رهانات خاسرة: تحركات حوثية في أوروبا

مظاهرة للجالية اليمنية في محيط الأمم المتحدة تندد بالإرهاب الحوثي خلال انعقاد جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع في اليمن فبراير الماضي
مظاهرة للجالية اليمنية في محيط الأمم المتحدة تندد بالإرهاب الحوثي خلال انعقاد جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع في اليمن فبراير الماضي
TT

رهانات خاسرة: تحركات حوثية في أوروبا

مظاهرة للجالية اليمنية في محيط الأمم المتحدة تندد بالإرهاب الحوثي خلال انعقاد جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع في اليمن فبراير الماضي
مظاهرة للجالية اليمنية في محيط الأمم المتحدة تندد بالإرهاب الحوثي خلال انعقاد جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع في اليمن فبراير الماضي

«بالإجلال والتقدير والاعتزاز تلقينا نبأ الرحيل المقدس بعطاء الشهادة تتويجًا لعطاء العمر المديد في الجهاد في سبيل الله تعالى بفارس من فرسان مسيرة العطاء، والصمود والتفاني في سبيل الله تعالى ونصرة المستضعفين ومواجهة المستكبرين، هذا الفارس العظيم من حملة الراية في موكب العز الحسيني المحمدي هو الشهيد المجاهد مصطفى بدر الدين، ذو الفقار، نسأل الله أن يتقبله في الصالحين وأن يجعل كتابه في عليين ويلحقه بالشهداء الأبرار في رحاب سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام».
هذه الكلمات نقلتها وكالة الأنباء اليمنية التابعة لأنصار الله الحوثيين كرسالة عزاء موجهة إلى الأمين العام لحزب الله اللبناني.

هيمنة منطق الميليشيا
فلا يزال منطق الميليشيا مهيمنًا على العقلية السياسية للحوثيين، وأكبر دليل على ذلك الفشل الذريع في المفاوضات والتعنت واختراق الهدنة، وجلب المزيد من الدمار والاختطاف والاغتيال بهدف تزجية أكبر قدر من الوقت، والقدوم للتفاوض بشروط متعنتة، وهو ما يوضح أن أنصار الله الحوثي في اليمن ما زالوا يحاربون بالوكالة عن نظام ملالي طهران بهدف تدمير اليمن أولاً، ثم محاولة تهديد أمن جيران اليمن وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية ولكن هذه الأهداف يتم الالتفاف عليها عبر شعارات سياسية متطرفة تستهدف الداخل اليمني، وشعارات سياسية ناعمة للمنظمات الحقوقية والدولية التي يحاول الحوثيون الآن الوصول لها بشتى الطرق عبر إيفاد شخصيات حوثية بارزة وتقديم الأزمة رغم المفاوضات على أنها مظلومية أقلية مضطهدة في اليمن وليس ميليشيا انقلابية جرّفت ما تبقى من إرث المخلوع علي عبد الله صالح الذي يسعى لتثبيت سلطته عبر التحالف مع أنصار الله الحوثيين وإن بدا تحالفًا هشًا مصلحيًا لن يدوم.

نهب مقدرات الدولة
اليمنيون قبل أي طرف آخر لن يقبلوا باستمرار مهزلة الاحتلال الحوثي لمقدرات الدولة، كما أنهم يدركون بجلاء أن التحالف الذي تقوده السعودية هو لتثبيت الشرعية السياسية وإعادة فرز الحالة السياسية في اليمن وفق قرارات مجلس الأمن، ولذلك لم تقم باقتحام العاصمة صنعاء بل قدمت التفاوض والحوار حفاظًا على مؤسسات الدولة اليمنية المختطفة من الميليشيا، إلا أن الإشكالية أن الحوثيين لا يتوقفون عن مسلسل الترويع والقتل والإرهاب تجاه المدنيين في المناطق التي يسيطرون عليها في صعدة وعمران وإب وغيرها، إضافة إلى اتساع رقعة النهب والسرقة للمال العام، وجباية الأموال من العامة بدعوى دعم الحرب، وتتحدث التقارير الصحافية عن سرقة ما يزيد على أربعة مليارات دولار في العام الأول من الانقلاب، وهو ما ساهم في تضخيم الأزمة الاقتصادية والمالية وتبعاتها الإنسانية في اليمن.
لعبة الأقنعة
إشكالية الحوثيين تبدأ في الإنكار واللعب بازدواجية الأقنعة المختلفة، فالقناع الثوري لأتباعها وإيران ووكلائها حيث «الموت لأميركا وإسرائيل» وهو الشعار الذي يتم نفيه وإنكاره والاعتذار عنه عند لقاء المنظمات الدولية والحقوقية وحتى الشخصيات الغربية، ليتم لبس قناع المظلومية والأقلية المضطهدة ومحاولة إظهار الملف اليمني على أنه أزمة سعودية يمنية وهي ليست كذلك، وهنا جزء من أزمة اللعب بالمفاهيم والحقائق والتي قد تنطلي على بعض المنظمات التي تغلب الجانب الإنساني، وهو أمر مهم لكن ينقصها التوصيف السياسي الدقيق.

أزمة يمنية ـ يمنية
والحال أن الأزمة مع الحوثيين هي يمنية - يمنية بدأت نقض أنصار الله شرعية حكومة الرئيس هادي والانقلاب عليها بالتحالف مع المخلوع، وهو الأمر الذي تعامل معه هادي بمسؤولية كبيرة، مطالبًا المجتمع الدولي ودول الخليج المجاورة والمتاخمة لحدود اليمن سرعة التدخل لإيقاف زحف الحوثيين وإيران على شرعية البلد ومقدراته، وبالطبع لصبغ الأزمة على أنها ليست يمنية قام الحوثيون باستفزاز جيران اليمن وفي مقدمتهم السعودية وأطلقت صواريخ على الحدود بغرض جرّ القوات السعودية إلى معركة أخرى.

تفاوض مسيّس
فإن الحوثيين لبس وا قناع الحوار والتفاوض لكن دون ترسانة سياسية، وهو ما يعيد التساؤل الجديد القديم عن جدوى إدماج الميلشيات والمنظمات المتطرفة القائمة على الطائفية أو نموذج الدولة داخل الدولة في العملية السياسية قبل التخلي عن آيديولوجيتهم الانفصالية، وهو سؤال جدير بالتأمل إذا ما رصدنا السلوك الحوثي في مفاوضات الكويت والمبني على المساومة والتسويف وقلب الحقائق وأهمها تجاهل المرجعيات الأساسية وأولها قرار مجلس الأمن 2216، باعتباره الأساس لجولة المفاوضات الحالية في الكويت، كما ترفض ميليشيا الحوثي الالتزام بالانسحاب من المدن والمحافظات وتسليم السلاح وإنهاء الانقلاب وكل النتائج التي تسبب بها.

نموذج حزب الله
الهدف النهائي لأنصار الله الحوثيين هو الوصول إلى حالة مشابهة لحزب الله اللبناني في لبنان، البقاء بهيكليته العسكرية وبناه التحتية في مناطقه التي يتصرف فيها على طريقة الحاكم بأمره، والتمثيل السياسي بأكبر حصة في الحكومة الشرعية، وهو ما يطرح ما هي ضمانات تخلي الميليشيا عن هويّتها وتحولها إلى حزب سياسي تعددي، وهو أمر في غاية التعقيد لا سيما إذا كانت هذه الأحزاب كما هو الحال مع أنصار الله مرتبطة بشكل جوهري مع نظام الملالي في طهران.
النقطة الحاسمة في تحول ميليشيا الحوثي إلى حزب سياسي هو تسليمه للمناطق التي قام باحتلالها، وإعادته لمقدرات الدولة التي سيطر عليها، إضافة إلى تسليمه إلى ترسانة السلاح التي تضاعفت لديه بفضل الاحتلال والتمويل القادم من الداخل والخارج في بلد يقبع تحت 60 مليون قطعة سلاح.

تحركات خارجية
وبإزاء الحرب التدميرية التي يقوم بها أنصار الله الحوثي في داخل اليمن، فإن الفترة الماضية شهدت تنقلات وزيارات حوثية سريعة ومعلنة لأغلب المنظمات الدولية والإنسانية وعدد كبير من الشخصيات المؤثرة التي يمكن أن تقوم بدعاية لا تقدر بثمن للميليشيا في حال أنها تبنت روايته للأحداث والواقع اليمني، وربما كانت المغالطات التي تم ذكرها في تقرير الأمم المتحدة عن الأطفال في الصراعات المسلحة واحدة من أمثلة كثيرة.

تحولات عميقة
الأكيد أن الحوثيين كمكون مناطقي يمثل أقلية متصالحة مع الأكثرية في اليمن قد ولى إلى غير رجعة، فإرث الاعتدال الذي كان يكسو الخطاب التقليدي للزيدية في اليمن تحول إلى غير رجعة إلى خطاب آيديولوجي ثوري على طريقة الإسلام السياسي الشيعي بعد أن تغلب تنظيم أنصار الله بقيادة حسين الحوثي على الزيدية التقليدية خلال أعوام من الحشد والتأليب والتثوير للمذهب الزيدي الذي ساعد على تردي الأوضاع، وارتفاع منسوب الطائفية في اليمن إلى انتقال الأجيال الجديدة لموالاة تنظيم الشباب المؤمن الذي اكتمل عقد مؤسساته المستقلة، وقدرته على الاستقلال الذاتي ليس عسكريا، وإنما حتى على مستوى التمويل والتحالفات السياسية المستقلة.

دمج الميليشيا بالدولة
ولا يقف الأمر عند تهيئة الدول الغربية والخارجية لتقبل مزاعم الحوثيين أنصار الله، بل يتعدى ذلك باستغلال الوضع الحالي للانقضاض على مؤسسات الدولة وأهمها المؤسسات الأمنية التي حاول الحوثيون مؤخرًا كما تتحدث التقارير عن إصدار قرار في غاية الخطورة بدمج 10 آلاف من عناصر الميليشيا في وزارتي الدفاع والأمن، في عملية وصفها مراقبون عسكريون بأنها الأخطر على الدولة اليمنية، منذ انقلاب الميليشيات واجتياحها للعاصمة صنعاء.
وتؤكد التقارير أن «أنصار الله الحوثي» بدأ منذ أشهر بإعداد ملفات ووثائق رسمية، لأكثر من 10 آلاف من الكوادر الحوثية تمهيدًا لدمجهم بقوات الجيش والأمن بشكل شبه قانوني، وبصورة خارجة عن اللوائح والأنظمة المعمول بها في وزارتي الدفاع والداخلية، مؤكدة أن الميليشيات جندت الشهر الماضي 800 فرد من مسلحيهم الذين يطلقون عليهم «اللجان الشعبية» في معسكر اللواء 39 ميكا بمحافظة ذمار ومدرسة الحرس والشرطة بالمحافظة.
ويهدف الحوثيون من هذا التصرف إلى رفع مستوى عمليات التجنيد الخارجة عن القانون، وزيادة عدد أتباعها في الجيش والأمن إلى النصف قبل نهاية العام الحالي 2016، وعادة ما يتم ذلك عبر التزوير واستخراج بطاقات هوية مزورة باعتبار أنهم مواطنون من أبناء المحافظات الجنوبية ومن مواليد جنوب اليمن.
وكانت ما يسمى اللجنة الثورية أعلى سلطة للحوثيين أصدرت قرارًا بمنح رتب عسكرية لـ«146» عنصرًا من ميليشياتها برتب مختلفة في وزارة الداخلية وجهاز الشرطة والأمن، وتعد حاليا لدمج بقية ميليشياتها في وزارتي الدفاع والداخلية.

تبسيطات مذهبية
لا يمكن أن نذهب إلى التبسيط الطائفي باعتبار أن الحوثيين الآن هم أنفسهم حوثيو الأمس وامتدادا للمدرسة الزيدية التقليدية، ف«أنصار الله» هم انشقاق داخلي في الزيدية مثل ما حدث في السلفية والإمامية، حيث خرج الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، والآن نشهد ولادة الإسلام السياسي الزيدي بمواصفات خاصة يتضخم فيها العسكري والسياسي جدًا، ويتراجع الحضور المذهبي الذي لم يكن ليحدث قطيعة مع الإسلام السني في اليمن من قبل لأسباب كثيرة تتصل بالهويّات الدينية المبنية على رافعة قبلية أو مناطقية والتي عادة ما يتراجع فيها العامل الديني إلى عوامل أخرى، وتشكل هذه الطوائف ما يشبه الكتلة السياسية وتنتظر ولادة من يقوم بتثويرها كما فعل حسين الحوثي، ثم عبد الملك الآن، بنجاعة تتفوق وتستفيد من أخطاء حزب الله، وما يجري في اليمن هو صراع مكونات سياسية تريد خطف المشهد، وبواقع في أسوأ حالاته على كل المستويات بحيث يصبح تسلم اليمن دون رعاية خارجية أو شرعية مكتملة عبئا أكثر من كونه مغنمًا سياسيًا، وهذه القناعة يدركها السياسيون في اليمن أكثر من غيرهم كما تدركها كأرقام كل المنظمات الدولية والدول المانحة التي لن تعود إلى اللعبة القديمة وهذا ما يقلق النظام السابق تمامًا، حيث البحث عن «ثمن» لإعادة تعريف الحالة اليمنية بما يضمن الشرعية السياسية وتدفق المساعدات من الخارج، ولذلك يتحرك الحوثيون نحو الشمال في محاولة استغلال إرث الحرب الذي هم من أطلق شرارتها وساهم في بقائها للآن.

زمن الميليشيا
وإذا كانت الأزمة السورية تشغل العالم الآن في ظل التجاذبات الإقليمية والدولية التي انتقلت من غرف الدبلوماسية إلى معسكرات القتال على الأرض، فإنه من المؤسف أن هذا الاهتمام يلغي ظاهرة مقلقة، وهي تمدد الميليشيات واتخاذها شكل الدولة بما يعني ذلك من اختراق للسيادة والافتئات على رأي الحكومة الشرعية المنتخبة، وحتى مصير الشعوب التي لا تعكس الميليشيا أي تمثيل لها، سوى أنها تمددت بفعل العنف والسلاح والإرهاب. من يرى في «داعش» المشكلة، أو فيما تبقى من «القاعدة»، ولا يراها في ميليشيات «أنصار الله»، وحزب الله، و«جيش المهدي»، وباقي القائمة المنسدلة من الفصائل المسلحة ذات المرجعية الشيعية، فهو يمنح مبررًا لتمدد الإرهاب، ويضيق الخناق على صوت الاعتدال، في حين تكافح دول لكبح جماح نزعات التطرف، رغم كل الظروف السياسية العصيبة.



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.