أدب ما بعد البريكست.. أو مكر التاريخ في بريطانيا

أدب ما بعد البريكست..  أو مكر التاريخ في بريطانيا
TT

أدب ما بعد البريكست.. أو مكر التاريخ في بريطانيا

أدب ما بعد البريكست..  أو مكر التاريخ في بريطانيا

إنه ليس أدب ما بعد البريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). لا، ليس بعد. ولكن ما قرأناه من كتابات وشهادات لكتاب هم من أبرز كتاب بريطانيا حاليًا، يوحي بأن عناصر هذا الأدب بدأت تتشكل، وأن الأدب البريطاني قد يقسم قريبًا إلى ما قبل وما بعد، كما الوطن والتاريخ. ثمة شيء تغير.. ربما إلى الأبد. إحساس تقرأه في هذه الكتابات المبكرة بأن هناك وطنًا هوى في رمشة عين، أو ما عاد كما كان، وأن تاريخًا مغايرًا يبدأ الآن بالتشكل من غير أن يكونوا مستعدين له. ثمة شعور بالغربة والوحدة والانعزال، والانكسار أيضًا، يتسرب من ثنايا هذه الكتابات التي لا تزال قليلة، ولكنها تذكرنا ببعض كتابات الأدب ما بعد الكولونيالي، ولكن بشكل معاكس تمامًا. فالقوة القاهرة هنا ليست قوة خارجية، ولكنها داخلية نابعة من الشعب نفسه، وإرادته، وخياره، مهما كان هذا الخيار. كأن المثقف في هذه الحالة يجد نفسه في معادلة تطرح نفسها بمثل هذه الحدة للمرة الأولى في تاريخ بريطانيا: المثقف أمام الشعب، أو، بشكل أدق، الشعب أمام المثقف. وقد عرفنا من إحصائيات الاستفتاء أن أغلب المثقفين، والمتعلمين، وأساتذة الجماعات، وحواضر المدن، بالإضافة إلى الشباب المتعلم، كانوا مع البقاء، بينما قطاعات واسعة من الطبقة العاملة، وسكان الأرياف، وكبار السن كانوا مع الخروج، كأن بريطانيا عادت، كما قال لينين عنها في بداية القرن العشرين، أمتين في أمة واحدة. وهذه المرة ليس طبقيًا، وإنما اجتماعيًا.
في قصيدته التي كتبها بعد أن كسب الشعبويون والغوغائيون والقومجيون و«الوطنيون» الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يرى اندرو موشن، وهو إنجليزي «قح»، كما يقال، وشاعر البلاط البريطاني سابقًا، نفسه كأول الغرباء في هذا الوطن، الذي لم يعد كما كان، في قصيدة له نشرها بعد الاستفتاء في جريدة «الغارديان» البريطانية، وعنوانها «في الهواء». القصيدة نعي مؤلم للوطن الذي ينظر إليه الشاعر فيراه يتساقط تحته، ومع ذلك لا يصل إلى الأرض، بل يظل معلقًا في الهواء. يخادع الشاعر نفسه، بكل الكلمات الممكنة، أن لا شيء يهم، فلم يتغير شيء، وكل شيء سيبقى كما كان، حتى إذا قرر أن يعود لهذا الوطن، الذي صار هلامًا، على الرغم أنه مكانيًا في القلب منه، ولكن لا ينفعه خداعه الذاتي في تمويه الواقع الجديد، فكل شيء قد تغير:
عندما بدأت رحلتي، نظرت من خلف كتفي
على وطني الذي يتساقط تحتي..
أقول لنفسي، بكلمات كثيرة،
كل شيء سيكون هنا، كما كان تقريبًا،
إذا افترضت أني سأختار أن أعود وأجده،
لكني أول من سيصبح غريبًا.
لم يتغير الوطن وحده. التاريخ تغير أيضًا. ما قبل وما بعد. ما كان وما سيكون. التاريخ يمارس لعبته الكبرى: المكر. إنه «مكر التاريخ»، كما كان هيغل يحب أن يسميه، الذي يعيدنا من حيث بدأنا، كأننا لم نسر خطوة واحدة، أو كأننا كنا نحث الخطى في طريق جانبي لا يؤدي إلا إلى طريق جانبي آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. لا طريق مستقيمًا هناك.
ولكن التاريخ يطير للأمام مثل طائر القطرس،
منطلقًا في البداية من جرفه العالي،
ثم يركب الريح
حتى يقرر: يكفي. انتهى الأمر
ويهبط.. حيث يشاء.
ولم يجد روائي آخر هو ويل سيلف خيارًا له سوى أن يلجأ إلى حارته اللندنية، التي اختارت البقاء في الاتحاد الأوروبي، ليحتمي بها ويلجأ إليها «هاربًا من وطنه»، وهو في القلب منه، متأملاً في غرفته معنى الوطن، والهوية، والانتماء، ليطلق صرخته المثيرة للجدل كأغلب كتاباته، التي استعارها من صموئيل جونسون، الذي أطلقها بدوره قبل أكثر من قرنين من الزمن، الصرخة الشهيرة «الوطنية هي الملجأ الأخير للأوغاد».



القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
TT

القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن

الأزمات الخانقة التي أصبحت تثقل كاهل الدول الغربية، وصعود الأنظمة اليمينية المتطرفة، لم تعد سراً على أحد، لكن اللافت للانتباه التداعيات الخطيرة لكل هذه التطورات على القطاع الثقافي، فزيادة على ضعف الاهتمام تخلّ كثير من الحكومات عن اتباع سياسات حماية لثقافتها. إنه وضع القارة العجوز الآن؛ حيث نجحت ديون الحكومات المتراكمة، ومشكلات البطالة، والتضخم، والتوقعات المتشائمة لمعدلات النمو، في تغييب الإشكاليات الثقافية، والدفع بها إلى الصفوف الخلفية. الوضع في تدهور مستمر، حتى أصبحنا لا نستطيع مواكبة الأخبار التي تُفيد بقصّ الدعم، وخفض الميزانيات الثقافية لكثرتها.

في فرنسا، دعم الحكومة للمؤسسات الثقافية الكبرى لا يزال قائماً باعتبارها تُسهم بقوة في إنعاش قطاع السياحة، خصوصاً المتاحف والمكتبات الوطنية والمسارح، لكن الميزانية في تراجع مستمر. فمع مطلع 2025 تفقد وزارة الثقافة أكثر من 200 مليون يورو، معظمها اقتطعت من التمويل الذي كان يخصص للتراث والإبداع، وبعضها يخص أعرق المؤسسات الفرنسية؛ كأوبرا باريس، التي خسرت 6 ملايين يورو، ومسرح كوميدي فرنسييز، الذي انخفض تمويله العام بنحو 5 ملايين، ومتحف اللوفر بـ3 ملايين يورو. إلا أن المشكلة ليست في الوزارة فقط، لأنها ليست الداعم الأهم للقطاع الثقافي في البلاد، فمن بين الـ13 ملياراً التي تُشكلها ميزانية القطاع الثقافي في فرنسا لا تمنح الوزارة سوى 4 مليارات، أما البقية، أي أكثر من 9 مليارات، فهي الحصّة التي تسهم بها السلطات المحلية، أي المحافظات «Collectivités locales»، التي تتمتع بميزانيات خاصة بها. والجديد هو أن بعضاً من مسؤولي هذه الهيئات الرسمية شرعوا في تطبيق سياسة التقشف إلى أقصى الحدود، بدءاً بالمؤسسات والمرافق الثقافية والمبدعين؛ حيث حرمتهم من الدعم المادي، عملاً بالمنطق الذي يقول تغذية البطن قبل تغذية العقل.

متحف برلين

من الشخصيات التي واجهت انتقاد الدوائر الثقافية بهذا الخصوص كريستال مورونسي، رئيسة منطقة بايي دو لا روار (pays de la Loire) الواقعة غرب فرنسا، وهذا بعد أن أقرّت خفض ميزانية الثقافة بنسبة 73 في المائة، أي أكثر من 200 مليون يورو، وهي سابقة خطيرة في فرنسا علّقت عليها وسائل الإعلام الفرنسية بكثرة تحت شعار «الثقافة من الضعيف إلى الأضعف». فإجراء مثل هذا يعني توجيه ضربة قاضية لكثير من المؤسسات والمرافق الصغيرة التي تُعوّل في استمرار نشاطها على الأموال العامة، ومنها المهرجانات المحلية والمسارح، والمتاحف، وفرق الرقص والجمعيات. النقابات الثقافية وصفت هذا الإجراء بـ«العنيف». أما رئيسة المنطقة كريستال مورونسي فقد بررته بالديون المتراكمة التي تملي على ضمير أي مسؤول اعتماد التقشف لإنقاذ الوضع.

الوضع ليس أحسن حالاً في ألمانيا؛ حيث قررت حكومة ولاية برلين خفض التمويل المخصص للفنون والثقافة بنسبة 12 في المائة، وهو ما يعادل 130 مليون يورو. القرار أدّى إلى مخاوف من أن تفقد المدينة مكانتها، كونها واحدة من العواصم الثقافية الرائدة في أوروبا، حتى إن بعض المؤسسات أصبحت تواجه خطر الإغلاق، أهمها متحف برلين للفنون التشكيلية، ودار أوبرا كوميش. أما البقية فهي في حالة يُرثى لها، فمتحف برغام الشهير اضطر للغلق بسبب ترميمات طويلة الأمد (14 سنة)، علماً بأنه لم ينفذ فيه أي إصلاحات منذ 1930. عمدة برلين كاي فيغنر برّر تخفيضات الميزانية بوصفها ضرورية لضمان استمرارية برلين المالية بعد عام صعب اتسّم بانخفاض الإيرادات. ونصح المؤسسات الثقافية بالتفكير في إيجاد وسائل تمويل خاصة، على غرار النموذج الأميركي الذي يعتمد على الرعاية، مضيفاً أن «العقليات يجب أن تتغير؛ لأن خزائن الدولة أصبحت فارغة حتى بالنسبة للثقافة»، علماً بأن هذا التخفيض في ميزانية الثقافة يتعارض بشكل حاد مع نهج برلين السابق، المتمثل في تعزيز الاستثمار في فضاءاتها الثقافية. ففي عام 2021، وافقت ألمانيا على مبلغ قياسي قدره 2.1 مليار يورو تمويلاً فيدرالياً للثقافة، بزيادة قدرها 155 مليون يورو على العام السابق. شخصيات من الوسط الثقافي والفني انتقدت بشدة هذه التخفيضات، منها المخرج الألماني المعروف وين واندرز، الذي صرح لقناة «أورو نيوز» بأن «سحب التمويل العام قرار سيئ، أعتقد أن عليهم الاستثمار في الثقافة بدلاً من القيام بالعكس؛ لأنهم على المدى الطويل رابحون».

القطاع الثقافي في بريطانيا يعيش هو الآخر أزمة حادة؛ حيث نقل كثير من التقارير الإعلامية الانخفاض الشديد الذي سجلته الميزانيات المخصصة للثقافة منذ 2017 ولعدة سنوات على التوالي حتى وصلت نسبة الانخفاض إلى 48 في المائة، حسب موقع «أرت نيوز» البريطاني، الذي نشر مقالاً بعنوان: «لماذا تُموّل الحكومة البريطانية تمثالاً للملكة إليزابيث بـ46 مليون جنيه إسترليني، في حين القطاع الثقافي على ركبتيه». وجاء فيه: «عدد من المؤسسات الفنية والثقافية في جميع أنحاء المملكة المتحدة يُكافح من أجل البقاء، بسبب توقف التمويلات، كشبكة متاحف (التيت) التي تسهم فيها الحكومة بنسبة 35 في المائة، التي أصبحت تعاني من عجز في الميزانية للعام الثاني على التوالي، بسبب انخفاض الدعم، وإن كانت شبكة متاحف (التيت) ما زالت تنشط ولو بصعوبة فإن مؤسسات أخرى لم يحالفها الحظ؛ حيث تم إغلاق أكثر من 500 متحف بريطاني منذ سنة 2000، منها متحف إيستلي (Eastleigh) في هامبشاير، ومتحف كرانوك تشيس (Crannock Chase) في ويست ميدلاندز، بالرغم من الحملات الكثيرة التي نظمت لإنقاذ هذه المؤسسات».