المكسيك والاستعمار الإسباني

من التاريخ

المكسيك والاستعمار الإسباني
TT

المكسيك والاستعمار الإسباني

المكسيك والاستعمار الإسباني

تعد المكسيك دولة متميزة بحق في مجالات كثيرة، فجغرافية هذه الدولة خاصة، فبها الصحاري والوديان، والغابات والأراضي القاحلة، كما أن بها السهول والبراكين العملاقة مثل البركان «بوبوكاتبتل»، الذي يشعر الإنسان بضعف حجمه وهو بجوار هذا الصرح الجيولوجي العظيم الذي ظل يرمي حممه ونيرانه حتى سنوات معدودات، كذلك فهي من أغنى الثقافات اللاتينية على الإطلاق، خرج منها الأدباء ليفوزوا بجائزة نوبل، كما أن بها صناعة سينما وتلفزيون تتفوق بها على شقيقاتها بأميركا اللاتينية، حتى إن فرق كرة القدم المكسيكية بدأت تتنافس على القمم، ومع ذلك فإن المحيط الأطلسي أبعد المكسيك ودول أميركا اللاتينية الأخرى عن مرمى التاريخ والثقافة بالنسبة للعرب، وذلك على الرغم من أن الجيش المصري سبق له أن حارب في المكسيك بلواءين لمساندة حكم الإمبراطور المكسيكي «مكسيمليان» بدعم من الإمبراطور نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر.
إن تاريخ هذه الدولة العريقة يشتمل على مراحل تستحق منا الوقوف أمامها للتأمل والعظة، فالمكسيك شأنها شأن باقي الدول اللاتينية وقعت فريسة للاحتلال الإسباني التعس بعد أن جاءت عبر البحر الحملة العسكرية التي قادها العبقري المرتزق «إيرنان كورتيز» (Cortez) الذي استطاع بقرابة خمسمائة جندي فقط أن يسقط إمبراطورية «الأزتيك» (Aztec) بأكملها، تلك الإمبراطورية مترامية الأطراف والتي كانت تحكم البلاد لقرون قبل قدوم الإسبان، ولكن التحالفات مع أعدائها وعبقرية القائد الإسباني مضافا إليهما الضعف المعنوي الذي كان قد أصاب هذه الدولة خاصة بعدما بدا تحقق النبوءة التي قالت إن إمبراطوريتهم ستسقط بعد قدوم أنصاف الآلهة من البحر للتخلص منهم، فهكذا تهزم الدول في معنوياتها قبل جيوشها.
وقد خضعت المكسيك لحكم الإسبان منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1821، ولكن حقيقة الأمر أن فتح القارتين الأميركيتين كان قد أصاب الدولة الإسبانية بحالة من الارتباك، فلقد ظنوا أن كولومبوس اكتشف الطريق إلى الصين، ولم يدركوا أنه اكتشف قارتين، وبالتالي فإن عملية الإدارة السياسية أخذت بعض الوقت من الدولة الإسبانية لتنظيمها فكانت تعتمد في البداية على المرتزقة القادرين على الفتوحات مع رجالهم مقابل منحهم حكم المناطق التي يفتحونها باسم أو نيابة عن ملك إسبانيا، وقد سمحت هذه السياسة للمرتزقة والعملاء وحقيري الشأن بالسيطرة على دفة الأمور في البلاد فأذاقوا السكان الأصليين الويلات من العذاب والمهانة ووضعوا نظام تفرقة عنصرية واضحا تسيد فيه الإسبان مقابل استعباد الشعب لمصالحهم المالية والاجتماعية، بل والجنسية أيضا، ولكن الدولة سرعان ما بدأت تضع نظامها الجديد وفي منتصف القرن السادس عشر بحيث آلت السلطة مرة أخرى إلى الوالي الإسباني الذي يجري تعيينه من مدريد ليحكم إسبانيا الجديدة كما أطلق عليها.
ولقد تعرض الشعب المكسيكي لموجات من تغيير الهوية الداخلية فيما أطلق عليه عملية «الاحتلال الثقافي»، أي العملية الممنهجة من قبل الإسبان بهدف «إسبنة» المكسيك وتنصيرها، فلقد كانت للشعوب الأصلية لغاتها الخاصة وعلى رأسها لغة «الناوتل» المتداولة بين الأزتيك، ولكن دور الحركات التبشيرية التي قادها الآباء الفرنسيسكان حسمت المعركة الثقافية بتغيير الديانة واللغة على حد سواء، فلقد بدأت الإسبانية تسود البلاد مع مرور الحقب، وخاصة أنها أصبحت لغة السادة والحكم، وقد بدأت هذه الظاهرة من خلال التعليم الأساسي، حيث سمح لأبناء الهنود بتعليم أساسي لتثبيت اللغة الإسبانية في الوجدان المكسيكي.
من جانب آخر، قامت حركات التبشير بالدور الأساسي في عملية تنصير السكان الأصليين أو «الهنود» كما يحلو للبعض تسميتهم، وفي كل الأحوال فإن المقاومة للمسيحية لم تكن على أشدها، وخاصة أن المنظومة الدينية للأزتيك لم تكن جذابة بأي حال من الأحوال، لا سيما مع وجود آلهة تحب الدماء وتطلب أضحية بشرية، كما أن هذه الديانات لم يكن لها العمق الفكري أو الإرث الثقافي والذي كان من شأنه أن يجعل انتشار المسيحية بالأمر الصعب، ولضمان السيطرة السياسية والعرقية الإسبانية فلقد منع أبناء الهنود المسيحيين من الانضمام للسلك الكنسي في محاولة للإبقاء على الهيمنة الإسبانية وضمان عدم تحول الكاثوليكية إلى أداة سياسية قد تعمل ضد الدولة الإسبانية، وهو ما حدث كما سنرى.
لم تختلف المكسيك عن النظام الاجتماعي الذي فرض على الممالك الإسبانية الأخرى في العالم الجديد، فلقد تسيد الإسبان المشهد السياسي والاجتماعي تماما كما تعكسه الروايات والأفلام السينمائية بلا مبالغة، وقد بلغ حجمهم وفقا لآخر التقديرات قبل الاستقلال قرابة العشرين ألفا، أي أقل من نصف في المائة، ونظرا لأن الدولة والكنيسة لم يستطيعا منع الاختلاط في هذه المقاطعات فإن الزيجات المختلطة أو علاقات السفاح مع النساء من الهنود أسفرت عن أجيال مختلطة صاعدة عرفوا باسم «Mestizos» مثلوا على الذين ولدوا قرابة عشرين في المائة من السكان، فلا هم إسبان متأصلون ولا هم هنود، كذلك وجدت طبقة الـ«Creollos»، وهي المكونة من الإسبان الذين ولدوا في المكسيك ولكنهم ظلوا أقل من طبقة الإسبان الأصليين القادمين من إسبانيا، وهؤلاء سمحت لهم بالكثير من الحقوق، ولكنهم لم يكونوا مثل الإسبان الخالصين، وفي قاع السلم الاجتماعي كان هناك «الهنود» الذين بلغوا قرابة سبعين في المائة ولم تكن لهم أي حقوق سياسية أو اجتماعية ولم يكن أتعس منهم حالا إلا طبقة العبيد التي كانت تشترى، والتي كانت ملكا للسادة الإسبان.
أما الأوضاع الاقتصادية في المكسيك فكانت في حالة يرثى لها، فالإسبان لم يكن معروفا عنهم الإدارة، فهي الدولة الوحيدة التي عندما انفتحت ثروات مستعمراتها عليها حدثت لها انتكاسة بسبب التضخم وسوء الإدارة والتوزيع مما عجل بضعف الدول دوليا، وقد تمثل هذا الضعف الإداري في حالة من ضعف الأداء الاقتصادي، فلقد قسمت البلاد على أسس شبه إقطاعية من خلال ما عرف بـ«الأسيندا» (Hacienda)، أي الضيعة أو العزبة المكبرة، والتي كانت تعمل في الزراعة والرعي، ونظرا لسيطرة الدولة على التجارة فقد انغلقت الأبواب أمام فرص التبادل التجاري الخارجي لهذه الإقطاعيات، ومن ثم حرمان المكسيك من التراكم الرأسمالي، فكانت «الأسيندا» تنتج من أجل العاملين بها والفائض الزراعي أو من المراعي يمثل قيمة مضافة للمالك الإسباني، وهو ما فرض حالة من شبه العزلة بين المناطق المنتجة في البلاد، وقد ربطت هذه المنظومة الفاسدة «الهندي» بـ«الأسيندا» لأن فرصه في العيش خارجها أصبحت شبه معدمة، ولمزيد من السيطرة حرمت إسبانيا مستعمراتها من الصناعات لضمان بقاء حالة التبعية على إسبانيا، وفرضت النظام الميركانتيلي (Mercantilism) على هذه الدولة بحيث منعت الدول من التجارة مع المكسيك، وفي حين انحسرت الطاقات الهائلة لهذه الدولة فإن خيراتها نهبت على أيدي الإسبان، فدولة بلغ حجمها مليونا ونصف المليون ميل مربع أخرجت خيراتها لغيرها، فلقد كانت المكسيك تنتج وحدها من الفضة ما ينتجه العالم أجمع، بينما كانت تنتج من الذهب أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ولكن في عالم المستعمرات تكون خيرات الدول للمستعمر.
وإزاء هذه الظروف التعيسة كان من المتوقع أن تتكالب التطورات لتفرز ثورة شعبية عارمة، ولكنها لم تكن بالضرورة سهلة كما سنرى.
* كاتب مصري



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».