«نبوءة السقّا».. بطولة جماعية في مكانٍ افتراضي

الروائي السوداني حاد الناظر يكشف عن أكذوبة التفرقة العنصرية

الحدود الفاصلة بين السودان وأثيوبيا.. وفي الإطار غلاف الرواية
الحدود الفاصلة بين السودان وأثيوبيا.. وفي الإطار غلاف الرواية
TT

«نبوءة السقّا».. بطولة جماعية في مكانٍ افتراضي

الحدود الفاصلة بين السودان وأثيوبيا.. وفي الإطار غلاف الرواية
الحدود الفاصلة بين السودان وأثيوبيا.. وفي الإطار غلاف الرواية

اختار الروائي السوداني حامد الناظر مكانًا افتراضيًا لروايته الثانية «نبوءة السقّا» غير أن هذا المكان المتخيل يقع ضمن الحدود الإريترية، كما يتشظى بعض الأحداث ليمتدّ إلى أثيوبيا ولن تكون حصة السودان إلا قوافل من النازحين الإريتريين الذين فرّوا من قصف المدافع والطائرات الإثيوبية التي دكّت مدينة «عجايب» وأوشكت أن تمحوها من الوجود.
على الرغم من هيمنة الصراع الطبقي، وسطوة الحُب والحرب، وطغيان النبوءة والخرافة على المسارات السردية لهذه الرواية، فإن تيمتها الرئيسة بامتياز هي الانتهازية بكل معانيها السياسية والاجتماعية والأخلاقية. فلا غرابة أن يتكئ البناء المعماري على شخصيتين مُراوغتين جدًا وهما الناظر محمد، زعيم قبيلة «الأوتاد» وفرج السقّا، زعيم قبيلة «الأحفاد» المُسترَقّة منذ ألف عام. غير أن هذه الانتهازية لم تتكشّف إلا في الصفحات الأخيرة من هذه الرواية التي تراهن على عنصر الصدمة الذي يهزّ المتلقين في خاتمة المطاف.
لا شك في أن قبيلة «الأوتاد» تمثِّل السادة وأن «الأحفاد» يمثلون العبيد رغم أنهم لا يختلفون عنهم بشيء، بل إن بعضهم أكثر ذكاء ووسامة منهم. تُرى، مَنْ هم الأحفاد؟ ومن أين جاءوا؟ وكيف تكاثروا إلى هذا الحدّ؟ ولعل السؤال الأهم هو: كيف تزعّمهم فرج السقّا ليتلاعب بمصائرهم الجمعية وهم لا يعرفون أصله وفصله وكيف انحدر إليهم، واستقر في مضاربهم؟ وإمعانًا في التفرقة والتمييز فإن الذكور من «الأحفاد» يُختَمون بوشم دائري أخضر بين أكتافهم، بينما تُختَم الإناث بوشم بين النهود.
يخرج إسماعيل، أستاذ التاريخ واللغة العربية، من سجن الاحتلال الإثيوبي بعد أربع سنوات من الحبس الذي أحدث قطعًا مؤلمًا في حياته ليوصل ما انقطع من تاريخ «عجايب» وحياة أبنائها، فهو الشخص الأنسب لتأدية هذه المهمة التي أسندها لنفسه. وهو يمثل شخصية المثقف اليساري الإريتري المناهض للاحتلال الإثيوبي. وأكثر من ذلك فهو صديق محمود، المناضل الذي يقاتل جنود الاحتلال في جبهة التحرير الإريترية.
لم ترُق لحامد الناظر لعبة البطولة الفردية لذلك وزّع هذه البطولة على الجميع بدءًا بمحمود وعلاقته العاطفية مع فاطمة التي خُطبت له بكلمة شفهية منذ الصغر، مرورًا بإسماعيل وحبيبته فوزية، وانتهاء بالناظر محمد وفرج السقّا. فهؤلاء جميعًا يتقاسمون أدوار البطولة إلى أن تطوي الرواية صفحتها الأخيرة بعد كمٍ من المفاجآت والانعطافات الفنية المدروسة.
لم تنتبه فاطمة إلى جمالها الأخّاذ إلا بعد عشرين عامًا حينما لفتت نظرها الخيّاطة نورا قائلة لها: «كم أنتِ بلهاء يا فاطمة! والله لو أملكُ مثل جمالكِ وهذا الجسد لأوقفتُ البلد بإشارة، وحرّكتهُ بإشارة» (ص35). وعلى الرغم من انتمائها إلى طبقة «الأحفاد» الذين يعملون بأكل بطونهم عند أسيادهم «الأوتاد» إلا أن جمالها الأخّاذ ومواصفاتها الجسمانية المثيرة يغريان الناظر محمد، رمز السلطة الذي عيّنه الاحتلال، أن يطلب يدها للزواج رغم العهد الذي قطعه على خاله بألا يتزوج على ابنة خالة زوجة ثانية لكنه نكث بهذا الوعد بعد سنة من وفاة الخال وحدد موعدًا للزواج من فاطمة الجميلة التي لا يدانيها حُسنًا ونضارة سوى جمال فوزية التي أحبّت الأستاذ إسماعيل وقلبت له ظهر المجن، حينما اكتشفت إصراره على مزاولة مهنة التعليم فقط دون التفكير بمهنة أخرى تدرّ عليه مالاً وفيرا.
تهيمن نبوءة العرّافة «ريحانة» على مدار النص الروائي ولعله يتفكك من دونها فقد جاءت أحد الملوك بنبوءتها العجيبة التي تقول: «ستُقتلَون على يد جيشٍ جرّار يأتيكم من الحبشة ويستعبد أحفادكم من بعدكم ألف عام حتى يلدوا جوهرتين إحداهما أمَة والأخرى من سادتهم. الأولى تموت والأخرى تأتي من أرضٍ بعيدة سيخلصهم سلطان عادل ويجتمعون من كل مكان في وادي العجايب والذهب» (ص237).
عاد محمود من الجبهة بعد خمس سنوات رغم أن إشاعة موته قد سرت في «عجايب» سريان النار في الهشيم ودفعت بالجوهرة الأولى فاطمة للقبول بالزواج من الناظر محمد لكنها صُعقت حينما اكتشفت وجه الناظر بعينيه الدميمتين وساقه الاصطناعية اليمنى لذلك سارعت إلى اللقاء بمحمود، وحاولت أن تشرح موقفها لكنه زجرها بعنف الأمر الذي دفعها للانتحار، حيث شربت صبغة الشعر التي أهلكتها في الحال فقلبت بموتها الذي اختارته بنفسها كل النبوءات وكأنها تنتقم منهم جميعًا بهذا الموت التراجيدي.
أمّا محمود فقد قرّر أن يتزوج «قضيته» ويقفل راجعًا إلى الجبهة بعد أن قدّم مفاتيح بيته إلى صديقه إسماعيل الذي يدوّن أحداث «عجايب» ووقائعها. تأخرت فوزية في لقاء إسماعيل والترحيب به بعد خروجه من السجن وبدت له عميقة جدًا، وشاهقة أكثر مما تخيّل لكنها وخزته حينما قالت بأن «وظيفته النبيلة» كما كانت تسمّيها سابقًا «شيء غير مرغوب فيه الآن، وتعتبر مهنة غير قادرة على تلبية متطلبات الحياة، بل إنها الآن بلا قيمة» (226). غاب فرج السقّا من دون أن يعرف أحد وجهته، وأوغل العرّاف مرجان ابن العرّاف جابر سارداي في الحديث عن النبوءة الغامضة التي أودعها أبيه في صدور الناس قبل أن يمضي. وها هي الآن تتحقق بحذافيرها. ربما يكون مقتل هذه الرواية المحبوكة جيدًا أنها تراهن على الخرافة وتعتمد على ما يقوله البصّارون بعيدًا عن المنطق العقلاني الرصين، وكأنّ حامد الناظر يلمس في العرّافين سرّا لم نكتشفه نحن، بل هو يشدّد على أن العرافين ليسوا دجّالين ومخادعين كما يعتقد البعض من الناس. فها هي فوزية، الجوهرة الثانية التي لم يعرف إسماعيل أنها شقيقة فاطمة تأتي لكنه لم يلحظ الشبه الكبير بينهما. فلقد كان أبوهما هُمّد عاملاً عند آل عميراي وقد تعلقت به شقيقة أحمد عميراي ورفضت أن تتزوج غيره. وعلى الرغم من أن والدها زوّجها قسرًا من ابن عمها فإنها اختلت بهُمّد وحبلت منه بفوزية، هذه الجميلة الطامحة بالمال والسطوة وقد عرفت الطريق إليهما ووافقت أن تقترن بالناظر محمد رغم دمامته التي نفرت منها شقيقتها فاطمة.
سقط إسماعيل مغشيًا عليه وحينما استرجع وعيه قرر أن يتفرغ للكتابة ويجمع كل ما دوّنه في مفكرته الضخمة. قد تكون مفاجأة الرواية الكبرى أن إسماعيل شاهد إلى جانب الناظر محمد الذي دعاه إلى حفل زواجه من فوزية، فرج السقّا الذي عاد منتصرًا من دون سيوف أو دماء، وهما في طريقهما إلى أديس أبابا. لم تكن دهشة إسماعيل كبيرة حينما سمع من الراديو اسم الناظر محمد ضمن أسماء مجلس النواب الجدد، لكنه شعر بالذهول حينما سمع اسم فرج السقّا ضمن أسماء مجلس الشيوخ الذين تم انتخابهم لدورة جديدة. عندها فقط اتجه صوب أوراقه التي أنفق في كتابتها أكثر من عام ومزّقها، ثم نثرها على الأرض واستلقى إلى جوارها.
في تلك اللحظة التي كان فيها الإمبراطور هايلي سيلاسي يهنئ نوابه الجدد كانت المدفعية والطائرات الإثيوبية تدك «عجايب» التي لم يبق فيها سوى الأستاذ إسماعيل واضعًا يداه في جيبي بنطاله، بينما كانت قوافل النازحين تتجه صوب الحدود السودانية وتتلاشى هناك. الشيء الوحيد الذي عَلُق في ذاكرته هي أكذوبة التفرقة العنصرية فقد كان الأوتاد والأحفاد يؤازرون بعضهم بعضا في محنتهم الأخيرة وكأنهم منحدرون من صُلب واحد!



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.