دور كتيبة الفرنسيين في «داعش» في هجمات نيس

كالعادة.. توظيف تقليدي لشخصيات مأزومة نفسيًا وسلوكيًا

رجال شرطة فرنسيون يطوقون شاحنة لتفتيشها قرب المنطقة التي حصلت فيها هجمات نيس قبل ايام (أ.ف.ب)
رجال شرطة فرنسيون يطوقون شاحنة لتفتيشها قرب المنطقة التي حصلت فيها هجمات نيس قبل ايام (أ.ف.ب)
TT

دور كتيبة الفرنسيين في «داعش» في هجمات نيس

رجال شرطة فرنسيون يطوقون شاحنة لتفتيشها قرب المنطقة التي حصلت فيها هجمات نيس قبل ايام (أ.ف.ب)
رجال شرطة فرنسيون يطوقون شاحنة لتفتيشها قرب المنطقة التي حصلت فيها هجمات نيس قبل ايام (أ.ف.ب)

ثلاث عشرة عملية إرهابية كبيرة شهدتها أوروبا خلال العامين 2015 و2016 ابتليت فرنسا وحدها بعشر منها. ولقد بدأ المسلسل مع الاعتداء على مطبوعة «شارلي إيبدو» الساخرة، الذي راح ضحيته سبعة عشر قتيلا بين السابع والتاسع من يناير (كانون الثاني) 2015. حتى هجوم نيس الأخير يوم الخميس الماضي 14 يوليو (تموز) 2016. وفيه دهس عمدي لاحتفالات المدنيين والمواطنين العاديين فيها بـ«يوم سقوط الباستيل» وذكرى الثورة الفرنسية عام 1789. وقد راح ضحيتها 84 قتيلا وعشرات الجرحى.

خلال سنتين، هذه هي المرة الثانية التي يضرب فيها الإرهاب الداعشي مدينة نيس الساحلية في جنوب فرنسا، إذ شهدت المدينة السياحية الشهيرة يوم 3 فبراير (شباط) 2015، تعرّض 3 جنود لاعتداء بالسكاكين أثناء الخدمة أمام مركز لليهود في نيس، من قبل موسى كوليبالي (30 سنة) الذي عبر أثناء احتجازه عن كراهيته فرنسا والشرطة والجنود واليهود. وهو يبدو من أقرباء أميدي كوليبالي الذي أعلن انتماءه لـ«داعش»، وقتل شرطية في أحياء باريس، بعد احتجازه رهائن في متجر يهودي في يناير 2015. ولقد أقرّ بتنسيقه مع الأخوين كواشي اللذين نفذا عملية «شارلي إيبدو» في 7 يناير من العام نفسه، وإن كان أعلن أميدي انتماءه لـ«داعش» فإن الأخوين كواشي أعلنا انتماءهما لـ«القاعدة».
تعد هجمات نيس الأخطر والأكبر في فرنسا بعد تفجيرات باريس في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي التي راح ضحيتها 140 قتيلاً و350 جريحا، التي تعد الثانية في خطورتها بتاريخ أوروبا خلال أربعة عقود بعد اعتداءات مدريد في 11 مارس (آذار) 2004.
وتأتي عملية نيس بعد نجاح فرنسا في تأمين نهائيات كأس أوروبا لكرة القدم التي انطلقت في 10 يونيو (حزيران) واختمت يوم 10 يوليو الحالي، رغم توقع وزارة الخارجية الأميركية وقوع حوادث إرهابية خلالها، وهو ما لم يحدث حتى كانت مفاجأة نيس والدهس الانتحاري الذي راح ضحيته 84 قتيلاً وأصيب العشرات حتى اللحظة. ولقد جاءت هذه العملية الإجرامية التي تحمل بصمة داعشية واضحة، سواء لجهة اختيار الزمان، ومعها إهانة اليوم الوطني الفرنسي، أو المكان عبر استباحة المدنيين وبشاعة القتل. ومع أن العملية تختلف عن سابقاتها أوروبيًا فإنها سبقت في بعض مناطق «داعش» في سوريا، حين جاءت دهسًا غير متوقع لقائد حافلة مَوتور استخدم حافلته في دهس المحتفلين بيوم الباستيل، وإطلاق النار على مَن استطاع منهم. كذلك كانت محيّرة في دوافع فاعلها الذي لم يعرف عنه - حسب الأمن الفرنسي - أي ميول إرهابية في السابق، بينما يتضمّن سجله الجنائي جرائم أخلاقية متعددة من بينها السرقة عمدًا وبالإكراه، والفشل الأسري وغير ذلك، وهو ما يكشف عن أزمات نفسية وسلوكية يحسن استغلالها «داعش» دائمًا وتوظيفها.
كتيبة الفرنسيين «الدواعش»
يضم تنظيم داعش بين عناصره كتيبة من الفرنسيين والناطقين بالفرنسية، حسب تصريح لرئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس في مايو (أيار) الماضي تقدّر أعدادهم بـ900 عنصر، وهي النسبة الأكبر بين المقاتلين الأجانب من الدول الأوروبية. وهذا مع ملاحظة تراجع أعداد المقاتلين الأجانب عمومًا في «داعش» بفضل اليقظة الدولية الأمنية والعسكرية المتأخرة ضد التنظيم المتطرّف عام 2016 ومقتل نسبة كبيرة منهم تقدر بـ14 في المائة وعودة ما لا يقل عن نصفهم، حسب بعض التقارير الأوروبية. وهذا ما يرتبط منطقيًا بارتفاع معدل العمليات في أوروبا بشكل عام، ولقد اتضح هذا في تفجيرات باريس وبروكسل، خصوصًا، إذ نفذّها بعض العائدين من المقاتلين الأجانب. ولقد ظهر بعض هؤلاء في تسجيل مصوّر في أواخر نوفمبر 2014 وهم يهددون فرنسا، وكان بينهم المدعو «أبو أسامة» الفرنسي الأصل البالغ من العمر 26 سنة، الذي تعرّف عليه جيرانه - من خلال هذا الفيديو - في محافظة التارن بجنوب فرنسا وهو يهدد بلاده ومواطنيه بلغتهم، وهو حقًا ينحدر من التارن.
الظاهر أن «داعش» يستهدف في تجنيده الفرنسيين، والغربيين عمومًا، فئتين رئيستين:
1 - المتحوّلون الجدد للإسلام، شأن «أبو أسامة» الفرنسي المذكور سابقًا، فهو حديث التحوّل، وحسب كثير من المراقبين يُعد «داعش» التنظيم الوحيد الذي يمثل فيه المتحوّلون الجدد نحو الإسلام 25 في المائة من مجموع عناصره.
2 - مهمّشو الضواحي والمعانون من الأزمات: وهم أبناء أجيال الهجرة ونتاج أزماتها، ومَن يُعرفون بـ«مسلمي الضواحي» الذين يعانون أزمات اقتصادية واجتماعية وثقافية متعدّدة تصب في مسألة الاندماج.
وهنا يغدو الانتماء لـ«داعش» عاملاً يحوّل أصحاب الأمراض النفسية والاجتماعية، وأصحاب السوابق والماضي السيئ، الذين يعانون الاغتراب الاجتماعي والهوياتي، إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة. ويحرّك في الانتحاري من نوعية «الذئب المنفرد» اعتقاد «مُت لتقتل» فينتقم من منظومة قيم يئس من الاندماج فيها، أو كان يؤمن بها ولم تحقّق له شيئا.
تفجيرات باريس في نوفمبر الماضي شغلت الباحثين والخبراء في شؤون التطرف والإرهاب، فمنهم مَن أصرّ على إعادتها إلى ذهنية التطرّف ذاته وأصوله أو ربطها بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية ومواقف السياسة الخارجية بشكل رئيسي أو بأزمات المهاجرين، ومنهم مَن حاول تعميقها سيكولوجيًا عن أزمة الشباب بشكل عام في أوروبا والغرب. وفي حين يركّز أوليفيه روا على التفسير الثقافي والمعرفي دون السياسي والاجتماعي، يلحّ فرنسوا بورغا على هذا التفسير ومعه آخرون كجيل كيبيل. وفي حين يلح الأول كذلك على عالمية ظاهرة التطرّف وتصاعد نزعات العنف عالميًا وبشكل عام، يشدّد الآخران وغيرهم على السياق الخاص لصعود ظاهرة الإرهاب الانتحاري والإسلامي من «القاعدة» إلى «داعش» وأخوانه.
أوليفيه روا لا يرى في الإرهابيين الجُدد «تعبيرًا عن غَضبِ المُسلِمين تجاهَ الاعتداءاتِ الغربيّة»، ومن ثم، لا دخلَ إذن للصراعِ العربي - الإسرائيلي في سخطِ العالم الإسلامي تجاهَنا(!).. ويلح روا على أن المتطرفين يأتون من «هوامشِ العالم الإسلامي، وليس من صلبِ المجتمعات العربيّة أو الإسلاميّة»، كما ورد في كتابه «فشل الإسلام السياسي». كذلك لا يحمل السياسات الدولية والفرنسية المسؤولية عن دفع هؤلاء الانتحاريين لمثل هذا، وهو ما يرفضه فرنسوا بورغا وغيره.
وتماهيا مع روا والمدخل النفسي للإرهاب، في اتجاه قدرة وجاذبية «داعش» للشباب في تنفيذ عمليات انتحارية عدمية تستهدف المدنيين للنزوعات العنفية الصاعدة، حسب الباحث الفرنسي بيتر هارلينغ، في مقالة له نشرت في يناير الماضي: «يؤسِس عنفُ مُرتَكِبي هجَمات باريس الشبان لهويَّة بطلٍ عصري تَرفَع من شأنِ حاملها، تتميَّزُ برومانسيَّة حربيَّة تُساهِم وسائلُ التواصُل الاجتماعي بتشكيلِها في سياقٍ أوروبِّي من تَعَصُّب عُنصُري وانسِداد المُستقبَل أمامَ جيلٍ شابٍ بكاملِه. هويَّة يستردُها تنظيم داعش ويوظِفُها لمصلحَتِه مقدِمًا لها فضاءً مَلموسًا يُمكِنُها أن تتجسَد فيه».
وهذا ما أكّده روا أيضًا في مقاله الشهير عقب تفجيرات باريس السابقة، الذي نُشر في جريدة «لوموند» يوم 30 نوفمبر الماضي، وأطروحته عن أسلمة التطرّف وضرورة إدخال علم النفس في دراسة أجيال المتطرّفين والانتحاريين الجديدة، وعدم الاكتفاء بالتفسير الآيديولوجي باعتباره صورة من «تطرّف الإسلام». وهنا يؤكد روا عدمية لا معيارية صاعدة، وتيه شبابي يندفع نحو العنف الرغبوي والانتقامي من منظومة قيَم يمارس التمرّد والرفض لها، بشكل عام، دون اتكاء على التفسيرات التاريخية... كذاكرة المستعمر الذي لم يعرفه ولا يعلم عنه شيئا كثير من أبناء المهاجرين، أو السياسة الخارجية الفرنسية أو الجذور الراديكالية للفكر العنيف نفسه. وهو، دفاعًا عن أطروحته، ينفي أحادية المدخل الذي يعلنه، لكنه يؤكد ضرورة تكامل المناهج وأهمية العامل النفسي في قراءة ظاهرة التطرّف المحيّرة.
المرجّح أن الحيرة الأكاديمية الغربية ستستمر، فالإرهاب ظاهرة متكاملة تتعدّد أبعادها ودوافعها وتتكامل معًا، ولعل في أحداث نيس المأساوية الأخيرة تعبير عن ذلك. فحسب السجل الجنائي للإرهابي الانتحاري فإنه يبدو متحوِّلاً جديدًا ومأزومًا انفجر في محيطه بشكل عشوائي، وتم استغلال ظروفه من أجل ذلك، ولكن هذا لا ينفي أن موقف فرنسا في التحالف الدولي ضد الإرهاب، ومشاركتها مع الولايات المتحدة في التركيز على العراق وتقدمها في هذا الاتجاه عن سواها، جعلاها الهدف الأول أوروبيًا لعمليات الإرهاب.
مع ذلك يصحّ تفسير أوليفيه روا بدرجة ما في أنه لم يعُد غضب المسلمين من القضايا التاريخية الدافع الوحيد، مثل قضية الصراع العربي الإسرائيلي أو الاعتداءات الغربية التاريخية والتجربة الإمبريالية، لهذه الأجيال الجديدة من الانتحاريين، لكنه مع ذلك لا يمكن نفي توظيفه واستغلاله مع أدبيات الراديكالية القتالية المعولَمة المصرة على أممية خطابها وتقسيم الفسطاطين والدارين للعالم.
ونظن أن «داعش» الذي أعاد الأخوين عبد السلام وغيرهما لينفذوا عمليات في باريس وبروكسل، يمتلك استراتيجية استنزاف عبر ما يسميه القتال الفردي أو «الذئاب المنفردة» يستهدف بها تخفيف الضغط عليه من ضربات التحالف الدولي الذي أجبره عن التخلي عن كثير من مناطق سيطرته، وفي حين يُبقي المئات في معاقله في سوريا والعراق يعد مئات آخرين للقتل والانتحار في شوارع نيس مرة وثانية.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.