«تدمر المدينة الشهيدة».. أكثر من 10 آلاف زائر خلال شهر واحد

30 طنًا من الديناميت استخدمت لتدمير المدينة والباقي فتات

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

«تدمر المدينة الشهيدة».. أكثر من 10 آلاف زائر خلال شهر واحد

جانب من المعرض
جانب من المعرض

تمكن آلاف الزوار الذين ارتادوا «مهرجانات بيت الدين الدولية» هذه السنة، قبل حضور حفلاتهم، من المرور بمعرض «سوريا وكارثة الآثار في الشرق الأوسط.. تدمر المدينة الشهيدة»، ومعاينة مدى الخراب المرعب الذي حلّ بآثار هذه المدينة العربية التي كانت مفترقًا تجاريًا في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، وعرفت بنشاطها وحيوية الحركة فيها. وقد امتدت آثارها البديعة التي بقيت لنا إلى أن حلّ بها الخراب، على مساحة شاسعة، متعة للناظر ومقصدًا للسياح من كل أنحاء العالم. المعرض الذي أقيم في القصر الشهابي في بيت الدين، على هامش المهرجانات التي اختتمت الثلاثاء الماضي أثار الدهشة، وبقي ما يقارب الشهر.
مساحة العرض ليست كبيرة، لكن الفكرة بسيطة وذكية. ثمة صور للمواقع التي تم تدميرها قبل الخراب وبعده وضعت إلى جانب بعضها بعضًا، ليتمكن الزائر من المقارنة. مع تركيز على ما يعتبر الخسارة الكبرى التي لن نستطيع تعويضها.
«معبد بيل»، ومعبد «بعل شمين» الذي خصص لإله الكنعانيين واكتشفه علماء آثار سويسريين في الفترة ما بين 1954 و1956، وقوس النصر الجميل، إضافة إلى المقابر التي بعثرت، حيث لم تسلم من حقد المخربين. صور هذه المواقع بعد التدمير تظهر مدى وحشية المعتدين، واستشراسهم المقصود والمصمم للإطاحة بما لم تتمكن منه مئات السنين.
ليلى بدر، مديرة متحف الجامعة الأميركية في بيروت أشرفت مع ميشال مقدسي، مدير التنقيبات الأثرية السابق في سوريا، بطلب من صاحبة الفكرة ومديرة مهرجانات بيت الدين نورا جنبلاط، على تنظيم هذا المعرض. وقد وضعت صورة كل معلم بحجم ضخم كما كانت عليه، وإلى جانبها ما آلت إليه حالها بعد الاعتداء. وإذا كانت الصور الصادمة تظهر بوضوح أن بعض المعالم زالت وإلى الأبد، فإن ليلى بدر تؤكد أن المعبدين الرئيسيين «بيل» و«بعل شمين» اللذين كانا مفخرة للمنطقة، قد تحولا إلى فتات ولا يمكن إعادة ترميمهما بأي حال. وإذا ما سألتها عن بعض التوقعات المتفائلة لخبراء آثار لا سيما فيما يخص «بعل شمين» تجيب بإصرار وغضب: «لقد تحولت الحجارة إلى بودرة، هل سنأتي بحجارة جديدة ونعيد البناء، وما النتيجة: ديزني لاند؟». ما يكسر القلب أيضًا صورة أقواس النصر الجميلة وأعمدتها الشاهقة التي تحولت بالفعل إلى فتات باستثناء بقايا بعض الأعمدة القليلة. الأسد الضخم الذي كان يزين مدخل متحف تدمر، وتعتقد ليلى بدر بأنه «وحده من بين الآثار المهمة التي دمرت قد يكون بالإمكان استعادته».
تخبرنا ليلى بدر أيضًا أن «30 طنًا من الديناميت استخدمها (داعش) ما زالت آثار تدمر» التي كان يفخر بها العالم أجمع وليست سوريا وحدها. وتضيف معلقة: «هل هناك وحشية أكثر من ذلك».
المعرض هو عبارة عن نقل لما تملكه الجامعة الأميركية في لبنان من آثار تدمرية إلى القصر الشهابي في بيت الدين. فجمهور الجامعة ليس نفسه هو جمهور المهرجانات الباحث عن الأنس، ومن هنا تأتي أهمية الحدث، وفاعليته والتأثير الذي أحدثه في نفوس جمهور في غالبيته ليس معنيًا عن قرب بالآثار، لكن المهارة هي في تحفيز الناس وإثارة حساسيتهم تجاه حضاراتهم وثقافاتهم، وموروثاتهم التي يفقدونها بعبثية مخجلة. لذلك يمكن القول إن أكثر من 10 آلاف زائر، دخل هذا المعرض خلال ما يقارب الشهر، وهو عدد كبير قياسًا بزوار المعارض في لبنان. لم يكتف المعرض بتدمر وإن كان تركيزه عليها، وإنما تم عرض فيلم وثائقي سلط الضوء على مواقع أثرية أخرى في سوريا، كانت هدفًا للنهب والسلب والتخريب، من خلال صور جوية تظهر الأماكن الفارغة التي بقيت بعد أن استلبت أحشاؤها.
وبما أن مهرجانات بيت الدين، تراهن على الأفضل، ولا تقبل بالسهل، وهذا يسجل لها، فقد حرصت على عرض صور لـ24 تمثالاً نصفيًا كانت تزين المقابر التدمرية هي في حوزة الجامعة الأميركية اليوم، وكي لا يبقى الزائر في حيز الصور، فقد نقلت 3 تماثيل نصفية أصلية إلى المعرض، مع كل ما يعنيه ذلك من مسؤولية، ووضعت خلف زجاج واقٍ، وأمنت لها الحراسة اللازمة، والإجراءات الكفيلة بحمايتها. وتعلق ليلى بدر بأن «آثار تدمر باتت نادرة، ونحن لا نعيرها، وما حدث في بيت الدين هو استثناء، لما لنا من ثقة بالجهة المنظمة، وما عدا ذلك فإن هذا من الأمور التي لم نعد نجرؤ على القيام بها، نظرًا لما لهذه القطع من أهمية».
ونظرًا لحساسية الموضوع، وما له من أبعاد لا تخص تدمر، ولا الآثار السورية وحدها، عمدت لجنة مهرجانات بيت الدين، والأركيولوجية في اللجنة ايميلي بيهم، إلى تنسيق المعرض والعمل على وضع كاتالوغ حول محنة الآثار في المنطقة ضم آثارًا انتهكت في كل من أفغانستان والعراق وسوريا وتدمر بطبيعة الحال وأيضًا لبنان. وتقول بيهم إن «هذا الكاتالوغ الذي عمل عليه ميشال مقدسي وايفا ايشك، وصممه رامي ياسين، مفيد لكل عالم آثار، فهو مرجع مهم، يتضمن معلومات وافية، ويتسم بجدّية علمية». ويمكن الحصول عليه بمراسلة لجنة المهرجانات على العنوان التالي: [email protected].



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟