ثلاث عشرة عملية إرهابية كبيرة شهدتها أوروبا خلال العامين 2015 و2016 ابتليت فرنسا وحدها بعشر منها. ولقد بدأ المسلسل مع الاعتداء على مطبوعة «شارلي إيبدو» الساخرة، الذي راح ضحيته سبعة عشر قتيلا بين السابع والتاسع من يناير (كانون الثاني) 2015. حتى هجوم نيس الأخير يوم الخميس الماضي 14 يوليو (تموز) 2016. وفيه دهس عمدي لاحتفالات المدنيين والمواطنين العاديين فيها بـ«يوم سقوط الباستيل» وذكرى الثورة الفرنسية عام 1789. وقد راح ضحيتها 84 قتيلا وعشرات الجرحى.
خلال سنتين، هذه هي المرة الثانية التي يضرب فيها الإرهاب الداعشي مدينة نيس الساحلية في جنوب فرنسا، إذ شهدت المدينة السياحية الشهيرة يوم 3 فبراير (شباط) 2015، تعرّض 3 جنود لاعتداء بالسكاكين أثناء الخدمة أمام مركز لليهود في نيس، من قبل موسى كوليبالي (30 سنة) الذي عبر أثناء احتجازه عن كراهيته فرنسا والشرطة والجنود واليهود. وهو يبدو من أقرباء أميدي كوليبالي الذي أعلن انتماءه لـ«داعش»، وقتل شرطية في أحياء باريس، بعد احتجازه رهائن في متجر يهودي في يناير 2015. ولقد أقرّ بتنسيقه مع الأخوين كواشي اللذين نفذا عملية «شارلي إيبدو» في 7 يناير من العام نفسه، وإن كان أعلن أميدي انتماءه لـ«داعش» فإن الأخوين كواشي أعلنا انتماءهما لـ«القاعدة».
تعد هجمات نيس الأخطر والأكبر في فرنسا بعد تفجيرات باريس في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي التي راح ضحيتها 140 قتيلاً و350 جريحا، التي تعد الثانية في خطورتها بتاريخ أوروبا خلال أربعة عقود بعد اعتداءات مدريد في 11 مارس (آذار) 2004.
وتأتي عملية نيس بعد نجاح فرنسا في تأمين نهائيات كأس أوروبا لكرة القدم التي انطلقت في 10 يونيو (حزيران) واختمت يوم 10 يوليو الحالي، رغم توقع وزارة الخارجية الأميركية وقوع حوادث إرهابية خلالها، وهو ما لم يحدث حتى كانت مفاجأة نيس والدهس الانتحاري الذي راح ضحيته 84 قتيلاً وأصيب العشرات حتى اللحظة. ولقد جاءت هذه العملية الإجرامية التي تحمل بصمة داعشية واضحة، سواء لجهة اختيار الزمان، ومعها إهانة اليوم الوطني الفرنسي، أو المكان عبر استباحة المدنيين وبشاعة القتل. ومع أن العملية تختلف عن سابقاتها أوروبيًا فإنها سبقت في بعض مناطق «داعش» في سوريا، حين جاءت دهسًا غير متوقع لقائد حافلة مَوتور استخدم حافلته في دهس المحتفلين بيوم الباستيل، وإطلاق النار على مَن استطاع منهم. كذلك كانت محيّرة في دوافع فاعلها الذي لم يعرف عنه - حسب الأمن الفرنسي - أي ميول إرهابية في السابق، بينما يتضمّن سجله الجنائي جرائم أخلاقية متعددة من بينها السرقة عمدًا وبالإكراه، والفشل الأسري وغير ذلك، وهو ما يكشف عن أزمات نفسية وسلوكية يحسن استغلالها «داعش» دائمًا وتوظيفها.
كتيبة الفرنسيين «الدواعش»
يضم تنظيم داعش بين عناصره كتيبة من الفرنسيين والناطقين بالفرنسية، حسب تصريح لرئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس في مايو (أيار) الماضي تقدّر أعدادهم بـ900 عنصر، وهي النسبة الأكبر بين المقاتلين الأجانب من الدول الأوروبية. وهذا مع ملاحظة تراجع أعداد المقاتلين الأجانب عمومًا في «داعش» بفضل اليقظة الدولية الأمنية والعسكرية المتأخرة ضد التنظيم المتطرّف عام 2016 ومقتل نسبة كبيرة منهم تقدر بـ14 في المائة وعودة ما لا يقل عن نصفهم، حسب بعض التقارير الأوروبية. وهذا ما يرتبط منطقيًا بارتفاع معدل العمليات في أوروبا بشكل عام، ولقد اتضح هذا في تفجيرات باريس وبروكسل، خصوصًا، إذ نفذّها بعض العائدين من المقاتلين الأجانب. ولقد ظهر بعض هؤلاء في تسجيل مصوّر في أواخر نوفمبر 2014 وهم يهددون فرنسا، وكان بينهم المدعو «أبو أسامة» الفرنسي الأصل البالغ من العمر 26 سنة، الذي تعرّف عليه جيرانه - من خلال هذا الفيديو - في محافظة التارن بجنوب فرنسا وهو يهدد بلاده ومواطنيه بلغتهم، وهو حقًا ينحدر من التارن.
الظاهر أن «داعش» يستهدف في تجنيده الفرنسيين، والغربيين عمومًا، فئتين رئيستين:
1 - المتحوّلون الجدد للإسلام، شأن «أبو أسامة» الفرنسي المذكور سابقًا، فهو حديث التحوّل، وحسب كثير من المراقبين يُعد «داعش» التنظيم الوحيد الذي يمثل فيه المتحوّلون الجدد نحو الإسلام 25 في المائة من مجموع عناصره.
2 - مهمّشو الضواحي والمعانون من الأزمات: وهم أبناء أجيال الهجرة ونتاج أزماتها، ومَن يُعرفون بـ«مسلمي الضواحي» الذين يعانون أزمات اقتصادية واجتماعية وثقافية متعدّدة تصب في مسألة الاندماج.
وهنا يغدو الانتماء لـ«داعش» عاملاً يحوّل أصحاب الأمراض النفسية والاجتماعية، وأصحاب السوابق والماضي السيئ، الذين يعانون الاغتراب الاجتماعي والهوياتي، إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة. ويحرّك في الانتحاري من نوعية «الذئب المنفرد» اعتقاد «مُت لتقتل» فينتقم من منظومة قيم يئس من الاندماج فيها، أو كان يؤمن بها ولم تحقّق له شيئا.
تفجيرات باريس في نوفمبر الماضي شغلت الباحثين والخبراء في شؤون التطرف والإرهاب، فمنهم مَن أصرّ على إعادتها إلى ذهنية التطرّف ذاته وأصوله أو ربطها بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية ومواقف السياسة الخارجية بشكل رئيسي أو بأزمات المهاجرين، ومنهم مَن حاول تعميقها سيكولوجيًا عن أزمة الشباب بشكل عام في أوروبا والغرب. وفي حين يركّز أوليفيه روا على التفسير الثقافي والمعرفي دون السياسي والاجتماعي، يلحّ فرنسوا بورغا على هذا التفسير ومعه آخرون كجيل كيبيل. وفي حين يلح الأول كذلك على عالمية ظاهرة التطرّف وتصاعد نزعات العنف عالميًا وبشكل عام، يشدّد الآخران وغيرهم على السياق الخاص لصعود ظاهرة الإرهاب الانتحاري والإسلامي من «القاعدة» إلى «داعش» وأخوانه.
أوليفيه روا لا يرى في الإرهابيين الجُدد «تعبيرًا عن غَضبِ المُسلِمين تجاهَ الاعتداءاتِ الغربيّة»، ومن ثم، لا دخلَ إذن للصراعِ العربي - الإسرائيلي في سخطِ العالم الإسلامي تجاهَنا(!).. ويلح روا على أن المتطرفين يأتون من «هوامشِ العالم الإسلامي، وليس من صلبِ المجتمعات العربيّة أو الإسلاميّة»، كما ورد في كتابه «فشل الإسلام السياسي». كذلك لا يحمل السياسات الدولية والفرنسية المسؤولية عن دفع هؤلاء الانتحاريين لمثل هذا، وهو ما يرفضه فرنسوا بورغا وغيره.
وتماهيا مع روا والمدخل النفسي للإرهاب، في اتجاه قدرة وجاذبية «داعش» للشباب في تنفيذ عمليات انتحارية عدمية تستهدف المدنيين للنزوعات العنفية الصاعدة، حسب الباحث الفرنسي بيتر هارلينغ، في مقالة له نشرت في يناير الماضي: «يؤسِس عنفُ مُرتَكِبي هجَمات باريس الشبان لهويَّة بطلٍ عصري تَرفَع من شأنِ حاملها، تتميَّزُ برومانسيَّة حربيَّة تُساهِم وسائلُ التواصُل الاجتماعي بتشكيلِها في سياقٍ أوروبِّي من تَعَصُّب عُنصُري وانسِداد المُستقبَل أمامَ جيلٍ شابٍ بكاملِه. هويَّة يستردُها تنظيم داعش ويوظِفُها لمصلحَتِه مقدِمًا لها فضاءً مَلموسًا يُمكِنُها أن تتجسَد فيه».
وهذا ما أكّده روا أيضًا في مقاله الشهير عقب تفجيرات باريس السابقة، الذي نُشر في جريدة «لوموند» يوم 30 نوفمبر الماضي، وأطروحته عن أسلمة التطرّف وضرورة إدخال علم النفس في دراسة أجيال المتطرّفين والانتحاريين الجديدة، وعدم الاكتفاء بالتفسير الآيديولوجي باعتباره صورة من «تطرّف الإسلام». وهنا يؤكد روا عدمية لا معيارية صاعدة، وتيه شبابي يندفع نحو العنف الرغبوي والانتقامي من منظومة قيَم يمارس التمرّد والرفض لها، بشكل عام، دون اتكاء على التفسيرات التاريخية... كذاكرة المستعمر الذي لم يعرفه ولا يعلم عنه شيئا كثير من أبناء المهاجرين، أو السياسة الخارجية الفرنسية أو الجذور الراديكالية للفكر العنيف نفسه. وهو، دفاعًا عن أطروحته، ينفي أحادية المدخل الذي يعلنه، لكنه يؤكد ضرورة تكامل المناهج وأهمية العامل النفسي في قراءة ظاهرة التطرّف المحيّرة.
المرجّح أن الحيرة الأكاديمية الغربية ستستمر، فالإرهاب ظاهرة متكاملة تتعدّد أبعادها ودوافعها وتتكامل معًا، ولعل في أحداث نيس المأساوية الأخيرة تعبير عن ذلك. فحسب السجل الجنائي للإرهابي الانتحاري فإنه يبدو متحوِّلاً جديدًا ومأزومًا انفجر في محيطه بشكل عشوائي، وتم استغلال ظروفه من أجل ذلك، ولكن هذا لا ينفي أن موقف فرنسا في التحالف الدولي ضد الإرهاب، ومشاركتها مع الولايات المتحدة في التركيز على العراق وتقدمها في هذا الاتجاه عن سواها، جعلاها الهدف الأول أوروبيًا لعمليات الإرهاب.
مع ذلك يصحّ تفسير أوليفيه روا بدرجة ما في أنه لم يعُد غضب المسلمين من القضايا التاريخية الدافع الوحيد، مثل قضية الصراع العربي الإسرائيلي أو الاعتداءات الغربية التاريخية والتجربة الإمبريالية، لهذه الأجيال الجديدة من الانتحاريين، لكنه مع ذلك لا يمكن نفي توظيفه واستغلاله مع أدبيات الراديكالية القتالية المعولَمة المصرة على أممية خطابها وتقسيم الفسطاطين والدارين للعالم.
ونظن أن «داعش» الذي أعاد الأخوين عبد السلام وغيرهما لينفذوا عمليات في باريس وبروكسل، يمتلك استراتيجية استنزاف عبر ما يسميه القتال الفردي أو «الذئاب المنفردة» يستهدف بها تخفيف الضغط عليه من ضربات التحالف الدولي الذي أجبره عن التخلي عن كثير من مناطق سيطرته، وفي حين يُبقي المئات في معاقله في سوريا والعراق يعد مئات آخرين للقتل والانتحار في شوارع نيس مرة وثانية.