الفكر والممارسات الإرهابية في أوروبا تحت مجهر الباحثين

الاستراتيجيات الجديدة تجاوزت «التقليدية» في العمليات

رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
TT

الفكر والممارسات الإرهابية في أوروبا تحت مجهر الباحثين

رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)

أعاد الهجوم الإرهابي المروّع الذي ضرب مدينة نيس الفرنسية وهي تعيش أجواء الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي، خلط أوراق السلطات الأمنية؛ كما أثار حفيظة الباحثين المختصين في تطور الفكر والممارسة الإرهابية في أوروبا والشرق الأوسط. ذلك أن محمد لحويج بوهلال منفذ العملية، لم يختر الساحة العامة لممارسة الفعل الإجرامي فقط، بل اختار قبل ذلك زمنا سياسيا يتعلق بذكرى تحيل على الثورة الفرنسية، وما تمثله من رمزية تاريخية وسياسية وآيديولوجية في الفكر الغربي عامة، والفرنسي على وجه التحديد. وتبعا لذلك، لم يكن من الغريب أن يوسم فعل الشاب الفرنسي من أصل تونسي بالإرهاب، وأكثر من ذلك وصفه الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند في كلمته للشعب الفرنسي «بالإرهاب الإسلامي»؟. وهو ما يعيد للأذهان حديث رئيس الحكومة الفرنسي مانويل فالس عن «فاشية الإسلامية» في أعقاب أحداث «الجمعة الأسود» يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهي أسوأ هجمات إرهابية انتحارية استهدفت فرنسا وراح ضحيتها 130 قتيلا و300 جريح، وتبنّاها تنظيم داعش الإرهابي.
يبدو أن تطوّر الأحداث الإرهابية منذ 2015 إلى حادث 14 - 7 - 2016 يطرح تحديات نوعية جديدة على النخبة السياسية والثقافية الفرنسية؛ ذلك أن سلوك مرتكب «جريمة نيس» الفظيعة محمد لحويج بوهلال الإجرامي، سواء كان بدوافع دينية متطرفة، أم بدوافع انتقامية من الدولة جرّاء ما يعتبره حيفًا مارسته الدولة بتدخلها في علاقته الزواجية، يعني أن السياسات العمومية والتدابير الأمنية والقانونية التي اتخذتها الحكومة واعتبرتها استعجالية لم تستطع بعد الحد من تسارع الضربات الإرهابية بالمدن الأساسية للدولة.
هذا الهجوم الأخير كذلك يعني أن استراتيجية التنظيمات الإرهابية، تجاوزت في حربها مع باريس أسلوبها التقليدي المعتمد على خطف الفرنسيين في بعض بلدان الصحراء الأفريقية، أو الهجوم على بعض مصالح باريس في أفريقيا والشرق الأوسط. فلقد استطاعت الحركات الإرهابية خلق جو من التعبئة الفكرية والعاطفية في صفوف الجيل الرابع من مسلمي الغرب عمومًا، ووجهته للدخول في مواجهة شاملة مع فرنسا داخل أراضيها، وفي أفريقيا للحد من النفوذ الفرنسي هناك.
وهذا المسار نفسه يفسر طبيعة التطور، واستعمال أدوات جديدة في المعركة بين الإرهابيين الجدد وباريس، كما يفسر لماذا ينتقل الإرهابيون الشباب من بلجيكا، مثلا، إلى فرنسا لتنفيذ أعمال إرهابية. ورغم أن هجوم نيس قد لا تتبناه أي منظمة إرهابية فورا (تبناه «داعش» لاحقا)، وقد يكون فعلا تصرفا منفردا لا علاقة لمنفذه بالممارسة الدينية، والمرجعية الدينية المزعومة لـ«داعش» و«القاعدة» وغيرهما، فإنه استطاع بصفتها ممارسة إرهابية تجاوز الارتباط المعنوي بالفكر «الداعشي»، ودخل في استراتيجية تنظيم البغدادي في علاقته بالغرب وفرنسا على الخصوص؛ وهي علاقة تقوم على استعمال كل الوسائل الممكنة لتحقيق أكبر أذى ممكن بالفرد والجماعة والدولة، ولو كانت السكاكين والشاحنة.
وكما كان متوقعًا، عادت النقاشات الحادة التي دشنتها حادثة «شارلي إيبدو» داخل النخبة بخصوص طريقة التعاطي الفرنسي مع هذه الظاهرة المركبة والمعقدة. فبعد ساعات قليلة من هجوم نيس، خرج جيل كيبيل، وهو أستاذ جامعي فرنسي متخصّص في الحركات الإرهابية، وصاحب كتاب «الرعب يحوم على فرنسا، نشأة الجهاد الفرنسي» (غاليمار ـــ 2015)، ليوجه نقدا حادا للنخبة السياسية الفرنسية ويتهمها بالعجز، مؤكدا أن المعوّل عليه هو قدرة الشعب الفرنسي على خلق شراكة متينة تدمّر التحدي الإرهابي. وفي حواراته مع وسائل الإعلام الفرنسية يوم الجمعة 15 - 07 - 2016 اتهم كيبيل النخبة السياسية اليمينية واليسارية، باللجوء للمهاترات والغرق فيها، معتبرا الإنتجينسيا الحالية عاجزة وغير قادرة على التعامل مع الإرهاب المعاصر. ويرى هذا العالم السوسيولوجي المتخصص في الظاهرة الإرهابية أن هناك تغييرا جوهريا حدث في «البرمجيات» والخطط التي يتبعها الإرهابيون، وهذا ما يمنحهم فرصة السبق والتأثير الدموي، تاركين وراءهم تقليدية الوسائل الرسمية للدولة الفرنسية. بالنسبة لكيبيل، فإن الإرهاب يتجه نحو مزيد من البساطة في العمل، ولم يعد منشغلا بالقيام بعمليات بوسائل كبيرة، والبحث عن الأسلحة والمتفجرات التي لم يتم استعمالها كما هو الشأن بالنسبة لعملية «استاد دوفرانس». والمشكلة بالنسبة لجيل كيبيل أن السلطة السياسية بعيدة عن فهم ما يجري؛ ولذلك فهي تستدعي الاحتياط، مع أن الجميع يعرف أن قوات من الجيش والشرطة لقوا حتفهم، وأنهم كانوا هدفا للجيل الثالث من الحركيين المتطرفين، وإذا استمر الوضع على هذه الشاكلة، فالدولة ستتجه لاستنفاد قوات حفظ النظام، وهذا يعني بدوره تفكك عرى الشراكة الداخلية «ومن ثم وجب الاستعداد لحرب أهلية بين جيوب منطقية من مختلف الأديان».
رغم غرابة هذا الطرح، فإن هناك أملا لتحدي الظاهرة الإرهابية، ذاك أن الحل الذي يتبناه كيبيل يتلخص في «تعبئة المجتمع، وليس فقط الدولة الفرنسية التي تعرّضت لهجوم، وهذا ما يخلق ويحافظ على الشراكة الفرنسية في جوهرها وتعدّد مكوناته». وفي الوقت نفسه، يرى أنه لا بد من إعادة تشخيص الحالة والعودة إلى السياسات التي توفر الإدراك الحقيقي لطبيعة المعركة، مع تجاوز ذهنية الصفقات السياسية التي تنشغل بالحدث سياسيا بعد وقوعه وتستثمره آيديولوجيًا وانتخابيا في معارك حزبية.
أما بالنسبة لكميل أكغو، مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية (FRS)، فإن هناك عوامل تغذّي الإرهاب، وهي أقوى من السياسات الفرنسية نفسها. والإرهاب ظاهرة عالمية، والقوى الكبرى والدول الفاعلة بالشرق الأوسط تلعب دورا مهما ومتباينا في مواجهته. وهذا التباين واختلاف الاستراتيجيات الدولية وتباين مصالحها، يخلق هامشا واسعا لانتشار الإرهاب واكتساب متعاطفين ومجندين جدد.
لهذا يؤكد أكغو على ضرورة تجاوز الانخراط المحدود للولايات المتحدة الأميركية وبعض دول الشرق الأوسط في الحرب على الإرهاب. ويقول: إنه لا مفر من تعاون فرنسي – روسي – أميركي وتركي – سعودي في هذا المجال، وبخاصة بعد تحولات «داعش» عامي 2013 و2014؛ وأن المواجهة يجب أن تكون داخل مناطق تجذُّر الإرهاب واستنباته في العراق وسوريا، وليس منطقة من مناطق التأثر به مثل فرنسا.
ولكن هذا التوجه يعارضه الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشال أونفري؛ ففي مقابلة تلفزيونية على قناة «بي إف إم تي في» بعد أحداث باريس 2015، اعتبر أونفري أن ما تشهده فرنسا من تكرار الهجمات الإرهابية على أراضيها ناتج أساسًا من تدخل فرنسا في الشؤون الداخلية لعدد من الدول التي تشهد العنف السياسي والصراع حول السلطة والثروة. وتساءل الفيلسوف الفرنسي «لماذا نختار دولا ضعيفة مثل مالي وليبيا والنيجر وأفريقيا الوسطى للتدخل؟...المشكل ليس مشكل إسلام، بل هو مشكل عنصرية، ويجب أن نعترف أننا عنصريون. في حادثة شارلي إيبدو لماذا لم تقل الحكومة للصحافيين توقّفوا عن الإساءة لرسولهم في حين قالت لنفس الرسامين لما رسموا عن شعار اليهود إنه فعل مخجل لكم اعتذروا لإسرائيل؟؟».
من جهته، يعود بنا عالم الاجتماع الفرنسي الكبير إمانويل تود للخوض في الوضع الداخلي الفرنسي، ليؤكد أن فرنسا تشهد انتشار الإسلاموفوبيا ومهاجمة الإسلام، نتيجة لما تعيشه من كآبة روحية ظهرت إثر التراجع الحاد للمسيحية؛ وما صاحب ذلك من ضمور واختفاء لأشكال الإيمان الميتافيزيقية الغيبية، وسيطرة الإلحاد، وانتشاره وسط النخب ومجالات تشكيل الوعي المجتمعي. ولذلك؛ يسهل مهاجمة الإسلام والحديث عن الإرهاب الإسلامي، والتخويف من المتدينين الفرنسيين. ذلك يقول عالم الاجتماع تود: «إن انحسار الدين يولد فراغا قاتلا وظواهر عنيفة تحاول ملء هذا الفراغ، وهذا ما يحدث حاليا في المجتمع الفرنسي». ويضيف تود في هذا الصدد: «إن التركيز على الإسلام يعكس في الحقيقة وجود حاجة مرضية في أوساط الطبقات المتوسطة والعليا إلى توجيه سهام الكُره في اتجاه ما، وليس فقط خوفا من تهديد الطبقات الفقيرة. إن كره الأجانب الذي كان حِكرا في الماضي على الشرائح الشعبية صار الآن شعار النخبة والطبقات الميسورة التي تبحث عن كبش فداء من خلال الإسلام».
عموما، تمثل العملية الإرهابية في مدينة نيس التي خلفت 84 قتيلا و100 جريح، حصيلة غير نهائية، واحدة من الانعطافات النوعية للأعمال الإجرامية ذات الصبغة السياسية. ورغم طابعها الفردي، فإن نتائجها السياسية، تجعل منها تحديا للنخبة السياسية الفرنسية، والمزاج العام الذي يميل لطروحات اليمين التي تؤمن بحتمية «الحرب مع الإسلام». فاستمرار محاولات استثمار الإرهاب لأغراض سياسية انتخابية سيكسب الفكر «الداعشي» وغيره أنصارا جددا في الجيلين الثالث والرابع من المسلمين الأوروبيين والفرنسيين، ويجعل من العنف السياسي والإرهاب ظاهرة غربية بامتياز.
*أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.