سفن الموت

20 ألف مهاجر غير شرعي قضوا خلال 20 سنة في رحلات الوصول بحرا إلى أوروبا

سفن الموت
TT

سفن الموت

سفن الموت

«إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا.. فما حيلة المضطر إلا ركوبها»..
بيت شعر قيل منذ أكثر من ألف عام، صار مضرب مثل في ركوب الصعاب. ولكن الأسنة في زمننا هذا هي ركوب «سفن الموت» أو قوارب الموت، تلك التي تحمل المهاجرين غير الشرعيين، الذين تضطرهم أوضاعهم المعيشية، وظروف بلدانهم القاسية، جنوب المتوسط، إلى الإبحار وركوب الأمواج العالية، مخاطرين بأرواحهم بحثا عن شواطئ أمان على الجانب الآخر من البحر المتوسط.. هذه الرحلة التي باتت أشبه برحلة إلى الموت في أحشاء أسماك البحر، والناجون منها قلة.
تقول المنظمة الدولية للهجرة، ومقرها جنيف، إن 20 ألف مهاجر غير شرعي لقوا حتفهم، خلال السنوات العشرين الأخيرة، وسط أمواج البحر المتوسط، معظمهم في السنوات الأخيرة، حيث تسارعت الرحلات غير الشرعية التي تنظمها «مافيا» بحرية تتلقى آلاف الدولارات من مهاجرين يائسين من دول البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا، بمن فيهم لاجئون سوريون وفلسطينيون مقيمون في سوريا وهاربون من مصر. يحلم هؤلاء بتسفيرهم إلى أوروبا، بلاد الأحلام، في رحلة جنونية محفوفة بالمخاطر والعواصف، تستغرق نحو عشرة أيام يقتاتون خلالها الخبز فقط.

لم تفلح جميع الصيحات الدولية ومحاولات المسؤولين على جانبي المتوسط، والإجراءات التي تتخذ من هنا أو هناك، في الحد من الظاهرة. وشهد الشهر الحالي وحده عددا من الحوادث المرعبة، بغرق قوارب كانت تنقل نحو 500 مهاجر، وصلت قواربهم إلى شواطئ قريبة من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية التي تبعد 113 كيلومترا عن تونس، فانقلبت في البحر بسبب الأجواء المناخية السيئة والعواصف والرياح العاتية، ومات منهم مائتان.
وفي الشهر نفسه غرق 360 مهاجرا على بعد 500 متر فقط من الشاطئ، بعد أن توقف محرك القارب القديم فأشعل القبطان النار في بطانية كي يلفت الأنظار، لكن النار انتشرت في القارب كله وأجبرت الركاب على القفز في ماء البحر وأغلبهم لا يعرف السباحة، فغرقوا على الفور. ووصف بابا الفاتيكان تلك الحادثة بأنها مصيبة.
وتكرر الحادث مرة أخرى بعد يومين من الحادث الأول، وغرق العشرات من الضحايا. ورصدت قوات خفر السواحل الإيطالية على بعد 8 كيلومترات من لامبيدوزا قاربا يقل 210 أشخاص من سوريا وإريتريا والصومال، بينهم 36 طفلا و32 امرأة، وقد استخدم الركاب هاتفا نقالا لإرسال إشارات استغاثة، كما اهتدت الدوريات الإيطالية إلى قارب آخر تم إنقاذه وفيه 80 مهاجرا من نيبال وبنغلاديش ونيجيريا، منهم 10 نساء أربع منهن حوامل.
هزت هذه الأحداث حكومة إنريكو ليتا الإيطالية، والاتحاد الأوروبي، فقام رئيس الوزراء الإيطالي برفقة خوسيه مانويل باروزو رئيس المفوضية الأوروبية، بزيارة الجزيرة. وقال باروزو إنه مصدوم لرؤية التوابيت «فرؤيتها أمام العين تختلف عن رؤيتها أمام شاشة التلفزيون». ووعد ليتا بإقامة جنازة رسمية للضحايا.. أما باروزو فأعلن في منتصف الشهر الحالي أن إيطاليا ستحصل على 30 مليون يورو (ما يزيد على 40 مليون دولار) للمساعدة في زيادة عدد الدوريات البحرية والجوية في البحر المتوسط ما بين قبرص وإسبانيا، ودعم إدارة الأمن الأوروبية لتكتشف القوارب القادمة إلى الشواطئ الإيطالية.
كما لو أن الحكومة الإيطالية لا تكفيها مشاكلها هذه الأيام فأضافت إليها أزمة المهاجرين غير الشرعيين، وغرق قواربهم وموت المئات منهم، لتضيف عبئا على أعباء تثقل كاهل رئيس الوزراء إنريكو ليتا.
قامت المظاهرات الصاخبة في روما في عطلة نهاية الأسبوع الماضي بعد الإضراب العام الذي سبقها بيوم واحد، وأعلنت حالة الحصار في وسط العاصمة الإيطالية، بينما كان المتظاهرون يصطدمون بالشرطة والدرك أمام وزارة الاقتصاد ويجرحون 20 منهم وهم يهتفون «يسقط قانون بوسي - فيني حول الهجرة»، و«يا للعار»، ثم يصيحون «أوقفوا التقشف.. ضربنا الخيام في الساحات وسنهاجم قصور السلطة.. يكفيكم تهريجا».
فروما تعيش حاليا جوا من التوتر. رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلسكوني حاول إسقاط الحكومة الائتلافية الحالية وفشل، بل سبب الانقسام في حزبه اليميني وحكم عليه القضاء بعدم صلاحيته لتولي أي منصب عام لمدة سنتين، مما هدد حكومة الائتلاف بين اليمين واليسار بإمكانية الانهيار.
والأزمة المالية تتفاقم رغم الوعود البراقة، وحالة الانكماش الاقتصادي تدفع البلاد إلى حافة الهاوية مع ازدياد الدين العام إلى حد خطير. وشركة الطيران الإيطالية «أليطاليا» على وشك الإفلاس، وميزانية عام 2014 مكروهة لدى رجال الأعمال والنقابات العمالية على حد سواء.
فوق هذا كله يتزايد عدد القوارب والسفن الصغيرة التي تنقل المهاجرين غير الشرعيين من دول البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا، ويزداد عدد الموتى والهالكين. وبعد أسبوعين من هذا الكلام لم تقم الجنازة، وتناست الحكومة وعودها، وانتهت رحلة المهاجرين المعذبين بالموت مرتين، الأولى بموت الأمل الذي بدأوا فيه الرحلة القاسية، والثانية أن 85 من الأموات الغرقى دفنت جثثهم من دون جنازة ومن دون اسم بل من دون رقم في مقبرة خارج مدينة اغريجنتو بجزيرة صقلية التي تتبع لها إداريا جزيرة لامبيدوزا الصغيرة وسكانها الذين لا يتجاوز عددهم 4500 نسمة.
المسؤول عن المقبرة سالفاتوري دانا قال إن الحكومة لم تبعث حتى بممثل لها، مما يثبت ذروة عدم الاكتراث الحكومي بعد أيام من ذرف الدموع الكاذبة. ودفنت 200 جثة أخرى في مناطق متعددة في جزيرة صقلية. ويضيف بقوله «ما زلت أرى بعيني ست شاحنات نقلت الجثث الملقاة فوق بعضها». أما عمدة لامبيدوزا جوزي نيكوليني فتقول «لم تصلنا أي تعليمات من روما، ولو علمنا أن مصير الغرقى سيكون بهذا الشكل لأقمنا لأولئك المساكين جنازة هنا.. ما جرى ليس إنصافا للضحايا من إريتريا والصومال وسوريا، فأغلبهم في مقتبل العمر.. ووضعت جثث طفل وامرأة حامل وزوجين مع جثث 11 مهاجرا». وأردفت «زوار المقبرة هنا يضعون الزهور على قبور أحبائهم ولا أحد يلتفت إلى قبور المهاجرين في الحوادث السابقة أو يصلي لهم طلبا للغفران والرحمة سوى بضعة زوار من إريتريا يتمتمون بعبارات الأسى».
وفي روما تجمع أفراد من الجاليتين الإثيوبية والإريترية أول من أمس، لتأبين مهاجرين غرقوا في زورق في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي. حملوا الشموع واللافتات، التي كتب على إحداها «احترموا معاهدة دبلن»، في إشارة إلى قانون الاتحاد الأوروبي المتعلق بطالبي حق اللجوء. وكتب على أخرى «قتلى لامبيدوزا سيبقون في قلوبنا».
وقالت أنا، وهي إثيوبية حضرت حفل التأبين «نشعر بالكثير من الألم والغضب». وردت على سؤال عما إذا كانت تعتقد أن إيطاليا قدمت ما يكفي من المساعدة للمهاجرين قائلة «الناس تصرفوا بشكل رائع، لكن المسؤولين عن هذه الأمور لم تكن استجابتهم مناسبة». وأضافت «لامبيدوزا كانت تمثل الأمل لهؤلاء، لكنها أصبحت مقبرة للعديد من الناس.. إننا لا نريد أن يحدث ذلك مرة أخرى». ولتجنب المزيد من الكوارث تعمل إيطاليا عن كثب مع دول الاتحاد الأوروبي على مراقبة البحر. ورغم أن إيطاليا نشرت حتى الآن سفينة برمائية تحمل مستشفى عائما وطائرات هليكوبتر تطير لمسافات بعيدة وخمس سفن تابعة للبحرية، وطائرة مجهزة بأجهزة رؤية ليلية ورادار، إضافة إلى طائرة من دون طيار متمركزة في صقلية، فإن القوارب لا تزال تختفي في أعماق المتوسط، والناجون منها قليلون.
وتعد إيطاليا منذ وقت طويل نقطة وصول للمهاجرين غير الشرعيين الساعين إلى حياة أفضل في الاتحاد الأوروبي. وطلبت روما إدراج موضوع الهجرة على جدول أعمال المجلس الأوروبي ورؤساء الدول خلال اجتماعه المقرر يومي 24 و25 أكتوبر الحالي.
المشكلة أوروبية بامتياز، والرأي العام في إيطاليا وأوروبا غير متعاطف مع مآسي المهاجرين غير الشرعيين بسبب الأزمة الاقتصادية المؤلمة والكساد في أغلب دول أوروبا. يصل الآن 70 في المائة من المهاجرين إلى فرنسا وبلجيكا وألمانيا وبريطانيا والسويد من بين 330 ألفا من مقدمي طلبات الهجرة كل عام، وتم طرد 115 ألفا عام 2012، منهم 73 ألفا جاءوا بطرق غير قانونية سهلتها منظمات إجرامية كالمافيا وغيرها هربا من الأوضاع السياسية والأمنية والحروب في بلادهم الأصلية، والواقع أن نحو 190 مليون نسمة (أي 3 في المائة من سكان العالم) يعيشون الآن خارج أوطانهم ومسقط رأسهم.
يقول المهاجر السنغالي أحمد كامو، الذي يعمل حاليا في روما «لم أجد عملا في بلدي يمكنني من العيش الشريف في السنغال، وعن طريق وسيط دفعت منذ ثلاث سنوات مبلغ ألف دولار للسفر إلى ليبيا، وعملت فيها مؤقتا في قطاع البناء، ثم دفعت ألف دولار من جديد لأصل إلى لامبيدوزا، ولم أعرف إلى أي بلد أوروبي سوف أحط الرحال».
في الماضي كان المهاجرون إلى إيطاليا يأتون من بوركينا فاسو وإثيوبيا وساحل العاج والسنغال وبنغلاديش، وما زال أبناء الصومال وإريتريا (من المستعمرات الإيطالية سابقا) يتدفقون على إيطاليا حيث يقضي من يصل منهم إلى لامبيدوزا بضعة أيام للتحقيق والتأكد من هويتاهم، ثم ينقلون إلى مراكز إقامة مؤقتة (يسمونها مجازا مراكز الضيافة) حتى تتم تسوية أوضاعهم وقبول طلبات اللجوء أو الطرد. كانت تلك المراكز وعددها 11 تعيش ظروفا سيئة لا تختلف كثيرا عن السجون، وأحدها يقع بالقرب من روما في بونته غاليريا. لكن الآن باتوا يأتون أكثر من سوريا ولبنان وفلسطين.
حسين خضر باع متجره الصغير في شمال لبنان ليدفع 80 ألف دولار مقابل تهريبه مع أسرته إلى أستراليا بحثا عن حياة أفضل. لكن خضر (44 عاما) عاد خالي الوفاض بمفرده إلى قريته قرب طرابلس بعد أن غرق القارب الذي كان يستقله مع أسرته وعشرات المهاجرين الآخرين قبالة سواحل إندونيسيا الشهر الماضي، وغرقت زوجته وأبناؤه الثمانية. وشدد خضر على أنه على الرغم من تلك الفجيعة فإنه عازم على الهجرة من لبنان. وقال «تسألني لماذا؟.. أؤكد لك أن كل اللبنانيين يرغبون في ذلك.. وسيأتي يوم يظل فيه السياسيون وحدهم يتطلعون إلى الحيطان».
وبات لبنان يؤوي ما يزيد على مليون سوري فروا من جحيم الحرب الأهلية في بلدهم. في الوقت نفسه يستميت كثير من اللبنانيين للهجرة من بلدهم خصوصا أهالي منطقة عكار الفقيرة في الشمال التي امتدت إليها هذا العام أعمال العنف المستمرة في سوريا. وسجل ما يزيد على 230 ألف سوري أسماءهم لدى الأمم المتحدة في شمال لبنان، وباتوا يشكلون عبئا على البنية الأساسية الضعيفة بالفعل، وأدى وجودهم إلى انخفاض الأجور في المنطقة.

الهجرة والعنصرية

ينص قانون الهجرة الإيطالي المسمى بأسماء السياسيين الذين وضعوه عام 2002 «بوسي وفيني» على فرض عقوبات مالية وغرامة تصل إلى 5000 يورو (أي 6650 دولارا) والطرد لمن يصل إيطاليا حيا، ويتهم من يساعدهم مثل الصيادين في البحر بتهم جنائية. والحقيقة أنه مع تزايد الاضطرابات في العالم فلا يمكن لأوروبا وحدها خاصة أنها تعاني من البطالة والمشاكل الاقتصادية أن تستوعب المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين كل سنة، بل أصبح الأمر مأساة إنسانية عالمية.
حين سئل امبرتو بوسي، الزعيم السابق لحزب «رابطة الشمال» اليميني، منذ أيام عن احتمال إلغاء القانون الذي أسهم في وضعه، قال «لا توجد دول من دون حدود، ولن نستغني عن حدود إيطاليا». أما نائب رئيس مجلس الشيوخ والوزير السابق من الحزب نفسه روبرتو كالديرولي فأطلق تعليقا عنصريا من العيار الثقيل حين شكلت الحكومة الحالية قبل شهور وضمت لأول مرة وزيرة سوداء من أصول أفريقية (الكونغو الديمقراطية) سيسيل كيينغه، واصفا الوزيرة بأنها «تذكره بالقرود»، وتبعه بعض المتطرفين بإلقاء الموز عليها وهي تخطب في اجتماع حزبي مطالبة بتسهيل إجراءات قبول المهاجرين الجدد.
يتساءل البعض في إيطاليا، ومنهم جيمس والتسون أستاذ السياسة في الجامعة الأميركية في روما، قائلين «طلب زعماء اليمين من كالديرولي الاعتذار من الوزيرة، لكنهم لم يطلبوا منه الاستقالة»، لذا بعث لها كالديرولي باقة من الورود، لكن البعض يطرح السؤال «هل تغطي الورود على التفكير العنصري؟». الغريب أن رئيس حركة الاحتجاج «خمس نجوم» اليساري بيبي غريللو صرح منذ أيام منتقدا الحكومة على تساهلها مع المهاجرين غير الشرعيين، مما هدد بشق حزبه الحاصل على ربع أصوات الناخبين. وأردف أن «تفكير الحكومة في تعديل قانون الهجرة الحالي هو دعوة لبلاد الشرق الأوسط وأفريقيا لإرسال المزيد من المهاجرين غير القانونيين إلى إيطاليا». أما السياسي اليميني أرمينيو بوسو فقال إنه سعيد لأن قارب المهاجرين قد غرق.
الخلاصة أن إيطاليا منقسمة حول تعريف العنصرية ومعالجة مسألة الهجرة، فهناك نحو 5 ملايين مواطن من أصل أجنبي (أو ما يزيد على 7 في المائة من عدد سكان إيطاليا)، أي بزيادة 334 ألفا عن العام الفائت، خمسهم جاءوا من رومانيا ونحو نصف مليون من ألبانيا وأكثر من نصف مليون من المغرب و305 آلاف من الصين و123 ألفا من مصر و121 ألفا من تونس و87 ألفا من السنغال. أما عدد المهاجرين غير الشرعيين فيقدر بـ670 ألفا يعيش أغلبهم في شمال ووسط إيطاليا.

أبرز حوادث غرق السفن خلال الأشهر الأربعة الأخيرة

> شهد شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي 3 حوادث غرق لسفن تنقل مهاجرين، قضى فيها أكثر من 550 شخصا بين قتيل ومفقود.
> في الثالث من الشهر الحالي أحصت البحرية الإيطالية مقتل أكثر من 363 مهاجرا غير شرعي، معظمهم من الفلسطينيين والسوريين، إضافة إلى الأفارقة، نتيجة انقلاب سفينة كانت تقلهم قبالة سواحل لامبيدوزا.
> وشهدت السواحل الإيطالية في الحادي عشر من الشهر الحالي غرق زورق مهاجرين انطلق من ليبيا وعلى متنه نحو 300 راكب، معظمهم من السوريين. وأنقذت البحرية الإيطالية نحو 50 مهاجرا، فيما قتل 34 آخرون على الأقل، ولا يزال 200 في عداد المفقودين.
> في اليوم ذاته غرق قارب كان يقل عشرات المهاجرين العرب غير الشرعيين قبالة السواحل المصرية، خلال توجهه إلى أوروبا. وانتشلت قوات البحرية المصرية 12 جثة، فيما أنقذت 116 شخصا.
> قبل هذه الحادثة بأيام لقي 13 مهاجرا على الأقل حتفهم في 30 سبتمبر (أيلول) الماضي غرقا قبالة سواحل صقلية، بعد أن حاولوا السباحة إثر جنوح زورق صغير كانوا على متنه، فيما تمكن حراس السواحل من إنقاذ مائتين آخرين كانوا برفقتهم على الزورق ذاته.
> في الثالث والعشرين من الشهر ذاته غرقت عبارة تقل نحو سبعين شخصا، أكثر من نصفهم من اللبنانيين، بعد انطلاقها من الشواطئ الإندونيسية متوجهة إلى أستراليا. ونجا 18 لبنانيا بعد أن تمكنوا من السباحة والوصول إلى الشاطئ، فيما مات 14 آخرون غرقا، غالبيتهم من الأطفال.
> خلال شهر أغسطس (آب)، وتحديدا في التاسع عشر منه، أنقذ خفر السواحل الإيطالية أكثر من 600 مهاجر غير شرعي، بينهم نساء وأطفال، من الموت المحقق خلال وجودهم في زورق غير شرعي في المياه الإقليمية الإيطالية قرب سواحل جزيرة لامبيدوزا وبمحاذاة جزيرة صقلية، علما بأن العدد الأكبر منهم جاء من سوريا وباكستان.
> في الثالث عشر من الشهر ذاته، نجا 163 مهاجرا غير شرعي، معظمهم من المصريين والسوريين، بعد أن انتشلهم خفر السواحل الإيطالية على بعد 50 كم من سواحل صقلية.
> في العاشر من أغسطس الماضي، قضى ستة مهاجرين سوريين غرقا في البحر المتوسط قرب جزيرة صقلية، فيما أنقذ نحو مائة آخرين، عند مدينة كاتانيا الصقلية، بعد أن علق مركب صيد صغير كانوا على متنه بالرمال.
> وقبلها لقي ما لا يقل عن 24 مهاجرا غير شرعي حتفهم قبل أيام غرقا في عرض السواحل التركية خلال توجههم على متن قارب إلى جزيرة ليسبوس اليونانية. وتمكن خفر السواحل التركية من إنقاذ 12 مهاجرا كانوا على متن القارب ذاته.
> في التاسع والعشرين من شهر يوليو (تموز)، أنقذ خفر السواحل الإيطالية أكثر من خمسمائة مهاجر غير شرعي، فيما اعتُبِر أكثر من ثلاثين في عداد المفقودين. ويتحدر معظمهم من بلدان أفريقية، وحاولوا الوصول إلى أوروبا انطلاقا من السواحل الليبية. ووجه الناجون إلى مراكز استقبال في جزيرة صقلية.
> في الرابع والعشرين من شهر يوليو الماضي، أنقذ خفر السواحل الأسترالية نحو 160 مهاجرا غير شرعي، في طريقهم إلى أستراليا، إثر غرق زورقهم قبالة سواحل جزيرة جاوا الإندونيسية، على مقربة من المرفأ الذي أبحر منه، في حين غرق سبعة أشخاص آخرين، واعتبر العشرات في عداد المفقودين.
> خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي، وتحديدا في السادس عشر منه، قضى 54 شخصا على الأقل، غالبيتهم من الصوماليين، إثر غرق قارب يقل أكثر من 600 مهاجر عربي وأفريقي قبالة سواحل طرابلس الغرب. وجاءت حادثة الغرق هذه بعد شهرين ونصف الشهر من اختفاء قاربين إثر مغادرتهما ليبيا في نهاية مارس (آذار) الماضي، كان يقل أحدهما 320 راكبا والآخر 160، مما أدى إلى مصرع 240 راكبا على الأقل.



علاقات واشنطن بأميركا اللاتينية «ترتّبها» حساباتها الآيديولوجية والمالية

لقاء الرئيسين ترمب وميلاي الأخير (السفارة الأميركية في بوينس آيرس)
لقاء الرئيسين ترمب وميلاي الأخير (السفارة الأميركية في بوينس آيرس)
TT

علاقات واشنطن بأميركا اللاتينية «ترتّبها» حساباتها الآيديولوجية والمالية

لقاء الرئيسين ترمب وميلاي الأخير (السفارة الأميركية في بوينس آيرس)
لقاء الرئيسين ترمب وميلاي الأخير (السفارة الأميركية في بوينس آيرس)

أعلنت الولايات المتحدة بلسان وزير الحرب بيت هيغسيت، يوم الثلاثاء قبل الفائت، أن قواتها المسلحة نفّذت 3 عمليات هجومية شرق المحيط الهادئ ضد 4 زوارق ادّعى انها كانت تحمل كميات ضخمة من المخدِّرات، وأن 14 عنصراً من طواقمها قتلوا في تلك العمليات «كانوا ينتمون إلى منظمات إرهابية معروفة» إلا أنه لم يذكر أسماءها ولم يكشف عن أي معلومات تؤكد ضلوعها في تهريب المخدرات. وفي نهاية الأسبوع قبل الماضي، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية أنها أدرجت على قائمة الأشخاص المُعاقبين «لعلاقتهم» بتجارة المخدرات، المعروفة باسم «قائمة كلينتون»، أسماء كل من الرئيس الكولومبي غوستافو بترو، وزوجته فيرونيكا ألكوسير، ونجله البكر نيكولاس، ووزير الداخلية آرماندو بينيدتّي. وكان بترو قد أعلن قبل ذلك أنه تقدّم بشكوى لدى القضاء الأميركي ضد الرئيس دونالد ترمب الذي وصفه بـ«المجرم»، وبأنه من زعماء تجارة المخدرات. في المقابل، كان الرئيس الأميركي يعلن قبيل الانتخابات العامة الأرجنتينية - التي فاز فيها الرئيس خافيير ميلاي بفارق ملحوظ ومفاجئ على خصومه - عن مساعدة مالية للأرجنتين بمقدار 40 مليار دولار، في حين تعاني العائلات الفقيرة في الولايات المتحدة من خفض غير مسبوق في الخدمات الصحية والاجتماعية.

أعلنت الولايات المتحدة أخيراً عن خطوة جديدة تصعيدية في حملتها العسكرية ضد ما تصفه بـ«تجارة المخدرات في القارة الأميركية»، إذ قرّرت إرسال أحدث حاملة للطائرات وأكبرها في أسطولها البحري «جيرالد فورد»، والسفن الحربية المواكبة لها، إلى منطقة البحر الكاريبي، وكانت قد سبقتها إلى هناك 8 سفن حربية أميركية منذ أغسطس (آب) الفائت.

جاء ذلك الإعلان بعد الهجوم العاشر الذي شنّته القطع البحرية الحربية الأميركية في المياه الدولية ضد زورق، قتل فيه 6 أشخاص، وأصيب آخرون بجراح، وزعمت واشنطن يومذاك أنه تابع لإحدى منظمات الاتجار بالمخدرات. وتفيد المعلومات المستقاة من وزارة الحرب الأميركية «البنتاغون» بأن القوات البحرية المنتشرة في المنطقة تضمّ، بجانب حاملة الطائرات والطاقم المواكب لها، غواصة ومقاتلات من طراز «إف 35» المتطورة، وأكثر من 2000 عنصر، تابعين لمشاة البحرية «المارينز».

قرع طبول الحرب بحجة مكافحة المخدِّرات

إضافة إلى ما سبق، هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنه يعتزم شنّ حملة برّية لملاحقة منظمات الاتجار بالمخدرات، التي يعتبرها عدواً في نزاع مسلّح مع بلاده. وكانت واشنطن قد سرّبت إلى وسائل إعلام أن ترمب ينوي مهاجمة مرافق إنتاج الكوكايين وطرق الإمدادات داخل فنزويلا.

أيضاً، وجّه ترمب اتهامات مباشرة إلى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، واصفاً إياه بواحد من زعماء تجارة المخدِّرات، بينما كان شون بارنيل، الناطق بلسان وزارة الحرب الأميركية، يعلن أن وجود حاملة الطائرات «جيرالد فورد» في المنطقة «سيعزّز القدرات الأميركية لرصد ومراقبة وتفكيك العملاء والأنشطة غير المشروعة التي تشكّل خطراً على رفاه الوطن الأميركي». ومع أن بارنيل لم يكشف عن موعد وصول حاملة الطائرات إلى الكاريبي، فإنها كانت قد شوهدت مطلع الأسبوع قبل الفائت، وهي تعبر مضيق جبل طارق من البحر المتوسط باتجاه المحيط الأطلسي، وعلى متنها نحو 5 آلاف جندي.

واشنطن تبذل جهداً ملحوظاً ومثيراً للجدل لدعم الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلاي

من جهة ثانية، وبعدما كان الرئيس ترمب قد أعلن أخيراً أنه أعطى الضوء الأخضر إلى وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) لشنّ «عمليات سرّية» داخل فنزويلا، كتب وزير الحرب الأميركي هيغسيت، على منصة «إكس» مهدّداً: «إذا كنتَ مهرّباً للمخدِّرات في منطقتنا، فسنعاملك كما عاملنا تنظيم (القاعدة) من قبل. سنلاحقك في النهار والليل، ونتعقّب شبكاتك، ونرصد أعوانك ونقتلك». وللعام، أسفرت العمليات التي نفّذتها البحرية الأميركية حتى الآن في منطقة الكاريبي عن مقتل ما يزيد عن 50 شخصاً.

الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو (آ ب)

مادورو: واشنطن تخطط لإسقاط الشرعية

في هذه الأثناء، ندّد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بما أسماه «المخطّط الأميركي لإسقاط النظام الشرعي» في بلاده، وأردف قائلاً إن زمن اللجوء الى «وكالة الاستخبارات المركزية» لقلب أنظمة الحكم في أميركا اللاتينية قد ولّى. وتابع مادورو أن حكومته (اليسارية) «تنظر بقلق شديد» إلى استخدام الاستخبارات الأميركية ضد فنزويلا، وإلى «السياسة العدوانية التي تنتهجها واشنطن بهدف تغيير النظام عن طريق المناورات التخريبية والقوة». ثم ذكر أنه كلّف البعثة الفنزويلية الدائمة لدى الأمم المتحدة تقديم شكوى أمام مجلس الأمن الدولي للمطالبة بمساءلة الإدارة الأميركية، واتخاذ تدابير عاجلة تحول دون التصعيد العسكري في منطقة الكاريبي.

هذا، وكان وزير الخارجية الفنزويلي، إيفان خيل بينتو، قد صرّح في حديث خاص مع «الشرق الأوسط» أخيراً، بأن بلاده وجّهت رسالة واضحة إلى واشنطن، مفادها: «إنهم - أي الأميركيين - سيواجهون ردّاً غير محسوب في حال شنّهم هجوماً عسكرياً ضد فنزويلا». وأردف أن بلاده «جاهزة منذ سنوات لأي نوع من الاعتداءات... وخلال الأشهر الأخيرة عزّزنا التجهيزات الدفاعية، ونشرنا الميليشيا البوليفارية المسلحة في مناطق عديدة لصدّ أي هجوم».

الآثار الملموسة لحرب واشنطن الاقتصادية

غير أن تصريحات المسؤولين الفنزويليين لا تخفي التداعيات الاقتصادية للحملة التي تشنّها الإدارة الأميركية ضد نظام مادورو، ناهيك من الضغوط السياسية والنفسية التي يتعرّض لها هذا النظام اليساري.

ومع أن الرئيس الفنزويلي أكّد، في ظهوره مطلع الأسبوع أمام مواطنيه، أن إجمالي الناتج المحلي قد ازداد منذ بداية السنة الجارية بنسبة 7 في المائة - وهي تقديرات تبنّتها المنظمات الاقتصادية الإقليمية - توقّع بيان صادر هذا الأربعاء عن «صندوق النقد الدولي» أن النمو الاقتصادي في فنزويلا لن يتجاوز واحداً في المائة هذا العام، وأن نسبة التضخّم قد تصل إلى 270 في المائة، بل يدّعي خبراء أنها قد تتجاوز 400 في المائة.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن التراجع الاقتصادي الذي تشهده فنزويلا منذ سنوات، مشفوعاً باضطرابات سياسية واجتماعية مستمرة، أدّى إلى انكماش اقتصادها إلى ما يعادل 30 في المائة من حجمه التاريخي، عندما كانت خامس قوة اقتصادية في أميركا اللاتينية، بعد البرازيل والمكسيك والأرجنتين وكولومبيا.

أضف إلى ذلك أن فنزويلا، بمواجهة حرب اقتصادية أميركية ضروس عليها، تواجه اليوم أيضاً خطر انسداد السُّبل أمامها للحصول على قروض من المصارف الدولية، ما يحرمها من فرص الاستثمار اللازمة لإنعاش اقتصادها.

الرئيس الكولومبي غوستافو بترو (آ ب)

بين عداء كولومبيا... ودعم الأرجنتين

من جهة ثانية، مقابل التصعيد الأميركي ضد فنزويلا، الذي يندرج في سياق السياسات التي نهجتها الإدارات السابقة... لكن بمزيد من الشدة والتهديد بالتدخل العسكري المباشر، تصعّد إدارة الرئيس ترمب أيضاً ضد كولومبيا التي كانت تعتبر حليفاً تاريخياً لواشنطن. ومقابل ذلك، تبذل الولايات المتحدة جهداً ملحوظاً ومثيراً للجدل - حتى في أوساط الغالبية الجمهورية - لدعم الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير ميلاي، الذي يعتنق جميع مبادئ دونالد ترمب، بل يزايد عليها.

إذ قرر ترمب أخيراً، كما هو معروف، منح الأرجنتين، الغارقة في بحر من الديون، تبدو عاجزة عن سدادها، مساعدة بمقدار 40 مليار دولار. وبطبيعة الحال، طرح هذا القرار تساؤلات في الأوساط السياسية والاقتصادية الأميركية حول دوافع هذه الخطوة وجدواها. والمثير في الأمر أنها تأتي في حين تواصل إدارة ترمب خفض المساعدات الاجتماعية والخدمات الصحية للمواطنين الأميركيين.

أيضاً، ما يجدر ذكره أن الرئيس ترمب سئل أخيراً لدى استقباله نظيره الأرجنتيني في البيت الأبيض، عن «دوافع» هذا القرار، وكيف سيعود بالفائدة على «المصالح الأميركية» التي جعل الدفاع عنها عنوان ولايته، فأجاب: «بكل بساطة، إننا نساهم في ترسيخ فلسفة عظيمة في بلد عظيم». وأضاف وزير الخزانة الأميركي، من جانبه: «الأرجنتين حليف بالغ الأهمية»، مؤكداً أن دوافع القرار «سياسية بحتة»، ولا علاقة لها البتة بالحسابات الاقتصادية.

بالتوازي، مع أن خافيير ميلاي يفاخر بأنه «التوأم الآيديولوجي» للرئيس ترمب، فقد كان هو السبّاق في إطلاق حملة التقشّف القصوى. إذ طرح برنامجه تحت عنوان «إعلان الحرب على التبذير الحكومي»، لكن انتهى به الأمر إلى تفريغ الخدمات العامة من مضمونها... من غير أن يقدّم أي حل للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الأرجنتين، والتي كان فشل الحكومات السابق في معالجتها باب وصول ميلاي إلى الرئاسة.

بالمناسبة، الرئيس ترمب كان قد أعلن بوضوح عشية الانتخابات العامة الأرجنتينية، التي أجريت يوم الأحد قبل الماضي وفاز فيها ميلاي، أن استمرار تيار الأخير السياسي اليميني مرهون ببقاء ميلاي في السلطة. وذهب إلى حدّ التحذير بأن واشنطن «لن تضيّع الوقت» إذا فشل التحالف اليميني الحاكم الذي يقوده ميلاي.

في غضون ذلك، تشكّك الأقلية الديمقراطية في الكونغرس الأميركي، ومعها بعض الأصوات الجمهورية، في شرعية المساعدة المالية التي منحها ترمب لحليفه الأرجنتيني. وهذا، من منطلق أن «استخدام المال العام بهدف التأثير في انتخابات أجنبية»، ولا سيما أن الإدارة الحالية لا تكفّ عن فرض خفض جذري للمساعدات الخارجية المخصصة لبرامج إنمائية وصحية تنقذ أرواح الملايين في أنحاء العالم. كذلك، ثمة شكوك عميقة في قدرة الأرجنتين على سداد هذا القرض الذي يخضع للمساءلة في الكونغرس، وبخاصة أن وزارة الخزانة الأميركية لم تعلن عن أي ضمانات أو شروط لاسترداده.

ولعل، ما يزيد التساؤلات والشكوك حول هذه الخطوة، أن ترمب قال صراحةً بعد الإعلان عن نتيجة الانتخابات الأرجنتينية: «لقد ربحنا مالاً كثيراً». وهو ما يؤكد صحة التقارير المالية التي كشفت أن عدداً من صناديق الاستثمار الكبرى في الولايات المتحدة هي التي حقّقت أرباحاً طائلة بفضل تعاملها بالسندات الأرجنتينية.

حقائق

الوجود العسكري الأميركي في الكاريبي

في انتشار حربي إقليمي غير مألوف، باشرت الولايات المتحدة، مطالع شهر أغسطس (آب) الفائت، إرسال قِطع من أسطولها البحري إلى منطقة البحر الكاريبي، شملت أسراباً من الطائرات المقاتِلة ووحدات من «المارينز» (مشاة البحرية). وحول هذا الأمر قالت واشنطن إن الهدف من وجودها «محاربة عصابات المخدِّرات» التي تنشط في تلك المنطقة وتُغرق السوق الأميركية بها.

بين القطع البحرية التي توجد حالياً في المنطقة التابعة للقيادة الجنوبية في الجيش الأميركي طرّادات ومدمّرات وسفن هجومية برّمائية وغواصة. وينتظر أن تنضم إليها في الأيام المقبلة حاملة الطائرات «جيرالد فورد» المزوّدة بوقود نووي، وهي الأكبر والأحدث في الأساطيل الأميركية، تُرافقها مجموعة من سفن الدعم والإمداد والمواكبة. يضاف إلى كل هذا عدد غير معروف من الهليكوبترات والمقاتِلات المتطورة وما يزيد عن 4500 عنصر من مشاة البحرية، وخمسة آلاف جندي يُشكلون طاقم حاملة الطائرات.

هذا الانتشار الحربي الذي أمر به الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا سابقة له في العقود المنصرمة، ولا يُذكر مثيل له سوى في عام 1989 عندما غزت الولايات المتحدة جزيرة غرينادا. وتفيد معلومات صحافية، نقلاً عن خبراء عسكريين، بأن التشكيلة البحرية الأميركية الموجودة حالياً قبالة السواحل الفنزويلية تضم قطعاً حربية مخصّصة لعمليات إنزال بري واسعة.

أما المسؤولون الأميركيون فيكرّرون في تصريحاتهم القول إن «الهدف من هذا الحشد البحري هو محاربة عصابات تهريب المخدرات وتفكيك شبكاتها بحراً وبراً». لكن الناطقة بلسان البيت الأبيض كانت قد صرّحت، في بداية هذا الانتشار، بأن «الرئيس ترمب كان واضحاً عندما قال إنه عازم على استخدام كل الموارد التي في متناوله لوقف دخول المخدرات الولايات المتحدة وإحالة المسؤولين عن ذلك إلى القضاء...»، لكنها أضافت أن «موقف الحكومة الأميركية من النظام الفنزويلي هو أن نيكولاس مادورو ليس رئيساً شرعياً». ولقد ردّ مادورو يومها على ذلك بقوله: «لن نسمح لأي إمبراطورية بأن تمسّ أرض فنزويلا المقدسة»، مؤكداً أن بلاده تملك الأسلحة اللازمة لصدّ أي عدوان.

جدير بالذكر أن «جيرالد فورد» هي أكبر سفينة حربية في التاريخ، إذ يبلغ طولها 336 متراً، ويزيد وزنها عن مائة ألف طن. ومن الدفاعات المجهزة بها 75 طائرة مقاتِلة، من بينها طائرات «إف - 18 إيه» التي لا تملك منها سوى القوات المسلحة الأميركية. أي أنه بوصول هذه الحاملة إلى الكاريبي سيكون للأسطول الأميركي الموجود هناك أكثر من مجموع المقاتِلات التي يملكها سلاح الجو الفنزويلي، ومعظمها روسية الصنع من طراز «سوخوي - سو 30»، أو أميركية من طراز «إف - 16».



زهران ممداني «اشتراكي نيويورك» الشاب أعاد خلط أوراق الحزب الديمقراطي الأميركي

حملته الحماسية التي ركّزت على أزمات السكن وتكاليف المعيشة سرعان ما وجدت صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الناخبين
حملته الحماسية التي ركّزت على أزمات السكن وتكاليف المعيشة سرعان ما وجدت صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الناخبين
TT

زهران ممداني «اشتراكي نيويورك» الشاب أعاد خلط أوراق الحزب الديمقراطي الأميركي

حملته الحماسية التي ركّزت على أزمات السكن وتكاليف المعيشة سرعان ما وجدت صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الناخبين
حملته الحماسية التي ركّزت على أزمات السكن وتكاليف المعيشة سرعان ما وجدت صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الناخبين

فوز زهران (يُكتب «ظهران» باللغة الأوردية) ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك، يجعل منه أول مسلم يتولى هذا المنصب في تاريخ كبرى مدن الولايات المتحدة وعاصمتها الاقتصادية. ثم إنه يشكّل نقطة تحوّل لافتة في مسار الحزب الديمقراطي الأميركي. ذلك أن هذا المسلم اليساري ذا الأصول الهندية - الأوغندية، البالغ من العمر 34 سنة، تمكّن من إلحاق هزيمة مدوّية بمنافسيه الديمقراطيين التقليديين والجمهوريين على حد سواء، في لحظة سياسية يعاني معها حزبه من «أزمة هوية»، وذلك في أعقاب خسارته البيت الأبيض ومجلسي الشيوخ والنواب لصالح دونالد ترمب وحزبه الجمهوري في انتخابات عام 2024.

ولد زهران - أو ظهران - ممداني، وهو مسلم شيعي من الطائفة الاثني عشرية، في كمبالا عاصمة أوغندا عام 1991 لعائلة مثقفة من أصول هندية، وذلك بعدما عادت إليها من المنفى الذي فرضه نظام الرئيس الأوغندي السابق عيدي أمين في السبعينات على ذوي الأصول الآسيوية.

والده هو الأكاديمي المعروف الدكتور محمود ممداني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا، وصاحب مؤلفات مؤثرة حول الاستعمار وما بعده في أفريقيا. ووالدته ميرا ناير، المخرجة العالمية ومنتجة الأفلام الوثائقية التي تتناول قضايا العدالة الاجتماعية والهوية. وهي هندوسية الديانة، لكنها - مثل زوجها - خريجة جامعة هارفارد العريقة.

ممداني الابن انتقل طفلاً إلى نيويورك، ولاحقاً، درس في كلية بودن، الجامعية الخاصة الراقية بولاية مين، حيث تخرج عام 2014 بدرجة البكالوريوس في الدراسات الأفريقية، ثم حصل على الجنسية الأميركية عام 2018.

في بودن، كان ممداني عضواً مؤسساً لفرع منظمة «طلاب من أجل العدالة في فلسطين»، قبل أن ينخرط في العمل السياسي منظّماً لحملات انتخابية لمرشحين اشتراكيين ديمقراطيين، فشلت كلها.

ولكن، عام 2019، قرّر الترشح نائباً في برلمان ولاية نيويورك ممثلاً عن منطقة أستوريا في مقاطعة كوينز (إحدى مقاطعات مدينة نيويورك الخمس)، على أساس إصلاح الإسكان والشرطة والسجون والملكية العامة للمرافق، حيث أيده «الاشتراكيون الديمقراطيون في أميركا». إلا أن إعلان فوزه في الانتخابات التمهيدية خلال يونيو (حزيران) 2020 استغرق قرابة شهر، وذلك بعدما تمكن من إلحاق الهزيمة بالنائبة الديمقراطية المخضرمة أرافيلّا سيموتاس، التي كانت تشغل المقعد منذ أربع ولايات متتالية، ليفوز في الانتخابات العامة دون معارضة جمهورية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. ومن ثم، أعيد انتخابه أيضاً من دون أي معارضة في عامي 2022 و2024.

على صعيد آخر، تعرّف ممداني عام 2021 على راما دواجي، الرسامة السورية - الأميركية، عبر تطبيق المواعدة «هينج». وتمت الخطوبة في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، وتزوّجا في حفل مدني بمدينة نيويورك أوائل عام 2025، وأعقب ذلك حفل زفاف خاص في دبي، حيث أمضت راما معظم طفولتها، ولا تزال عائلتها تقيم هناك. أيضاً أقام العروسان الشابان لاحقاً حفل زفاف استمر ثلاثة أيام في منزل ممداني بأوغندا.

وللعلم، وُلدت راما دواجي في مدينة هيوستن، بولاية تكساس، عام 1997، لأبوين سوريين مسلمين، وانتقلت إلى دبي في سن التاسعة. ودرست فنون التواصل في جامعة فيرجينيا كومنولث بالولايات المتحدة، وحصلت لاحقاً على ماجستير في الفنون الجميلة بتخصص الرسم التوضيحي من كلية الفنون البصرية في مدينة نيويورك.

كان اسماً مغموراً

لم يكن اسم ممداني معروفاً على نطاق واسع عندما أعلن ترشحه لمنصب عمدة نيويورك في خريف 2024، إلا أن حملته الحماسية التي ركّزت على أزمات السكن وتكاليف المعيشة، سرعان ما وجدت صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الناخبين. ذلك أنه دعا إلى تجميد الإيجارات، وتوفير النقل العام بالحافلات مجاناً، وخفض تكاليف حضانات الأطفال، وإنشاء متاجر بقالة مملوكة للمدينة تبيع بأسعار الجملة، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولاراً في الساعة بحلول عام 2030.

برنامج يساري لمدينة رأسمالية

وحقاً، تحوّل ممداني، الذي يوصف بأنه «اشتراكي ديمقراطي»، إلى رمز جديد للجيل التقدّمي داخل الحزب، بعدما استطاع حشد أصوات الطبقة العاملة والشباب والمهاجرين في مدينة تُعدّ الأغلى معيشة في الولايات المتحدة. وجاء فوزه، بالأمس، ليمنح هذا الجناح اليساري زخماً سياسياً ومعنوياً كبيراً، ويفتح في المقابل نقاشاً حاداً داخل الحزب حول الوجه الذي يجب أن يقدّمه للناخبين خلال السنوات المقبلة.

إذ بينما يرى قادة الحزب «الوسطيون»، وفي مقدمهم زعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفريز، أن تقديم وجوه معتدلة مثل أبيغيل سبانبَرغر وميكي شيريل اللّتين فازتا بمنصبي حاكمتي ولايتي فيرجينيا ونيوجيرزي، هو الطريق الآمن والأمثل لاستعادة الناخبين المستقلين، يعتقد الجناح «التقدمي» (اليساري) أن تجربة ممداني تؤكد استمرار جاذبية الخطاب الاجتماعي الاقتصادي المناصر للطبقات الدنيا والمتوسطة، لا سيما في المدن الكبرى.

هذا، ومع أن نيويورك تُعد مركزاً مالياً عالمياً، قدّم ممداني بالفعل خطاباً يسارياً صارماً، ركّز فيه على ما وصفه بـ«حق الناس في العيش الكريم». فقد دعا إلى فرض ضرائب أعلى على الأثرياء والشركات الكبرى لتمويل التعليم العام والإسكان الميسّر، مع تشديد الضوابط على أسعار الإيجارات ووقف عمليات الإخلاء القسري.

وكذلك طرح أفكاراً لإصلاح جهاز الشرطة... وهو بعدما كان قد وصفه سابقاً بأنه «يعاني من عنصرية بنيوية»، حاول فيما بعد تبني خطاب أكثر توازناً تجاهه يؤكد التعاون مع الشرطة مع تعزيز الحلول الاجتماعية للحد من الجريمة.

استراتيجية رقمية

اعتمدت حملة ممداني على استراتيجية رقمية مبتكرة في التواصل مع الناخبين؛ إذ استخدم مقاطع فيديو قصيرة على «إنستغرام» و«تيك توك» و«يوتيوب» أظهرت تفاعله المباشر مع سكان المدينة.

وقدّم صورة شبابية قريبة من الناس، بعيدة عن النمط السياسي التقليدي. وكانت مشاهد التقاطه صور «سيلفي» في شوارع مانهاتن، ووجبات الإفطار الرمضانية في مترو الأنفاق جزءاً من هذه الصورة التي أكسبته ثقة جمهور متنوع عرقياً ودينياً وثقافياً.

خلفية دينية وعرقية... وتحفظات حزبية

من جهة أخرى، شكّلت خلفية ممداني الإسلامية والهندية - الأفريقية عاملاً إضافياً في جاذبيته، خصوصاً بين أكثر من مليون مسلم يعيشون في المدينة. ولقد حرص على جعل إيمانه جزءاً من هويته السياسية، من دون أن يحوّله إلى شعار ديني؛ إذ قال في أحد خطاباته: «أعلم أن تولّي منصب عام بوصفي مسلماً يعني التضحية بالسلامة الشخصية، لكنه أيضاً وسيلة لتأكيد أن هذه المدينة تتّسع للجميع».

ولعل هذا البُعد، المتعدد الثقافات، ساعده على بناء تحالف انتخابي واسع ضمّ شباناً، وأفارقة، وآسيويين، ولاتينيين، ومهاجرين جدداً، ما جعل منه مرشحاً عابراً للحدود التقليدية للسياسة المحلية.

أيضاً، في حين حظي ممداني بدعم شخصيات بارزة من الجناح «التقدّمي» مثل السيناتور بيرني ساندرز والنائبة ألكسندريا أوكازيو كورتيز، اللذين رأيا في فوزه «برهاناً على أن اليسار الأميركي ما زال يمتلك القدرة على الإقناع»، فإنه في المقابل، دفع عدداً من القادة الديمقراطيين «الوسطيين» للنأي بأنفسهم عنه. ومن هؤلاء السيناتور تشاك شومر، زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، الذي تجنّب دعمه علناً. كذلك علّق أحد أساتذة السياسة في جامعة نيويورك قائلاً: «كثيرون من الديمقراطيين يعتبرون أن ممداني يطرح رسالة جيدة، لكن من خلال رسول سيئ». وطبعاً، لم يتأخر الرئيس دونالد ترمب في مهاجمته، واصفاً إياه بـ«الشيوعي الصغير» الذي يريد «هدر أموال دافعي الضرائب»، وأضاف أن الولايات المتحدة «فقدت شيئاً من سيادتها بانتخابه».

الموقف من إسرائيل وفلسطين

لا يُخفي ممداني دعمه العلني للقضية الفلسطينية وانتقاده الحاد لسياسات الحكومة الإسرائيلية. ففي عام 2023، قدّم مشروع قانون لإنهاء الإعفاءات الضريبية للجمعيات المرتبطة بالمستوطنات الإسرائيلية، كما عبّر عن تأييده لحملات مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها.

هذه المواقف أثارت جدلاً واسعاً داخل الحزب وخارجه، واستغلها عدد من الجمهوريين لاتهامه بالتطرف. لكنه ردّ بأن «انتقاد سياسات دولة لا يعني معاداة شعبها»، وبأنه «لا مكان لمعاداة السامية في نيويورك»، متعهداً بزيادة تمويل برامج مكافحة جرائم الكراهية.

نموذج غير قابل للتعميم

في أي حال، يرى العديد من المراقبين أن فوز ممداني في نيويورك لا يمكن تعميمه على مستوى الولايات المتحدة؛ إذ إن المدينة تُعد استثناءً سياسياً واجتماعياً، بحكم تنوعها السكاني وطابعها الليبرالي التاريخي.

دانيال شلوزمان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جونز هوبكنز، يرى أن «مسألة ممداني دليل على أن اليسار الأميركي ما زال يمتلك إمكانات، لكن نيويورك ليست نموذجاً يمكن تطبيقه في ولايات مثل أوهايو أو أريزونا». ويضيف: «التحدّي الحقيقي أمام الديمقراطيين هو ترجمة هذا النوع من الرسائل الاجتماعية التقدمية إلى لغة مفهومة للناخبين في الولايات المتأرجحة التي تحسم مصير الانتخابات الفيدرالية».

نحو إعادة تعريف الديمقراطيين لأنفسهم

من ناحية ثانية، فتح صعود ممداني النقاش مجدداً حول هوية الحزب الديمقراطي. فبينما يرى «الوسطيون» أن الطريق إلى استعادة البيت الأبيض يمرّ عبر الاعتدال والتقارب مع المستقلين، يعتقد «التقدميون» أن فوز ممداني يثبت أن خطاب العدالة الاجتماعية لا يزال قادراً على إلهام الناخبين، خصوصاً الشباب والطبقة العاملة.

هذا الجدل يزداد حدة مع استمرار تراجع شعبية الحزب؛ إذ أظهر استطلاع لـ«وول ستريت جورنال» خلال يوليو (تموز) الماضي، أن 63 في المائة من الأميركيين ينظرون إليه نظرة سلبية، وهي أدنى نسبة تأييد له منذ أكثر من ثلاثين سنة.

بالتالي، يمكن قراءة تجربة ممداني من زاويتين: الأولى، أنها أظهرت قدرة التيار التقدّمي على تعبئة الناخبين حول قضايا معيشية ملموسة؛ والثانية، أنها كشفت عن محدودية هذا الخطاب خارج المدن الكبرى.

ولئن كان فوز ممداني قد أنعش آمال الجناح اليساري في الحزب، فإنه في المقابل زاد من قلق المعتدلين الذين يخشون أن يؤدي تبنّي مثل هذه السياسات إلى خسائر انتخابية في الولايات المتأرجحة التي تُعدّ مفتاح الفوز بالرئاسة والكونغرس. وفعلاً، تواجه قيادة الحزب راهناً صعوبة في الموازنة بين الجناحين: فكيف يمكن الجمع بين الطموح الاجتماعي والاقتصادي للتيار «التقدّمي»، وبين واقعية الجناح «الوسطي» الضرورية لكسب أصوات المستقلين؟

قد يكون الحل، وفق خبراء، في تبنّي «مقاربة هجينة» تمزج بين الحسّ الاجتماعي والاقتصادي الذي عبّر عنه ممداني، وخطاب معتدل قادر على طمأنة الناخبين التقليديين. فالرسالة «التقدّمية» الصافية قد تنجح في المدن الكبرى، لكنها وحدها ليست كافية لضمان الانتصار في الولايات الحاسمة. ولإدارة هذا الانقسام الداخلي، قد يتوجب على القيادات «المعتدلة» و«التقدمية» فتح «غرفة حوار» داخلي لتحديد الأولويات الانتخابية المقبلة (الانتخابات النصفية 2026، والرئاسية 2028).

لا شك، يمثّل ممداني جيلاً جديداً من الساسة الأميركيين الذين يسعون إلى إعادة تعريف معنى «اليسار» في بلد رأسمالي حتى النخاع. وفوزه في نيويورك ليس مجرد انتصار محلي، بل اختبار لمستقبل الحزب الديمقراطي نفسه: هل سيتبنى روح التغيير الجريء التي يمثلها هذا الشاب، أم يعود إلى براغماتية الوسط التي كانت دائماً مصدر قوته الانتخابية؟

الجواب، كما يبدو، سيتحدّد خلال السنوات القليلة المقبلة، مع اقتراب المعركة الكبرى في انتخابات 2028.


إعادة صياغة «معادلة النفوذ» في ليبيا بين حفتر والدبيبة

عبد الحميد الدبيبة (آ ب)
عبد الحميد الدبيبة (آ ب)
TT

إعادة صياغة «معادلة النفوذ» في ليبيا بين حفتر والدبيبة

عبد الحميد الدبيبة (آ ب)
عبد الحميد الدبيبة (آ ب)

تلوح مؤشرات «مرحلة جديدة» في ليبيا تتسم بمزيج من «البراغماتية والتحوّط»، بعد سنوات من التجاذب والانقسام بين جبهتي شرق البلاد وغربها، إذ يسعى كل طرف - بما يملكه من قدرات وإسناد اجتماعي - إلى توسيع هامش حضوره على الأرض، من دون الانزلاق مجدداً إلى المواجهة العسكرية المباشرة. في إطار هذه المؤشرات، بدت جبهة شرق ليبيا، التي يعبّر عنها المشير خليفة حفتر القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» ساعية إلى توسيع نطاق سيطرتها جغرافياً بشكل متسارع، في مواجهة ما يوصف بأنه «انكماش» لجبهة حكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة عبد الحميد الدبيبة الموجودة في العاصمة طرابلس غرب البلاد. وتوافقاً مع ذلك، يظهر الطرفان المتنازعان انشغالاً ملحوظاً بالعودة إلى «الحاضنة الشعبية»، في محاولة لإعادة التموضع سياسياً وميدانياً، بما يضمن لكل منهما رسم معادلة نفوذ جديدة.

المشير خليفة حفتر (آ ب)

يعكس المشهد الليبي حراكاً متسارعاً وتبدلاً واضحاً في حسابات القوى المحلية والدولية على حدٍّ سواء. وملامح هذه المرحلة الجديدة، وفقاً لآراء سياسيين وأكاديميين ليبيين، تنبع من حالة احتقان شعبي متصاعدة تجاه تكلّس الوضع الراهن، الذي يُنظر إليه نتيجة لهيمنة عائلتي الدبيبة وحفتر على المشهد.

غير أن المعسكر التابع لحفتر يعوّل على رصيده من «مكافحة الإرهاب» خلال السنوات الفائتة، متبنياً خطاباً يلقى صدى واسعاً بين الليبيين، ويعتمد فكرة «استعادة الأمن» في مواجهة واقع «هشّ» أرهق سكان البلاد وعمّق شعورهم بانعدام الاستقرار.

ذوبان تدريجي للعداوات القديمة

وفق هذه «البراغماتية»، بدأت «العداوات القديمة» تذوب تدريجياً. وأخذت تتحوّل المواقف السابقة في شكل اصطفافات اجتماعية جديدة لتسهم في إعادة صياغة «معادلة النفوذ» من جديد، حتى وإن ظلّت بعض الأطراف المحلية تبدي تحفظاً أو حذراً حيال هذا التحوّل.

ولكن ما أبعاد هذه المرحلة؟

وإلى أي مدى تغيّرت الأوزان النسبية بين الأطراف المتصارعة بالفعل؟

وأين تقف السلطة التنفيذية في العاصمة طرابلس من هذا المشهد... الذي يطوي داخله تفاعلات متسارعة؟

قبل الإجابة عن كل هذه التساؤلات، ينبغي التذكير بأن خريطة التوازنات التقليدية في ليبيا ظلّت على حالها بين حكومة «الوحدة الوطنية» و«الجيش الوطني الليبي»، قبل أن يتحرّك الأخير خارج حدود جغرافيته القديمة ويزيد من تمدده جنوباً إلى حيث التموضع في سبها، ثم القطرون وترغن وبراك الشاطئ.

ويُلاحظ أن هذه التحرّكات جاءت انعكاساً لـ«رغبات قبائلية» تطالب بـ«الأمن والأمان»، وتالية للتغيرات التي جرت على المناصب القيادية في «الجيش الوطني الليبي»، وأتت بصدّام وخالد نجلي خليفة حفتر القائد العام لـ«الجيش» إلى مقدمة صفوف المؤسسة العسكرية.

من بنغازي شرقاً إلى حدود الجزائر

تعد المنطقة الشرقية كاملة قلب نفوذ حفتر السياسي والعسكري والأمني، لكن هذا الواقع لم يمنعه من تمدد قواته، أي «الجيش الوطني الليبي»، حتى الحدود مع السودان وتشاد وجزء من الحدود مع النيجر والجزائر بأقصى الجنوب الغربي، مروراً بسرت والجفرة (وسط البلاد).

ومع تولي صدّام خليفة حفتر مهامه الجديدة نائباً للقائد العام، وكذا خالد لـ«رئاسة الأركان العامة»، في عملية ترقٍّ وُصفت بأنها «سلسة»، بدأت أطراف داخلية وخارجية تتعامل معهما بنظرة استشرافية لما قد تؤول إليه الأمور في الآتي من الأيام.

أمام هذه الأوضاع، التي تراوح مكانها في ليبيا منذ إنهاء الحرب على طرابلس (2019 - 2020)، سعت القيادة العامة إلى إحداث «اختراق وخلخلة» في معادلة القوة مع معسكر غرب البلاد، عبر فتح قنوات اتصال مع محسوبين عليه. وحقاً، في لقاء جمع حفتر بوفد من مشايخ وأعيان مدينة الزنتان، الأربعاء الماضي، في مدينة بنغازي، تطرّق الدكتور حمد بالعيد، أحد أعضاء الوفد، إلى هذا «المتغيّر الجديد» في العلاقة عندما قال: «جئنا إلى هنا تلبية لاحتياج الوطن واستجابة لنداء الواجب».

زيارة وفد الزنتان إلى بنغازي – على الرغم من أنها أحدثت ردود فعل غاضبة في أوساط المدينة - فإنها تعدّ «علامة فارقة في تاريخ العلاقة مع شرق ليبيا». إذ تحدّث بالعيد عن «خطورة المرحلة التي تمر بها ليبيا»، فقال: «دعمنا القيادة العامة في الماضي، وندعمها حاضراً، وسندعمها لتكمل مشوارها مستقبلاً؛ لأن (مشروع الكرامة) الذي تمثله هو طوق النجاة للوطن».

طبقاً لذلك، يرى المحلل السياسي أسامة الشحومي أن نفوذ الجيش بدأ «يتوسّع بشكل تدريجي ومدروس على الأرض، ليس فقط عسكرياً، بل سياسياً وإدارياً؛ وهو ما نراه من تحرك قياداته بثقة من الوسط إلى الجنوب»، فضلاً عن «لقاءات لصدام وخالد مع القبائل في إطار توسيع شبكة ولاءات محلية». ثم إن انفتاح صدّام وخالد حفتر بشكل ملحوظ على عديد القبائل في الشرق والغرب والجنوب، خطوة عدّها متابعون تقارباً يطوي صفحات من «الرفض» وينهي «جفوة» بين مشايخ وحكماء من هذه القبائل والقيادة العامة في بنغازي.

ومن جهة ثانية، يلخّص مسؤول ليبي سابق، بشمال غربي ليبيا، التقته «الشرق الأوسط» حال كثير من الليبيين راهناً. إذ قال «ثمة شرائح عديدة من شعبنا، حتى في الغرب، باتت تفضّل الاحتماء بجيش منظّم؛ وإن غلب عليه الطابع العائلي، بدلاً من الارتهان إلى ميليشيات مسلحة منفلتة». وذهب إلى أن هذا «التغيّر في الحسابات» يأتي على خلفية «الويلات التي تجرّها التشكيلات المسلحة على السكان المدنيين كلما دبّت بينها خلافات، فتندلع اشتباكات تخلف مزيداً من القتلى والجرحى».

وخارجياً، أيضاً، بدت المقارنة واضحة بعد الجولات المتعددة التي يجريها «الأخوان حفتر» إلى دول عدة، بداية من تركيا وإيطاليا وأميركا واليونان ومصر، ووصولاً إلى روسيا وبيلاروسيا، لكن يبقى انفتاح القيادة العامة على الأخيرتين «الخطوة الأعمق».

طي صفحة «العداوات القديمة»

في أي حال، يمكن القول إن «الجيش الوطني الليبي» أحرز تقدماً ملحوظاً نحو الجنوب الليبي، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل أيضاً من ناحية «الوجود المؤسسي» مثل إطلاق المشاريع والتقارب من الأطراف المحلية. وهو ما انعكس خلال المشاريع التي دُشّنت في سبها إبّان زيارة وفد القيادة العامة إلى الجنوب، برئاسة صدام حفتر.

ومن مدينة البيضاء شرقاً إلى سبها جنوباً، ومن قبائل المنطقة الوسطى إلى قبائل القذاذفة والحطمان والمشاشية وترهونة، عقد صدّام وخالد حفتر لقاءات متنوعة مع مشايخ وحكماء هذه القبائل، في خطوة عدّها الشحومي «انتقال القوة من السيطرة الأمنية إلى تثبيت الشرعية داخل هذه المناطق».

وهنا تبرز نقطة محورية، رصدها المسؤول الليبي السابق، في إطار ما سماه «الخلخلة في بنية الخصومة السابقة بين شرق ليبيا وغربها»، تتمثل في لقاء ممثلين عن تشكيلات مسلحة من مصراتة مع خالد حفتر الشهر الماضي. غير أنه استدرك فقال: «هذه الاجتماعات لن تنهي العداوات التي تركتها حرب الجيش على طرابلس في يوم وليلة، إذ لا يزال هناك رفض لحركة تمدد القيادة العامة خارج المنطقة الشرقية».

لكن الشحومي تحدث عن مشكلة يواجهها «الجيش الوطني» رغم تمدد نفوذه، تتمثل «في غياب الرؤية السياسية الواضحة... إذ لا توجد خطة طويلة الأمد لإدارة الدولة». ولذا تساءل بقلق: «من يدير المشهد حال غياب حفتر».

تعد المنطقة الشرقية كاملة قلب نفوذ حفتر السياسي والعسكري والأمني

لكن هذا الواقع لم يمنعه من تمدد قواته

حتى الحدود مع السودان وتشاد

وضعية قوات الدبيبة

في معادلة النفوذ والسيطرة الأمنية، تظهر على سطح الأزمة السياسية مقارنات حتمية بشأن الأوزان النسبية بين جبهتي شرق ليبيا وغربها. فما بين تصاعد أسهم نجلي حفتر، يلفت الشحومي، والمسؤول الليبي السابق، إلى أن «المعسكر الغربي يعيش حالة انكماش واضحة».

الشحومي يُرجع هذه الحالة إلى «الانقسامات الداخلية وتآكل الثقة بين الفصائل المسلحة، فضلاً عن العجز عن إنتاج مؤسسات قادرة على إدارة المشهد»، ويتابع: «حتى أنقرة باتت تدرك أن شراكتها المستقبلية قد تكون مع حفتر وليس مع قوات طرابلس، لأن الأولى براغماتية في تعاملاتها؛ وكل خطواتها ستكون مدروسة».

بالنسبة للدبيبة، الذي تتمحور جُل قواته داخل حدود العاصمة، فإنه يعتمد على عناصر وزارتي الداخلية والدفاع بالإضافة إلى تشكيلات مسلحة في العاصمة وفي مدينة مصراتة - مسقط رأسه - كان قد استنفرها جميعاً في صدامه مع «جهاز الردع» بإمرة عبد الرؤوف كارة في مايو (أيار) الماضي.

ولقوات الدبيبة وجود محدود أيضاً في جنوب غربي ليبيا، لكنه يسعى من خلال «اللواء 444 قتال» إلى توسيع نطاق عمله هناك باتجاه الحدود مع تونس. وبجانب ذلك يعمل على توطيد علاقته بمدن تميل إلى صف «الجيش الوطني الليبي» مثل ترهونة.

الجبل الغربي ومراكز التوازن

أما في الجبل الغربي، الذي يضم الزنتان وغريان ونالوت، فإن نفوذ حكومة «الوحدة الوطنية» يبقى قائماً ولكن بنسب متفاوتة. ففي غريان يسيطر الدبيبة عبر أجهزة أمنية محلية، بينما تحتفظ الزنتان باستقلال نسبي وتميل أحياناً إلى التنسيق مع معسكر الشرق أو البرلمان تبعاً للظروف السياسية والميدانية، وهو ما حدث في لقائها حفتر. أيضاً، تتعامل أغلب مدن الجبل مع حكومة الدبيبة بوصفها «سلطة أمر واقع»، لا سيما في الملفات الخدمية والمالية، إذ يعتمد كثيرون من سكان المنطقة على الوزارات والمؤسسات التابعة لطرابلس في تسيير شؤونهم اليومية.

وفي المحصلة، فإن المشهد الليبي الراهن يبدو محكوماً بتوازنات تتأرجح بين النزوع لتوسيع النفوذ العسكري من الشرق في الأنحاء كافة، ومحاولات إعادة التموضع غرباً، وسط غياب أفق سياسي جامع يضمن استدامة الاستقرار.

هذا كله، لا ينفصل عن الإشارات المتكرّرة التي أطلقها حفتر، في أكثر من فعالية اجتماعية بالحديث عن ضرورة أن يكون هناك «حراك شعبي سلمي» لإنهاء الوضع السياسي الذي نعته بـ«المزري». وهنا يتساءل السفير الليبي إبراهيم موسى قرادة، كبير المستشارين السابق في الأمم المتحدة: «هل نحن الآن أمام تحشيدٍ جماهيري جديد، أو إعادة تموضع سياسي مدروسة في مشهد متصلب؟».

في إطار لقاءات عديدة عقدها حفتر مع وفود من أعيان وشيوخ القبائل والمدن من شرق وجنوب ليبيا، وأخيراً من غربها (ترهونة والزنتان)، قال قرادة: «قد يكون هذا مؤشراً على مجموعة من الاحتمالات، من بينها حراك سياسي آت، أو محاولة لخلخلة المشهد الراهن، أو تمهيد لدور تفاوضي فعلي في رسم ملامح المرحلة المقبلة». وانتهى قرادة إلى أن المواطنين الليبيين «أنهكهم تكرار العجز ودوامة الانتظار واجترار الشلل السياسي».وفي هذه الأثناء... تظلّ ليبيا أمام ذلك الوضع عالقة في منطقة رمادية تحكمها «البراغماتية»، إذ تحظى كل من الجبهتين بتعامل دولي منفصل عن الأخرى، تحدّده المصالح والأجندات الخاصة.