متاهة الجماعات المتشددة.. واختطافها للتراث

كتاب مصري يتناول أخطاء «الجهاديين» في فهم ابن تيمية

متاهة الجماعات المتشددة.. واختطافها للتراث
TT

متاهة الجماعات المتشددة.. واختطافها للتراث

متاهة الجماعات المتشددة.. واختطافها للتراث

قلة قليلة من المتتبعين في المجال التداولي الإسلامي تعلم أن الإنتاج العلمي الضخم لابن تيمية لا يمكن قط اختزاله فيما تروج له بعض المشاريع الإسلامية الحركية، سواء كانت دعوية أو سياسية أو متشددة، ولا في موسوعة «مجموع الفتاوى» ولا في حقل معرفي مُعين دون سواه.
من هنا تأتي أهمية كتاب الباحث المصري الدكتور هاني نسيره، الذي صدر بعنوان: «متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية»، عن مركز دراسات الوحدة العربية. (بيروت، ط 1. 2015، صدر العمل ضمن سلسلة أطروحات الدكتوراه (115)، وجاء في 431 صفحة).
ميزة هذا العمل أنه يساهم بداية في زحزحة الاعتقاد السائد لدى القارئ العربي والغربي أيضًا (في حال ترجمة الكتاب أو ترجمة أهم مضامينه)، ولكنه يساهم أيضًا في فك الارتباط السائد منذ عقدين على الأقل بين المتن التيمي والخطاب الإسلامي الحركي في نسخته المتشددة، كما هو قائم مثلاً مع لائحة عريضة من الجماعات السائدة في الساحة، من قبيل تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (المعروف اختصارًا بتنظيم داعش).
أصاب المؤلف كثيرًا عندما أشار إلى أن ابن تيمية يُعتبر من أكثر علماء الأمة ظلمًا وافتراءً عليه بما لم يقل، وقد اختلق عليه خصومه، بدءا من محنته عام 705هـ وفي محنته حتى حبسه الأخير سنة 726هـ، كثيرا من الفتاوى والآراء التي لم يقلها، كما اختلقت عليه رسائل وكتابات لم يكتبها، كرسالة «النصيحة الذهبية»، ووصل الأمر بخصومه أن اتهموه بموالاة التتر في مشاركته الدعوية والإصلاحية غير الجهادية في حرب التتر، في معركة شقحب سنة 702 هـ، ولعل أهم رسائل الكتاب كونه يساهم في رد الاعتبار لهذا الهرم العلمي في مجالنا التداولي الإسلامي، وهذا بإقرار كثير من الرموز الفكرية في الساحة، ونذكر منها طه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي وحمو النقاري وغيرها من الأسماء.
ثمة لائحة عريضة من المقدمات أو الدوافع التي تقف وراء اشتغال نسيرة على الكتاب، وقد لخصها في ثلاثة دوافع رئيسية: أولها ضبط مسألة ومشكلة الاشتباه في فهم ابن تيمية، عبر ضبط نسقه، وفق منهج المقولات الحاكمة؛ هناك أيضًا الرغبة في استجلاء فهم هذه الجماعات لشيخ الإسلام ابن تيمية، وتأويله عند المتشددين، وكيفيات القراءة وأدواتها؛ وأخيرًا، إضافة آثار وكتابات ابن تيمية من مسائل الجهادية والإمامة والتكفير والخروج على الحكام، بما يتفق مع نسقه الكلي ويضم شوارده لوحدة خطابه المركزية.
الاشتباه في فهم ابن تيمية
فرضية الدراسة تزكي ما أشرنا إليه سلفًا: «ثمة اشتباه في فهم ابن تيمية في بعض أجزائه»، وهو اشتباه حسب هاني نسيرة، قد يكون موجودًا عند غيره من فلاسفة ومتكلمي وعلماء الإسلام، واختبارًا لصحة هذه الفرضية، سعى الكتاب إلى تعريف وتحديد الهوية والنظام المعرفي لدى كل من طرفي الدراسة: خطاب شيخ الإسلام ابن تيمية من ناحية، وخطاب الجماعات الإسلامية المتشددة المعاصرة من جهة ثانية، مع الكشف عن المقولات الحاكمة والمنطلقات الفكرية والتأسيسية المرتبطة بهما.
توزع العمل على مقدمة وخمسة فصول، حيث جاء الفصل تحت عنوان «ابن تيمية: محطات السيرة وإشكالات الخطاب» في جزأين، تطرق المؤلف في الجزء الأول لمسألة الاشتباه في فهم ابن تيمية، تعريفًا وتمثيلاً، وتطرق في الجزء الثاني لمواضع الاشتباه في مسألة خطيرة، وهي فقه الدعوة والخوارج بين ابن تيمية والمتشددين. في حين جاء الفصل الثاني بعنوان «النظرية السياسية الإسلامية من الماوردي إلى ابن تيمية» حول الفكر السياسي لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأهميته في العمل تكمن في تناول جماعات ذات هدف سياسي ديني تعود إليه، وهي الجماعات المتشددة أو قل «الجهادية»، فكان لا بد من استجلاء نظريته وفكره السياسي أولاً.
أما الفصل الثالث، فجاء تحت عنوان «ابن تيمية وتأسيسات السلفية الجهادية» للتعريف بالأسس الفكرية «للسلفية الجهادية»، وأهم مرجعياتها المعاصرة، وأجيالها المختلفة، وهو ما كان مُهمًا نظرًا إلى غيبة الاهتمام بتأسيسات الخطاب السلفي الجهادي عمومًا، أو موقع ابن تيمية فيه، حيث تطرق المؤلف في الجزء الأول من الفصل إلى ابن تيمية ومسار الحركات الإسلامية المعاصرة، في حين تطرق الجزء الثاني لروايتين مختلفتين حول نشأة التنظيمات الجهادية، قبل التوقف عند تأثير ابن تيمية في البواكير الأولى لأفكار تنظيمات «الجهاد» عند المهندس محمد عبد السلام فرج في «الفريضة الغائبة» ثم في أدبيات وتراث الجماعة الإسلامية المصرية في مرحلة تأسيسها، قبل مرحلة مراجعاتها.
وجاء الجزء الثالث بعنوان «تبلور السلفية الجهادية ومرجعياتها» تعريفًا بأهم رموزها الفكرية وأهم كتاباتهم، وأدبياتهم التأسيسية ثم بالمفاهيم المؤسّسة لخطابهم، وهي مفاهيم أربعة: «توحيد الحاكمية» أو «كفر الحكم بالقوانين الوضعية»؛ وتقسيم الديار بين «دار الإسلام ودار كفر»؛ و«الجهاد ووجوب الخروج على الحاكم»؛ و«الولاء والبراء». ومن هنا جاء الفصل الرابع بعنوان «قراءة مغايرة: مراجعات السلفية الجهادية وابن تيمية»، ومؤسّس على التفصيل في مقتضى الأسئلة التالية: ما علاقة الفتاوى بالنظرية السياسية لشيخ الإسلام بن تيمية؟ وهل يجوز استنطاق واستتباع نظرية سياسية في الإمامة والسياسة، من فتاوى شيخ ابن تيمية تحديدًا، خصوصا أن الفتاوى تظل تاريخية متغيرة وليست مبدأ عامًا كليًا لا يتغير؟ وما القواعد الصحيحة والمعرفية الواجبة في مثل هذا النوع من القراءات؟
أما الفصل الخامس، فجاء بعنوان «مراجعة ابن تيمية من فلسفة الجهاد إلى الفتاوى السياسية»، حيث حاول فيه المؤلف إنتاج قراءة مستقلة عن خطاب الحركات الإسلامية المتشددة، وتأويلاتها لابن تيمية، وكاشفة له في آن، عبر الربط بين الفتاوى والنظر السياسي عند ابن تيمية.
سوء توظيف المتن التيمي
يعج الكتاب بكثير من الخلاصات التي نحسب أنها ستفيد كثيرًا في مشاريع «المراجعات» أو تهذيب الخطاب الإسلامي المتشدد، أو لإدراجها في مشاريع إعادة تأهيل وإدماج المعتقلين الإسلاميين المتورطين في قضايا العنف والتطرف، ونجد في مقدمة هذه الخلاصات، أن كثيرًا ما خالف المتشددون ابن تيمية في كثير من المسائل وخطّأوه، وهو ما ينفي كونه مُلهما أو مَرجعًا، ولكنه كان توظيفًا لغاية الحاكمية، حيث اعتبر المؤلف أنه رغم اللبوس والصياغات السلفية لهذا الخطاب فإنه يغرق في تأويلية جديدة تستهدف الحاكمية فقط.
ليس هذا وحسب، أورد المؤلف عدة نماذج في التسامح وإنصاف المخالف لدى ابن تيمية، منها العفو عمن آذوه من متعصبي المذاهب؛ والتمييز والإنصاف للمخالف؛ وإنصاف الأشعري والأشعرية رغم خلافه مع بعضهم؛ وحمايته البكري الصوري الذي اعتدى عليه بالضرب؛ ونقده للمرزوقية ومتعصبة الحنابلة؛ ورفض تكفير المعيَّن والتماس الأعذار، وجاءت هذه الأمثلة مفصلة في ص 81 وص 88 من الفصل الأول.
من الخلاصات المهمة والمفصلية، تلك المتعلقة بالموقف من التكفير، ففي حين يبدو شيخ الإسلام ابن تيمية رفضًا ومنكرًا لتكفير المعين، يحضر إصرار الجماعات المتشددة المعاصرة على مسائل التكفير، سواء في ذلك تكفير المعين أو التكفير استنادًا إلى أحكام الديار، بل اعترض بعضهم على آرائه فيها صراحة، وخرجوا عليها ولم يقبلوا آراءه فيها، ولم يلتزموا منهجه، مخالفين له، رغم أنهم يستندون بشكل رئيس لفتواه في ماردين التي هي جزء من تصوره للديار في الإسلام، ويشير المؤلف في مقام آخر من الكتاب، وبالتحديد في خاتمة الفصل الخامس أن هذه «الفتوى كانت نظرية»، وحسب تحقيقها النصي تميز في وصفها بالدار المُركبة، بين المغول المسيطرين فعليًا والحكم الاسمي والبروتوكولي للمسلمين؛ بمعنى آخر، ترتيب الخصومة عند الفقيه ابن تيمية تقف ضد الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى، والتحفز ضدها انطلاقًا من هاجس الخطر على العقيدة والدولة السنية، وليس ضد الدولة رغم ما اخترم كثيرًا من حكامها من شوائب الخروج والمعاصي وفي مقدمتهم الناصر بن قلاوون الذي يبجله ابن تيمية في هذه الرسالة. (ص 389).
وفيما يتعلق بالموقف من مسألة الإمامة والحكم، يتضح كذلك أن الإمامة ومسألة الحكم لم تكن مسألة أولوية أو رئيسية في خطاب ابن تيمية وجهاده، وعلى العكس من الحركات والجماعات المتشددة، أكد شيخ الإسلام في «منهاج السنة» ردًا على الشيعة أنها ليست أشرف المسائل في الدين، بل مسألة متأخرة، لأن قضيته الأولى كانت هي التوحيد وإصلاح عقائد الناس وفهمهم للدين، والخوف من الفرق والبدع أكثر من خوفه من الملل والنحل الأخرى، وهذه خلاصة تطرق إليها المؤلف بالتفصيل في مضامين الفصل الثاني من الكتاب، وتحديدًا في الجزء الثاني منه («النظرية السياسية عند ابن تيمية»)، عندما اعتبر أن شيخ الإسلام لا ينكر جوهرية مسألة الإمامة لدنيا الناس ودينهم، عقليًا ونقليًا، ولكنه يرفض وضعها في الأصول، ويرى أن أقل ما يمكن أن تصل إليه أن تكون من الفروع وفق منطق الضرورة. (ص129).
الفروق بين شيخ الإسلام والجماعات المتشددة
إهمال المتشددين للنظرية السياسية عند ابن تيمية، كانت إحدى خلاصات الكتاب، حيث أهملت الجماعات الإسلامية المتشددة والحركات التابعة لها في مرحلتها الأولى، وفي مراجعاتها، أيضًا النظرية السياسية الإسلامية السنية في الإمامة، عندما قبلت منذ البداية بالخروج الذي كان سمة للفرق غير السنية كالشيعة والخوارج، والحال أن الخروج يبدو مستبعدًا في فكر وسيرة شيخ الإسلام الذي كان يتحرك دائمًا من داخل المشروعية الحاكمة وليس خارجًا عليها.
ولعل كبرى خلاصات العمل، تكمن في تسليط المؤلف الضوء على خطأ المتشددين في قراءتهم لشيخ الإسلام ابن تيمية وللمنظومة السلفية بعموم، من خلال تنظيماتهم المختلفة، واستخدامهم مفاهيم خلطت بين الزمني والتاريخي من جهة، والعقيدي والثابت من جهة أخرى، واستخدامهم مفاهيم وحمولات ابن تيمية النظرية بالمفاهيم نفسها المعاصرة والخاصة بها، من ذلك على سبيل المثال، مفهوم الشريعة الذي يستخدمه ابن تيمية بمفهوم كل الدين اعتقادًا وشرائع، خصوصا الأولى، بينما تستخدمه هذه الجماعات بمفهوم القوانين والتشريعات الإسلامية.

* باحث مغربي



«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

عادل خزام
عادل خزام
TT

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

عادل خزام
عادل خزام

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟ عن أي ناس وأية جغرافيا نتحدث حينها؟

هذا هو السؤال الذي يجيب عن كتاب «مانسيرة» الشعري، الذي أطلقه أخيراً الشاعر الإماراتي عادل خزام، بمشاركة 86 شاعراً وشاعرة من مختلف بقاع الأرض، في تجربة أدبية عالمية غير مسبوقة.

تمثل تجربة «مانسيرة» رحلةً شعريةً جماعيةً حيث تتضافر جهود هذا العدد الكبير من الشعراء، كلٌّ بخلفيته الثقافية ولغته الأم، لنسج نصٍّ واحدٍ مُشترك. هذا التنوع يُضفي على الكتاب ثراءً فنياً وجمالياً استثنائياً، فينسجم تنوع الأساليب الشعرية والرؤى الفكرية، ليُشكّل لوحةً فسيفسائيةً تعكس غنى التجربة الإنسانية.

وحتى عنوان الكتاب يُجسّد هذا التمازج الثقافي ببراعة، فهو دمجٌ بين الكلمة الإنجليزية «Man» التي تعني الإنسان، والكلمة العربية «سيرة»، ليُعبّر عن جوهر المشروع في تقديم سيرةٍ إنسانيةٍ شاملة، تحتفي بتنوّع البشرية ووحدتها في آنٍ واحد.

تتخطى «مانسيرة» حدود الجغرافيا واللغة لتُقدّم تجربةً شعريةً كونيةً تحتفي بالإنسان وقيمه المُشتركة، وتُؤكّد قدرة الفن على توحيد البشرية رغم اختلافاتهم. إنها ملحمةٌ تُعيد صياغة مفهوم الهوية والانتماء، لتُؤسّس لِعالمٍ أكثر تسامحاً وانفتاحاً، عالمٍ تُشكّل فيه الكلمة جسراً للتواصل والتفاهم بين جميع الثقافات.

يبدأ الكتاب بمدخل أسطوري شبيه بالملاحم التاريخية ولكن بنفَس حديث:

في البَدْءِ كانَ العالَمُ شيئاً واحداً

لا غربَ لا شرقَ، لا وضوحَ ولا غموضَ

ولا البدايةُ تعرِفُ أنَّ لها نهايةً

ولا النِّهايةُ بَدَأتْ، أو صارَ لها مُؤيِّدونَ

«مانسيرة»: جسرٌ للتواصل بين الثقافات

يفتح لنا هذا المدخل نافذةً على فكرة «وحدة العالم»، حيث تتلاشى الحدود الجغرافية والثقافية، ويصبح العالم بأسره موطناً واحداً للإنسانية جمعاء. إنها دعوةٌ للتأمل في انقسامات العالم وصراعاته التي لا طائل منها، في حين أن البشر جميعاً يتشاركون الحلم نفسه: عالمٌ يسوده السلام والمودة.

تكمن أهمية «مانسيرة» في كونها أكثر من مجرد تجربةٍ شعريةٍ جديدة، فهي تُجسّد تحولاً عالمياً في مفهوم الأدب، حيث تتراجع «الأنا» لِصالح «النحن»، ويتعزز مفهوم الجماعة في عملية التأليف الإبداعي. وتُتيح هذه المشاريع الجماعية الفرصة لِتداخل الأصوات وتنوّع الأساليب، مما يُثري الأدب ويُعزز جاذبيته، ويمنح القراء فرصةً لِلانفتاح على عوالم وثقافات مُتعددة من خلال نصٍّ واحد.

في الفصل الثاني من الملحمة «دوران الإنسان في الجغرافيا والزمن» تنتقل القصيدة من أفكار تشكّل العالم إلى استقراء رحلة البشرية وتشتتها في الصراعات والاختلافات:

ظل البشر، دهراً بعد دهرٍ، يتناسلون في مراعي الفوضى

وقرناً بعد قرنٍ، صارت تُبادُ أمم بكاملها وتنبعث أخرى

ولم يمض وقت طويل، في القرن الأخير

إلا وكانت الخيول قد عبرت إلى الصحراء

وهي تتبعُ اتجاه البوصلة المكسورة

ظلوا يتجهون جنوباً خاسرين شمالهم الحقيقي

حين نصل إلى الفصل الثامن على سبيل المثال وهو بعنوان: «مجتمع القنبلة الذرية» تحيلنا الملحمة إلى الهوة العميقة التي يحدّق فيها البشرُ اليوم في مصيرهم المرعب، حيث يتهدد الكوكبُ بالفناء على يد المهووسين بالسلطة والجشع والحروب. يصرخ شعراء العالم قائلين:

نُحدّقُ في عيون الموت

ويحدّق هو في عيوننا...

ها هو الموت الأعمى، يترك آثاره أينما ذهب

أما نحنُ، فنترك أثر الحياة

وكلماتنا هذه، وأفكارنا، إنما هي إمضاءٌ بأننا كنّا هنا

والإمضاء بمثابة جذر، جذر حي للخلود.

والجذور دلالة على الحياة في حد ذاتها.

هكذا تسترسل في رصدها لتحولات البشر من الوحدة إلى الصراع، وتقرأ مشهدية العالم اليوم المهدد بالدمار الهائل الذي ينبعث منه. ومع توالي الفصول تكون الرؤية قد تشبّعت بأسئلة الوجود كلها، إلى أن نصل في النهاية إلى المآلات والتوصيات في ختام هذا النص العظيم حقاً الذي يمتد إلى 265 صفحة تقريباً.

وأنت أيها الإنسان الفرد – الإنسان الجماعة

إليك وصيّة الدهر الأولى، وها نحن نكررها للمرة الألف

إذا مشيت،

اُكتبْ خطواتِكَ بأنفاسِكَ

واشبُكْ صوتكَ بالريح

لا تدَعْ أحداً حتى نفْسكَ يسلبكَ الدَّهشة

أنتَ المسافرُ في الضوء

أنتَ العارفُ الملهَم

تحدٍ كبير

لا شك أن جمع هذا العدد الكبير من الشعراء في عمل واحد يمثل تحدياً هائلاً، سواء من حيث التنسيق أو الترجمة أو الحفاظ على وحدة النص وتماسكه. إلا أن عادل خزام نجح في تجاوز هذه التحديات ببراعة، فقام بجمع القصائد ونسجها بإبداع ليُخرج لنا نصاً واحداً متناغماً، يستقي جذوره من تنوع الخلفیات الثقافیة واللغویة، ويصهرها في بوتقة إبداعية واحدة تُثري اللغة والأسلوب الشعري.

وبينما كانت تجارب التأليف الجماعي السابقة تركز على سرديات آداب شعوبٍ أو مجتمعاتٍ واحدة، مثل «الكتاب الصيني» أو «كتاب جاك كيرواك»، فإن «مانسيرة» تتجاوز هذه الحدود لتُصبح تجسيداً شعرياً لِرؤيةٍ عالمية، تُعبّر فيها الكلمة عن تجارب إنسانية مُشتركة، وتستند إلى خصوصية الشعر بوصفه وسيلة لِلتعبير عن العواطف والأفكار بِعمق.

يُمكن مقارنة «مانسيرة» بِمشاريع أدبية أخرى سعت لِتقديم رؤية جماعية لِعالمٍ أفضل، مثل «سيفيتاس سوليس» (مدينة الشمس) لِتوماسو كامبانيلا، التي شارك في كتابتها الكثير من الفلاسفة والعلماء. إلا أن «مانسيرة» تتميّز بِطابعها الشعري الذي يمنحها قوةً تعبيريةً خاصة، ويجعلها أقرب إلى القلوب.

الأساليب الشعرية ووحدة الأسلوب

التحدي الأكبر الذي واجهه خزام تمثّل في كيفية دمج الأساليب الشعرية المتنوعة وخلق رابط يوحد النصوص. كل شاعر من الـ86 شاعراً قدم رؤيته الخاصة وتجربته الإنسانية المتفردة، واستخدم خزام منهجاً ذكياً في اختيار النصوص وتنسيقها، بحيث يكون كل نص مكملاً للآخر، ليُشكِّل تياراً شعرياً ينساب بين اللغات والثقافات. ترك للشعراء أولاً ترجمة قصائدهم إلى الإنجليزية، ليضمن وضوح المعاني وتناسق الأفكار، ومن ثم ترجمها إلى العربية بطريقة حافظت على الروح الأصلية للنصوص، وخلقت في الوقت نفسه نصاً سلساً للقارئ العربي. استطاع خزام عبر هذه الطريقة أن يربط بين التجارب المختلفة، حيث إن كل نص يساهم في بناء السردية الشعرية للملحمة، ويخلق جسراً بين الثقافة التي أتى منها الشاعر، واللغة العربية.

16 فصلاً من تأليف 86 شاعراً وشاعرة من 50 دولة منهم 19 اسماً عربياً أطلقه عادل خزام بمشاركة 86 شاعراً وشاعرة من خمسين دولة

حضرت في التأليف الأسماء الشعرية الكبيرة من كل القارات، من بينهم من إيطاليا باولو روفيللي وبيبي كوستا، والبلجيكي جيرماين دروغنبروديت، والفرنسي فرنسيس كومبس، ومن الولايات المتحدة جين هيرتشفيلد وجورج والاس وآنا كيتس، بالإضافة إلى رئيس حركة الشعر العالمي فرناندو راندون ويوجينيا سانشيز نيتو من كولومبيا. ومن بريطانيا فيونا سمبسون وكريس سولت وأغنيس ميدوز، وثلاثة شعراء من الصين هم زانغ تشي وآنا كيكو وكاو تشوي، وثلاثة من اليابان تايكو أويمورا وتيندو تايجن وماريكو سوميكيورا، بالإضافة إلى أسماء مهمة أخرى وكبيرة من كل القارات.

الشعراء العرب

حضر أيضًا الشعراء العرب: سيف الرحبي والراحل زاهر الغافري من سلطنة عُمان، وزكية المرموق من المغرب، وطارق الطيب من السودان، والراحل جلال زنكابادي ومحسن الرملي من العراق، ومعز ماجد من تونس، وحميد العربي من الجزائر، وسعد الدوسري والدكتورة فوزية أبو خالد من السعودية، وبسام جوهر من اليمن، وغسان زقطان من فلسطين، والراحل محمود قرني وأشرف أبو اليزيد من مصر، ويوسف أبو لوز من الأردن، وخلود المعلا وخالد البدور من الإمارات، وليلى السيد من البحرين، وندى أنسي الحاج من لبنان، وشروق حمود من سوريا. أيضاً شارك مجموعة من الفنانين من حول العالم بصور لأهم لوحاتهم، في مقدمتهم الفنان الكويتي القدير سامي محمد.

وعادل خزام اليوم هو أحد مؤسسي تجربة الحداثة الشعرية وقصيدة النثر في الإمارات والخليج، قام بتمثيل دولة الإمارات في العشرات من المناسبات والمهرجانات لنحو 40 سنة. أصدر نحو 20 كتاباً وفاز بجائزة توليولا الإيطالية، وجائزة مهرجان طريق الحرير الذي ترعاه الأمم المتحدة. كما عدّ أدونيس كتاب عادل خزام «الربيع العاري» الكتاب الأكثر جدة واستبصاراً من بين معظم كتب الشعر العربي في الربع الأول من القرن الـ21.