بلزاك.. محلل الكوميديا البشرية

يصفه البعض بأنه أكبر روائي في تاريخ فرنسا

بلزاك
بلزاك
TT

بلزاك.. محلل الكوميديا البشرية

بلزاك
بلزاك

نود أولا تقديم لمحة مقتضبة عن حياة هذا الأديب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ولا يزال. ففي أثناء العطلة الصيفية كثيرا ما يصطحب الفرنسي معه إلى شواطئ البحار أو أعالي الجبال الروايات الخالدة لهذا الكاتب الشهير. ويقال بأن العالم الأنثربولوجي كلود ليفي ستروس قرأ رواياته أربعين مرة دون أي كلل أو ملل! فمن هو هذا الكاتب الذي لا يتردد البعض عن وصفه بأنه أكبر محلل للكوميديا البشرية؟ ولد هنري دو بلزاك، وهذا هو اسمه الكامل، في مدينة تور الواقعة على نهر اللوار وسط فرنسا، في واحدة من أجمل المناطق ذات الطبيعة الساحرة، والقصور الملكية الشهيرة. كان ذلك في العشرين من شهر مايو (أيار) عام 1799، وهذا يعني أنه ولد في آخر عام من القرن الثامن عشر وقبل بضعة أشهر من قيام نابليون بونابرت بانقلابه الشهير الذي أدى إلى إغلاق مرحلة الثورة الفرنسية وبداية عهد إمبراطوري جديد بقيادته. وكان الولد البكر لعائلة تجسد الطفرة النوعية والاجتماعية التي طرأت على فرنسا في ظل الثورة الفرنسية والنظام الإمبراطوري البونابرتي. فوالده كان في البداية من أصل فلاحي، وكان سيبقى فلاحا فقيرا إلى أبد الدهر لولا حصول الثورة الفرنسية، التي قضت على الإقطاع والارستقراطية، وأتاحت للفلاحين أو لبعضهم أن يصبحوا بورجوازيين، ويحلوا محل الطبقات العليا التي كانت مسيطرة سابقا.
ثم تزوج والده متأخرا وهو في الخمسين من بنت أحد التجار الباريسيين الأثرياء، وعندئذ ارتفعت قيمته أكثر، واستطاع أن يمحو آثار أصوله الفلاحية المتواضعة لكي يلتحق بركب الطبقة الصاعدة آنذاك: أي طبقة البورجوازية، ثم عرف والده بذكائه ودهائه كيف يصبح تاجرا يقدم المعونة لجيوش نابليون قبل أن يلتحق بالإدارة العسكرية ويصبح موظفا محترما. ليس غريبا إذن أن يكون ابنه الروائي قد وصف في رواياته هذه الانقلابات الاجتماعية التي طرأت على فرنسا أثناء الانتقال من العهد الملكي القديم إلى العهد الثوري، أو الجمهوري الجديد. فالكوميديا البشرية التي ألفها بلزاك مليئة بالشخصيات التي تشبه والده.. إنها شخصيات انتهازية طموحة عرفت كيف تركب السلم الاجتماعي لكي تصعد في المراتب، وتنسى أصولها الأولى التي لم تعد تليق بها. يكفي أن نقرأ رواية «يوجيني غرانديه» أو «الأب غوريو» لكي نتأكد من ذلك. وبالتالي فبلزاك وصف في رواياته قصة حياة عائلته الشخصية في الواقع، ولكن من خلال التحدث عن عائلات أخرى من صنع الخيال. وهنا تكمن عبقرية العمل الروائي الذي يصهر الخاص بالعام، ويخلق عالما آخر موازيا لعالم الواقع، وبعيدا عنه في الوقت ذاته. ماذا فعل نجيب محفوظ بلزاك الرواية العربية؟
والآن نطرح هذا السؤال: ما العقدة النفسية التي صنعت بلزاك؟ من المعلوم أن كل كاتب عبقري يعاني من عقدة ما. ومرة سمعت الأستاذ أحمد عباس صالح في جلسة لنا بباريس يتحدث عن طه حسين، ويقول: كل ذي عاهة جبار. فلولا العمى لما تفجرت عبقرية عميد الأدب العربي بمثل هذا الشكل. وقل الأمر ذاته عن أبي العلاء المعري. أما بيتهوفن فقد كان أطرش، وأما دوستيوفسكي فكان مصابا بالصرع، وقس على ذلك.. لقد عانى بلزاك في طفولته من إهمال أمه له وعدم محبتها له. لقد شعر بنقص عاطفي كبير، ولم يعرف معنى حب الأمومة الضروري لأي طفل لكي ينمو وينشأ بشكل طبيعي. والواقع أن عائلته وضعته منذ سنيَه الأولى في مدرسة خاصة لكي يبقى بعيدا عن البيت. وفي العادة كانت الأمهات في العائلات البورجوازيات يزرن أطفالهن من وقت لآخر في هذه المدارس. ولكن أم بلزاك لم تكن تشعر بالحاجة إلى زيارة طفلها إلا نادرا.
وشعر الطفل عندئذٍ بأنه مهجور من قبل أعز الناس إليه. لماذا فعلت أمه ذلك؟ لأنها، بحسب ما تقول الروايات الموثوقة، كانت واقعة في غرام شاب أصغر سنًا من زوجها بكثير. وقد حملت منه وأنجبت ولدا خلعت عليه كل حبها ونسيت ابنها الشرعي بلزاك. فبلزاك لم يُولد عن حب على عكس أخيه غير الشرعي. والغريب في الأمر أن الطفل الذي حظي برعاية أمه ومحبتها إلى أقصى حد ممكن أصبح فيما بعد شخصا تافها لا معنى له. هذا في حين أن بلزاك الذي حُرم من عطف الأمومة وحنانها أصبح أكبر روائي في تاريخ فرنسا. وبالتالي، فتنطبق على بلزاك مقولة التحليل النفسي الشهيرة لفرويد، وهي أن الإبداع تعويض عن نقص أو عقدة نقص عميقة تعود إلى مرحلة الطفولة الأولى. لماذا كان ريلكه ذا طبيعة قلقة، بل وجنونية إلى أقصى الحدود؟ ومع ذلك فهذا لم يمنعه من أن يصبح أكبر شاعر ألماني في القرن العشرين.
والواقع أن بلزاك حُرم من حنان العائلة طيلة السنوات الأولى من طفولته، حيث وضعوه عند المرضعة أولا؛ لأن أمه رفضت الاهتمام به كما ذكرنا.. ثم نقلوه بعدئذٍ وهو في الثامنة إلى مدرسة الرهبان اليسوعيين، وهناك عاش ست سنوات في ظل نظام قاسٍ، وتعرض للقمع والتخويف، بل وحتى الضرب من قِبل رجال الدين المتزمتين المتشددين.
وعندما خرج من المدرسة بعد ست سنوات وجدته عائلته هزيلا ضعيفا خائفا كالشبح، وبدا وكأنه طفل غبي لم يتعلم شيئا.. وعندئذٍ شعرت أمه بمدى الإجحاف الذي لحق به، وحاولت مواساته قليلا، ولكن بعد فوات الأوان. لقد صور بلزاك مطولا هذه الطفولة الشقية في اثنتين من رواياته الخالدة، وهما: «لويس لامبير»، و«زنابق في الوادي». ولا تزال هاتان الروايتان تُقرآن حتى الآن من قبل أجيال متلاحقة من الفرنسيين.
وعندما عاد بلزاك إلى مدينة تور اهتمت به أخته «لورا» الأصغر منه بسنة واحدة أو سنتين وعوّضته عن فقدان حنان الأم. ولذلك أصبحت الأثيرة لديه من بين كل أفراد العائلة. وسيكتب لها الرسائل بالعشرات والمئات. وسيبكيها بدموع حرى عند موتها المفاجئ بعد الزواج غير الموفق. هنا أيضا ينبغي أن نتوقف قليلا، ونقول: المصائب والمحن تصنع الكتاب الكبار. لا يوجد كاتب له معنى إلا ووراءه مصائب عدة لا مصيبة واحدة. أما أبناء العائلات والسهولة والثروة فنادرا أن يصبحوا شيئا له معنى.
وبعدئذٍ انتقلت العائلة إلى باريس لأن أعمال والده تدهورت بسبب سقوط نابليون وعودة النظام الملكي إلى الحكم في فرنسا. وما كان والده بقادر على قلب سترته بين عشية وضحاها لكي يصبح من أنصار النظام الجديد؛ لأن الناس في مدينة تور كلهم يعرفونه ويعرفون ولاءه لنابليون. فانتقل إلى باريس، حيث لا يعرفه أحد، وحيث يستطيع أن يقدم ولاءه للنظام الجديد لكي يستطيع الاستمرار في العيش وكسب الرزق.
وهكذا كان، وعندئذٍ دخل بلزاك إلى مدارس العاصمة وتخرج فيها.. ثم قررت العائلة أن يدخل ابنها إلى كلية الحقوق لكي يصبح كاتب عدل، ويكسب عيشه بسهولة. ووافق بلزاك على الأمر، ولكنه عندما انتهى من الدراسة رفض أن يشتغل موظفا طيلة حياته، وقال لهم: أريد أن أتفرغ للكتابة! وجنّ جنون العائلة من هذا الخبر. ففي ذلك الوقت ما كان أحد من الكتّاب يستطيع العيش من قلمه. كانت مهنة الكتابة تقود إلى الفقر المدقع والبؤس المادي المؤكد. وقديما قالت العرب: أدركتنا حرفة الأدب..
ولكن العائلة وافقت بعدئذٍ على مضض، وهذا شيء مستغرب من طرف عائلة بورجوازية لا تؤمن إلا بالعمل المأجور والمضمون والربح والادخار، وكل القيم القائمة على تجميع المال والتباهي به. وعندئذٍ كتب بلزاك رسالة إلى أخته يقول فيها: إما أن أكون عبقريا أو مجنونا! ثم أردف قائلا: لا أرغب إلا في شيئين: الحب والمجد، وحتى الآن لم أشبع لا من هذا ولا من ذاك.
في ذلك الوقت، أي عام 1822، لم يكن أي كاتب فرنسي يعيش من قلمه بمن فيهم الكبار من أمثال شاتوبريان وفيكتور هيغو. كان معظم الكتاب إما أنهم ورثوا ثروة عن عائلتهم تكفيهم مدى حياتهم وتجعلهم قادرين على التفرغ للكتابة، وإما أنهم كانوا يحظون براتب شخصي من الملك. ينبغي العلم بأن شاتوبريان كان سفيرا، وألفريد دوفيني ضابطا في الجيش الفرنسي، وفيكتور هيغو مقربا من الملك ويستلم راتبا شهريا؛ ولذلك استطاعوا التفرغ للكتابة والإبداع.
أما بلزاك فلم يكن يحظى بأي شيء من هذا القبيل. ومع ذلك فقد استطاع بعد أن اشتهر وكتب أعظم الروايات أن يعيش من قلمه في نهاية المطاف. ولكن بعد أن وصل إلى الشهرة والمجد والحب وحقق كل أمانيه غدر به الزمان. وانطبق عليه المثل العربي: توقع زوالاً إذا قيل تم. فقد سقط صريع المرض، بعد أن كان قد اشترى للتو بيتا جميلا في باريس وتزوج بالمرأة التي يحبها منذ سنوات طويلة. ولكن لم يتح له أن يهنأ أو يستمتع بكل ذلك، فمات بعد احتضار طويل وصعب وهو في الواحدة والخمسين من عمره. وقد رثاه فيكتور هيغو في خطاب مؤثر أثناء الدفن في المقبرة.



رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

يحتفظ مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة بمجموعة من اللقى البرونزية، منها مجسمات منمنمة تمثّل رأس ثور يتميّز بأنف طويل صيغ على شكل خرطوم. تعود هذه الرؤوس في الواقع إلى أوان شعائرية جنائزية، على ما تؤكّد المواقع الأثرية التي خرجت منها، وتتبع كما يبدو تقليداً فنياً محلياً ظهرت شواهده في موقع مليحة، كما في نواح أثرية أخرى تتّصل به في شكل وثيق.

يعرض مركز مليحة للآثار نموذجين من هذه الرؤوس، وصل أحدهما بشكل كامل، فيما فقد الآخر طرفي قرنيه. يتماثل هذان الرأسان بشكل كبير، ويتبنيان في تكوينهما أسلوباً تحويرياً مبتكراً، يجسّد طرازاً خاصاً لا نجد ما يماثله في أقاليم جنوب الجزيرة العربية المتعددة، حيث حضر الثور في سائر الميادين الفنية بشكل كبير على مر العصور، وتعدّدت أنواعه وقوالبه، وشكّلت نماذج ثابتة بلغت نواحي أخرى من جزيرة العرب الشاسعة. ظهر رأس الثور بشكل مستقل، وحضر في عدد كبير من الشواهد الأثرية، منها العاجي، والحجري، والبرونزي. تعدّدت وظائف هذه الرؤوس، كما تعدّدت أحجامها، فمنها الكبير، ومنها المتوسط، ومنها الصغير. وتُظهر الأبحاث أنها تعود إلى حقبة زمنية تمتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرون الميلادية الأولى.

في المقابل، يصعب تحديد تاريخ رؤوس ثيران مليحة، والأكيد أنها تعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأول، حسب كبار عملاء الآثار الذين واكبوا اكتشافها في تسعينات القرن الماضي. تتبنّى هذه الرؤوس قالباً جامعاً واحداً يتميّز بتكوينه المخروطي وبملامحه المحدّدة بشكل هندسي، وهي من الحجم المنمنم، ويبلغ طول كل منها نحو 5 سنتمترات. الأنف طويل، وهو أشبه بخرطوم تحدّ طرفه الناتئ فجوة دائرية فارغة. تزيّن هذا الأنف شبكة من الخطوط العمودية المستقيمة الغائرة نُقشت على القسم الأعلى منه. العينان دائريتان. تأخذ الحدقة شكل دائرة كبيرة تحوي دائرة أصغر حجماً تمثّل البؤبؤ، ويظهر في وسط هذا البؤبؤ ثقب دائري غائر. الأذنان مبسوطتان أفقياً، والقرنان مقوّسان وممدّدان عمودياً. أعلى الرأس مزيّن بشبكة من الزخارف التجريدية المحززة ترتسم حول الجبين وتمتدّ بين العينين وتبلغ حدود الأنف.

يشكّل هذا الرأس في الواقع فوهة لإناء، وتشكّل هذه الفوهة مصبّاً تخرج منه السوائل المحفوظة في هذا الإناء، والمثال الأشهر قطعة عُرضت ضمن معرض مخصّص لآثار الشارقة استضافته جامعة أتونوما في متحف مدريد الوطني للآثار خلال عام 2016. يعود هذا الإناء إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد وصل بشكل مهشّم، واستعاد شكله التكويني الأوّل بعد عملية ترميم طويلة ودقيقة. تتكوّن هذه القطعة الأثرية من وعاء صغير ثُبّت عند طرفه الأعلى مصبّ على شكل رأس ثور طوله 4.6 سنتمترات. عُرف هذا الطراز تحديداً في هذه الناحية من شمال شرق شبه الجزيرة العربية التي تقع في جنوب غرب قارة آسيا، وتطلّ على الشاطئ الجنوبي للخليج العربي.

عُثر على هذه الآنية إلى جانب أوان أخرى تتبع تقاليد فنية متعدّدة، في مقبرة من مقابر مليحة الأثرية التي تتبع اليوم إمارة الشارقة، كما عُثر على أوان مشابهة في مقابر أخرى تقع في المملكة الأثريّة المندثرة التي شكّلت مليحة في الماضي حاضرة من حواضرها. ظهر هذا النسق من الأواني الجنائزية في مدينة الدّور الأثرية التي تقع اليوم في إمارة أم القيوين، على مقربة من الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة، وهي على الأرجح مدينة عُمانا التي حضنت أهم ميناء في الخليج خلال القرن الأول الميلادي. كما ظهر في منطقة دبا التي تتبع إمارة الفجيرة، وفي مناطق أخرى تتبع في زمننا سلطنة عُمان، منها منطقة سلوت في ولاية بهلاء، في محافظة الداخلية، ومنطقة سمد في ولاية المضيبي، شمال المحافظة الشرقية.

اتّخذت فوهة هذه الأنية شكل رأس ثور في أغلب الأحيان، كما اتخذت في بعض الأحيان شكل صدر حصان. إلى جانب هذين الشكلين، ظهر السفنكس برأس آدمي وجسم بهيمي، في قطعة مصدرها منطقة سلوت. شكّلت هذه الأواني في الأصل جزءاً من آنية شعائرية طقسية، في زمن ازدهرت فيه التجارة مع عوالم الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط والهند. والمعروف أن أواني الشراب التي تنتهي بمصبات ذات أشكال حيوانية، برزت بشكل خاص في العالم الإيراني القديم، حيث شكّلت سمة مفضلة في الطقوس والولائم. افتتن اليونانيون باكراً بهذه الفنون وتأثّروا بها، كما شهد شيخ المؤرخين الإغريق، هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وعمدوا إلى صناعة أوان مشابهة مزجت بين تقاليدهم وتقاليد أعدائهم، كما تشهد مجموعة كبيرة من القطع الفنية الإرثية.

من ناحية أخرى، دخلت هذه التقاليد العالم الشرقي الواسع، وبلغت ساحل الخليج العربي، حيث ساهمت في ولادة تقاليد فنية جديدة حملت طابعاً محلياً خاصاً. تجلّى هذا الطابع في ميدان الفنون الجنائزية بنوع خاص، كما تظهر هذه المجموعة من الأواني التي خرجت كلها من مقابر جمعت بين تقاليد متعدّدة. استخدمت هذه الأواني في شعائر طقسية جنائزية خاصة بالتأكيد، غير أن معالم هذه الشعائر المأتمية تبقى غامضة في غياب أي نصوص كتابية خاصة بها.