المكسيك والاستعمار الإسباني

من التاريخ

المكسيك والاستعمار الإسباني
TT

المكسيك والاستعمار الإسباني

المكسيك والاستعمار الإسباني

تعد المكسيك دولة متميزة بحق في مجالات كثيرة، فجغرافية هذه الدولة خاصة، فبها الصحاري والوديان، والغابات والأراضي القاحلة، كما أن بها السهول والبراكين العملاقة مثل البركان «بوبوكاتبتل»، الذي يشعر الإنسان بضعف حجمه وهو بجوار هذا الصرح الجيولوجي العظيم الذي ظل يرمي حممه ونيرانه حتى سنوات معدودات، كذلك فهي من أغنى الثقافات اللاتينية على الإطلاق، خرج منها الأدباء ليفوزوا بجائزة نوبل، كما أن بها صناعة سينما وتلفزيون تتفوق بها على شقيقاتها بأميركا اللاتينية، حتى إن فرق كرة القدم المكسيكية بدأت تتنافس على القمم، ومع ذلك فإن المحيط الأطلسي أبعد المكسيك ودول أميركا اللاتينية الأخرى عن مرمى التاريخ والثقافة بالنسبة للعرب، وذلك على الرغم من أن الجيش المصري سبق له أن حارب في المكسيك بلواءين لمساندة حكم الإمبراطور المكسيكي «مكسيمليان» بدعم من الإمبراطور نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر.
إن تاريخ هذه الدولة العريقة يشتمل على مراحل تستحق منا الوقوف أمامها للتأمل والعظة، فالمكسيك شأنها شأن باقي الدول اللاتينية وقعت فريسة للاحتلال الإسباني التعس بعد أن جاءت عبر البحر الحملة العسكرية التي قادها العبقري المرتزق «إيرنان كورتيز» (Cortez) الذي استطاع بقرابة خمسمائة جندي فقط أن يسقط إمبراطورية «الأزتيك» (Aztec) بأكملها، تلك الإمبراطورية مترامية الأطراف والتي كانت تحكم البلاد لقرون قبل قدوم الإسبان، ولكن التحالفات مع أعدائها وعبقرية القائد الإسباني مضافا إليهما الضعف المعنوي الذي كان قد أصاب هذه الدولة خاصة بعدما بدا تحقق النبوءة التي قالت إن إمبراطوريتهم ستسقط بعد قدوم أنصاف الآلهة من البحر للتخلص منهم، فهكذا تهزم الدول في معنوياتها قبل جيوشها.
وقد خضعت المكسيك لحكم الإسبان منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1821، ولكن حقيقة الأمر أن فتح القارتين الأميركيتين كان قد أصاب الدولة الإسبانية بحالة من الارتباك، فلقد ظنوا أن كولومبوس اكتشف الطريق إلى الصين، ولم يدركوا أنه اكتشف قارتين، وبالتالي فإن عملية الإدارة السياسية أخذت بعض الوقت من الدولة الإسبانية لتنظيمها فكانت تعتمد في البداية على المرتزقة القادرين على الفتوحات مع رجالهم مقابل منحهم حكم المناطق التي يفتحونها باسم أو نيابة عن ملك إسبانيا، وقد سمحت هذه السياسة للمرتزقة والعملاء وحقيري الشأن بالسيطرة على دفة الأمور في البلاد فأذاقوا السكان الأصليين الويلات من العذاب والمهانة ووضعوا نظام تفرقة عنصرية واضحا تسيد فيه الإسبان مقابل استعباد الشعب لمصالحهم المالية والاجتماعية، بل والجنسية أيضا، ولكن الدولة سرعان ما بدأت تضع نظامها الجديد وفي منتصف القرن السادس عشر بحيث آلت السلطة مرة أخرى إلى الوالي الإسباني الذي يجري تعيينه من مدريد ليحكم إسبانيا الجديدة كما أطلق عليها.
ولقد تعرض الشعب المكسيكي لموجات من تغيير الهوية الداخلية فيما أطلق عليه عملية «الاحتلال الثقافي»، أي العملية الممنهجة من قبل الإسبان بهدف «إسبنة» المكسيك وتنصيرها، فلقد كانت للشعوب الأصلية لغاتها الخاصة وعلى رأسها لغة «الناوتل» المتداولة بين الأزتيك، ولكن دور الحركات التبشيرية التي قادها الآباء الفرنسيسكان حسمت المعركة الثقافية بتغيير الديانة واللغة على حد سواء، فلقد بدأت الإسبانية تسود البلاد مع مرور الحقب، وخاصة أنها أصبحت لغة السادة والحكم، وقد بدأت هذه الظاهرة من خلال التعليم الأساسي، حيث سمح لأبناء الهنود بتعليم أساسي لتثبيت اللغة الإسبانية في الوجدان المكسيكي.
من جانب آخر، قامت حركات التبشير بالدور الأساسي في عملية تنصير السكان الأصليين أو «الهنود» كما يحلو للبعض تسميتهم، وفي كل الأحوال فإن المقاومة للمسيحية لم تكن على أشدها، وخاصة أن المنظومة الدينية للأزتيك لم تكن جذابة بأي حال من الأحوال، لا سيما مع وجود آلهة تحب الدماء وتطلب أضحية بشرية، كما أن هذه الديانات لم يكن لها العمق الفكري أو الإرث الثقافي والذي كان من شأنه أن يجعل انتشار المسيحية بالأمر الصعب، ولضمان السيطرة السياسية والعرقية الإسبانية فلقد منع أبناء الهنود المسيحيين من الانضمام للسلك الكنسي في محاولة للإبقاء على الهيمنة الإسبانية وضمان عدم تحول الكاثوليكية إلى أداة سياسية قد تعمل ضد الدولة الإسبانية، وهو ما حدث كما سنرى.
لم تختلف المكسيك عن النظام الاجتماعي الذي فرض على الممالك الإسبانية الأخرى في العالم الجديد، فلقد تسيد الإسبان المشهد السياسي والاجتماعي تماما كما تعكسه الروايات والأفلام السينمائية بلا مبالغة، وقد بلغ حجمهم وفقا لآخر التقديرات قبل الاستقلال قرابة العشرين ألفا، أي أقل من نصف في المائة، ونظرا لأن الدولة والكنيسة لم يستطيعا منع الاختلاط في هذه المقاطعات فإن الزيجات المختلطة أو علاقات السفاح مع النساء من الهنود أسفرت عن أجيال مختلطة صاعدة عرفوا باسم «Mestizos» مثلوا على الذين ولدوا قرابة عشرين في المائة من السكان، فلا هم إسبان متأصلون ولا هم هنود، كذلك وجدت طبقة الـ«Creollos»، وهي المكونة من الإسبان الذين ولدوا في المكسيك ولكنهم ظلوا أقل من طبقة الإسبان الأصليين القادمين من إسبانيا، وهؤلاء سمحت لهم بالكثير من الحقوق، ولكنهم لم يكونوا مثل الإسبان الخالصين، وفي قاع السلم الاجتماعي كان هناك «الهنود» الذين بلغوا قرابة سبعين في المائة ولم تكن لهم أي حقوق سياسية أو اجتماعية ولم يكن أتعس منهم حالا إلا طبقة العبيد التي كانت تشترى، والتي كانت ملكا للسادة الإسبان.
أما الأوضاع الاقتصادية في المكسيك فكانت في حالة يرثى لها، فالإسبان لم يكن معروفا عنهم الإدارة، فهي الدولة الوحيدة التي عندما انفتحت ثروات مستعمراتها عليها حدثت لها انتكاسة بسبب التضخم وسوء الإدارة والتوزيع مما عجل بضعف الدول دوليا، وقد تمثل هذا الضعف الإداري في حالة من ضعف الأداء الاقتصادي، فلقد قسمت البلاد على أسس شبه إقطاعية من خلال ما عرف بـ«الأسيندا» (Hacienda)، أي الضيعة أو العزبة المكبرة، والتي كانت تعمل في الزراعة والرعي، ونظرا لسيطرة الدولة على التجارة فقد انغلقت الأبواب أمام فرص التبادل التجاري الخارجي لهذه الإقطاعيات، ومن ثم حرمان المكسيك من التراكم الرأسمالي، فكانت «الأسيندا» تنتج من أجل العاملين بها والفائض الزراعي أو من المراعي يمثل قيمة مضافة للمالك الإسباني، وهو ما فرض حالة من شبه العزلة بين المناطق المنتجة في البلاد، وقد ربطت هذه المنظومة الفاسدة «الهندي» بـ«الأسيندا» لأن فرصه في العيش خارجها أصبحت شبه معدمة، ولمزيد من السيطرة حرمت إسبانيا مستعمراتها من الصناعات لضمان بقاء حالة التبعية على إسبانيا، وفرضت النظام الميركانتيلي (Mercantilism) على هذه الدولة بحيث منعت الدول من التجارة مع المكسيك، وفي حين انحسرت الطاقات الهائلة لهذه الدولة فإن خيراتها نهبت على أيدي الإسبان، فدولة بلغ حجمها مليونا ونصف المليون ميل مربع أخرجت خيراتها لغيرها، فلقد كانت المكسيك تنتج وحدها من الفضة ما ينتجه العالم أجمع، بينما كانت تنتج من الذهب أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ولكن في عالم المستعمرات تكون خيرات الدول للمستعمر.
وإزاء هذه الظروف التعيسة كان من المتوقع أن تتكالب التطورات لتفرز ثورة شعبية عارمة، ولكنها لم تكن بالضرورة سهلة كما سنرى.
* كاتب مصري



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.