأخرى، إلى جانب قرب سرت من الهلال النفطي.
وبعد استقراره في سرت عمل «داعش» على إنشاء مراكز تجنيد مهمة خاصة في مدينة صبراتة (غرب طرابلس وقرب الحدود مع تونس) حيث كان فيها مركز لاستقبال المقاتلين الجدد، كما أسس خلية له في طرابلس. وقامت الولايات المتحدة في فبراير (شباط) بضرب مواقع قالت إنها لـ«داعش» صبراتة قتل فيها أكثر من أربعين غالبيتهم تونسيون.
بعدها حاول «داعش» أن يعلن من سرت أنه ما زال قويا، فنفذ حملة جديدة ضد سكان المدينة وقتل معارضيه فيها وعلقهم على أعمدة الكهرباء. وشن أيضا حملة واسعة على حقول البترول وهدد باحتلال الهلال النفطي بأكمله، والمنطقة تضم نحو 60 في المائة من نفط ليبيا، وتمتلك عدة شركات غربية نصيبا في هذه الحقول، منها شركات أميركية وفرنسية وإيطالية وبريطانية. كذلك هاجم التنظيم عدة مواقع أخرى وذبح فيها بعض العاملين، ما أدى إلى فرار الباقين وإغلاق حقول رئيسية جنوب شرقي سرت. واستمر هذا الوضع إلى أن تمكن المجلس الرئاسي من دخول طرابلس، ومباشرة مهامه رغم ما تعرض له من عراقيل من الخصوم السياسيين، وأعلن السراج عن عملية «البنيان المرصوص».

«البنيان المرصوص»
الدكتور عبد الرحمن السويحلي، رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبية، قال من جهته لـ«الشرق الأوسط» إن مجلسه وقف بقوة من أجل صدور قرار بتشكيل هذه القوة لمحاربة «داعش» في سرت. وينظر السويحلي إلى الفريق أول حفتر على أنه مجرد قائد لمجموعة مسلحة وليس جيشا بالمعنى المتعارف عليه. ووجهة النظر هذه يبدو أنها تعبر عن تجذر الخلافات بين الشرق والغرب، ورفض قيادات الغرب التعامل مع حفتر، رغم أنها في أشد الحاجة إلى تضافر الجهود لمواصلة الحرب على «داعش».
على أي حال.. ومنذ انطلاق عملية «البنيان المرصوص»، سيطرت هذه القوات، تدريجيا على معظم ضواحي سرت وبدأت من حي الزعفران ومحور الغربيات، ثم وصلت إلى الحي 700 ومنطقة أبوهادي والمحمية. وبعد ذلك، رغم الخسائر الكبيرة في صفوفها بسبب مفخخات التنظيم، انتقلت العملية إلى المحور الشرقي لتسيطر على الميناء ومناطق السواوة والطويلة، ثم «مجمّع واغادوغو»، إلى أن تراجعت قوات «داعش» إلى ضاحيتين صغيرتين داخل المدينة.
يرى البعض أنه لم يكن في مقدور عملية «البنيان المرصوص» التوغل في سرت لولا مساعدة القوات الأميركية التي كانت توجه ضربات جوية لمواقع التنظيم، بالإضافة إلى ما تقدمه من معلومات استخباراتية، إلى جانب عناصرها الموجودة على الأرض. ويقول مسؤول مركز الجنوب، عن الخسائر الكبيرة في صفوف مقاتلي «البنيان المرصوص» إن هذا الأمر قد يعود إلى ضعف هذه القوات من حيث تنظيم الخطوط وتأمين المناطق التي تسيطر عليها وتنظيم وتوزيع المقاتلين التابعين لها بشكل يضمن تحديد هوية جميع المركبات والأفراد الذين يدخلون ويخرجون من خطوط العمليات ويسهل عن طريقه معرفة أي مركبات أو أفراد مجهولي الهوية يحتمل أن يكونوا تابعين لـ«داعش».

السكان «دروع بشرية»
ولكن الخشية اليوم من تحصن مقاتلي «داعش» داخل ما تبقى من أحياء سكنية تحت يد التنظيم، ولجوء عناصره لحرب الشوارع، واتخاذه من سكان المدينة دروعا بشرية. ومع ذلك توجد مخاوف أخرى من تسلل «داعش» من سرت إلى الجنوب، كما يقول عبد المجيد لـ«الشرق الأوسط»، لأنه يمكن أن يتخذ قواعد هناك يصعب استهدافها من البر والجو، مع سهولة تواصله من مراكزه الجديدة مع جماعة «بوكو حرام»، وهو ما يمثل خطرا جديدا على ليبيا لا يقل عن خطر الخلافات السياسية في الشرق والغرب. ولا يستبعد مسؤول مركز الجنوب مشاركة مرتزقة بيع السلاح وتهريب البشر والمخدرات من مساعدة «داعش» في حال هروبه للجنوب الليبي، لأن هؤلاء المرتزقة لا يهتمون بـ«هوية الزبون» ولكن بالمبلغ المدفوع.
تجري هذه التطورات على الأرض، بينما يحاول الأفرقاء التلاقي حول طاولات الحوار، وكان آخرها زيارة الوفد البرلماني الليبي (غالبيته من المنطقة الغربية) إلى القاهرة. وعلى الهامش تستمر الاتهامات بشأن استعانة هذا الفريق أو ذاك بقوات أجنبية للقتال على الأراضي الليبية. ويقول عبد المجيد عن التصريحات الأخيرة التي خرجت من أميركا وفرنسا إنها تعد بمثابة «صراع دولي على بسط النفوذ داخل ليبيا. إنها تعلم أن ليبيا دولة غنية بها موارد النفط والغاز والذهب واليورانيوم وغيرها من المعادن الثمينة». ويضيف: «كما تعرف مساحة ليبيا كبيرة جدا. فرنسا وبعض حلفائها الأوروبيين يسعون أيضا إلى العمل على إيقاف الهجرة غير الشرعية، من الشواطئ الليبية، إلى أوروبا، والسيطرة على خيرات ليبيا.. وبتقسيم ليبيا ستكون الأمور تحت سيطرتها». ويتابع قائلا إنه «بالنسبة إلى قصف القوات الأميركية لسرت، فإنني أقول إن أميركا هي من صنعت الدواعش. لماذا لم تقصف أميركا الدواعش حين كانوا يقتلون ويذبحون الضباط والصحافيين والناس في بنغازي وغيرها في الساحات علانية وأمام العالم. أين كانت أميركا؟ أميركا، في الحقيقة، تريد المنطقة الغربية. لكن نتمنى من عقلاء ليبيا أن يجنبوها هذا المصير وهذه المخاطر».



عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
TT

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» عن مواصلة العمل لتحقيق حلمه. إذ تفتحت عينا «عرّو» في مدينة هرجيسا، عاصمة إقليم «أرض الصومال» وكبرى مدنه، يوم 29 أبريل (نيسان) 1955، على نداءات للاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وتحقّق ذلك وعمره نحو 5 سنوات... وهو الآن يأمل باعتراف دولي للإقليم - الذي كان يُعرف سابقاً بـ«الصومال البريطاني» - وهو يترأسه بعمر الـ69 كسادس رئيس منذ انفصاله عن الجمهورية الصومالية عام 1991.

عاش عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» حياته بين دهاليز الدبلوماسية وسنوات غربة وتقلبات السياسة، وسجل أرقاماً قياسية، أبرزها أنه كان أطول رؤساء مجلس نواب إقليم «أرض الصومال» (صوماليلاند) عهداً مسجّلاً 12 سنة.

وجاء إعلان انتخابه رئيساً للإقليم في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المودّع، في ظرف تاريخي وتوقيت مصيري يواجهان بلاده وسط توترات حادة، أبرزها مع الحكومة الصومالية الفيدرالية - التي لا تعترف بانفصاله - وترفض اتفاقاً مبدئياً أقرّه سلفه موسى بيحي عبدي مطلع 2024 مع إثيوبيا اعتبرت أنه يهدّد سيادة البلاد.

المولد والنشأة

وُلد عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» وفق مصادر «الشرق الأوسط»، في عائلة مكوّنة من 7 فتيات و3 أولاد، وهو حالياً متزوج ولديه 5 أبناء.

بدأ تعليمه الابتدائي في مدينة بربرة، ثاني كبرى مدن الإقليم وميناؤه الرئيس. وتابع تعليمه الثانوي في هرجيسا، منتقلاً إلى المدرسة الثانوية عام 1977. وبعد ذلك، انتقل إلى العاصمة الصومالية الفيدرالية مقديشو، حيث التحق بكلية سيدام ومنها حصل على درجة البكالوريوس في المحاسبة، وتضم شهاداته أيضاً درجة الماجستير في إدارة الأعمال ودبلوماً في حل النزاعات.

بين عامي 1978 و1981، عمل «عرّو» في منظمة معنية بالتنمية الاجتماعية في مقديشو. وبين عامي 1981 و1988 شغل منصباً دبلوماسياً في وزارة الخارجية الصومالية بإدارة التعاون الاقتصادي. ومن مايو (أيار) 1988 إلى عام 1996، قبل أن يعمل مستشاراً للسفارة الصومالية في موسكو ثم نائب السفير والقائم بالأعمال.

العيش في الخارج

بعد انهيار الحكومة الصومالية، انتقل «عرّو» عام 1996 إلى فنلندا، التي كانت عائلته تقيم فيها منذ سنوات عدة وحصل على جنسيتها وظل مقيماً فيها حتى عام 1999.

للعلم، خلال عامي 1997 و1998 كان مساعد المنظمة الدولية للهجرة في فنلندا. بيد أنه عاد إلى إقليم أرض الصومال عام 1999، وبعد أقل من سنتين، أصبح «عرّو» أحد مؤسسي «حزب العدالة والتنمية» UCID - حزب المعارضة البارز - مع فيصل علي وارابي منافسه في الانتخابات الرئاسية هذا العام، وحينذاك شغل منصب نائب الأمين العام للحزب.

إقليم أرض الصومال شهد انتخابات لمجلس النواب، المكوّن من 82 نائباً، يوم 29 سبتمبر (أيلول) 2005. وكانت تلك أول انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب تنظَّم في الإقليم منذ انفصاله عن جمهورية الصومال (الصومال الإيطالي سابقاً) عام 1991. ولقد انتخب «عرو» نائباً عن منطقة ساحل بربرة، وانتُخب لاحقاً رئيساً للبرلمان (مجلس النواب)، وإبّان فترة ولايته سُنّت معظم قوانين الإقليم وتشريعاته.

لكن، بعد نحو 6 سنوات، وإثر خلاف تفجّر مع وارابي، أسّس «عرّو» الذي يتكلم اللغات الإنجليزية والعربية والروسية، «الحزب الوطني» - أو حزب «وداني» (الوطني) - المعارض الذي يميل إلى اليسار المعتدل ويحمل رؤية تقدمية في قضايا الأقليات والحريات كما يدعم المزيد من اللامركزية.

يوم 2 أغسطس (آب) 2017، استقال «عرّو» من رئاسة البرلمان بعدما شغل المنصب لمدة 12 سنة، وهي أطول فترة لرئيس برلمان بتاريخ الإقليم، معلناً أنه يتهيأ لدور أكثر أهمية كرئيس لأرض الصومال. غير أن آماله تحطمت على صخرة موسى بيحي عبدي، مرشح «حزب السلام والوحدة والتنمية» في المرة الأولى.

لكنه حقق مراده بعدما أعاد الكرَّة وترشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت يوم 13 نوفمبر 2024، وحصل فيها على 63.92 في المائة من الأصوات متغلباً على عبدي الذي حل ثانياً بـ34.81 في المائة، لجنة الانتخابات الوطنية الرسمية بالإقليم.

الرئيس السادسانتخابات عام 2024 هي الانتخابات المباشرة الرابعة منذ عام 2003، ومع فوز «عرّو» غدا الرئيس الرابع حسب الانتخابات الرئاسية المباشرة لفترة تمتد إلى 5 سنوات، وكذلك أصبح الرئيس السادس في المجمل منذ انفصال الإقليم 18 مايو 1991. ويذكر أنه عقب إعلان انفصال إقليم أرض الصومال، انتخب السفير عبد الرحمن أحمد علي، رئيس الحركة الوطنية بالبلاد حينها، ليكون أول رئيس للإقليم عبر انتخابات غير مباشرة. وفي 1993 انتخب السياسي محمد إبراهيم عقال رئيساً، وفي عام 1997 وجدّد له لفترة ثانية.

وبعد وفاة عقال عام 2002 أثناء رحلة علاج في جنوب أفريقيا، انتًخب نائبه طاهر ريالي كاهن؛ رئيساً للبلاد لتكملة الفترة الانتقالية. ثم في عام 2003، أجريت أول انتخابات رئاسية مباشرة في الإقليم، أسفرت عن فوز حزب «اتحاد الأمة» بقيادة الرئيس طاهر ريالي كاهن على السياسي أحمد محمد سيلانيو.

وفي يونيو (حزيران) 2010، أُجريت ثاني انتخابات رئاسية مباشرة، وتمكن سيلانيو من الفوز بالرئاسة لفترة خمس سنوات. وانتهت الانتخابات الثالثة التي أجريت في 13 نوفمبر 2017، بفوز موسى بيحي عبدي، الذي حصل على 55 في المائة من الأصوات.

وكان من المقرر أن تُجرى انتخابات الرئاسة الرابعة في الإقليم عام 2022، لكن لجنة الانتخابات الوطنية أجّلتها إلى 2023 ثم إلى نوفمبر 2024 بعد تمديد نيابي لولاية الرئيس عبدي الذي يتولى الرئاسة منذ 2017. وأرجعت اللجنة التأجيلات إلى «قيود زمنية وتقنية ومالية»، وسط انتقادات من المعارضة، قبل أن يفوز «عرّو».

التزامات وتحديات

جاء انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال، لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا مطلع 2024، تسمح للأخيرة بمنفذ بحري على سواحل البحر الأحمر لأغراض تجارية وعسكرية، مقابل الاعتراف بالإقليم بصفته دولةً مستقلة، الأمر الذي عدّته الحكومة الصومالية «اعتداءً على سيادتها وأراضيها».

إذ بجانب تحدّي الميناء، يشكّل الملف الداخلي تحدّياً ثانياً - بالذات - في أبعاده الأمنية والاقتصادية والعشائرية. كذلك تعدّ العلاقات الخارجية، وبخاصة مع إثيوبيا، تحدياً ثالثاً. ويضاف إلى ما سبق تحديان آخران، الرابع يتصل بملف المفاوضات المعلّقة مع الحكومة الصومالية الفيدرالية، والخامس بملف «حركة الشباب» الإرهابية المتطرفة.

هذه التحديات الخمسة، تقابلها التزامات أكّدها الرئيس المنتخب أثناء حملاته الانتخابية، منها التزامه بإعادة فتح وتنفيذ الحوار بين الإقليم والحكومة الفيدرالية الصومالية، وفق ما ذكرته إذاعة «صوت أميركا» باللغة الصومالية عقب مقابلة معه. وخلال حملاته الانتخابية أيضاً، قال «عرّو» إن حزبه سيراجع «مذكرة التفاهم» مع إثيوبيا، من دون أن يرفضها. في حين نقلت «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) عن محمود آدم، الناطق باسم حزب «عرّو»، أن «الاتفاقية لم تُعرض على الحزب أثناء العملية، وأن الحزب لم يراجعها منذ ذلك الحين». وأردف: «بشكل عام، نرحب بأي تعاون عادل ومفيد مع جيراننا. ولقد كانت إثيوبيا على وجه الخصوص صديقاً عظيماً على مرّ السنين. وعندما نتولّى السلطة، سنقيّم ما فعلته الحكومة السابقة».

لكن سبق هذه التعهدات والتحديات برنامج سياسي لحزب «وداني» تضمن خطوطاً عريضة متعلقة بالسياسة الخارجية لانتخاب الرئيس «عرّو» في عام 2024، أبرزها أن تكون الإجراءات القانونية والدبلوماسية لأرض الصومال مبنية على المصالح الوطنية ولا تتورط في نزاعات سياسية واقتصادية مع دول أخرى.

وتتضمن النقاط نقطتي:

- العمل على انضمام أرض الصومال إلى المنظمات الدولية الرئيسة، كالاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، والكومنولث، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، وغيرها.

- وإجراء مراجعة سنوية للسياسة الخارجية، لتعكس التطورات العالمية وتضمن التوافق مع المصالح الوطنية.

خبراء حاورتهم «الشرق الأوسط»، قالوا إنه من الصعب التكهن حالياً بتداعيات فوز مرشح المعارضة على مسار مذكرة التفاهم مع إثيوبيا، لكنهم اعتبروا أن الرئيس المنتخب سيسلك استراتيجية أخرى لنيل الاعتراف الدولي، تقوم على تهدئة الخطاب السياسي تجاه مقديشو، وإرسال رسائل تطمينية لها؛ بغية حثّها على الاعتراف بـ«أرض الصومال» دولةً مستقلة، مقابل الوصول لصيغة قانونية جديدة معترف بها دولياً تحكم العلاقة بين المنطقتين، كصيغة الاتحاد الفيدرالي مثلاً.