تحديات اليمنيين الصعبة وخياراتهم الممكنة.. رؤية استشرافية

دولة «نصف فيدرالية» بصلاحيات واسعة تضمن مصالح الجميع

تحديات اليمنيين الصعبة وخياراتهم الممكنة.. رؤية استشرافية
TT

تحديات اليمنيين الصعبة وخياراتهم الممكنة.. رؤية استشرافية

تحديات اليمنيين الصعبة وخياراتهم الممكنة.. رؤية استشرافية

* كانت مطالب الحراك الجنوبي عقلانية ومعتدلة ولم تكن راديكالية.. إذ رفعت مطالب مشروعة من أبرزها إعادة تقييم العلاقة وتحديدها بين الشمال والجنوب في كيان بلد موحد إضافة إلى ضرورة المساواة والعدل في استثمار الموارد وتوزيعها.. والمسارعة في الإصلاح والمشاركة الشاملة السياسية والعسكرية والإدارية وإعادة الهيكلة الإدارية والإجراءات والقوانين

* إجبار الرئيس علي صالح على التنازل عن السلطة وتفويض نائبه جنب اليمن مصادمات عسكرية وزعزع بعض أساسيات النظام القديم

* الحراك الجنوبي استفاد من انتفاضة الشمال وكشف عن قدرة قوية في حشد الاحتجاج والتظاهر في الجنوب من أجل تثبيت مشروعية مطالبه

* مبادرة مجلس التعاون الخليجي أسست لخارطة طريق تضمن انتقال اليمن سلميا من أزمته وأخطارها إلى وضع جديد آمن ومستقر

يمكن القول إن اليمن في شماله وجنوبه كان دوما عرضة لعدم الاستقرار، لأكثر من قرنين من الزمن، ولكن بعد سيطرة العثمانيين على الحجاز ونجد (1811 - 1818)، في عهد محمد علي باشا، والي مصر (1805 - 1843)، وقعت بعض أجزاء اليمن تحت النفوذ العثماني في عام 1818. فأعلنت الإمامة الزيدية، في صنعاء، ولاءها للعثمانيين. وعندما أعلن محمد علي استقلاله عن الدولة العثمانية عام 1831، تعرض شمال اليمن إلى السيطرة المباشرة للحكم المصري فيما بين 1833 - 1839. ومع تقدم قوات محمد علي في اليمن في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، سارعت بريطانيا إلى احتواء النفوذ المصري في تلك الفترة، وتحذير محمد علي من تقدم قواته تجاه الجنوب. وفي النهاية، قامت بريطانيا بمحاصرة عدن في عام 1838، ولم تلبث أن احتلتها بالقوة، وذلك بعد مقاومة عنيفة دامية في أوائل عام 1839. ومنذ هذه السنة امتدت السيطرة البريطانية سريعا إلى الأجزاء الباقية في جنوب الجزيرة العربية، وذلك على الكيانات التي عرفت فيما بعد بـ«المحميات التسع»، حسب التسمية البريطانية الاستعمارية. وتنفيذا لقرارات مؤتمر لندن عام 1840، قامت بريطانيا بزعامة تحالف دولي، وأجبرت محمد علي بالانسحاب من جميع المناطق التي سيطر عليها في المشرق العربي، بما في ذلك اليمن، وفي الوقت ذاته أعيد محمد علي إلى حظيرة الدولة العثمانية، واليا على مصر، ولكن بصلاحيات محدودة واسمية.
وعلى أي حال، فيما بين أعوام 1840 - 1871، ظل النفوذ العثماني اسميا أو شبه معدوم في اليمن، الذي بات عرضه للنزاعات المحلية وتنافس أئمة الزيدية على السلطة فيه، بينما كان الاستعمار البريطاني يتمدد بقوة في الجنوب. وبعد افتتاح قناة السويس عام 1869، تمكنت الدولة العثمانية من تجهيز حملة كبيرة، بقيادة أحمد مختار باشا، الذي سيطر على المخلاف السليماني في عام 1871، ثم على اليمن في عام 1872. وفي هذه المرة أصبح اليمن تحت الحكم العثماني المباشر، ويدار من قبل الولاة والقادة العثمانيين أنفسهم، ومع هذا أبقت الدولة العثمانية منصب الإمامة الزيدية في صنعاء، بصورة شكلية من أجل كسب نوع من الولاء والشرعية.
ومهما يكن من أمر، منذ عام 1872 شب نزاع مرير بين الدولة العثمانية وبريطانيا حول مسألة تبعية الكيانات - المحميات - في جنوب الجزيرة العربية، ولم تهدأ الأوضاع إلا في مطلع القرن العشرين عندما أذعنت الدولة العثمانية لبريطانيا ووقعت معها برتوكولات أعوام 1903، 1904، 1905، التي أشارت إلى مدى تبعية مناطق الدولتين بصورة عامة ملتبسة. والأكثر سوءا، تبنت الدولتان الأجنبيتان هذه البروتوكولات وألحقتها في الاتفاقية الإنجليزية - العثمانية في أغسطس (آب) عام 1914، وذلك قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى بعدة شهور.
ومع نهاية الحرب العالمية 1918م وانهيار الدولة العثمانية أصبح اليمن - الشمالي - مستقلا عن أي نفوذ أجنبي، بل إن كلا من الإمام يحيى حميد الدين (1918 - 1948)، والإمام أحمد يحيى حميد الدين (1948 - 1962) لم يتنازلا إطلاقا عن مطالبهما مع بريطانيا عن كيانات الجنوب، كما لم يعترفا في البرتوكولات واتفاقية 1914 بين الدولة العثمانية وبريطانيا، التي تعتبر الدولتين أجنبيتين وليس لهما شرعية، ولا يحق لهما التصرف والتفاوض على الممتلكات والأراضي اليمنية.
وعلى الرغم من الضغوط والإغراءات البريطانية المتزايدة على الإمام يحيى من أجل التخلي عن المطالبة بالجنوب، إلا أنه لم يتراجع. ووصل الطرفان إلى حل مؤقت، حسب الاتفاقية البريطانية اليمنية لعام 1934، التي أكدت في مادتها الثالثة على المحافظة على الوضع الراهن في مناطق الطرفين حتى يصل الجانبان إلى تسوية نهائية في فترة سريان الاتفاقية، وهي 40 سنة بدءا من تاريخ توقيعها.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1945)، وتطور حركة الاستقلال الوطني في الجنوب، سخر الإمامان جهودا سياسية وعسكرية وإعلامية كبيرة لدعم المقاومة الوطنية للاستعمار البريطاني، وأصبحت صنعاء مركزا للقيادة والأحزاب والفئات المنفية المناهضة له. ومع نهاية سلطة الإمامة في ثورة 1962، وعلى الرغم من الحرب الأهلية الداخلية، ظل اليمن يساعد المقاومة السياسية والمسلحة ضد بريطانيا حتى نال اليمن الجنوبي استقلاله بعد انسحاب بريطانيا في أواخر عام 1967.
وهكذا، بدلا من أن يكون عام 1967 فاتحة عهد جديد، ثار نزاع شديد بين الدولتين حول مسائل الحدود والمناطق التي تركها الإرث الاستعماري الطويل، ثم تطور إلى صراع مرير نتيجة التباين الجذري في التوجهات السياسية والآيديولوجية بين جمهورية اليمن العربية من جهة، وجمهورية اليمن الديمقراطية ذات الحكم الاشتراكي الراديكالي من جهة ثانية، خاصة خلال عقدي السبعينات والثمانينات. وقد ظلت الخلافات على أشدها بين قيادات الحزب الاشتراكي الحاكم، ولم تلبث أن قادت إلى صراع دموي شديد على زمام السلطة في يناير (كانون الثاني) عام 1986. أما الشطر الشمالي، فلم يكن أفضل حالا، إذ كان عرضة لسلسلة من الانقلابات والاغتيالات. وفي النهاية، وبعد اغتيال الرئيس أحمد الغشمي في يونيو (حزيران) 1978، رشح مجلس الشعب في يوليو (تموز) 1978، علي عبد الله صالح (1978 - 2011) رئيسا للجمهورية، وظل في السلطة لأكثر من 33 عاما، تمكن خلالها من تحقيق إنجازات رئيسة بارزة، وفي الوقت عينه، شهد عهده الكثير من الفساد والمظالم.
فقد جرت في عهده انتخابات وتعددية وحريات ومجلس نواب ودستور.. إلخ، بدرجة أو بأخرى، وبغض النظر عن مدى حقيقتها أو شكليتها. وكذلك تمكن الرئيس صالح من تحقيق الوحدة بين الشطرين في عام 1990، وحل كثير من قضايا الحدود التاريخية العالقة بين اليمن وجيرانها، إريتريا وعمان والسعودية، وتوسع في علاقات اليمن العربية والإقليمية والدولية. لكنه مع مرور الوقت، انفرد بالسلطة، ونما في عهده الاستبداد، وتعددت المحسوبيات، وتنوعت مراكز القوى، وانتشر الفساد والاستغلال الفاحش في الأوساط السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية كافة. وبدلا من استثمار الكفاءات العلمية والمهنية، أصبحت كثير من الوظائف، خاصة في المناصب القيادية، تخضع إلى الأهواء والولاءات الشخصية والعائلية وأصحاب المصالح من ذوي المال والنفوذ، كما ذهبت معظم الإعانات والمساعدات الخارجية إلى جيوب الفئات المتنفذة المختلفة، وأصبح نشاط القطاع الخاص محتكرا إلى حد كبير من قبل هذه الفئات.
وعموما، سارعت الحكومتان في صنعاء وعدن إلى الاتفاق على صيغة وحدة اندماجية في 22 مايو (أيار) 1990. ويعود هذا التوجه إلى أسباب داخلية وخارجية أملتها طبيعة الظروف الخاصة لكل من الدولتين. لكن سرعان ما برزت مشكلات كبيرة بين القيادتين السياسيتين الشمالية (المؤتمر) والجنوبية (الاشتراكي)، تطورت سريعا 1994، مع اندلاع حرب أهلية قصيرة بين الشطرين انتصر فيها الشمال، إلا أن هذا الانتصار السريع لم يكن الفصل الأخير في الصراع بين الطرفين. ومنذ تلك اللحظة ظهرت رؤيتان أساسيتان ومتعارضتان؛ الأولى أن الحرب عززت الوحدة الوطنية بين الشطرين، وقضت على طموحات الانفصال، والثانية أنها قد قضت بتداعياتها اللاحقة، على مشروعية الوحدة وآفاقها المستقبلية، وقادت إلى احتلال الشمال للجنوب.
وكانت الرؤية الثانية تعبر عن الشعور السائد لدى معظم سكان الجنوب. فقد تضررت الفئات الاجتماعية كثيرا في الشطر الجنوبي بشكل خاص، مع تزايد استفراد سلطة الرئيس علي صالح ونظامه، والتخوف من احتمالات المستقبل. لقد لجأ نظام صنعاء إلى تسريح معظم القوات الجنوبية من الخدمة، وأجرى مناقلات رئيسة في القوات الأخرى، وتغييرات طالت قياداتها العسكرية والأمنية، إضافة إلى عدم صرف المستحقات والتقاعد وإنكارها. وعلى الرغم من أن الشطر الجنوبي كان أفضل تعليما وخبرة ومهنية وأكثر تطورا ومدنية من الشمال، فقد استحوذ الشماليون على المناصب الإدارية والوظيفية في المحافظات الجنوبية، وسيطروا على كثير من النشاطات والموارد الاقتصادية. وكذلك تدهورت البنية التحتية والخدمات العامة، وساءت الأوضاع المعيشية والسكنية والصحية والتعليمية، وهكذا انتشر الفساد والمحسوبية وعدم الأمن والاستقرار، وازداد الفقر والتذمر والنقمة في أجزاء اليمن كافة. وأخذ الكثيرون من سكان الجنوب يتمنون عودة النظام الاشتراكي السابق، الذي انتقدوه في الماضي.
لهذا لم يكن مستغربا أن تثور المطالبات والاحتجاجات منذ زمن في محافظات كثيرة، وأن يتزايد الاحتقان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني، الذي أدى بدوره إلى ظهور التطرف والعنف بصورة غير مسبوقة، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وتداعياتها المتسارعة دوليا وإقليميا، وبعد لجوء كثير من أنصار «القاعدة» في أفغانستان إلى اليمن فيما بعد، وتحالف النظام مع الولايات المتحدة عسكريا وأمنيا في مواجهة الإرهاب، إلا أن تلك العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة ونظام علي صالح أصبحت مثار شبهة وذريعة سياسية أخرى لتعبئة المقاومة ضد النظام نفسه. في هذا السياق، لم يأتِ اندلاع التمرد في محافظة صعدة الشمالية في عام 2004، معقل الحوثيين، مصادفة، حيث تطورت الأحداث إلى مواجهات وقعت خلالها، خمس حروب بين الحوثيين والقوات الحكومية منذ عام 2004. وبدأ يظهر بعض الداعين إلى إحياء الزيدية وإمامتها والعودة إلى المحافظة على المنظومة الزيدية وبعض شعائرها التاريخية القديمة، خاصة تلك المغالية من بعض أئمة الزيدية في قرون ماضية.
ومما زاد من التأثير الحوثي أن محافظة صعدة تعرضت للإهمال والتهميش في نواحٍ كثيرة، كما أن الحروب المتكررة والقصف الجوي والعنف الذي مارسته السلطة أدى إلى تدمير القرى والطرق والبنية التحية وزيادة المظالم.
أما المحافظات الشمالية، فقد تدهورت أوضاعها وكثر فيها النهب والسلب والاختطاف وتهريب الأسلحة، وانخراط القبائل في هذا النزاع وتنافس الميليشيات على الموارد والمساعدات من الحكومة.. إلخ. وكذلك أحاط بالمشكلة اليمنية البعد الدولي والإقليمي، مع تنامي النفوذ الإيراني وتدخل طهران الواضح في الشؤون اليمنية.
ومنذ عام 2007، أصبحت حركة الاحتجاج أوسع انتشارا وشعبية في الجنوب، وعرفت منذ ذلك الحين، بالحراك الجنوبي، وهو تحالف حركات سياسية واجتماعية قديمة وجديدة. وللحق، ففي البداية كانت مطالب الحراك الجنوبي عقلانية ومعتدلة، ولم تكن راديكالية، إذ رفعت مطالب مشروعة، من أبرزها إعادة تقييم العلاقة وتحديدها بين الشمال والجنوب في كيان بلد موحد، إضافة إلى ضرورة المساواة والعدل في استثمار الموارد وتوزيعها، والمسارعة في الإصلاح والمشاركة الشاملة السياسية والعسكرية والإدارية، وإعادة الهيكلة الإدارية والإجراءات والقوانين.
وعلى الرغم من وعود حكومة صنعاء الكثيرة، فإنها لم تتخذ أي مبادرات إصلاحية أو حتى جزئية. وتدريجيا انجرت حكومة صنعاء إلى القسوة والقمع الشديدين ضد خصومها تحت مبررات مختلفة. ومع تزايد القمع والإنكار ازدادت شعبية الحراك الجنوبي، وبدأت الأصوات تتعالى كثيرا وتطالب بالانفصال.
ومن دون شك، فقد أفادت انتفاضة الشمال الحراك الجنوبي، الذي كشف عن قدرته القوية في حشد الاحتجاج والتظاهر في الجنوب من أجل تثبيت مشروعية مطالبه، حيث استفادوا من مواقف كثير من النشطاء الشباب، وأطراف قوية في أحزاب اللقاء المشترك من الشمال والجنوب الذين يأملون في تجاوز الانقسام الوطني. وإذا كانت الانتفاضة في الشمال فرصة استراتيجية للحراك الجنوبي لا يمكن التفريط بها، ففي المقابل، ساعد الوضع الجديد على انفتاح بعض الأطراف الشمالية والجنوبية، ومهّد لنوع من الثقة وكسر الحواجز وتبادل وجهات النظر ومناقشة الخيارات الممكنة كافة حول مستقبل اليمن عموما، والجنوب خصوصا.
وفي النهاية، ومع استمرار الانتفاضة وصمودها، وبدعم من مجلس الأمن والولايات المتحدة والدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، قام مجلس التعاون لدول الخليج العربي في فبراير (شباط) 2012، بمبادرة سياسية شاملة ومتماسكة من أجل إنقاذ اليمن من خطر الصراع وتقرير مستقبله، لكي تصبح خارطة طريق تضمن انتقال اليمن من أزمته وأخطارها إلى وضع جديد آمن ومستقر بصورة سلمية. وقد شملت الاتفاقية تفاصيل كثيرة ومحددة، من أبرزها تنحي الرئيس علي عبد الله صالح من السلطة، ومنحة الحصانة من الملاحقة القضائية في الداخل، كما وضعت وثيقة تنفيذية حول مرحلة انتقالية محددة في خطواتها ومراحلها ضمن أطر زمانية (Benchmarks). وهكذا، وبموجب آلية التنفيذ برعاية الأمم المتحدة لخارطة الطريق، صار على الحكومة أن تُخضع قوات الأمن كافة للقيادة المدنية، وأن تنجز مشروعا للدستور وتصلح النظامين الانتخابي والقضائي، وأن تضع قانونا للعدالة الانتقالية، وإجراء انتخابات عامة في عام 2014. وكذلك قضت الاتفاقية بتفويض علي صالح كامل السلطة إلى نائبه، عبد ربه منصور هادي، وتشكيل حكومة إجماع وطنية، تضم حزب المؤتمر الشعبي الحاكم وأحزاب اللقاء المشترك، وإطلاق حوار وطني يضم جميع الأطراف لمعالجة مظالم كل المجموعات، وإضافة إلى تشكيل لجنة عسكرية وأمنية تعمل على معالجة الانقسام والتوتر داخل القوات العسكرية والأمنية.
وافق علي صالح بعد شهور من المماطلة على الاتفاقية، ووقعها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، مع تفويض السلطة لنائبة عبد ربه هادي، ثم أُجريت انتخابات رئاسية حيث انتخب عبد ربه هادي رئيسا - بلا منافس - لليمن في 21/ 2/ 2012. وقد حدد الرئيس هادي لحكومته مدة سنتين، على أن تعمل على تنفيذ أمور رئيسة، من أبرزها إطلاق مؤتمر حوار وطني، وإعادة الهيكلة العسكرية والأمنية، وتحقيق العدالة الانتقالية، ومعالجة القضايا السياسية والاقتصادية، ووضع دستور جديد يحظى بإجماع وطني قبل انتخابات فبراير (شباط) 2014. وعلى أي حال، فمن المؤكد أن إجبار الرئيس علي صالح على التنازل عن السلطة وتفويض نائبه جنّب اليمن مصادمات عسكرية، أو حتى حربا أهلية على أسوأ تقدير، كما زعزع بعض أساسيات النظام القديم. ومن دون شك، فإن المرحلة الانتقالية، على الرغم من تعثرها وانتخاب رئيس جديد، قد فتحت الإمكانية لفرصة نادرة وثمينة لن تتكرر، وبالتالي يمكن أن تتيح صياغة قواعد وعلاقات جديدة تحفظ مصالح جميع الأطراف، في إطار يمن موحد.
وفي الحقيقة، فإن البرنامج الذي أعلنه الرئيس عبد ربه هادي وحكومته، كان طموحا ومثيرا للإعجاب، ولكن تنفيذه يتطلب توفر مناخ ملائم وشروط صعبة وكثيرة. وعموما، وأيا كانت الآمال المعقودة، فقد بدأ مؤتمر الحوار الوطني في 18 مارس (آذار) 2013، تحت مظلة عامة تضم فئات متعددة ومختلفة من الشمال والجنوب. غير أن ثمة مشكلات عدة قد تعترض المرحلة الانتقالية، هي:
أولا: الوضع الاقتصادي الفاسد والمتهالك لعقود طويلة، خاصة في السنوات الأخيرة بعد اندلاع الانتفاضة والاحتجاجات.
ثانيا: تؤكد التجارب أن الشعوب بعد كل ثورة أو تغيير تساورهم آمال واسعة بحل مشكلاتهم بصورة مباشرة، وإذا لم يحدث هذا يُصاب الناس بالإحباط بسرعة، ثم يتراجع حماسهم بقوة، ولا تلبث أن تنكفئ كل فئة أو طرف إلى وضعها السابق، وهنا فإن اليمن في هذه الحالة ليس استثناء. وفي اعتقاد الكاتب، فإنه إذا نجحت الدول المانحة في اتخاذ إجراءات كبيرة وعاجلة في الاستجابة لمعالجة أهم مشكلات الظروف المعيشية والإنسانية خلال الفترة الراهنة من المرحلة الانتقالية، فإن غالبية الشعب سوف يكون مستعدا للصبر والانتظار لإنجاز التسوية السياسية.
ثالثا: على الرغم من سعي الرئيس هادي في المناقلة والتغيير في القيادات العسكرية والأمنية، مثل أبناء علي صالح وعائلته وذويه، وكذلك الفريق علي محسن الأحمر من عائلة الأحمر القوية، فإن مراكز الجانبين قوية وباقية في الأجهزة العسكرية والأمنية، كما يسيطر الفريقان منذ زمن على كثير من الموارد والثروات والأنشطة الاقتصادية. ولهذا فإن كل فريق قد يسعى لحفظ مصالحه السابقة، وربما يستطيع أي طرف أن يستغل موارده لتقويض مصالح الآخر مما يؤدي إلى المقاومة والممانعة في إعادة الهيكلة في الأجهزة العسكرية، من حيث دمج الفرق والمناقلات والصرف عن الخدمة وحل بعض الفرق الخاصة.
رابعا: ما زالت تحديات الحراك الجنوبي والحوثيين قائمة، وبالطبع لكل طرف أسبابه من نواحٍ عديدة، فالنزعة الانفصالية تتزايد في الجنوب، كما وسع الحوثيين سلطتهم ومناطقهم في الشمال، وما زال الجانبان ينظران بكثير من الشك إلى نجاح المرحلة الانتقالية، ولهذا لا بد أن تُبنى جسور التواصل والثقة، مهما كانت سعة الخلاف.
خامسا: ومع سوء الأوضاع والفراغ الأمني المتزايد لأكثر من عقد من الزمن، أصبحت كثير من المناطق، خاصة البعيدة، مسرحا لـ«القاعدة» وأنصارها، علاوة على انتشار أنصار الشريعة، وهم مزيج من «القاعدة» وسلفيين ومتطرفين. ومع سوء الأمن في المدن الرئيسة، مثل صنعاء وتعز والحديدة، فإن المناطق الأخرى، مثل أبين ومآرب والجوف وحضرموت، باتت أكثر سوءا وإهمالا.
سادسا: ومما يزيد الطين بله، تصاعد النقمة ضد العمليات الأميركية واستخدام الطائرات من دون طيار (Drones) في قصف أي هدف مشتبه فيه، مما ينتج عنه كثير من الدمار العشوائي الوحشي الذي يذهب ضحيته المئات من الأبرياء. وساهم ذلك، إلى حد كبير، في تقوية مواقع «القاعدة» وادعاءات المتطرفين، وظهور جماعات مسلحة معارضة للنظام في صنعاء، ترفض التدخل الأميركي، كما أصبحت هذه الجماعات ترتبط بصورة أو بأخرى مع «القاعدة» والفئات الجهادية، نتيجة لتقاطع بعض المصالح والأهداف، على الرغم من أنها أصلا مدفوعة بعوامل سياسية واجتماعية أكثر من عقائدية دينية.
سابعا: مما يظهر - حتى الآن - في مؤتمر الحوار الوطني، أن الممارسات والمناقشات الحزبية التقليدية ما زالت تسيطر على هذه الفئات، ويشعر كثير من الإصلاحيين والنشطاء أن المصالح السياسية الخاصة لحزب المؤتمر الشعبي وأحزاب اللقاء المشترك، أصبحت تطغى على المصلحة العليا العامة، وأن الطرفين يسعيان للمحافظة على دولة شديدة المركزية، مع إضافة واجهات تجميلية من أجل تسويق مشاريعهم. بينما ينظر بعض الجنوبيين أن مثل هذه الممارسات تحابي الأطراف التقليدية الشمالية، مما يسهم في تزايد الشكوك حول المرحلة الانتقالية، وحالة الانقسام بين الشمال والجنوب. وبعبارة أخرى فإن التسوية ظلت تجري بصورة رئيسة من قبل نخب قديمة ذات تأثير ونفوذ، حيث شارك جزء كبير منها بالسلطة، وكانوا أصلا مسؤولين عن مشكلات البلاد في السابق.
ثامنا: التنفيذ وكيف؟ ما زال التنفيذ يفتقر إلى آلية المساءلة والمحاسبة الجدية التي يمكن أن تتابع سجل الالتزامات والخطوات وتنفيذها، وكذلك الانتهاكات لأي اتفاق من أي طرف. وهذه مسؤولية يمنية من جهة، وكذلك دول مجلس التعاون والأمم المتحدة والأطراف العربية والدولية من جهة ثانية.
ما العمل؟ على الرغم من التحديات والضغوط المتزايدة فإن المرحلة الانتقالية سوف تبقى الفرصة الوحيدة التي لن تتكرر من أجل العمل بإصلاحات جذرية في الهيكل العسكري والأمني والسياسي والإداري للدولة اليمنية، ولهذا فإن العمل يتطلب جانبين رئيسين متكاملين ومتلازمين لنجاح المرحلة الانتقالية.
الجانب الأول: الهيكلة العسكرية والأمنية:
1 - من المعروف أن الجيش اليمني والأجهزة العسكرية ليسا احترافيين في ظل عقيدة عسكرية وطنية، وكذلك الحال في الأجهزة الأمنية التي أصبحت كلها أشبه بإقطاعيات شخصية، ولهذا فإنها تتطلب إعادة هيكلة، وتلك عملية حساسة وبالغة الصعوبة، لأنها تهدد بشكل مباشر مصالح ومحسوبيات متراكمة، وولاءات ومراكز قوى متجذرة. وهذه العملية تتطلب وسائل عديدة، من أبرزها إحداث تنقلات واسعة، ليس فقط بالقادة السابقين بل الأوساط الوسطى، وكذلك دمج بعض الفرق المنقسمة، بل وحل بعضها. وفي هذه الحالة، فإن المسألة ليست تدوير مناصب، بل ينبغي أن تكون متوازنة وشاملة دون تحيز لهذا الطرف أو ذاك، ولا تكون متسرعة حتى لا تسبب ردود أفعال عنيفة، لأن مراكز القوى القديمة قادرة على أن تقاوم وتخرب جهود الإصلاح.
2 - تعزيز الاحترافية في القطاعين العسكري والأمني وفرض الانضباط، وتأكيد الهوية المؤسسية الموحدة، واحترام التراتيبية من أسفل إلى أعلى، حتى وزير الدفاع والداخلية، إلى رئيس الجمهورية، وكذلك إدماج رجال القبائل وبعض الميليشيات في الأجهزة الأمنية دون تشجيع للعصبية القبلية، والعمل بطريقة أو بأخرى لإخراج التجمعات القبلية المسلحة من المدن. ومن الضرورة تطبيق الإجراءات والقوانين تدريجيا، من دون تحيز في التوظيف والصرف والخدمة والتنقلات والرواتب والتقاعد... إلخ.
الجانب الثاني: الهيكلة السياسية والإدارية والقانونية:
1 - في البداية لا بد من الاعتراف بكثير من ديناميات تكوين المجتمع اليمني - في شماله وجنوبه - سواء القديمة أو تلك المستجدة، وذلك من حيث فهم التركيب الاجتماعي والانتماء القبلي، وخلفية التعدد المذهبي والتسامح الديني الذي كان سائدا طيلة عهود، إضافة إلى الأعراف والعادات الإيجابية السائدة التي قد تساعد على حل النزاعات واستيعاب الخصوم... إلخ. وفي ضوء هذا، يمكن النقاش والإقرار بالمظالم المشروعة في حالة الجنوب أو الحوثيين أو غيرهم، والعمل على إصلاح العلاقات الودية دون كيل الاتهامات، والاعتراف بأن الجميع كانوا مسؤولين على حد سواء في الماضي.
2 - إعادة هيكلة المؤسسات الإدارية وضمان الرقابة المدنية، بحيث تكون الإجراءات والقرارات بأيدي المؤسسات المدنية في ظل القانون، وليس بأيدي المحسوبية والفئوية. ويجب تبادل كل وجهات النظر عن معايير وقواعد الدولة الجديدة الوليدة، حتى وإن كانت متباينة ومتعارضة، والتأكيد أن يخرج كل طرف كاسبا لرؤيته، وليس خاسرا أو مستضعفا، حتى يتسنى لكل طرف تسويق التسوية وإقناع أنصاره بالمصالح المكتسبة.
3 - ومن المهم جدا التأكيد على أولوية رئيسة، ذلك أنه من أصعب العقبات غياب عقد سياسي شامل، حتى الآن، ولكن إذا تم تجاوز معظم التحديات المذكورة خلال العملية الانتقالية، فإنه يصبح من الممكن صياغة دستور وطني جديد واضح القواعد والمعالم، ينظم كل العلاقات والحقوق والواجبات السياسية والاقتصادية والإدارية لكل أجزاء اليمن ضمن إجماع سياسي شامل وموحد.
لا شك أن كل هذا يتطلب جهدا كبيرا وتنازلات ومفاوضات مرهقة وحكمة وحسن إدارة لأزمة اليمن، وتلك مسؤولية تقع أولا على اليمنيين أنفسهم، وتقع، ثانيا، على الدول الداعمة لوحدة اليمن واستقراره، وعلى رأسها السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
خيارات وسيناريوهات:
بشكل عام، يظهر للمراقب إمكانية حصول أربعة احتمالات في التوجهات الرئيسة في المرحلة الانتقالية، وهي:
الأول: المحافظة على الوحدة القائمة بين الشطرين واستمرار المركزية والتقسيمات الإدارية السابقة، مع تحسين أداء الأجهزة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإدارية.
والثاني: المحافظة على الوحدة والمركزية والتقسيمات السابقة مع إعطاء صلاحيات كبيرة للمحافظات.
والثالث: دولة فيدرالية من إقليمين؛ الشمال والجنوب.
والرابع: انفصال الجنوب واستقلاله عن الشمال.
على الرغم مما ذُكر في السابق، أو غيره من فساد ومشكلات وتحديات في الماضي والحاضر، يمكن المراهنة على حل لأزمة اليمن، بما يكفل أمنه واستقراره ووحدته ويضمن مصالح الجميع. وتقوم هذه النظرة على معطيات تاريخية سياسية وثقافية واجتماعية عدة، ولعل أبرز ما يمكن التذكير به ما يلي:
1 - كما ذُكر سابقا، طيلة العهود التاريخية لقد عرف اليمن شماله وجنوبه بالتسامح الديني والتعدد المذهبي، بل إن بعض فروع القبيلة الواحدة قد تختلف مذهبية أفرادها، ولكن تظل الانتماءات العصبية القبلية الرابط الرئيس للفروع كافة.
2 - أيضا عُرف اليمن شماله وجنوبه بمعاداته للأجنبي ومقاومته الشديدة، التي لا تكل ولا تلين، ولعل أبرز الشواهد التاريخية يتمثل في مقاومة اليمن الشمالي للنفوذ العثماني على مدى أربعة قرون، وكذلك النضال السياسي والمسلح في الجنوب ضد الاستعمار البريطاني.
3 - وأيا كانت الانتقادات للنظام اليمني السابق، سواء في فترة الانتفاضة أو قبلها، فقد أثبت أنه كان أقل قمعية ووحشية، بدرجة كبيرة، من غيره من الأنظمة العربية التي هبت عليها رياح التغيير، مثل دول الربيع العربي، وبرهن على أن لديه قابلية للتكيف داخليا، وتلك المرونة، من دون شك لم تأتِ من فراغ، مهما كانت الضغوط الخارجية، بل مستمدة من تراث تاريخي.
4 - وإذا كان المجتمع اليمني يوصف تكوينه بالقبلي من الناحية التاريخية، فقد ظهرت أجيال يمنية شابة جديدة خلال العقود الأخيرة، لها إدراك واعٍ لأهمية الروابط السياسية والفكرية في علاقاتها أكثر من الرابط القبلي أو المذهبي. ولعل أبرز شاهد في هذا الصدد تلك المشاركة من الكمّ الهائل من الشباب - رجالا ونساء - والنشطاء في حشود الانتفاضة اليمنية، وكل هؤلاء من أحفاد قبائل مختلفة.
الحل؟ يمكن تصور الخيار التالي: ربما يكمن أفضل حل أو خيار في قيام دولة نصف فيدرالية - أو شبه فيدرالية - تبدد المخاوف والشكوك وتضم عدة أقاليم - وليس محافظات - مع تفويض صلاحيات أمنية ومدنية وإدارية واقتصادية واسعة، وذلك في ظل عقد سياسي (دستور) جديد وشامل ينظم جميع الحقوق والواجبات والعلاقات. ومن دون شك فإن هذا الطرح يحتاج إلى نقاش وتفاصيل ومفاوضات وتنازلات من الفئات اليمنية من جهة، ويتطلّب من الدول الإقليمية والعربية والدولية الداعمة لوحدة اليمن، وكذلك من المجتمع الدولي والدول المانحة، أن تبذل جهودها لإنجاح التسوية السياسية في المرحلة الانتقالية.
* قسم التاريخ، جامعة الملك سعود



«غرباء» بين «مهاجرين»... المواجهة الصامتة بين «كتيبة الفرنسيين» ودمشق

صورة متداولة لمخيم فرقة الغرباء بحارم ريف إدلب
صورة متداولة لمخيم فرقة الغرباء بحارم ريف إدلب
TT

«غرباء» بين «مهاجرين»... المواجهة الصامتة بين «كتيبة الفرنسيين» ودمشق

صورة متداولة لمخيم فرقة الغرباء بحارم ريف إدلب
صورة متداولة لمخيم فرقة الغرباء بحارم ريف إدلب

تُعيد المواجهات الأخيرة التي اندلعت في ريف إدلب بين فصيل فرنسي مسلح هو «الغرباء» والقوات الحكومية السورية، تسليط الضوء على واحد من أكثر الملفات تعقيداً وإثارة للجدل في المشهد السوري الجديد.

ففي منطقة حارم شمال إدلب، لم تكن الاشتباكات حادثاً أمنياً معزولاً عن سياقات المشهد، بل بدا وكأنه اختبار لسياسات دمشق تجاه آلاف المقاتلين الأجانب الذين بقوا على الأراضي السورية بعد سنوات الحرب.

وتبدو الصورة الأكثر وضوحاً أن الأحداث الأخيرة شكّلت بداية التعاطي الجدّي مع ملف «المقاتلين الأجانب» وعودته إلى الواجهة من جديد بعدما قطعت الدولة السورية الناشئة شوطاً في بناء الثقة مع المجتمع الدولي فيما يتعلق بمنع الأجانب من تسلُّم مناصب قيادية في الجيش السوري الجديد.

بدأت القصة في الثاني والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) بعدما «توجهت قوات الأمن الداخلي إلى أحد المخيمات في بلدة حارم شمال إدلب، حيث يقيم مقاتلون فرنسيون بقيادة عمر ديابي، المعروف باسم (عمر أومسن)» لتنفيذ عملية أمنية، استجابة لـ«شكاوى عن انتهاكات خطرة بينها اختطاف فتاة على يد مجموعة يقودها عمر ديابي الذي رفض تسليم نفسه»، بهدف تطبيق القانون وفرض سلطة الدولة على المخيم، بحسب الرواية الرسمية.

صورة أرشيفية للجهادي الفرنسي عمر ديابي المعروف باسم عمر أومسين (موقع فرنس بلو)

لكن قائد «فرقة الغرباء» الفرنسي من أصول أفريقية، عمر ديابي، نفى الاتهامات الموجهة إليه، متهماً المخابرات الفرنسية بالوقوف وراء ما وصفه بـ«استهداف سياسي». وتنظر باريس إلى «ديابي» بأنه أحد أبرز المسؤولين عن تجنيد «الجهاديين الناطقين بالفرنسية»، فيما «صنّفته واشنطن منذ عام 2016 بأنه (إرهابي عالمي)».

وانتهت المعركة بعقد لقاء للمصالحة بوساطة من قادة الفصائل من الأوزبك والطاجيك والتركستان في مخيم حارم، وأعلنت «فرقة الغرباء» على صفحتها على موقع تلغرام إنها توصلت لاتفاق لوقف إطلاق النار ووجهت الشكر لـ «إخواننا المهاجرين والأنصار الذين أحسنوا الظنّ بنا».

غرباء بين مهاجرين

تضم «فرقة الغرباء» نحو 70 مقاتلاً فرنسياً يعيشون مع عائلاتهم داخل مخيم محصّن على الحدود التركية مباشرة، ما زاد في صعوبة تنفيذ عملية اقتحام المخيم من قبل القوات الأمنية بعد مواجهات مسلحة انتهت بتوقيع اتفاق من ست نقاط بجهود مشتركة من عدد من قيادات المقاتلين الأجانب. نص الاتفاق على «وقف إطلاق النار، وفتح المخيم أمام الحكومة، وإحالة قضية عمر ديابي إلى (القضاء الشرعي) في وزارة العدل، وسحب السلاح الثقيل، وضمان عدم ملاحقة المشاركين في الاشتباكات».

صورة حديثة متداولة لعمر ديابي

ويُقدر عدد المقاتلين الأجانب بأكثر من خمسة آلاف مقاتل التحقت النسبة الكبرى منهم في وزارة الدفاع ضمن الفرقة 84. وتواجه الحكومة السورية ضغوطاً من عواصم غربية لإبعادهم عن المناصب العليا، فيما تبنت الحكومة خطاباً لطمأنة دول العالم بأن هؤلاء لن يشكلوا أي خطر على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم. وبحسب الرئيس السوري أحمد الشرع، فإن المقاتلين الذين قاتلوا في صفوف المعارضة هم جزء من المجتمع الجديد، وأن سوريا ستتعامل معهم بروح المصالحة لا الإقصاء. وقد حصل عدد منهم بالفعل، على رتب عسكرية ووظائف رسمية في الجيش، باعتبار ذلك ترجمة عملية لسياسة «الاحتواء». واللافت في هذا السياق، أن التصريحات الرسمية من داخل المؤسسة العسكرية جاءت لتؤكد أن حادثة «حارم» لا تمثل تغييراً في هذه السياسة.

انضباط لا استهداف

يقول مسؤول في الجيش السوري، فضّل عدم ذكر اسمه، لـ«الشرق الأوسط» إن «ما جرى في مدينة حارم لا يستهدف المقاتلين الأجانب الذين وقفوا معنا طوال سنوات الحرب، وساندوا الثورة السورية، وكان لهم دور فاعل في عمليات التحرير»، مشدداً على أن العلاقة بهم مبنية على الالتزام المتبادل. وأضاف: «هؤلاء المقاتلون التزموا بقرارات الدولة، وانضمّ كثير منهم رسمياً إلى وزارة الدفاع». وينفي المسؤول العسكري أن يكون ما جرى «حملة ضدهم كما يروّج البعض، بل تطبيق للقانون فحسب». موضحاً أن الجيش السوري الجديد يعمل «وفق منظومة واضحة من الانضباط والتعليمات العسكرية، لا يُستثنى منها أحد، سواء كان سورياً أم مهاجراً». وأضاف أن «أي مخالفة للقوانين أو تجاوز للأوامر ستُقابل بإجراءات رادعة، لأن الجميع داخل المؤسسة العسكرية يخضع لنظام موحد يحكمه القانون والانضباط».

خلاف التسميات

بعيداً من الرواية الرسمية، يرى مراقبون وقادة عسكريون سابقون أن الأزمة أعمق من مجرد مخالفة قانونية، وأنها تكمن في صميم عملية بناء الدولة الجديدة وهويتها. «أبو يحيى الشامي»، وهو «قائد عسكري سابق في أحد الفصائل الإسلامية»، تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن نقطة يراها جوهرية، وهي «التوصيف». فـ«الشامي» يرى «أن وصف المقاتلين بـ(الأجانب) ليس دقيقاً ولا منصفاً». بالنسبة له، هذا المصطلح يحمل دلالات سلبية، ويعتبر «أن الأفضل تسميتهم بالمهاجرين، لأن كلمة (أجانب) تنزع عنهم الشرعية التي اكتسبوها بتضحياتهم في صفوف الثورة السورية». ويعتقد «الشامي» أن هذا الاندماج قد حدث بالفعل على المستويين الاجتماعي والسياسي. وأشار «الشامي» إلى «أنه لا توجد اليوم فصائل من المهاجرين ذات توجه مستقل عن توجه السوريين، فبعد أكثر من عقد من الحرب أصبحوا جزءاً من المجتمع المحلي، وما يرضي السوريين يرضيهم، وما يرفضه السوريون يرفضونه».

(أرشيفية - سانا - أ.ف.ب)

من هذا المنطلق، يرى «الشامي» أن طريقة التعامل مع حادثة «حارم» كانت خاطئة منذ البداية. «التصعيد الإعلامي والأمني الذي رافق حادثة حارم كان خطأ، لكن الحكومة تداركته بالصلح بعد أن كادت الأمور تتجه نحو مواجهة خطيرة».

وشدد على أن «المطلوب هو التعامل مع مثل هذه القضايا بحكمة ورويّة، فالمهاجرون لديهم تخوفات مشروعة يجب نتفهمها»؛ في إشارة إلى الخوف من الملاحقة أو الترحيل إلى بلدانهم الأصلية أو التهميش بعد انتهاء الحرب.

وعليه، يرفض «الشامي» توصيف ما حدث بـ«التمرد»، معتبراً أنه «لا يمكن الحديث عن تمرّد من جانب المقاتلين الفرنسيين، فهم جزء من الجيش السوري». وقال: «ما تحققه الدولة بالحوار والوساطة أوفر تكلفة وأكثر احتراماً لهيبتها من تحقيقه عبر الاشتباك». ويختتم «الشامي» رؤيته بشرط لنجاح هذا الاندماج: «اندماج المهاجرين في المجتمع السوري لن يستغرق وقتاً إذا حصلوا على تطمينات كافية بأنهم لن يُرحّلوا إلى بلدان قد تضطهدهم، وأن حقوقهم محفوظة بصفتهم مواطنين ساهموا في الدفاع عن سوريا الجديدة».

تحديات هيكلية

من زاوية تحليلية، يرى الباحث وائل علوان أن ما حدث يكشف عن تحديات هيكلية عميقة تواجه الدولة السورية. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «ما حدث يؤكد أن دمج المهاجرين في مؤسسات الدولة لم يكتمل بعد»، مؤكداً على أن «المرحلة القادمة ستكون اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة على تحقيق هذا الاندماج فعلاً، لا قولاً».

ويوضح علوان أن «جزءاً من المقاتلين الأجانب قد لا يتمكن من الاندماج في مؤسسات الدولة، ما يضعها أمام خيارين: إما إخراجهم من سوريا بطريقة منظمة، أو ضمان عدم تحولهم إلى عناصر مهدّدة للاستقرار». واعتبر علوان أنه سيترتب على السلطات «أن توازن في كل مرة بين أولوية الأمن والاستقرار من جهة، وأولوية إنجاح مشروع الدمج وتفكيك التشكيلات المسلحة من جهة أخرى».

لكن الهدف النهائي، بحسب علوان، واضح ولا رجعة فيه. «الحكومة ستواصل التعامل مع هذه الملفات بحكمة، فهي لا تملك خياراً سوى تفكيك الفصائل المسلحة - سواء كانت من السوريين أو المهاجرين -»، وهذا الهدف ليس فقط استجابة للرغبات الدولية، «بل لأنه شرط أساسي لفرض سلطة الدولة وهيبتها».

وتابع علوان موضحاً: «طريقة الصلح التي اعتمدتها الحكومة في حارم، رغم الانتقادات التي وُجّهت لها بأنها تُذكّر بأساليب الفصائل السابقة، كانت مقصودة لاحتواء الأزمة سريعاً وتفكيكها بأقل تكلفة ممكنة».

وختم علوان بالقول إن «هناك بالفعل فئات داخل بعض الأوساط المقاتلة، سواء من السوريين أو المهاجرين، غير راضية عن سياسات الحكومة الداخلية والخارجية، ولهذا فإن الدولة بحاجة اليوم إلى خطاب ديني جديد يخاطب هذه الفئات ويقنعها بخيارات المرحلة القادمة، وهو ما بدأت به مؤخراً فعلاً».

عناصر من الجيش السوري (أ.ف.ب)

تباين في الرؤى

لفهم الاختلاف الآيديولوجي داخل مجموعات «المهاجرين» أنفسهم، التقت «الشرق الأوسط» بقياديين منهم، وكلاهما منضوٍ ضمن وزارة الدفاع السورية، تعكس آراؤهما تبايناً واضحاً في الرؤية.

«أبو مهاجر» قيادي عسكري من جنسية «عربية»، أوضح أنه «ينتمي رسمياً لوزارة الدفاع السورية ويقاتل تحت رايتها». ويمثل «أبو مهاجر» نموذج الاندماج الكامل والولاء الواضح للدولة الجديدة، إذ قال: «نحن مع الدولة السورية ولن نخرج عن سياستها، نسالم من تسالم ونحارب من تحارب».

وبالنسبة له، فإن الهدف الذي جاء من أجله قد تحقق بانتصار الثورة وقيام الدولة. لافتاً إلى أنه «عندما قدمنا إلى سوريا كان هدفنا الدفاع عن أهل البلد لا أن نقرّر عنهم ولا أن نقودهم. جئنا فقط لنصرتهم». وتابع: «وعندما انتصرنا نحن وهم كنا تبعاً للدولة التي تمثل ثمرة الثورة والهدف الذي قدمنا من أجله، وهو إسقاط النظام ونصرة السوريين وأن تكون لهم شوكة بعد أن كانوا مستضعفين». ويرى أن هذا الهدف قد تحقق: «اليوم هم أصحاب الشوكة، وهذا بحد ذاته هدف شرعي». ويختم بتأكيد التزامه: «نحن اليوم جزء من الجيش السوري ونلتزم بكل قرارات وزارة الدفاع، ولن يكون غير ذلك، ومعظم المهاجرين على هذه القناعة».

وعلى النقيض من «أبو مهاجر»، أبدى القيادي «أبو مثنّى»، الذي ينتمي أيضاً لوزارة الدفاع، تحفظاً تجاه سياسات الدولة في تعبير عن طيف من «المهاجرين» الذين يشعرون بـ«خيبة أمل آيديولوجية»، بحسب وصف وائل علوان.

عناصر من فصائل الجيش الوطني السوري في شمال سوريا (أ.ف.ب)

ويقول «أبو مثنى» في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «الهدف الذي خرجنا من أجله وقُتل كثير من إخوتنا في سبيله لم يكن أن تُبنى الدولة بهذا الشكل، فالدولة الحالية تركت شبيحة النظام، وولّتهم مناصب على حساب المظلومين، كما أنها لم تُزل المنكرات، بل زاد أهل المنكر ورفعوا أصواتهم بها علناً، بعدما أظهرت الدولة لهم اللين والمداراة مراعاة للخارج».

ويرى «أبو مثنّى» أن ما يحدث من تحولات هو نقيض للهدف الذي ضحوا من أجله، ولكن ومع ذلك «لن نشق عصا الطاعة؛ لأننا ندرك أن خصوم الدولة يستغلون أي خلاف لضربها ورميها عن قوس واحد». وأضاف: «واجبنا في هذه المرحلة هو النصح، والتحذير، وإقامة الحجة، وأن نصدح بالحق من داخل المنظومة، لا أن نحمل السلاح ضدها أو نزيد الانقسام».

ما بالعقل وما بالقلب

هذا التباين في وجهتي النظر بين «أبو مهاجر» و«أبو مثنّى» يفسّره عبد الله خالد، وهو أحد الشرعيين في «هيئة تحرير الشام» سابقاً ومستشار التوجيه الشرعي والمعنوي في الجيش السوري (الجديد) حالياً، في حديثه لـ«الشرق الأوسط». وبدأ خالد من توصيف طبيعة «المهاجرين» بالقول إنهم «يمتازون بتمكّن عقيدتهم من قلوبهم». ويشير إلى أن «هذا الارتباط العميق هو ما جعلهم يتركون رغد العيش في أوروبا ويسافرون إلى سوريا، التي كانت تُعدّ أخطر مناطق العالم خلال أعوام الثورة، بغضّ النظر عن مدى صحة تلك العقيدة أو خطئها».

صورة متداولة للقاء المصالحة في مخيم حارم بين قادة من الأوزبك وبدا عمر أومسون متوسطاً الجلسة

وأضاف موضحاً أن «الخطاب الديني الذي ساد في أوساط الفصائل خلال سنوات الثورة كان بطبيعته حماسياً ومشحوناً بالتعبئة والتحدي». وكان «هذا النمط من الخطاب» «مناسباً لمرحلة الحرب والمواجهة التي احتاجت إلى رفع المعنويات وشحذ الهمم». لكن المشكلة بدأت عند الانتقال من «الثورة» إلى «الدولة»، «بعد سقوط النظام وتسلم (هيئة تحرير الشام) ومعها عدد من الفصائل زمام الحكم في دمشق، واصطدام عناصرها بالواقع المحلي والدولي، كان من الطبيعي أن يتغير الخطاب الديني شكلاً ومضموناً؛ لأن خطاب المسؤول عن شعب بأكمله يختلف جذرياً عن خطاب قائد فصيل يتحدث لمجموعة من المقاتلين».

ويؤكد خالد أن «هذا التحوّل ينسجم مع مقتضيات المنطق والعقل والشرع، والانتقال من مرحلة القتال إلى مرحلة الحكم، لكنه يصطدم بقوة العقيدة المتجذرة في قلوب كثير من المهاجرين – وكذلك بعض السوريين – ما حال دون تقبّلهم للتغير في الخطاب والنهج». ويعتبر خالد أن الخيارات المتاحة أمام هذا التيار الرافض، محدودة وقاسية، وقال: «الدولة تسير وفق منهجها الجديد ولن تسمح بتجاوزه». وبناءً عليه، «أمامهم 3 خيارات، إمّا الصدام مع الدولة الجديدة، أو الاعتزال والصمت، أو القبول بالمنهج القائم والتكيّف معه».


بداية نهاية «عالم المخدرات» في لبنان

صورة من وكالة الأنباء السعودية (واس) في 25 أبريل الماضي تظهر أحد أعضاء المديرية العامة لمكافحة المخدرات يعرض أكياس حبوب الكبتاغون المضبوطة في جدة مُخبّأة في شحنة من الرمان (أ.ف.ب)
صورة من وكالة الأنباء السعودية (واس) في 25 أبريل الماضي تظهر أحد أعضاء المديرية العامة لمكافحة المخدرات يعرض أكياس حبوب الكبتاغون المضبوطة في جدة مُخبّأة في شحنة من الرمان (أ.ف.ب)
TT

بداية نهاية «عالم المخدرات» في لبنان

صورة من وكالة الأنباء السعودية (واس) في 25 أبريل الماضي تظهر أحد أعضاء المديرية العامة لمكافحة المخدرات يعرض أكياس حبوب الكبتاغون المضبوطة في جدة مُخبّأة في شحنة من الرمان (أ.ف.ب)
صورة من وكالة الأنباء السعودية (واس) في 25 أبريل الماضي تظهر أحد أعضاء المديرية العامة لمكافحة المخدرات يعرض أكياس حبوب الكبتاغون المضبوطة في جدة مُخبّأة في شحنة من الرمان (أ.ف.ب)

يسود الوسط الأمني في لبنان تفاؤل واضح بإمكانية أن يكون عام 2026، عام نهاية «عالم المخدرات» الذي أنتجته الحرب الأهلية اللبنانية ومتفرعاتها من الحروب الأخرى التي أمنت لهذا العالم بيئة مثالية ازدهر فيها، وبات مادة عابرة للحدود تنطلق من لبنان وسوريا عبر الأردن ليطرق أبواب الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية التي كانت هدفاً رئيسياً لتجار «السكك» ينقلون من خلالها «بضائعهم الممنوعة ويجنون من خلالها الكثير من الأموال التي باتت تمول دولاً وميليشيات.

منبع التفاؤل هو التطور الكبير الذي ضرب الحدود اللبنانية السورية مع نهاية النظام السوري السابق ورحيل «الفرقة الرابعة» عن الحدود، ومن ثم طرد التجار الذين كانوا يقيمون في «المنطقة الرمادية» داخل الحدود السورية.

ويقول مسؤول أمني لبناني لـ«الشرق الأوسط» إن بدء الحرب في سوريا كان شرارة ازدهار تجارة المخدرات، ونهاية الحرب شكلت بدورها بداية النهاية لهذه التجارة التي تلقت ضربات أمنية في كل مفاصلها، لجهة الإنتاج والتخزين والتوزيع.

وكانت المنطقة الحدودية من الجهة السورية تحولت ملاذاً آمناً لتجار المخدرات بين عامي 2023 و2024. فقد أقام هؤلاء في قرى تملكوا فيها منازل بحماية الأمن السوري وتحديداً عناصر «الفرقة الرابعة» التي كانت الشريك التجاري لهم. ومع سقوط النظام عادوا إلى لبنان ليصبحوا فريسة سهلة للجيش اللبناني الذي تولت استخباراته مطاردتهم والقبض على بعضهم وقتل آخرين.

التنمية سلاحاً

وفق التقييم الأمني اللبناني، يحتاج الأمر إلى «دفعة من التنمية» تحط رحالها في مناطق الحرمان اللبنانية في البقاع وعكار، تكون بمثابة العامل المساعد للضغط الأمني الكبير الذي تمارسه أجهزة الأمن اللبنانية على تجار المخدرات، فتقطع عنهم ذريعة الحرمان التي تدفع بأهالي هذه المناطق بعيداً عن «درب الممنوعات» الذي يمر من مناطقهم منذ عشرات السنوات. وتحول بعضهم إلى ما يشبه «روبن هود» عندما يوزع عليهم هباته، ويغدق عليهم المنح. غير أن هذا لا يأتي من دون ثمن. يقول مصدر أمني لبناني لـ«الشرق الوسط» إن تاجر مخدرات شهيراً، كان يتولى تغطية تكاليف تعليم بعض الطلاب الجامعيين، لكنه يحولهم لاحقاً إلى أدوات لتوزيع المخدرات في الجامعات والمدارس.

عهد الازدهار وصعود «روبن هود»

من تجارة حجمها 1.3 مليون حبة قبل الأزمة السورية، ارتفع العدد إلى 3 ملايين بعدها، ثم نزل إلى 400 ألف. يقول مصدر أمني لبناني:«كانوا طفاراً وتسيّدوا، ثم أعدناهم طفاراً».

عادت «أمجاد» تجار المخدرات في البقاع اللبناني بعد الانهيار المالي الذي ضرب البلاد في أواخر عام 2019، مترافقاً مع الانهيار السياسي الذي ضرب أوصال الدولة اللبنانية والانسداد السياسي الذي تفاقم مع انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون والتأخر في انتخاب خلف له.

استفاد هؤلاء من الحاجة التي يرزح تحتها أهالي المنطقة، التي يغلب عليها طابع الإهمال الرسمي والحرمان المزمن الذي يعود إلى أبعد من انهيار العملة الوطنية، وكاد يكون نهجاً دائماً لأهل السياسة، كما يقول سكان المنطقة.

سقط العديد من الشباب، والرجال في براثن هذه التجارة، خصوصاً مع اكتشاف «النجم الصاعد» في عالم المخدرات، أي الكبتاغون الذي اجتاح البلاد تصنيعاً وتصديراً بتأثير مباشر من الأزمة السورية في عام 2011، وبمشاركة فاعلة من تجار سوريين، ونافذين في السلطة والأمن على ضفتي الحدود اللبنانية السورية المعروفة أساساً بتسيبها.

باتت لكبار التجار، مكانتهم الاجتماعية، والسياسية أحياناً. بعضهم ترشح، أو فكر بالترشح للانتخابات. وبعضهم حاول تقديم نفسه على أنه «روبن هود» يأخذ من الأغنياء ويعطي الفقراء. فقدموا مشاريع ري وكهرباء، ومساعدات اجتماعية، وتوسطوا لأهالي المنطقة لحل مشاكلهم مع القانون، كما تواصلوا مع سياسيين ونافذين لتأمين وظائف. باختصار، كانت دويلتهم تنمو باطراد، بالاستفادة من تقاطع مع قوى أمر واقع تعمل على جانبي الحدود. كانت المعادلة بسيطة. تصدير المخدرات إلى «فسطاط الأعداء... والحصول على عملة أجنبية»، و «الكومشن» التي ينالها هؤلاء من هذه التجارة الهائلة الدخل، تكفي للمساعدة في تمويل دولة أو دويلة. يقول أحد التجار إنه يكفيه أن تمر واحدة من أصل عشر شحنات، ليكون رابحاً ومرتاحاً.

قصة الكبتاغون

يعدّ الكبتاغون «ثورة» في عالم المخدرات؛ فهو لا يحتاج إلى زراعة، وبالتالي لا أرض مكشوفة ولا محصول معرضاً لعوامل الطبيعة والعوامل البشرية، كما أنه غير مقيد بمواسم. وهو سهل التصنيع والتوضيب والتهريب فلا يمكن اكتشافه غالباً بوسائل الكشف التقليدية من أجهزة وكلاب بوليسية.

ولكن، إذا كانت السرية هي الصفة الغالبة للتوزيع والتهريب، فإن هذا لا ينطبق على التصنيع الذي لا يمكن إخفاؤه بسهولة. فتصنيع الكبتاغون يحتاج إلى معامل، وتصدر منه خلال عملية الصناعة روائح كريهة وقوية مما يجعل إخفاء المصانع أمراً صعباً ومعقداً، ولهذا لجأ المصنعون إلى إغراء أصحاب النفوذ بأموالهم، وإغراء أصحاب العقارات البعيدة عن السكن لاستغلالها.

استفاد تجار الكبتاغون من «المنطقة الرمادية» التي كان يقبع فيها في دول لم تعدّه مخدراً، أو تأخرت في تصنيفه، ومنها لبنان نفسه. كان رجال الأمن يقبضون على التجار، ويتهمونهم بحيازة أشياء اخرى ممنوعة غالباً ما تكون معهم، كسلاح أو نوع آخر من المخدرات.

ملوك السكك والخلطات السريّة

انتشر بداية في العراق وسوريا. كان بعض سائقي شاحنات النقل الخارجي يتناولونه لمدهم بالنشاط من أجل محاربة ساعات التعب والملل في قيادة الشاحنات. بعد عام 2000 بدأ الظهور الملموس له بوصفه مخدراً. وبين عامي 2007 و2011 بدأ ظهور «ملوك السكك»، أي التجار الذين يؤمنون نقل الكبتاغون من المصنع إلى المستهلك، خصوصاً نحو دول الخليج العربي.

تركزت المصانع في المناطق الحدودية من الجانب السوري بداية، لكن مع اندلاع الحرب السورية، انتقل العديد من التجار إلى لبنان وأسسوا مصانع بالتعاون مع شركاء لبنانيين.

الطريف، أن هؤلاء احتفظوا بسر الخلطة، ولم يزودوا بها شركاءهم اللبنانيين، كما تظهر اعترافات أكثر من تاجر قبضت عليه الاستخبارات العسكرية اللبنانية التي كانت رأس حربة المواجهة في البقاع والمناطق الحدودية. بعض التجار اكتشف الوصفة، أو اقترب منها إلى حد كبير، فظهرت الأصناف «المضروبة» أي الأقل جودة. هامش الربح الكبير أغرى المزيد من أجل خوض التجربة. حبة كلفتها أقل من 20 سنتاً تباع بـ20 دولاراً، وعندما تصل الأمور إلى البيع بالتجزئة يصل المبلغ إلى أكثر من 50 أحياناً.

مع بدء الأحداث السورية، سيطرت التنظيمات المتطرفة على المناطق الحدودية، ودمروا المصانع. هرب التجار إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية أو إلى لبنان. لكن هذه التنظيمات سرعان ما أدركت خطأها، خصوصا بين عامي 2012 و2014، فدخل بعضها في دائرة الاستفادة من أموال الكبتاغون وأذعنت لإغرائه فتحول جزءاً أساسياً من تمويلها.

تعدّ الفترة ما بين عامي 2012 و2023 قمة أرباح تجار الكبتاغون، فقد ازدهرت الصناعة والتجارة فيهما إلى حد كبير، بحيث بات هناك أربعة أو خمسة تجار كبار يحتكرون التهريب إلى دول الخليج. وانتقلوا إلى مرحلة التنافس في الشكل، فثمة من يحمص الحبة لتشبه الرمل الصحراوي، أو من يضع عليها إشارات وعلامات تجارية ثم ألواناً.

الدخول السوري الرسمي... و«فاغنر»

منتصف عام 2012، دخل نافذون في السلطة السورية في هذا المجال أيضاً. لم يتدخل هؤلاء في التصنيع والتجارة، لكنهم سهلوا عملية النقل وأعطوا «بونات» لتسهيل مرور البضائع عبر الأراضي السورية مقابل «رسم» مقطوع على أساس الصندوق. كان تجار الكبتاغون في تلك الفترة يسافرون إلى كل العالم تقريباً، لكن بيروت كانت مكانهم المفضل. فتح هؤلاء مطاعم ومقاهي في العاصمة اللبنانية كانت غطاء مثالياً للدخل.

تمر عملية التصنيع والتوزيع بعدة مراحل، تبدأ بشراء المواد الأولية وهو ما كان يتم بشكل قانوني بالكامل. فغالبية المواد المستعملة للتصنيع يمكن شراؤها من السوق لأن لها استعمالات أخرى شرعية. كان التاجر يتعامل مع أصحاب سوبرماركت يستوردون البضائع لصالحه مقابل أسعار مغرية. حتى الماكينات المخصصة للصناعة يمكن الحصول عليها بشكل عادي، فغالبيتها يستعمل من قبل مصنعي الدواء أو تجار المواد الكيماوية للتنظيف والأدوية والمبيدات والأسمدة وغيرها.

وتركزت معظم المصانع في المنطقة الحدودية في سوريا، لكن بعضها انتقل خلال الحرب إلى الجرود اللبنانية حيث باتت البيوت النائية أو المصانع المهجورة ومزارع المواشي هدفاً للتجار الذين استأجروها بأسعار مغرية. ولاحقاً تحولت بعض القرى السورية مأوى للتجار ومنها قرية جرماش التي باتت الملاذ المفضل للهاربين من الأمن اللبناني.

في فترة الحرب السورية شهدت التجارة ازدهاراً غير مسبوق. خرجت الحدود اللبنانية السورية والسورية الأردنية عن السيطرة، وخلافاً لصورة المعارك والحروب الدائرة بين الأطراف، كان التجار على علاقة جيدة بالجميع. استفاد الجميع من أموال التجار. وكانت لهؤلاء فائدة أخرى للحكومة السورية والروس وإيران و«حزب الله» الذين كانوا يخوضون حرباً صعبة، واعتمدوا على سكك تهريب المخدرات لتهريب السلاح إلى المناطق المحاصرة أو التي يصعب الوصول إليها، ونقل المعدات وأحياناً المقاتلين.

أما «فاغنر» الروسية، فقد أنشأت جسراً جوياً لنقل الكبتاغون إلى ليبيا مقبل 5 آلاف دولار للصندوق الواحد.

بين عامي 2014 و2020 انتقل الكثير من التجار إلى لبنان، مستفيدين من سيطرة التنظيمات المتشددة على مناطق حدودية واسعة والتأزم الداخلي في لبنان الذي انعكس انقسامات حادة، وبات كل من لا يمتلك عملاً جيداً يجرب حظه في هذه التجارة والصناعة. وهو ما أدى إلى ظهور البضائع الأقل جودة.

في تلك الفترة اهتزت قبضة الجيش اللبناني على الحدود، خصوصاً بعد الخسائر التي مني بها من جراء هجمات التنظيمات المتشددة وخطف جنود، فساد التجار بعض المناطق وشقوا طرقات بين البلدين خاصة بهم، ودخل بعضهم العمل السياسي في لبنان عن طريق دعم بعض المرشحين.

إعلان الحرب على المخدرات

مع استقرار الأوضاع الأمنية في لبنان، وتعاظم دور التجار، أعلن لبنان الحرب على المخدرات. في البقاع، والحدود مع سوريا كان الدور الأكبر للجيش اللبناني بحكم وجوده هناك، أما في المرافئ والداخل فقد كان دور قوى الأمن الداخلي.

بدأت استخبارات الجيش الحرب على التجار بالبقاع. تمت مداهمة مصانع الكبتاغون وتفكيك معاملها، لكن التجار «المسالمين» تحولوا دمويين، وقلما كانت تنتهي مداهمة من دون اشتباك بين الجيش والتجار. انتقل هؤلاء من البقاع إلى الجرود الوعرة الصعبة، فتمت ملاحقتهم هناك. ويقول مسؤول أمني لبناني إن مغريات كبيرة عرضت على الضباط والمسؤولين عن مكافحة التجارة، خصوصاً أن خسائر أول سنة مواجهة مع الجيش وصلت إلى نحو 200 مليون دولار.

لمواجهة الغارات التي يشنها الجيش، انتقل التجار إلى مصانع «موبايل» متنقلة توضع على شاحنات قادرة على التحرك سريعاً، لكن سيئات المصنع بالنسبة للتجار، أنه يصبح بطيئاً في التحرك عند بدء التصنيع.

حرب الرؤوس ومعركة «أبو سلة»

تحولت الحرب على المخدرات إلى حرب على الرؤوس، بدأ الجيش يستهدف رؤساء العصابات، وصولاً إلى استهداف بعضهم بطائرات مسيّرة وغارات جوية.

الإغارة على أحد أكبر تجار المخدرات في البقاع المعروف بأبو سلة، كانت رسالة واضحة للتجار الذين تواروا بعدها عن الأنظار تحت وطأة الإجراءات الأمنية. المطلوب علي منذر زعيتر، نال لقب أبو سلة من بداياته في تجارة المخدرات، حيث كان ينزل سلته المربوطة بحبل لأخذ المال من زبائنه وتسليمهم المخدرات، عندما كان مروجاً يقيم في ضاحية بيروت الشرقية.

كبر «أبو سلة» إلى درجة بات يمتلك فيها جيشاً صغيراً من المقاتلين والمروجين. عندما خطط الجيش للقبض على أبو سلة، اكتشفت استخبارات الجيش أن أبو سلة نشر 346 حاجزاً لحمايته وتنبيهه من أي محاولة للاقتراب منه، توزعت بين كاميرات مراقبة ثبتت على أعمدة ونقاط مموهة على شكل مقاهي «إكسبرس» على كل الطرقات المؤدية اليه.

وبعد 8 أشهر من التخطيط تم تنفيذ العملية خلال مأدبة عشاء كان يقيمها أبو سلة لأصدقائه. تمت السيطرة على بعض الكاميرات وحرفها عن وجهتها، فيما كان رئيس فرع الاستخبارات في البقاع يساهم في التمويه باصطحابه زوجته إلى عشاء في مقهى يعرف أن لأبو سلة عيوناً فيه في بيروت.

ارتبطت العملية بسرية بالغة، فلم يعرف بالتحضير لها سوى 7 أشخاص كانوا يعرفون أن الهدف «مالبورو» الاسم الذي أعطوه لأبو سلة لعدم تنبيهه إلى ما يحاك له.

نجا أبو سلة من ذلك الكمين بعدما اتخذ من زوجته درعاً، وقتل عنصراً من الجيش ثم فر. غادر إلى سوريا، ثم عاد بعد سقوط النظام ليقع تحت أنظار الجيش الذي استهدف سيارته بغارة جوية أدت إلى مقتله.

أبو سلة نفسه كان مسؤولاً عن كمين نصب لقوة من الجيش قبل سنوات أدى إلى مقتل عدد من الجنود وإصابة ضابط بات خارج الخدمة. وهو وفق التقييم الأمني اللبناني رقم واحد بين تجار المخدرات في لبنان. لديه نفوذ في الجامعات والمدارس التي كانت منطقة المبيعات الخاصة به. لهذه الغاية كان يدفع أقساط تلامذة وطلاب جامعيين، أو يسجل أزلامه فيها بهدف الترويج.


العلاقات الروسية - السورية في مواجهة التاريخ والسياسة

أحد عناصر حرس الشرف يؤدي التحية للرئيس السوري أحمد الشرع لدى وصوله إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 أكتوبر 2025 (رويترز)
أحد عناصر حرس الشرف يؤدي التحية للرئيس السوري أحمد الشرع لدى وصوله إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 أكتوبر 2025 (رويترز)
TT

العلاقات الروسية - السورية في مواجهة التاريخ والسياسة

أحد عناصر حرس الشرف يؤدي التحية للرئيس السوري أحمد الشرع لدى وصوله إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 أكتوبر 2025 (رويترز)
أحد عناصر حرس الشرف يؤدي التحية للرئيس السوري أحمد الشرع لدى وصوله إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 أكتوبر 2025 (رويترز)

كرست الزيارة الأولى للرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو، بعد مرور نحو عشرة أشهر على الانقلاب الكبير الذي غير كثيراً معالم السياسة في سوريا كما عرفها العالم طويلاً، وقوض تحالفاتها السابقة، واقعاً جديداً في العلاقات الروسية-السورية التي مرت على مدى عقود بكثير من التغيرات، وشهدت مراحل شد وجذب، فوصلت إلى مستويات متقدمة من التحالف حيناً، وتراجعت إلى درجات لافتة من الفتور في أحيان أخرى.

ولا شك في أن مجريات الزيارة ونتائجها التي ستتكشف تدريجياً سوف تعيد رسم ملامح هذه العلاقة، وتحدد مسار تطورها؛ لكن الثابت أن أولويات الطرفين تواجه تبدلات كبرى، مع تموضع سوريا الجديدة، وتغير آليات اتخاذ القرار فيها، برغم كل الإشارات من الجانبين إلى أهمية المحافظة على إرث واسع من علاقات التعاون الوثيق.

كانت عبارة «العلاقات التاريخية» بين البلدين، التي تعود في انطلاقتها الأولى إلى العام 1944، الجملة المفصلية التي ركز عليها الرئيس فلاديمير بوتين وهو يضع مقدمات الحوار مع ضيفه الاستثنائي في الكرملين.

والانطلاق من «تاريخية» العلاقات الروسية-السورية يرتبط ليس بالحرص على المصالح الكبرى التي تجمع الطرفين فحسب، بل وأكثر بالحرص الروسي على تقليص حجم الخسارة التي قد تكون موسكو منيت بها بعد التقلبات التي شهدتها سوريا.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مستقبلاً الرئيس السوري السابق بشار الأسد في 15 مارس 2023 بالكرملين (أ.ف.ب)

مصالح روسيا قبل 2011

المصالح الروسية في سوريا ذات طبيعة سياسية استراتيجية وعسكرية واقتصادية في جوهرها. ورغم أهمية المصالح الروسية التجارية المباشرة مع سوريا، فإن قيمة هذه المصالح الفعلية لم تشكل في أي وقت من الأوقات أهمية استثنائية لتكبد تكلفة الدفاع عنها كما في المجالين العسكري والأمني.

* قاعدة طرطوس

على مدى عقود ظلت الأولوية الأهم لروسيا هي الاحتفاظ بقاعدتها العسكرية في ميناء طرطوس، فهي آخر موقع بحري لأسطول روسيا بمنطقة البحر الأبيض المتوسط.

وتُعتبر القاعدة مرفقاً روسياً استراتيجياً طويل الأمد. فبموجب اتفاقية بين البلدين عام 1972 يستضيف ميناء طرطوس قاعدة روسية للإمداد والصيانة من الفترة السوفياتية تم تشييدها أثناء فترة الحرب الباردة لدعم الأسطول السوفياتي بالبحر الأبيض المتوسط.

وسعت روسيا على مدى سنوات إلى توسيع وتطوير هذه القاعدة حتى تزيد من حضورها في البحر المتوسط، في الوقت الذي خططت فيه واشنطن لنشر درع صاروخية في بولندا. وقد نجحت في بدء ترتيب وجود أوسع في طرطوس في وقت مبكر للغاية، وقبل اندلاع الحدث السوري الكبير بسنوات. وخلال زيارة للرئيس السوري السابق بشار الأسد عام 2008 إلى موسكو وافق على تحويل ميناء طرطوس، أو جزء منه على الأقل، إلى قاعدة ثابتة للسفن النووية الروسية في الشرق الأوسط.

ومنذ 2009 أطلقت روسيا أعمالاً سارت ببطء لتحديث القاعدة، وتوسيع الميناء حتى يستطيع استقبال سفن عسكرية أكبر حجماً.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيارة لقاعدة حميميم في سوريا - 12 ديسمبر 2017 (غيتي)

* مبيعات السلاح وشطب الديون

في تلك الفترة أيضاً، عمدت موسكو إلى شطب أكثر من عشرة مليارات دولار من ديونها على دمشق التي كانت تبلغ 13.4 مليار دولار في العهد السوفياتي.

ونشطت موسكو منذ تاريخ شطب نحو ثلاثة أرباع دينها على دمشق واردات الأسلحة إلى سوريا لتغدو دمشق أحد أكبر مستوردي السلاح الروسي في المنطقة.

وقد شمل ذلك أسلحة حديثة بينها نظم الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات، والتي من شأنها تحسين قدراتها القتالية.

وفي عام 2008 أبرمت سوريا عقوداً لشراء طائرات «ميغ 29» المقاتلة، ونظم «بانتسير» و«إسكندر» الدفاعية، وطائرات «ياك130» متعددة الأغراض، وغواصتين من طراز «آمور1650».

وقالت موسكو في حينها إن مبيعات الأسلحة لسوريا تهدف إلى تعزيز الاستقرار، والحفاظ على الأمن في المناطق القريبة من الحدود الروسية.

وعموماً بلغت قيمة عقود سوريا مع روسيا عام 2011 أربعة مليارات دولار. واحتلت سوريا بذلك المرتبة السابعة في ترتيب الدول التي تشتري أسلحة من روسيا.

جانب من منصّة شركة نوفاتيك الروسية المنتجة للغاز الطبيعي المسيّل في معرض «أسبوع الطاقة» الروسي في موسكو (رويترز)

* استثمارات في الطاقة والطيران والاتصالات

بلغت استثمارات روسيا في سوريا عام 2009 نحو عشرين مليار دولار. وأهم المجالات الاقتصادية المدنية التي تخدم المصالح الروسية في سوريا مجال التنقيب عن النفط والغاز، وإنتاجهما، وكان الحضور الأبرز لشركتي «تاتنفت» و«سويوزفتغاز» اللتين ما زالتا حتى الآن تملكان مشروعات مجمدة لاستخراج النفط في سوريا.

كذلك حصلت مجموعة «ذا نورث ويسترن غروب» على مناقصة عام 2008 لتشييد مصنع لمعالجة البترول بالقرب من دير الزور. وخططت شركة «جيوريسرس» المتفرعة من شركة «غازبروم» الروسية العملاقة للمنافسة في مناقصات للتنقيب عن النفط.

لكن هذه المشروعات تلقت دفعة قوية للغاية بعد التدخل الروسي المباشر في سوريا في 2015، وحظيت بحصص مهمة في عدد من المناطق السورية.

انخرطت الشركات الروسية في وقت مبكر في تنفيذ مشروعات أخرى في مجال الطاقة، بما في ذلك الفوز بإدارة وتشغيل محطات للطاقة الكهربائية، وأعلنت شركة «روساتوم» الروسية في 2010 التحضير لبناء أول مفاعل لإنتاج الطاقة النووية، والخدمة المستمرة من شركة «تخنوبرومكسبورت» الروسية لمرافق إنتاج الطاقة التي أقامتها في سوريا.

وشاركت شركات روسية أخرى مثل «سوفنترفود» و«رسغيدرو» أيضاً في مشروعات للري بسوريا.

كما لعبت شركات التصنيع الروسية أيضاً دوراً في الاقتصاد السوري، فشركة «أورال ماش» أبرمت عقداً عام 2010 لتزويد شركة سورية بمعدات للتنقيب عن النفط. وفي سبتمبر (أيلول) 2011 وقعت شركة «توبوليف آند أفياستار إس بي» مذكرة تفاهم لتزويد الخطوط الجوية السورية بثلاث طائرات ركاب طراز «تي يو204 إس إم»، ومركز لخدمات هذه الطائرات.

وأعلنت «تراكتورني زافودي» خططاً لاستثمارات مشتركة مع شركة سورية لبناء وحدة معدات زراعية، وقامت مجموعة «سينارا غروب» الروسية ببناء مجمع فنادق باللاذقية، كما وقعت شركة «سيترونيكس» عقداً عام 2008 لتشييد شبكة لا سلكية لسوريا.

كان هذا هو واقع الحضور الروسي في سوريا عشية اندلاع الثورة ضد نظام بشار الأسد.

عمال إغاثة وناشطون وصحافيون سوريون يتظاهرون أمام معبر باب الهوى للمطالبة برفع «الفيتو» الروسي الذي منع إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا في يوليو 2023 (غيتي)

المصالح أهم من التحالف

رغم كل ذلك، لم تتسرع موسكو للانخراط القوي في الأزمة السورية بشكل مباشر في سنواتها الأولى؛ بل ولم تكن موسكو تنظر إلى الأسد الابن بصفته حليفاً مهماً لها. وقد قال بوتين عنه يوماً إنه زار موسكو للمرة الأولى بعد مرور خمس سنوات على توليه الحكم، لأنه كان قبلها يراهن على العلاقات مع الغرب.

ومثلما أيقنت موسكو أن تحول الأسد شرقاً في تلك المرحلة كان بسبب دوافع محلية وإقليمية، وضغوط غربية مورست عليه، فإن تدخلها المباشر في الشأن السوري جاء لبروز نفس الأسباب عندها.

وضع الكرملين هدفين استراتيجيين رئيسين عند تنشيط التدخل الروسي في سوريا: تحدي الهيمنة الأميركية على الساحة العالمية، ومساعدة نظام بشار الأسد في محاربة المتطرفين الذين يُعتبرون أعداء روسيا اللدودين، لا سيما بالنظر إلى التجربة المريرة معهم في الشيشان، وشمال القوقاز.

ورغم أن روسيا نأت بنفسها في البداية عن العلاقة مع الأسد، لدرجة أن بوتين تحدث معه هاتفياً للمرة الأولى بعد اندلاع الأزمة في 2013، فإن هدف بقاء الأسد في السلطة خدم عدداً من المصالح الروسية.

من وجهة نظر الكرملين، أثبتت سوريا أنها اختبار حاسم لجهود روسيا لمنع استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية. وكان من شأن التدخل الأميركي العسكري أن يقوض الاتجاه نحو تقليص النشاط العسكري الأميركي في الخارج الذي بدأه الرئيس باراك أوباما -وهو اتجاه عدته موسكو إيجابياً. علاوة على ذلك، سعت روسيا إلى منع تغيير النظام في سوريا بمساعدة أو تشجيع خارجيين، الأمر الذي سيكون محفوفاً بعواقب وخيمة على دول ما بعد الاتحاد السوفياتي الواقعة على أطراف روسيا، والمناطق ذات الأغلبية المسلمة في الاتحاد الروسي نفسه.

شكلت هذه الأسباب مع العناصر الاستراتيجية المتعلقة بالتطلعات الجيوسياسية لروسيا عبر قاعدة طرطوس العناصر الأهم لتحول السياسة الروسية نحو دعم مطلق للأسد.

ومع تصاعد الانتفاضة ضد الأسد إلى حرب أهلية، أصبح الشاغل الرئيس لروسيا هو منع التدخل الغربي أو العربي المحتمل في سوريا لتمكين حكومة موالية للغرب مكان نظام الأسد.

سوريون يلتقطون الصور التذكارية أحتفالاً بسقوط نظام بشار الأسد من أعلى جبل قاسيون المطل على دمشق الذي كان ممنوعاً عليهم (غيتي)

الدرس الليبي

صُدمت موسكو بالأحداث في ليبيا عام ٢٠١١، عندما أتاح قرارها عدم استخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بفرض منطقة حظر جوي فوق البلاد فرصةً للتدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي وتغيير النظام. اعتبرت روسيا الحادث الليبي سابقةً لا ينبغي تكرارها في سوريا، ولذلك رفضت موسكو أي مقترحات في مجلس الأمن لإدانة نظام الأسد.

وبفضل معرفتها الدقيقة بالوضع في سوريا، خلصت القيادة الروسية بسرعة إلى أنه في غياب التدخل العسكري الأجنبي، فإن حكومة الأسد لديها كل فرصة للبقاء، خصوصاً مع تشرذم المعارضة التي فتحت موسكو معها قنوات اتصال لضبط تحركاتها، واستجلاء نقاط قوتها وضعفها. وبنت سياساتها لاحقاً على هذا الأساس.

أما التدخل العسكري المباشر في سبتمبر 2015 فقد كان مدفوعاً أكثر ليس فقط بمخاوف من انهيار محتمل للنظام، بل وبتطورات الوضع داخل روسيا نفسها بعد وصول خصوم الكرملين إلى السلطة في 2014، والمخاوف من خسائر استراتيجية فادحة لروسيا، ما دفعها لإعلان ضم القرم، وفرض سيطرتها العسكرية في شبه الجزيرة، وما تبع ذلك من ضغوط وعقوبات غربية واسعة النطاق.

ورغم المخاوف من انزلاق روسيا في سوريا إلى أفغانستان ثانية، فإن موسكو انطلقت من ضعف الأطراف الأخرى، أو عدم رغبتها في التورط بشكل واسع في سوريا.

وانطلقت موسكو من أن السياسة الأميركية تجاه سوريا تفتقر إلى أهداف استراتيجية، وأهداف واضحة، وتقييمات واقعية. ومن وجهة النظر الروسية، عكست سياسة واشنطن تجاه سوريا استنزاف القوات الأميركية على الساحة العالمية، و«إرهاقها» المتزايد.

مصالح روسيا اليوم وغياب البدائل

لا يزال الحفاظ على الوجود العسكري الروسي في سوريا قضية محورية بالنسبة لموسكو في مسار سياستها الخارجية في الشرق الأوسط. وتمثل قاعدة حميميم الجوية، وميناء طرطوس نقطتين رئيستين لبسط النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، والبحر الأبيض المتوسط.

تلعب القاعدتان دوراً لوجستياً حاسماً في العمليات بشمال أفريقيا ومنطقة الساحل. فمن دون التزود بالوقود في «حميميم» ستواجه طائرات النقل صعوبة في إيصال البضائع والأفراد إلى مراكز وجود موسكو الأفريقية في ليبيا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو. في الوقت نفسه، تُطرح مسألة مصير تمركز قوة المهام الدائمة التابعة للبحرية الروسية (سرب البحر الأبيض المتوسط)، التي شُكّلت في مارس (آذار) 2013.

في الوقت الحالي، يصعب مناقشة طرق لوجستية بديلة. نقاط العبور البديلة الأكثر ترجيحاً هي طبرق وبنغازي في شرق ليبيا. لكن هناك صعوبات جدية أمام موسكو يفرضها واقع الحال في ليبيا، فضلاً عن أن الأساس القانوني للوجود الروسي في ليبيا أضعف بكثير.

نظرياً، يمكن لطائرات النقل العسكرية الروسية أن تبدأ باستخدام القواعد الإيرانية. ومع ذلك، كانت تجربة هذا التعاون، ومنها استخدام قاعدة همدان الجوية من قبل القاذفات الاستراتيجية الروسية عام ٢٠١6، قصيرة الأجل، ومثيرة للجدل إلى حد كبير.

تبدو الخيارات الأخرى، ومنها مصر والجزائر والسودان، هشة للغاية. فالجزائر متشككة للغاية من توسع الوجود العسكري الروسي في منطقة الساحل الأفريقي. ولن توافق مصر، التي تضع في اعتبارها شراء القاذفات الروسية، على مثل هذا التصعيد مع الغرب. أما السودان، فهو غير قادر على ضمان أمن البنية التحتية العسكرية الروسية.

لذلك فإن الخيار السوري على صعوبته الحالية يشكل الخيار الأفضل بالنسبة إلى موسكو للمحافظة ليس فقط على حضورها في البحر المتوسط، بل ولترتيب خطوط إمداد حيوية ودائمة تضمن مصالحها المتنامية بقوة في أفريقيا.

إعادة ترتيب الاولويات

في المقابل، تبدو روسيا مضطرة لإعادة ترتيب أولوياتها في التعامل مع الشأن السوري، خصوصاً بعدما أظهرت التطورات بوضوح محدودية نهج روسيا في حل قضايا الأمن الإقليمي بالاعتماد على العلاقات مع تركيا وإيران. وفي حالة تركيا، من الواضح أن أي اتفاقيات لحل النزاعات -سواء في سوريا أو ليبيا أو جنوب القوقاز- لن تصمد أمام اختبار الزمن. وقد أظهر تباين أولويات روسيا وتركيا حيال ملف أذربيجان وأرمينيا بوضوح مدى هذا الخطر.

وهذا ليس مفاجئاً: فبالنسبة لتركيا، تُعد هذه النزاعات ذات طابع وجودي أكثر بكثير مما هي عليه بالنسبة لروسيا، وخاصةً النزاع السوري. وبغض النظر عن مدى كثافة تعاونها الاقتصادي مع أنقرة، بما في ذلك ما يتعلق بالالتفاف على العقوبات الغربية، فإن جمهورية تركيا ليست شريكاً استراتيجياً لروسيا في المنطقة.

وفيما يتعلق بإيران، تُبرز الحالة السورية حدود التعاون مع «محور المقاومة» الذي دخل في صراع مباشر مع الولايات المتحدة وإسرائيل. ورغم أن هذا الصراع لا يخدم المصالح الروسية بأي شكل من الأشكال، فإنه لعب دوراً مباشراً في انهيار نظام الأسد، ما قوض التوازن الهش الذي عملت موسكو لسنوات على المحافظة عليه. كذلك اختفاء الرابط الرئيس بين موسكو وطهران في المنطقة في إعادة تقييم علاقات روسيا مع الجهات الفاعلة الرئيسة في الشرق الأوسط.

عملياً أظهرت سوريا نقاط ضعف النموذج الروسي في بناء علاقات مع الحلفاء في الشرق الأوسط، لكنها أيضاً كشفت خيارات دولة مثل روسيا في ترتيب مصالحها، وكيفية اختيارها لـ«استثماراتها العسكرية». فإذا كانت موسكو قد تكبدت تكلفة في سوريا منذ تدخلها العسكري في 2015 لتثبيت حكم الأسد، يبقى من المثير معرفة كيف ستحصد ثمار رهانها، وهو ما قد تكشفه الاتفاقات التي ستبرم بين البلدين في القريب المنظور.