ليبيا.. محاولة جديدة لرأب الصدع

الخصوم يعودون إلى الحوار.. وبند «الجيش» يفرض نفسه

ليبيا.. محاولة جديدة لرأب الصدع
TT

ليبيا.. محاولة جديدة لرأب الصدع

ليبيا.. محاولة جديدة لرأب الصدع

خلال سيارة «الليموزين» خرجت من مطار القاهرة الدولي، متوجهة إلى فندق في وسط العاصمة المصرية. وبينما كان ضجيج شارع «صلاح سالم» يحيط بأحد ممثلي المجلس الرئاسي الليبي، الذي وصل حديثا إلى هنا، انبعث من مسجل السيارة صوت شاعر ليبيا الشعبي، سليمان الشرِّيمة، وهو يلقي قصيدة عن الحاجة إلى تقسيم بلاده إلى ثلاث دول. يقول الدكتور محمد الزبيدي، الرئيس السابق للجنة القانونية لمؤتمر القبائل الليبية، لـ«الشرق الأوسط»: هناك مؤشرات تدل على أن استمرار ليبيا دولة موحدة في خطر.
وتبدو مسألة التقسيم ذات حساسية لدول الجوار خصوصا مصر وتونس. ما بين مطار القاهرة ومقار فنادق العاصمة، حيث الشوارع مزدحمة، والرحلة بالسيارة تستغرق أحيانا أكثر من 90 دقيقة، يحرص كثيرٌ من القادة الليبيين على تزجية الوقت باصطحاب أسطوانات الشعراء الشعبيين ممن عبَّروا في قصائدهم عن صدمتهم من هول الفوضى بعد «ثورات الربيع العربي». يشير الشرِّيمة في مقطوعته، التي يلقيها بطريقة تشبه النّواح، إلى أن ليبيا، حين تتعرض لانتكاسة، فإنه من الحلال تقسيمها إلى ثلاثة أقاليم.
هذا بالطبع مستوحى من الفترة التي أعقبت استقلال بلاده في مطلع الخمسينات، وذلك حين كان التقسيم الإداري للمملكة الليبية يتكون من الأقاليم الثلاثة؛ طرابلس غربا وبرقة شرقا وفزان جنوبا. ويقول الدكتور الزبيدي إن استمرار الفوضى في ليبيا، في الفترة الأخيرة، ساعد على إيقاظ أصوات تدعو إلى تقسيم البلاد وإلى نظام الفيدرالية، بعد أن كانت قد تراجعت في الشهور الماضية.
اليوم تعود أطراف النزاع الليبي إلى طاولة الحوار مجددا. هذه محاولة أخرى لرأب الصدع الذي يهدد «المجلس الرئاسي» المقترح من الأمم المتحدة، في دولة لم تعد متماسكة، وتعاني من مشكلات أمنية تؤثر بالسلب على دول الجوار. احتضنت تونس جانبا من أحدث مفاوضات الخصوم، خلال الأسبوع الماضي.. أعقبتها لقاءات في القاهرة جرت قبل يومين وشارك فيها قادة كبار من الأفرقاء، من بينهم رئيس البرلمان عقيلة صالح (عن الشرق)، ورئيس المجلس الرئاسي فايز السراج (عن الغرب).
يأتي هذا وسط جدل يدور في خلفية الأحداث بشأن الفيدرالية، بوصفها حلا للخلافات التي راح ضحيتها، منذ 2011، عشرات الألوف من القتلى. الشاعر «الشرِّيمة» توفي أواخر العام الماضي، بعد أن استعرض شعره الحزين، ذا الطابع السياسي، في مناسبات ليبية عدة. قصيدته مستلهمة من حياة رعي الأغنام في هذا البلد الصحراوي المجدب رغم ثرواته النفطية. تقول القصيدة نصا باللهجة المحلية: «تقسيمة الضأن ثلاث.. حلال لأجل هذاك الجدب».
معنى القصيدة يشير إلى أنه حين يقل المطر ويحل القحط يكون المَخرج تقسيم الضأن إلى ثلاث مجموعات، كل مجموعة ترعى في مكان حتى يمكنها أن تجد ما يكفيها من الكلأ، لكي تعيش إلى أن تنتهي محنة الجفاف. حين ظهر الفيدراليون في بنغازي وإجدابيا، قبل عامين، كان الهاجس يدور حول الأحقية في عائدات النفط. يوجد نحو 60 في المائة من النفط في المنطقة الشرقية التي عانت من الشح في عهد القذافي. وباقي حصص البترول والغاز موزعة بين إقليمي الغرب والجنوب.
منذ بداية الانسداد السياسي في 2013، ظهرت قيادات قبلية وعسكرية تبنت فكرة «التقسيم في أوان الجدب هذا»، والدعوة للحكم الفيدرالي، خصوصا في المنطقة الشرقية، لكن جرى التقليل من شأن هذا الاقتراح من جانب قادة آخرين في المنطقة نفسها. وحين تمكن الفريق أول خليفة حفتر من جمع شتات الجيش الليبي في 2014، تراجعت الفكرة إلى حد كبير.
اعتقد البعض أن فكرة الفيدرالية طواها النسيان. يوضح الزبيدي قائلا عن الأرضية التي أعادت الحديث عن هذا الموضوع مجددا، إن «الإخوة الأمازيغ والتبو والطوارق، قاطعوا لجنة صياغة الدستور (معظم هذه القبائل تتركز في الجنوب والغرب).. أما في المنطقة الشرقية، فيسود شعور لدى أبنائها بأن منطقتهم تتعرض لهجمات متكررة من الميليشيات القادمة من المنطقة الغربية». ويضيف: لهذا «تعالت أصوات تدعو إلى حماية برقة أو خروجها من المشهد الليبي».
تبدو ورقة انفصال الشرق ورقة قوية للتفاوض السياسي. غالبية الليبيين، بمن فيهم أبناء الشرق، ضد التقسيم ومع دولة موحدة. ومع ذلك فـ«الورقة موجودة تحت الطاولة». بيد أن الجميع عاد إلى المربع صفر خلال اجتماعات تونس والقاهرة، قبل أيام. جرى طرح أسئلة مكررة لم تكن تجد إجابة قاطعة في الشهور الماضية. ولم يُحسم الأمر.
لهذا جاء أحد قادة المجلس الرئاسي إلى مصر، وأقام ليومين في فندق بوسط القاهرة، وغادر بعد أن قابل أطرافا ليبية ومصرية. كان يمهد للقاء الذي جرى لاحقا في العاصمة المصرية بين قادة من الشرق ومن الغرب. وقال لـ«الشرق الأوسط»: نحاول تقريب المسافات وإبعاد شبح تفتت الدولة.
وفي اليوم التالي ظهرت في القاهرة زعامات على رأسها عقيلة صالح. يعد كثيرٌ من هؤلاء خصوما لحكومة المجلس الرئاسي المقترحة. ثم جاء السراج نفسه. أهم أسئلة عالقة هي تلك التي تراوح مكانها على طاولة ممتدة من تونس إلى مصر، منذ توقيع اتفاق الصخيرات حتى الآن: «مستقبل الجيش بقيادة حفتر»، و«مستقبل الميليشيات» التي تقودها شخصيات جهوية ومذهبية. يقول أحد نواب البرلمان الليبي: يظل شبح الفيدراليات، في الخلفية، بوصفه حلا يمكن اللجوء إليه إذا تعقدت الأمور أكثر مما هي عليه.
الحرب في الصحراء الليبية لم تعد تجري، كما يقول أحد العسكريين، بين ليبيين وليبيين فقط. هذا كان يحدث بين الإخوة الأعداء منذ الانشقاق الكبير الذي تسبب في حرق مطار طرابلس الدولي في 2014، «كانت، وقتها، حربا تبدو محلية صرفة». لكن اليوم أصبحت هناك «عقول أجنبية» متخصصة تشارك في إدارة آلة الصراع وتزيد الانقسام. احتراب لا ينتهي.. سفك دماء.. تبديد ثروات. ومن بين حطام المدن ومرافئ النفط، يلتقط سياسيون وزعماء أوراقا للضغط يستمر مفعولها عدة أيام، ليبدأ البحث عن أوراق جديدة، باستثناء ورقة الانفصال باعتبارها الأقوى، إلى الآن.
آخر ورقة «هشة» يجري استخدامها بين الخصوم لكسب نقاط رابحة، هي ورقة «الجنود الفرنسيين». لقد ظهر وجود عدة خبراء أجانب على الأراضي الليبية، معظمهم من دول غربية.. بعضهم يرسم الخطط ويشارك في إدارة عمليات عسكرية في شرق البلاد، من أجل تعضيد الجيش الوطني الذي يقوده حفتر. هذه الورقة ظهرت قبل أسبوع، حين اعترف الرئيس الفرنسي بمقتل ثلاثة جنود فرنسيين كانوا في مهمة على جبهة القتال في غرب بنغازي.
يقول أحد القادة العسكريين في مقر قيادة الجيش الليبي جنوب شرقي بنغازي، ممن يتابع محاولات رأب الصدع بين الليبيين عبر تونس والقاهرة، إن «خصومنا، سواء في المجلس الرئاسي أو في ميليشيات طرابلس، حاولوا استخدام ورقة الجنود الفرنسيين لاستفزاز قادة الشرق، لكن لا أعتقد أنها ورقة رابحة. ضخموا الموضوع لكنه عاد إلى حجمه»، مشيرا إلى أن كثيرا من قوات الميليشيات في الغرب الليبي «تستعين هي الأخرى بخبراء أجانب، منهم عسكريون ورجال استخبارات».
ويعتقد عدد من نواب البرلمان، من بينهم رئيس لجنة العدل والمصالحة وخريطة الطريق، إبراهيم عميش، أن أحد أهداف التدخل الدولي في الشأن المحلي هو الحرص على استمرار الفوضى، لإضعاف الدولة وإنهاك الشعب، وذلك لوضع البلاد أمام أحد خيارين، إما الرضوخ لحكومة المجلس الرئاسي، وإما الدخول في نفق مظلم قد يفضي إلى تقسيم ليبيا. ويقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «الخيارات سيئة. الحل الوحيد يكمن في حوار داخلي بين الليبيين. الوضع لم يعد يحتمل».
يبدو أن حوارات الليبيين الجديدة، وفقا لأطراف شاركت فيها، واجَهت المعضلة نفسها المتعلقة بوضع الجيش ومستقبل الميليشيات. لا يبدو أن هناك تعويلا كبيرا، حتى الآن، عما يمكن أن يستجد في حال لم تنجح لقاءات الخصوم في القاهرة. يضيف القائد العسكري المشار إليه: «أوراق الضغط، هذه الأيام، تبدو متعادلة»، مشيرا إلى أنه، في الداخل الليبي، يزداد الوضع تعقيدا، وهو ما ينعكس على أحوال المواطنين في الشرق والغرب، من شُّح وغياب للأمن، و«لهذا تعود الأفكار الخاصة بالحكم الفيدرالي إلى الواجهة، ويجري استخدامها للضغط، لأن المجلس الرئاسي نفسه لا يحبذ هذه الفكرة».
مع ذلك تستمر مقترحات من هذا النوع. إنها تطل برأسها من جديد. ثلاثة أقاليم، كما كان الحال قبل تولي القذافي الحكم. ظهر ذلك قبل أيام في أروقة اجتماع تونس. لكن المقترح تغير إلى أفكار ترى أنه يمكن الاكتفاء بتقسيم الجيش نفسه إلى ثلاثة جيوش على الأقاليم المذكورة. وبحسب ما رشح من الاجتماع، رفض المبعوث الأممي، مارتن كوبلر، فكرة التقسيم برمتها. ووفقا لقيادات ليبية شاركت في حوار القاهرة، فإن «خيار الفيدرالية ليس وحده الذي ما زال مطروحا لدى البعض»، لكن ظهرت معه أيضا «أفكار عن العودة للعمل بالدستور الملكي». ويقول عميش إن مسألة العودة إلى دستور 1951 جرى التحدث عنها بالفعل، منذ البداية.
أيا ما كان الأمر، فإن النيات وحدها لا تكفي. كل يوم يسقط قتلى وجرحى من شباب العائلات. حروب بلا أفق داخل المدن وفي الصحراء. سعر الدولار أمام العملة المحلية ارتفع إلى مستويات قياسية. تسلم رواتب الموظفين يتأخر عن موعده. إذا أرادت أسرة أن تسافر من مدينة إلى مدينة فإنها تنتظر لأسابيع، أملا في خلو الطريق من نقاط تفتيش جهوية ومذهبية يغلب عليها طابع «الانتقام على الهوية». معتقلون وأسرى يجري استخدامهم دروعا بشرية أثناء الاقتتال.
يحدث هذا رغم أن الأمم المتحدة، حاولت عن طريق كوبلر، وعن طريق توقيع «اتفاق الصخيرات»، وضع حد للفوضى التي تضرب الأعمدة الرئيسية للدولة، أي: الأمن والاقتصاد والعدالة. لكن الآن، وبعد نحو مائتي يوم من توقيع «اتفاق الصخيرات»، وبعد نحو مائة يوم من دخول السراج ومجلسه الرئاسي إلى طرابلس، عادت النقطة الأساسية في الاتفاق، والتي تخص بند «الجيش»، لتفرض نفسها، وتعرقل التوافق السياسي، إلى جانب بنود أخرى غير مكتوبة، لها علاقة بالقوى القبلية وأنصار النظام السابق ممن لم يشملهم الحوار منذ البداية. ويقول الزبيدي: هناك أخطاء صغيرة تتراكم، وتتحول، في النهاية، إلى كارثة.
كثيرٌ من الليبيين كان يتوقع تعثر مجلس السراج منذ البداية. فالبرلمان الذي يضطر، منذ انتخابه في 2014، إلى عقد جلساته في مدينة طبرق، غير قادر على عقد جلسة لمنح الثقة للحكومة المقترحة. يقول عميش إن نوابا داخل البرلمان ممن يوالون رئيس المجلس الرئاسي هم من يعرقلون انعقاد الجلسة، ليستمر الجمود السياسي، دون أفق، بينما يرد الطرف الآخر بالقول إن قيادات في الشرق اختطفت البرلمان وترفض الإقرار بكامل مخرجات الصخيرات وتلوح بخيار التقسيم.
وفي إفادة بالبريد الإلكتروني قالت وزارة الخارجية المصرية إن استضافة القاهرة لاجتماعات ضمت «صالح» و«السراج»، على مدار يومين، تأتي في إطار المساعي المصرية لتعزيز الاستقرار في ليبيا ودعم الحلول السياسية على الساحة الليبية، وأن سلسلة الاجتماعات هذه تعد «بداية لاتصالات ولقاءات تهدف إلى دخول الليبيين في مرحلة جديدة من الوئام السياسي بين أبناء الوطن الواحد».
أما في تونس - كما يقول المصدر الذي كان في زيارة للعاصمة المصرية ضمن الوفد الليبي - فقد تطرقت أطرافٌ في الحوار عن إمكانية اللجوء إلى الخيار الذي يبدو سهلا، وهو، على الأقل، تقسيم الجيش، بحيث يظل حفتر بقواته في الشرق، وتستمر سلطة الميليشيات في الغرب، على أن يتم التوصل إلى شكل القوة في جنوب البلاد.
ويضيف المصدر أن هذا الطرح لم يناقشه أحد في لقاءات القاهرة، رغم أنه حين جرى فتحه في أروقة اجتماعات تونس قبلها بأيام، كان يبدو منطقيا لدى البعض، في هذه المرحلة، على أن يتم توحيد الجيش مستقبلا. لكن مصادر أخرى كانت قريبة من اجتماع تونس أيضا، قالت في المقابل إن «كوبلر لم يتطرق إلى مثل هذه الحلول التي من شأنها أن تزيد المسألة تعقيدا بين القوى الليبية. كما أن مصر تقف ضد فكرة التقسيم».
وأضاف أن كلا من القاهرة ورئيس البعثة الأممية لدى ليبيا، ليسا مع تقسيم الجيش الليبي على الأقاليم الثلاثة، بل إن كوبلر لديه رؤية تقول إن إنهاء المعضلة الليبية تتطلب وجود جيش موحد «تحت قيادة المجلس الرئاسي». وهنا يعود السؤال مجددا عن الكيفية التي يمكن بها تحقيق هذا «الأمل الكوبلري». أي «جيش موحد تحت قيادة المجلس الرئاسي»، فرغم لقاء السراج وحفتر قبل نحو خمسة أشهر، وجهود القاهرة لحلحلة هذه النقطة لاحقا، إلا أن فكرة أن يعمل حفتر تحت سلطة المجلس الرئاسي، لا تبدو مقبولة في المنطقة الشرقية وفي بعض المناطق الأخرى.
ظهر ذلك من نواب في البرلمان، حين أعلنوا رغبتهم في تعديل المادة الثامنة في «اتفاق الصخيرات». المعضلة تكمن هنا.. أي في «المادة الثامنة» التي تعطي لرئيس المجلس الرئاسي اتخاذ ما يراه من قرارات تخص الجيش والأمن. يقول الإعلان الدستوري الذي يجري العمل بناء عليه منذ سقوط نظام القذافي، إن رئيس مجلس النواب (البرلمان) - وهو (صالح) - يمثل أعلى سلطة في البلاد، أي بمثابة رئيس للدولة، وهو يتولى موقع القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وبينما كان البرلمان يسعى لعقد جلسة لتعديل المادة الثامنة، أعلن السراج نفسه قائدا أعلى للقوات المسلحة. وسارع المبعوث الأممي بتأييد هذه الخطوة. ويقول عميش إن «كوبلر منحاز إلى طرف على حساب الآخر».
بمجرد دخول السراج إلى طرابلس بدأت ميليشيات رئيسية في الغرب الليبي، في مساندته، والرضوخ لتوجيهاته بخصوص محاربة تنظيم داعش في مدينة سرت، في مايو (أيار) الماضي. حينذاك أعلن السراج، في ضربة استباقية، أنه، وليس أي أحد آخر في ليبيا، هو القائد الأعلى للجيش الليبي. ويقول الدكتور الزبيدي إن خطوات مثل هذه تتسبب في «صبّ الزيت على النار».
رغم كل شيء تحاول مصر تحقيق التوفيق بين «المجلس الرئاسي» والسلطات الشرعية ممثلة في البرلمان. يقول عميش إنه من دون منح البرلمان الثقة لحكومة السراج، فإنها تظل حبرا على ورق. بينما ترى وجهة النظر الأخرى الموالية للسراج، أن منح الثقة للحكومة، بالطريقة التي يريدها البرلمان، ومنها قضية «المادة الثامنة» الخاصة بالجيش، من شأنها أن تقلم أظافر المجلس الرئاسي ومخرجات حوار الصخيرات برمته.
هكذا يستمر الجدل السياسي بين الشد والجذب.. ما بين اجتماعات في تونس والقاهرة. في الخلفية تبدو العمليات العسكرية على الأرض، القادرة على التأثير على أي تسوية في المستقبل. تلعب «أوراق الضغط» السياسية والإعلامية دورا أيضا وإن كان ضعيفا. الضغط على «الشرق» لا يقتصر على موضوع اكتشاف وجود مقاتلين أجانب مع حفتر، ولكن يتجاوز ذلك إلى التلويح بإقدام المجلس الرئاسي على تصدير النفط من المرافئ الواقعة غرب بنغازي.
في المقابل، وأثناء بحث محاولات التوافق، أخرجت قيادات عسكرية تعمل مع حفتر، أوراقا مضادة. قدمت على الطاولة ما قالت: إنها أدلة على وجود خبراء عسكريين أجانب يقدمون مساعدات للميليشيات التي يعتمد عليها السراج. ولوحت هذه القيادات العسكرية بقدرتها على إغلاق حقول النفط التي تسيطر عليها بالفعل في الجنوب، قائلة إنه إذا حدث تصدير للنفط فسيكون ذلك من المخزون الموجود سلفا في مرافئ «السدرة» و«راس لانوف» و«البريقة»، وبالتالي لن تتمكن حكومة السراج من الوفاء بتوفير كل ما قد تتفق على بيعه من النفط الليبي للشركات الدولية.
من بين الاتهامات الجديدة التي أججت الخصومة بين الليبيين خلال الأيام القليلة الماضية، وقوف قادة في الغرب الليبي وراء القوات التي ظهرت فجأة على تخوم بنغازي، وتحمل اسم «سرايا الدفاع عن بنغازي». ويعتقد أنها السبب وراء إسقاط المروحية التي قُتل فيها الفرنسيون الثلاثة. يقول قائد عسكري ليبي إن المعلومات المتوفرة لدى الجيش عن قوات «سرايا الدفاع عن بنغازي»، أنها خرجت في الأساس من طرابلس، وتتكون من نحو 300 مقاتل، وكان معها أكثر من 50 سيارة دفع رباعي، وقطعت رحلة طويلة، نحو 900 كيلومتر، عبر الصحراء الجنوبية، للتمويه، حيث ظهرت قرب بنغازي، لمواجهة الجيش هناك، ولتخفيف الضغط عن المجموعات المتطرفة التي يحاربها داخل المدينة.
تشير تحقيقات أمنية في الواقعة إلى أن صاروخًا «أرض - جو» تابعا لـ«سرايا الدفاع عن بنغازي» هو الذي أسقط المروحية. ويتهم قادة قبائل وعسكريون في المنطقة الشرقية، خصوم حفتر في المنطقة الغربية، بمن في ذلك ميليشيات تدعم السراج، بالوقوف وراء قوات «سرايا الدفاع عن بنغازي»، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. هذا أمر من شأنه أن يزيد الأمور تعقيدا ويدفع بالقيادات في المنطقة الشرقية للتعامل بتوجس أكبر من السابق مع قيادات المنطقة الغربية، رغم المحاولات المصرية لتخفيف حدة التوتر بينهما.
يقول أحد العسكريين المقربين من حفتر، إن التشدد لدى قادة الغرب الليبي أصبح يؤجج مشاعر الخوف ويدفع إلى تفكير قيادات بالمنطقة الشرقية في الدفاع عن أنفسهم كـ«منطقة جغرافية وسكانية مهددة.. هذا يعيد أصحاب الدعوة للحكم الفيدرالي إلى الواجهة، ويحول الموضوع من ورقة ضغط إلى واقع. هذا خيار قد يبدو أنه لا بد منه، لكنه خيار سيئ»، أو كما قال الشاعر الشعبي الليبي: خيار يرتبط بوقت الجدب.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.