من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»

من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»
TT

من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»

من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»

فشلت التجربة البائسة لأول قومية أوروبية مبنية على مفهوم الأممية المسيحية تحت شعار «إله واحد وإمبراطور واحد» فشلاً كاملاً، بسبب ظهور مفهوم الدولة الوطنية أو القومية المبنية على أساس شخص الملك وسيادته على أرضه. وكان ذلك منذ مطالع القرن الثالث عشر في إنجلترا، وتبعتها فرنسا ثم باقي الدول الأوروبية على مر القرون. ومن ثم قسمت أوروبا دولاً مستقلة ذات سيادة بشكل شبه كامل بحلول أواخر القرن السابع عشر، ولقد تابعنا في الأسبوع الماضي تطوّر هذه التجربة الأممية التي سعت الكنيسة الكاثوليكية إلى تطبيقها بكل قوة بالتعاون مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة في وسط أوروبا، رغم وجود الاختلاف في بعض الأحيان بين الكيانين.
ولقد لعبت حركة الإصلاح الديني (المسيحي) الدور الأكبر في هذا الإطار، إذ فتّتت القدرة السياسية للبابا والإمبراطورية على حد سواء، من خلال كسر احتكار الكنيسة لمفهوم تعاليم الدين، وهو ما أدى إلى ظهور حركة معارضة قوية عُرفت باسم «البروتستانتية»، حدّت من السلطة الروحية للبابا، ثم أضعفت «شرعية» المفهوم القومي للأممية الأوروبية ضمن أمور سياسية أخرى. وكانت الحصيلة اندلاع أول حرب أوروبية شبه شاملة في القارة، هي تلك التي عُرفت بـ«حرب الثلاثين سنة»، التي انتهت باتفاقية «صلح وستفاليا» عام 1648. هذه الاتفاقية أقرت مبدأ سيادة الدول، وأن لا سلطة أعلى من الحاكم، أي سيادة الأخير على أراضيه على أساس مبدأ «الرعية على دين ملوكهم» Cuius regio، eius religio.
وهكذا خرجت أوروبا من مفهوم «الأممية» إلى مفهوم «القومية»، أو «الوطنية القُطرية»، وأصبح حلم القومية الأوروبية على أساس أممي مسيحي غير مطروح من الأساس، بل العكس هو الصحيح، إذ سعت القوى الكبرى إلى محاولة الهيمنة على النظام الإقليمي الأوروبي، مما أدخل القارة في حروب ضروس لا حصر لها منذ ذلك التاريخ وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ولكن على الرغم من كل هذه التطورات، حتى أثناء الحروب الدائرة في القارة الأوروبية، كانت هناك أصوات فكرية تنادي بمفهوم «الهوية الأوروبية»، ليس على أساس مفهوم أممي فوقي يُفرض على أوروبا من قبل سلطة دينية متعاونة مع أخرى سياسية، ولكن على أساس البُعدين الثقافي والحضاري للقارة الأوروبية المرتبط بمفهوم «الغرب» (West) ودور أوروبا في صناعته. إذ إن الولايات المتحدة لم تكن خلال هذه الفترة التاريخية قد تطوّرت بعد، بل إن البعض قد يستغرب بشكل كبير أن المسيحية لعبت دورًا محوريًا في تطور هذا المفهوم الأوروبي الجديد، ولكن هذه المرة ليس على أساس سلطة الكنيسة، بل النسيج الثقافي الموحد لغرب أوروبا، باعتباره القاسم المشترك الذي يمكن معه تطوير فكرة أوروبا. والواقع أن دول القارة وإن لم تتكلّم لغة موحدة، فإنها تأثرت تأثرًا كبيرًا بعدد من القواسم المشتركة على رأسها الأصول اللاتينية والهيلينية التي بُنيت عليها، الأولى من خلال القانون الروماني الشهير، والثانية من خلال تطوير الأسس الفكرية اليونانية القديمة على النحو الذي صار واضحًا بعد ذلك.
وعلى الرغم من اندلاع الحروب الأوروبية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن بعض المفكّرين، من أمثال فولتير (فرنسوا ماري آرويه) وإدموند بورك وغيرهما، لعبوا دورًا هامًا في صياغة الفكر السياسي الأوروبي. ويلاحظ أن فكرة القومية الأوروبية بدأت تظهر مرة أخرى تدريجيًا على أسس مختلفة عن فكرة الأممية المسيحية، إذ بدأ هؤلاء يطورون تدريجيًا فكرة «الأمة الأوروبية» ويركّزون على المفهوم القومي، مستخدمين المسيحية مصدرًا للبعد الثقافي والإنساني المشترك بين الشعوب الأوروبية، ولكن دون السعي في جعل هذه القومية مشروعًا دينيًا. فعليًا، طلّقت أوروبا الدين من السياسة فكريًا، ثم عمليًا في مرحلة تاريخية لاحقة، ونادى المسيحي الشهير ويليام بن (Penn) بفكرة البرلمان الأوروبي المشترك على أساس وجود أسس مشتركة فرضتها المسيحية على كل معتنقيها في أوروبا. ولعل من المفارقات في هذا الصدد أن «البرلمان الأوروبي»، الذي أصبح يمثل آخر مراحل التكوين القومي للاتحاد الأوروبي، لم يأخذ نصيبه من السلطات السياسية إلا بعد أكثر 4 عقود من نشأة مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
الكاتب الفرنسي الشهير فولتير ركّز على فكرة القومية الأوروبية من خلال وصفه القارة الأوروبية بأنها «جمهورية كبيرة مقسّمة إلى مجموعة دول، إما ملكية أو مختلطة لها جميعًا نفس الأسس الدينية. وهي حتى إن انقسمت إلى مذاهب مختلفة، فهي جميعًا لها نفس مبادئ القانون والسياسة المعروفة لدى الدول الأخرى». وتبعه الكاتب الفرنسي الشهير جان جاك روسو بالتأكيد على أنه لم يعد هناك فرنسي أو إنجليزي أو هولندي.. فقط أوروبي، وحتى رائد الفكر المحافظ «بورك»، أكد أنه لا يمكن لأوروبي أن يكون معزولاً في أي بقعة في أوروبا.
وهكذا انتشرت فكرة «الهوية أو القومية الأوروبية» دون وضع إطار محدد لنشأتها، سواء جغرافيًا أو سياسيًا أو ثقافيًا. فالبعد الجغرافي ظل يداعب الحلم القومي الأوروبي بشكل واضح، خصوصًا بعد ظهور الدولة الروسية القوية ودفع قادتها منذ القيصر بطرس الأكبر إلى القيصرة كاترينا الكبرى بالهوية الأوروبية لهذه الدولة، التي تناقضت بعض الشيء مع الهوية السلافية/ الأرثوذكسية لها. ومع ذلك اعتنق كثير من المفكرين المفهوم السائد والمعروف بمحور الأطلسي - الأورال، أي من المحيط الأطلسي إلى سلاسل جبال الأورال شرقًا، واعتبر حفنة من المفكرين روسيا امتدادًا طبيعيًا لهذا المشروع، بينما رفضه آخرون.
أما من الناحية الثقافية، فإن أي مفكر لم يخلط الواقع بالفكرة. إذ اعتبر الجميع أن أوروبا يمكن صناعتها على الأسس المشتركة المبنية على الهوية المسيحية والقانون الروماني والروح الهيلينية لتمييزها عن الباقي، فقد عبّر الأديب البريطاني الأميركي الشهير ت. إس. إيليوت عن هذا من خلال وصفه الثقافة على اعتبارها «شيئًا حيًا، مثل الشجرة التي لا يمكن بناؤها، ولكن يمكن وضع بذرتها وريها ورعايتها لتصبح شجرة مع مرور الوقت». ووصف المسيحية في أوروبا على أنها الأساس الثقافي وتحتها روافدها المختلفة.
وعلى الرغم من هذا، فإن مفهوم «القومية الأوروبية» دخل في منحنى خطير للغاية على الأقل فكريًا مع دخول القرن العشرين. ذلك أن الأساس المسيحي للآليات الاجتماعية المشتركة بين الشعوب الأوروبية بدأ يهتز بقوة، بسبب ظهور آيديولوجيات جديدة هي النازية والفاشية والشيوعية. وهي ثلاث آيديولوجيات لم تأبه كثيرًا بالهوية الأوروبية أو الهوية المسيحية، خصوصًا الشيوعية التي أعلن مؤسسها صراحة «أن الدين أفيون الشعوب»، وهو ما بات يهدد الإرث والمخزون الثقافي المسيحي داخل القارة الأوروبية ويفتح المجال أمام التكامل أو التوحّد الأوروبي على أساس طبقي مرتبط بالطبقة العاملة أو البروليتاريا.
كذلك لوحظ ظهور رصيد من الأفكار غير المرتبطة بالأساس الثقافي للمسيحية، وعلى الرغم من طرح البعض في فترة ما بين الحربين العالميتين مشروع القومية الأوروبية على أساس أنه المشروع الواقي للقارة الأوروبية من الحروب المدمرة، فإن قوة السلاح ودخان الحروب وبروز الآيديولوجيات الثلاث ترك المنادين بهذا الفكر على هامش الواقع، وبالأخص، مع دخول الحرب العالمية الثانية وبروز الدول السلطوية المرتبطة بالفاشية والنازية. عند هذا الحد فقط أصبحت الأرض ممهدة لفكرة «القومية الأوروبية»، لا سيما أن أوروبا شهدت من الدمار ما لم تشهده في تاريخها الحديث أو القديم، وأصبحت اقتصاداتها في حالة يرثى لها وبنيتها الأساسية شبه منتهية.
واقع الأمر أن أشباح الحروب الكبرى ولّدت قناعة أوروبية بأن الماضي لا يمكن تكراره، ومن ثم ضرورة استشراق مستقبل مبني على فكر جديد يقي القارة الأوروبية ويلات تكرار الحروب، وحقًا وجد الأوروبيون في «القومية الأوروبية» والتكامل الاقتصادي بينهم الضمان الوحيد للسلام. ولكن مشروع الاتحاد الأوروبي لم يكن له خريطة فكرية واضحة المعالم وقوية البنيان وقت انطلاقه، بعكس يومنا هذا الذي تنتشر فيه الرؤى المختلفة في علم التكامل الدولي والإقليمي في العلاقات الدولية والاقتصادية، منها «المدرسة الوظيفية» (Functionalism)، و«الوظيفية الجديدة» (Neo - Functionalism)، ونظرية «المجتمعات الآمنة» (Security Community)، إلخ... وكلها بنيت على خلفية الاتحاد الأوروبي، وأصبحت في أغلبها لاحقة للفكرة وليست سابقة لها، وذلك على عكس الفكر القومي العربي على سبيل المثال، ولكن لهذا الأمر حديث آخر بعد أن نتفقد نشأة وتطور الاتحاد الأوروبي.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.