زعم المرشح الرئاسي الأميركي دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية، أن الصين تسرق وظائف الصناعات التحويلية من الولايات المتحدة الأميركية.
وفي خطاب ألقاه أمام المؤتمر الوطني الجمهوري، الخميس، قال ترامب – المرشح الرسمي للحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة – إن «الصفقات التجارية الكارثية» قد أضرت كثيرا بوظائف الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة. كما قال أيضًا إن الدعم الأميركي لتبني الصين للتجارة الحرة كان من قبيل الأخطاء الهائلة.
وعند نقطة ما، كانت حجة السيد ترامب لها ما يبررها. فلقد جذبت الصين، عبر السواد الأعظم لديها من العمالة التي تتلقى الأجور المنخفضة مقارنة بنظرائهم في الولايات المتحدة، المصنعين الساعين وراء التكاليف المنخفضة، وتعزيز الربحية، والمحافظة على انخفاض الأسعار. وبين عامي 1999 و2011، فقدت الولايات المتحدة 2 مليون وظيفة على الأقل بسبب الارتفاع الهائل في الواردات الصينية، وفقا لدراسة نشرت بهذا الشأن في «جورنال أوف لابور إكونموميكس» (صحيفة اقتصادات العمل).
وفي الصين اليوم، رغم ذلك، يواجه العمال مستقبلا أكثر اضطرابا مما يوحي به السيد ترامب، إذ إنهم يفقدون وظائفهم بسبب تباطؤ الاقتصاد المحلي، والتكاليف المرتفعة، والمنافسة الأجنبية المحتدمة، بما في ذلك من الولايات المتحدة.
يقول جيم ماكغريغور، رئيس عمليات الصين لدى مؤسسة «أبكو» الاستشارية العالمية: «إن المرشحين الرئاسيين يصرخون اليوم حول مشكلات الأمس، إذ إن التصنيع لأجل التصدير أصبح أكثر صعوبة في الصين عن ذي قبل».
لقد تغيرت سوق العمل في الصين بشكل كبير وحاد خلال السنوات الأخيرة.
ومع التوسع الذي شهده اقتصادها، فإن خلق فرص العمل في مختلف القطاعات، وخطوط التجميع، لم يعد جذابا كما كان قبل ذلك. ولقد دفع هذا الوضع بالمديرين إلى زيادة الأجور من أجل جذب المزيد من العمال. وفي نفس الوقت، فإن الحكومات المحلية في شنتزين، وهي المركز التجاري الساحلي المتاخم لهونغ كونغ، وغير ذلك من المراكز الصناعية، قد زادت من الحد الأدنى للأجور بغية تحسين رفاهية عائلات العمال، والضغط على الشركات من أجل إنتاج المزيد من المنتجات الغالية ذات القيمة العالية.
ودفع هذا المزيج بأجور عمال المصانع الصينية إلى مستويات مرتفعة، حيث يدور متوسط أجورهم الشهرية حول 424 دولارا، مسجلا زيادة بمقدار 29 في المائة عن السنوات الثلاث الماضية، وفق تقديرات منظمة التجارة الخارجية اليابانية. وتكاليف الأيدي العاملة في الصين الآن أعلى بكثير مما كان عليه الأمر في كثير من الاقتصادات الناشئة، حيث يحصل عمال المصانع في فيتنام على أقل من نصف الأجر الذي يحصل عليه عمال المصانع الصينية، في حين أن عمال المصانع في بنغلاديش يحصلون على أجور تساوي ربع ما يحصل عليه العمال في الصين.
وقد غير ارتفاع التكاليف بشكل ملحوظ من الوضع التنافسي الصيني، مقارنة بالولايات المتحدة.
ففي دراسة نشرت عام 2015، قالت مجموعة بوسطن الاستشارية إن تكاليف الصناعات التحويلية في منطقة الإنتاج لأجل التصدير الرئيسية الصينية كانت أقرب ما تكون من مثيلتها في الولايات المتحدة، بعد وضع الأجور، وإنتاجية العامل، وتكاليف الطاقة، وغيرها من العوامل في الحسبان.
ومن دون إغراءات المدخرات الكبيرة في التكاليف، تحاول كثير من الشركات الأميركية العودة إلى العمل في الوطن. وفي مسح منفصل أجري العام الماضي بواسطة مجموعة «بوسطن» الاستشارية حول الشركات المصنعة الأميركية الكبرى، فهناك 24 في المائة منهم يقولون إنهم كانوا يعملون وبنشاط على تحويل الإنتاج إلى الوطن من الصين، أو أنهم كانوا يخططون لاتخاذ هذه الخطوة خلال العامين المقبلين، ارتفاعا من نسبة 10 في المائة لنفس الشركات في عام 2012.
ويعلق هال سيركين، وهو شريك بارز في مجموعة «بوسطن» الاستشارية، قائلا: «إن ذلك يضفي معنى على الاقتصاد.. والولايات المتحدة في الوقت الراهن في وضع جيد للغاية».
ويعني ذلك المزيد من الوظائف بالنسبة لعمال المصانع الأميركية. وقال نصف المشاركين في مسح مجموعة بوسطن إنهم يتوقعون زيادة أعداد عمال المصانع الذين يوظفونهم في الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس المقبلة.
مليون فرصة عمل
وليست الولايات المتحدة فقط هي التي تستعيد الوظائف من الصين. فإن ارتفاع التكاليف يدفع كثيرا من الشركات في مختلف القطاعات إلى إعادة نقل الأعمال إلى مجموعة واسعة من البلدان أخرى. وفي مسح أخير أجرته الغرفة التجارية الأميركية في الصين، قال ربع المشاركين فيه إنهم إما نقلوا، أو يخططون لنقل، عملياتهم خارج الصين، في إشارة إلى ارتفاع التكاليف كأحد أهم الأسباب وراء ذلك. وبالنسبة للآخرين، يعمل ما يقرب من نصف المشاركين في المسح على نقل أعمالهم إلى دول نامية في آسيا، في حين أن 40 في المائة يحولون أعمالهم إلى الولايات المتحدة، وكندا، والمكسيك.
وكثير من المصانع المنتقلة كانت منتجاتها تجد طريقها إلى أرفف متاجر التجزئة في الولايات المتحدة.
وأغلقت شركة ستيلا الدولية، ومقرها في هونغ كونغ، وتصنع الأحذية لصالح علامات مايكل كورس وروك – بورت، وغيرها من العلامات التجارية الأخرى، أحد مصانعها في الصين، في فبراير (شباط) الماضي، وحولت بعضا من خطوط الإنتاج إلى مصانع أخرى في فيتنام وإندونيسيا. وتخطط شركة تال المصنعة للملابس لصالح بعض العلامات التجارية الأميركية، مثل دوكرز وبروكس براذرز، وهي من الشركات الأخرى التي تتخذ من هونغ كونغ مقرا لمصانعها، لإغلاق أحد المصانع في الصين خلال العام الحالي، ونقل الأعمال إلى مصانع جديدة في فيتنام وإثيوبيا.
وهناك شركات أخرى ذات حضور واسع في الصين قد لا تتجه إلى إغلاق مصانعها، ولكنها تستهدف استثمارات جديدة في أماكن أخرى.
وتخطط شركة فوكسكون في تايوان، المعروفة بصناعة هاتف الآيفون في المصانع الصينية، إلى بناء ما يصل إلى 12 مصنعا جديدا في الهند، مما يؤدي إلى خلق مليون فرصة عمل جديدة هناك. وهناك عملية رائدة في ولاية مهاراشترا الغربية الهندية سوف تبدأ في خط إنتاج الهواتف المحمولة اعتبارا من العام الحالي.
تنافسية شرسة
ورغم أن الصين لا تزال حتى الآن أكبر مصدر للملابس إلى الولايات المتحدة، فإنها تواجه منافسة متزايدة من المنافسين الأقل تكلفة في آسيا. وخلال العام الماضي، شهد نصيب السوق الصينية من صادرات الملابس إلى الولايات المتحدة انخفاضا ملحوظا، بينما زادت أرباح دول أخرى تعمل في نفس المجال، مثل فيتنام وبنغلاديش، وفقا لتقرير شهر مارس (آذار) الصادر عن مركز «فونغ» للتحليلات التجارية، وهو مؤسسة بحثية مقرها في هونغ كونغ متخصصة في قضايا سلسلة التوريد والإمداد.
ويقول جيمس زيمرمان، رئيس الغرفة التجارية الأميركية في الصين: «إنها ليست مثل الصين، من حيث كونها موقعا جذابا لوظائف التكاليف المنخفضة، فالصين تصعد سلم القيمة التجارية، مما يعني حدوث تعديل ما في الوقت القريب».
كما يواجه العمال الصينيون خطر فقدان الوظائف بسبب اقتصاد البلاد المتعثر، إذ انخفض معدل النمو إلى أدنى مستوياته في ربع قرن، مما يسبب الأضرار البالغة بكثير من الصناعات. والتصنيع التحويلي – الذي يمثل خُمس كل الوظائف الحضرية في الصين – قد تضرر على وجه خاص. ومن الناحية الرسمية، فإن سوق العمل بالصين تقاوم الانكماش الملحوظ، وبصورة مدهشة، حيث تعكس البيانات الحكومية أن معدلات البطالة في البلاد لا تتجاوز 4 في المائة فقط.
تضاعف معدلات البطالة
ويعتقد بعض من خبراء الاقتصاد، رغم ذلك، أن وضع التوظيف ليس ورديا كما تشير إلى ذلك الإحصاءات الرسمية، حيث يقدر التقرير الصادر في يونيو (حزيران)، بواسطة مؤسسة «فاثوم» الاستشارية، ومقرها في لندن، أن مستويات البطالة والعمالة الناقصة في الصين سوف تبلغ 12.9 في المائة خلال هذا العام – وهو ثلاثة أضعاف المستوى المسجل في عام 2012.
ويقول ليلاند ميلر، المدير التنفيذي لمؤسسة «بيغ بوك» الصينية الدولية، وهي من المؤسسات البحثية، إن سوق العمل تشهد نقطة انعطاف حاسمة في أواخر العام الماضي، مع المتاعب التي يعكسها الاقتصاد الضعيف، والتي بدأت في الظهور. وتعكس أرقامه الانخفاض الواضح في التوظيف خلال الربع الأخير من عام 2015، على الرغم من استقرار الأوضاع خلال الشهور الماضية، وقد يرجع السبب في ذلك إلى التحفيزات الحكومية الكبيرة، فإن السيد ميلر يعتقد أن تلك التحسينات ليست مستدامة.
وقد يواجه عمال المصانع الصينية، الذين يعانون بالفعل، المزيد من الأوقات العسيرة في الفترة المقبلة.
وترزح كثير من الشركات الصناعية تحت وطأة الطاقة الفائضة، وتسريح العمال قد يكون من الأمور التي لا مفر منها. وفي فبراير، قدر وزير الموارد البشرية والضمان الاجتماعي الصيني أن هناك 1.8 مليون عامل معرضين لفقدان وظائفهم في قطاعات الصلب والفحم في البلاد.
ويقول السيد ميلر أخيرا: «إذا كان هناك من لا يزال يدعي أن الصين لديها سوق عمل صحية وقوية، فليست لديهم بالتأكيد أي فكرة عن أي شيء يتحدثون».
*خدمة «نيويورك تايمز»