اليمين المتطرف الفرنسي يخترق الأدب مروجا لثقافة «بديلة»

عودة قوية لنتاجات تكرس الخوف من الأجانب والمهاجرين وتحذر من التنوع الثقافي

إريك زمور
إريك زمور
TT

اليمين المتطرف الفرنسي يخترق الأدب مروجا لثقافة «بديلة»

إريك زمور
إريك زمور

* فونتونال: أهم ما يجسد النزعة العنصرية الجديدة لبعض المثقفين هو الهجوم على الإسلام والمسلمين وكأنه بعد سقوط الشيوعية لم تبق من فزاعة لتأجيج المخاوف سوى المهاجر المسلم الذي أصبح فجأة المسؤول عن كل مشكلات المجتمعات الأوروبية
* في المؤلفات المعروضة على موقع دار نشر «شيري» مثلا.. وهي دار نشر مهمة.. نرى أن أكثر الكتب مبيعا هي تلك التي تهاجم الإسلام أو الوحدة الأوروبية أو وسائل الإعلام المعروفة أو تشكك في جرائم النازيين

من القضايا التي شغلت الساحة الثقافية الفرنسية هذا الصيف إجبار مكتبة بمدينة «بارك سور مار» شمال فرنسا على سحب نسخ معروضة للبيع من كتاب «كفاحي» للزعيم النازي أدولف هتلر.
الجدل لم يتناول شرعية العملية التجارية بحد ذاتها، حيث إن القانون الفرنسي يسمح ببيع هذا الكتاب منذ سنوات بشرط إرفاقه بتحذير من محتواه الخطير، لكن ما أذكى السجال أكثر هو الإقبال الكبير على اقتناء هذا الكتاب الذي نفدت منه نسخ كثيرة في وقت قياسي، حسب شهادة أصحاب المكتبة، مما استدعى سحبه.
الظاهرة أثارت مخاوف بعض المثقفين الذين اعتبروا أن التيارات اليمينية المتطرفة باتت تبث سمومها الخطيرة الآن في معاقل الثقافة بعد أن استفحلت في السياسة، كما أن كوادر من الحزب الشيوعي الفرنسي نددوا على أثر هذه الحادثة بما سموه: «تهوين أفكار اليمين المتطرف»، بل والترويج لها في دور العلم والمعرفة. وهي ليست المرة الأولى التي تشهد فيها مؤلفات من هذه النوعية مثل هذا الرواج. الصحافيان أبال مستر وكارولين مونو، لفتا الانتباه في مدونة مشتركة على صفحات جريدة «لوموند» إلى النجاح الذي تلاقيه أعمال كتاب معروفين بتوجهاتهم العنصرية المتطرفة: الكاتب الفرنسي ألان سولار مثلا وكتابه «فهم الإمبراطورية» («كومبرودر لومبير»، دار نشر «بلانش») الذي نشر مند سنتين ولا يزال لغاية اليوم - رغم هجوم النقاد وغياب دعاية إعلامية - من أكثر الكتب مبيعا في موقع «أمازون - فرنسا». كذلك الحال مع رواية جان راسباي: «معسكر القديسين» (لوكون دي سان، دار نشر «لافون») التي لاقت نجاحا منقطع النظير في المكتبات؛ حيث احتلت المرتبة الـ22 من مجموع الـ500 كتاب الأكثر مبيعا في فرنسا عام 2012. وكان يباع منها نحو 500 نسخة كل شهر، رغم أن الطبعة الأولى تعود لسنوات السبعينات.

* عودة يمينية قوية
في حديث نشر بمجلة «سلات»، يتحدث الباحث إروان لوكور، المختص في شؤون اليمين المتطرف، عن عودة قوية إبان العشرية الأخيرة في مجال الأدب والكتابة للإشكاليات القريبة من قناعات أحزاب اليمين المتطرف؛ ومن أهمها الخوف من الأجنبي والمهاجر، ورفض تمازج الأجناس والتنوع الثقافي. الأزمات الاقتصادية المتفاقمة في أوروبا وأحداث الإرهاب زادت من حدة مشاعر الكراهية لا سيما تجاه المسلمين، وهو ما صنع شهرة بعض الكتاب الأوروبيين ممن جهروا بتوجهاتهم العنصرية أمثال الإيطالية أوريانا فلاتشي: («الغضب والكبرياء»)، والألماني تيلو سرازان: («ألمانيا تختفي»)، أو الفرنسي ميشال ويلبك: («البطاقة والإقليم»). يحكي الروائي الفرنسي جان راسباي في مؤلفه «معسكر القديسين» قصة مليون مهاجر هندي يصلون لشواطئ جنوب فرنسا على متن باخرة ليستولوا بعدها على منازل الفرنسيين ومدارسهم ومستشفياتهم الجميلة. كل من يقرأ الرواية يلاحظ أن الكاتب لا يصف المهاجرين الهنود إلا بصفات ذميمة: «الوحوش» و«الجياع» و«النتنة» ولا يستثني منهم أحدا، كما يصف العرب والأفارقة بـ«الخونة»، و«المغتصبين»، والرواية كلها تدور حول شجاعة حفنة صغيرة من الفرنسيين المتأصلين (العرق الآري) التي تنظم المقاومة في الجبال البعيدة عن المدن التي احتلها المهاجرون الهنود وسط جبن القادة والمثقفين الذين استسلموا للهجمة. على أن قناعات الكاتب تظهر منذ البداية حين يكتب في مقدمة الكتاب عن خطر اختفاء العرق الأوروبي بسبب تكاثر الأجانب السريع، وتنبأ بأن تصبح غالبية سكان فرنسا مع مطلع 2050 من الأجانب غير الأوروبيين.
الصحافي السابق في يومية «ليبراسيون» دانيال شنيديرمان تساءل على صفحات موقع «أري سور إيماج»: كيف يمكن تفسير النجاح الجديد لهذه الرواية رغم أنها كتبت منذ 40 سنة، وكيف قبلت دار نشر كبيرة مثل «لافون» نشر مثل هذا العمل الذي تنبعث منه رائحة العنصرية؟ جواب واحد: تقدم اليمين المتطرف في أوروبا والانتصار النسبي لنظرياته وهب حياة جديدة لهذا النوع من الأدب.
أما الكاتب والصحافي الفرنسي سيبستيان فونتونال، فيرى في كتابه «كاسرو التابوهات: صحافيون ومثقفون في خدمة النظام السائد» (دار نشر «لا ديكوفرت») أن أهم ما يجسد النزعة العنصرية الجديدة لبعض المثقفين هو الهجوم على الإسلام والمسلمين، فيكتب: «وكأنه بعد سقوط الشيوعية لم يبق من فزاعة لتأجيج المخاوف سوى المهاجر المسلم الذي أصبح فجأة المسؤول عن كل مشكلات المجتمعات الأوروبية». يواصل سيبستيان فونتونال: «المشهد الثقافي الفرنسي اليوم يعج بالمثقفين المزيفين الذي لا يتورعون عن ضرب الآخر (الفقير، المهاجر، المسلم..) للحصول على منبر جديد».
إيريك زمور الصحافي والكاتب المعروف بمواقفه المتطرفة يكتب مثلا في رواية «الأخ الأصغر» (دار نشر «دونويل») عن ابن المهاجر المغاربي الذي يغتال صديق طفولته لأنه يهودي بعد سقوطه في شباك التطرف. الصحافي المثير للجدل يقدم شخصيات روايته من أجيال الهجرة على أنهم تائهون لا طريق أمامهم سوى التطرف الديني أو السقوط في الانحراف والجريمة. وكان قد أثار الجدل حين أعلن أن العرب والأفارقة منحرفون وأن ما يقدمونه من إنتاجات فنية أو ثقافية لا يحمل أي قيمة.

* مدرسة «فكرية» جديدة
أولى قناعات الجماعات اليمينية المتطرفة أن الأنظمة السائدة سواء من اليمين أو من اليسار تقود المجتمعات الأوروبية نحو الهاوية، وأن التعايش الثقافي أكذوبة كبيرة لا هدف منها سوى القضاء على التراث الفرنسي الأصيل، لأن الثقافات أو «الحضارات»؟! حسب مفهومهم، لا تتساوى، فالثقافة الأوروبية أرقى وأكثر تميزا من الثقافات الأخرى ولا تحتاج لأي إضافة خارجية. بعض المفكرين ممن صرحوا بتبنيهم هذه النظريات اختاروا التعبير عن تميزهم من خلال التجمع في مدرسة فكرية جديدة تسمى نفسها «اليمين الجديد» أو «لانوفال دروات»، وهو تيار فكري يجسده في فرنسا «الغريس» أو مركز بحوث ودراسات الحضارات الأوروبية المعروف باحتضانه مجموعة من الباحثين من ذوي التوجه اليميني المتطرف وعلى رأسهم الباحث ألان دو بونواست المقرب من زعيم الجبهة الوطنية جان ماري لوبان، وقد لخص هذا الأخير شعار هذه المدرسة الفكرية فيما يلي: «لا لآيديولوجية النظير التي ترفض رسم اختلافات بين الثقافات وتمييز بعضها عن بعض.. الأفضلية للتراث الأوروبي والعودة للجذور المسيحية، على كل ثقافة أن تتطور داخل حدودها فقط ودون اختلاط بالثقافات الأخرى، ورفض العولمة والليبرالية وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم».
علما بأن رقم «2» في مركز بحوث «الغريس» المؤرخ دومينيك فرنر الذي انتحر بداية شهر يونيو (حزيران) أمام كنيسة نوتردام دو باري كان قد عبر عن هذه الهواجس بقوة في الرسالة التي تركها: «أنا أحب الحياة، ولكني أريد من خلال هذه الحركة أن أطلق صرخة استغاثة: أنا قلق على مصير الفرنسيين، الخطر الذي يتربص بنا عظيم: الهجرة غير الأوروبية إن استمرت قد تحل محل سكان فرنسا وأوروبا، وقد يأتي اليوم الذي يحكم فيه المسلمون فرنسا..».
هذه المدرسة الفكرية أثرت في عدة مجالات ثقافية. الباحث المختص جان إيف كامو يكتب في مقال جيد بعنوان: «الثقافة المضادة لليمين المتطرف في فرنسا» (منشورات «جمعية المكتبات الفرنسية»): «من الخطأ الاعتقاد بأن الجبهة الوطنية لا تهتم بالإشكاليات الثقافية وأنها لا تعنى إلا بالمؤلفات التي تبجل التراث المحلي الفرنسي فحسب، فهي منذ سنوات تطور ما تسميه (الثقافة المضادة) أو (الثقافة البديلة) التي ترى أنها أكثر صدقا من الثقافة السائدة التي تظلل الناس». من أولوياتها تقديم بعض المؤلفين التي تعتبر أن الثقافة «السائدة» تهمشهم، وطرح مواضيع تعتبر أن النظام يحاول إخفاءها عن الفرنسيين لا سيما ما يخص الهجرة.
يواصل جان إيف كامو: «الجبهة الوطنية أصبحت تملك شبكة كبيرة من المرافق الثقافية والعلمية كدور النشر، والمكتبات الخاصة، ومراكز البحوث، والمنظمات الخيرية والطلابية، والمنشورات وحتى الفرق الموسيقية الخاصة بها».
وقد أحصى جان إيف كامو نحو 10 دور نشر من أهمها دار نشر «شيري» و«كونت كولتور» و«إيدسيون بلانش».
في المؤلفات المعروضة على موقع دار نشر «شيري» مثلا، وهي دار نشر مهمة، نرى أن أكثر الكتب مبيعا هي تلك التي تهاجم الإسلام أو الوحدة الأوروبية أو وسائل الإعلام المعروفة، أو تشكك في جرائم النازيين. أما مختبرات الأفكار فأهمها «بوليميا» و«كلوب دو لورلوج» أو «نادي الساعة» الذي ينشط تحت شعار: «أفضلية العرق الأوروبي». الموسيقى هي الأخرى لم تسلم من اختراق التيار المتطرف، وأهم معالمها اليوم ما يسمى «الروك الفرنسي القومي» أو «روك إدونتيتار فرنسي»، ويوجد منها حسب الباحث نيكولا لوبور أكثر من 20 فرقة تتخذ من الغناء وسيلة لنشر أفكار الجماعات العنصرية. «لوكوك غولوا» أهم بوابة على الشبكة للتعريف بهذه الموسيقى صنفت في تقرير «للمراب» (الحركة من أجل محاربة العنصرية والصداقة بين الشعوب) من أكثر المواقع بثا للمضامين العنصرية.
لوحظ مؤخرا تقدم أحزاب اليمين المتطرف في صناديق الاقتراع الأوروبية في إيطاليا، وإسبانيا، وهولندا، والسويد، واليونان، والنرويج، وفرنسا؛ حيث باتت تمثل ما بين 10 و20 في المائة من أصوات الناخبين في معظم الدول الأوروبية. اليوم نظريات العنصرية والتطرف تسجل نجاحات أخرى على الساحة الثقافية والفكرية وقد يكون ذلك أكثر خطرا.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي