تحديات اليمنيين الصعبة وخياراتهم الممكنة.. رؤية استشرافية

دولة «نصف فيدرالية» بصلاحيات واسعة تضمن مصالح الجميع

تحديات اليمنيين الصعبة وخياراتهم الممكنة.. رؤية استشرافية
TT

تحديات اليمنيين الصعبة وخياراتهم الممكنة.. رؤية استشرافية

تحديات اليمنيين الصعبة وخياراتهم الممكنة.. رؤية استشرافية

* كانت مطالب الحراك الجنوبي عقلانية ومعتدلة ولم تكن راديكالية.. إذ رفعت مطالب مشروعة من أبرزها إعادة تقييم العلاقة وتحديدها بين الشمال والجنوب في كيان بلد موحد إضافة إلى ضرورة المساواة والعدل في استثمار الموارد وتوزيعها.. والمسارعة في الإصلاح والمشاركة الشاملة السياسية والعسكرية والإدارية وإعادة الهيكلة الإدارية والإجراءات والقوانين

* إجبار الرئيس علي صالح على التنازل عن السلطة وتفويض نائبه جنب اليمن مصادمات عسكرية وزعزع بعض أساسيات النظام القديم

* الحراك الجنوبي استفاد من انتفاضة الشمال وكشف عن قدرة قوية في حشد الاحتجاج والتظاهر في الجنوب من أجل تثبيت مشروعية مطالبه

* مبادرة مجلس التعاون الخليجي أسست لخارطة طريق تضمن انتقال اليمن سلميا من أزمته وأخطارها إلى وضع جديد آمن ومستقر

يمكن القول إن اليمن في شماله وجنوبه كان دوما عرضة لعدم الاستقرار، لأكثر من قرنين من الزمن، ولكن بعد سيطرة العثمانيين على الحجاز ونجد (1811 - 1818)، في عهد محمد علي باشا، والي مصر (1805 - 1843)، وقعت بعض أجزاء اليمن تحت النفوذ العثماني في عام 1818. فأعلنت الإمامة الزيدية، في صنعاء، ولاءها للعثمانيين. وعندما أعلن محمد علي استقلاله عن الدولة العثمانية عام 1831، تعرض شمال اليمن إلى السيطرة المباشرة للحكم المصري فيما بين 1833 - 1839. ومع تقدم قوات محمد علي في اليمن في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، سارعت بريطانيا إلى احتواء النفوذ المصري في تلك الفترة، وتحذير محمد علي من تقدم قواته تجاه الجنوب. وفي النهاية، قامت بريطانيا بمحاصرة عدن في عام 1838، ولم تلبث أن احتلتها بالقوة، وذلك بعد مقاومة عنيفة دامية في أوائل عام 1839. ومنذ هذه السنة امتدت السيطرة البريطانية سريعا إلى الأجزاء الباقية في جنوب الجزيرة العربية، وذلك على الكيانات التي عرفت فيما بعد بـ«المحميات التسع»، حسب التسمية البريطانية الاستعمارية. وتنفيذا لقرارات مؤتمر لندن عام 1840، قامت بريطانيا بزعامة تحالف دولي، وأجبرت محمد علي بالانسحاب من جميع المناطق التي سيطر عليها في المشرق العربي، بما في ذلك اليمن، وفي الوقت ذاته أعيد محمد علي إلى حظيرة الدولة العثمانية، واليا على مصر، ولكن بصلاحيات محدودة واسمية.
وعلى أي حال، فيما بين أعوام 1840 - 1871، ظل النفوذ العثماني اسميا أو شبه معدوم في اليمن، الذي بات عرضه للنزاعات المحلية وتنافس أئمة الزيدية على السلطة فيه، بينما كان الاستعمار البريطاني يتمدد بقوة في الجنوب. وبعد افتتاح قناة السويس عام 1869، تمكنت الدولة العثمانية من تجهيز حملة كبيرة، بقيادة أحمد مختار باشا، الذي سيطر على المخلاف السليماني في عام 1871، ثم على اليمن في عام 1872. وفي هذه المرة أصبح اليمن تحت الحكم العثماني المباشر، ويدار من قبل الولاة والقادة العثمانيين أنفسهم، ومع هذا أبقت الدولة العثمانية منصب الإمامة الزيدية في صنعاء، بصورة شكلية من أجل كسب نوع من الولاء والشرعية.
ومهما يكن من أمر، منذ عام 1872 شب نزاع مرير بين الدولة العثمانية وبريطانيا حول مسألة تبعية الكيانات - المحميات - في جنوب الجزيرة العربية، ولم تهدأ الأوضاع إلا في مطلع القرن العشرين عندما أذعنت الدولة العثمانية لبريطانيا ووقعت معها برتوكولات أعوام 1903، 1904، 1905، التي أشارت إلى مدى تبعية مناطق الدولتين بصورة عامة ملتبسة. والأكثر سوءا، تبنت الدولتان الأجنبيتان هذه البروتوكولات وألحقتها في الاتفاقية الإنجليزية - العثمانية في أغسطس (آب) عام 1914، وذلك قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى بعدة شهور.
ومع نهاية الحرب العالمية 1918م وانهيار الدولة العثمانية أصبح اليمن - الشمالي - مستقلا عن أي نفوذ أجنبي، بل إن كلا من الإمام يحيى حميد الدين (1918 - 1948)، والإمام أحمد يحيى حميد الدين (1948 - 1962) لم يتنازلا إطلاقا عن مطالبهما مع بريطانيا عن كيانات الجنوب، كما لم يعترفا في البرتوكولات واتفاقية 1914 بين الدولة العثمانية وبريطانيا، التي تعتبر الدولتين أجنبيتين وليس لهما شرعية، ولا يحق لهما التصرف والتفاوض على الممتلكات والأراضي اليمنية.
وعلى الرغم من الضغوط والإغراءات البريطانية المتزايدة على الإمام يحيى من أجل التخلي عن المطالبة بالجنوب، إلا أنه لم يتراجع. ووصل الطرفان إلى حل مؤقت، حسب الاتفاقية البريطانية اليمنية لعام 1934، التي أكدت في مادتها الثالثة على المحافظة على الوضع الراهن في مناطق الطرفين حتى يصل الجانبان إلى تسوية نهائية في فترة سريان الاتفاقية، وهي 40 سنة بدءا من تاريخ توقيعها.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1945)، وتطور حركة الاستقلال الوطني في الجنوب، سخر الإمامان جهودا سياسية وعسكرية وإعلامية كبيرة لدعم المقاومة الوطنية للاستعمار البريطاني، وأصبحت صنعاء مركزا للقيادة والأحزاب والفئات المنفية المناهضة له. ومع نهاية سلطة الإمامة في ثورة 1962، وعلى الرغم من الحرب الأهلية الداخلية، ظل اليمن يساعد المقاومة السياسية والمسلحة ضد بريطانيا حتى نال اليمن الجنوبي استقلاله بعد انسحاب بريطانيا في أواخر عام 1967.
وهكذا، بدلا من أن يكون عام 1967 فاتحة عهد جديد، ثار نزاع شديد بين الدولتين حول مسائل الحدود والمناطق التي تركها الإرث الاستعماري الطويل، ثم تطور إلى صراع مرير نتيجة التباين الجذري في التوجهات السياسية والآيديولوجية بين جمهورية اليمن العربية من جهة، وجمهورية اليمن الديمقراطية ذات الحكم الاشتراكي الراديكالي من جهة ثانية، خاصة خلال عقدي السبعينات والثمانينات. وقد ظلت الخلافات على أشدها بين قيادات الحزب الاشتراكي الحاكم، ولم تلبث أن قادت إلى صراع دموي شديد على زمام السلطة في يناير (كانون الثاني) عام 1986. أما الشطر الشمالي، فلم يكن أفضل حالا، إذ كان عرضة لسلسلة من الانقلابات والاغتيالات. وفي النهاية، وبعد اغتيال الرئيس أحمد الغشمي في يونيو (حزيران) 1978، رشح مجلس الشعب في يوليو (تموز) 1978، علي عبد الله صالح (1978 - 2011) رئيسا للجمهورية، وظل في السلطة لأكثر من 33 عاما، تمكن خلالها من تحقيق إنجازات رئيسة بارزة، وفي الوقت عينه، شهد عهده الكثير من الفساد والمظالم.
فقد جرت في عهده انتخابات وتعددية وحريات ومجلس نواب ودستور.. إلخ، بدرجة أو بأخرى، وبغض النظر عن مدى حقيقتها أو شكليتها. وكذلك تمكن الرئيس صالح من تحقيق الوحدة بين الشطرين في عام 1990، وحل كثير من قضايا الحدود التاريخية العالقة بين اليمن وجيرانها، إريتريا وعمان والسعودية، وتوسع في علاقات اليمن العربية والإقليمية والدولية. لكنه مع مرور الوقت، انفرد بالسلطة، ونما في عهده الاستبداد، وتعددت المحسوبيات، وتنوعت مراكز القوى، وانتشر الفساد والاستغلال الفاحش في الأوساط السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية كافة. وبدلا من استثمار الكفاءات العلمية والمهنية، أصبحت كثير من الوظائف، خاصة في المناصب القيادية، تخضع إلى الأهواء والولاءات الشخصية والعائلية وأصحاب المصالح من ذوي المال والنفوذ، كما ذهبت معظم الإعانات والمساعدات الخارجية إلى جيوب الفئات المتنفذة المختلفة، وأصبح نشاط القطاع الخاص محتكرا إلى حد كبير من قبل هذه الفئات.
وعموما، سارعت الحكومتان في صنعاء وعدن إلى الاتفاق على صيغة وحدة اندماجية في 22 مايو (أيار) 1990. ويعود هذا التوجه إلى أسباب داخلية وخارجية أملتها طبيعة الظروف الخاصة لكل من الدولتين. لكن سرعان ما برزت مشكلات كبيرة بين القيادتين السياسيتين الشمالية (المؤتمر) والجنوبية (الاشتراكي)، تطورت سريعا 1994، مع اندلاع حرب أهلية قصيرة بين الشطرين انتصر فيها الشمال، إلا أن هذا الانتصار السريع لم يكن الفصل الأخير في الصراع بين الطرفين. ومنذ تلك اللحظة ظهرت رؤيتان أساسيتان ومتعارضتان؛ الأولى أن الحرب عززت الوحدة الوطنية بين الشطرين، وقضت على طموحات الانفصال، والثانية أنها قد قضت بتداعياتها اللاحقة، على مشروعية الوحدة وآفاقها المستقبلية، وقادت إلى احتلال الشمال للجنوب.
وكانت الرؤية الثانية تعبر عن الشعور السائد لدى معظم سكان الجنوب. فقد تضررت الفئات الاجتماعية كثيرا في الشطر الجنوبي بشكل خاص، مع تزايد استفراد سلطة الرئيس علي صالح ونظامه، والتخوف من احتمالات المستقبل. لقد لجأ نظام صنعاء إلى تسريح معظم القوات الجنوبية من الخدمة، وأجرى مناقلات رئيسة في القوات الأخرى، وتغييرات طالت قياداتها العسكرية والأمنية، إضافة إلى عدم صرف المستحقات والتقاعد وإنكارها. وعلى الرغم من أن الشطر الجنوبي كان أفضل تعليما وخبرة ومهنية وأكثر تطورا ومدنية من الشمال، فقد استحوذ الشماليون على المناصب الإدارية والوظيفية في المحافظات الجنوبية، وسيطروا على كثير من النشاطات والموارد الاقتصادية. وكذلك تدهورت البنية التحتية والخدمات العامة، وساءت الأوضاع المعيشية والسكنية والصحية والتعليمية، وهكذا انتشر الفساد والمحسوبية وعدم الأمن والاستقرار، وازداد الفقر والتذمر والنقمة في أجزاء اليمن كافة. وأخذ الكثيرون من سكان الجنوب يتمنون عودة النظام الاشتراكي السابق، الذي انتقدوه في الماضي.
لهذا لم يكن مستغربا أن تثور المطالبات والاحتجاجات منذ زمن في محافظات كثيرة، وأن يتزايد الاحتقان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني، الذي أدى بدوره إلى ظهور التطرف والعنف بصورة غير مسبوقة، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وتداعياتها المتسارعة دوليا وإقليميا، وبعد لجوء كثير من أنصار «القاعدة» في أفغانستان إلى اليمن فيما بعد، وتحالف النظام مع الولايات المتحدة عسكريا وأمنيا في مواجهة الإرهاب، إلا أن تلك العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة ونظام علي صالح أصبحت مثار شبهة وذريعة سياسية أخرى لتعبئة المقاومة ضد النظام نفسه. في هذا السياق، لم يأتِ اندلاع التمرد في محافظة صعدة الشمالية في عام 2004، معقل الحوثيين، مصادفة، حيث تطورت الأحداث إلى مواجهات وقعت خلالها، خمس حروب بين الحوثيين والقوات الحكومية منذ عام 2004. وبدأ يظهر بعض الداعين إلى إحياء الزيدية وإمامتها والعودة إلى المحافظة على المنظومة الزيدية وبعض شعائرها التاريخية القديمة، خاصة تلك المغالية من بعض أئمة الزيدية في قرون ماضية.
ومما زاد من التأثير الحوثي أن محافظة صعدة تعرضت للإهمال والتهميش في نواحٍ كثيرة، كما أن الحروب المتكررة والقصف الجوي والعنف الذي مارسته السلطة أدى إلى تدمير القرى والطرق والبنية التحية وزيادة المظالم.
أما المحافظات الشمالية، فقد تدهورت أوضاعها وكثر فيها النهب والسلب والاختطاف وتهريب الأسلحة، وانخراط القبائل في هذا النزاع وتنافس الميليشيات على الموارد والمساعدات من الحكومة.. إلخ. وكذلك أحاط بالمشكلة اليمنية البعد الدولي والإقليمي، مع تنامي النفوذ الإيراني وتدخل طهران الواضح في الشؤون اليمنية.
ومنذ عام 2007، أصبحت حركة الاحتجاج أوسع انتشارا وشعبية في الجنوب، وعرفت منذ ذلك الحين، بالحراك الجنوبي، وهو تحالف حركات سياسية واجتماعية قديمة وجديدة. وللحق، ففي البداية كانت مطالب الحراك الجنوبي عقلانية ومعتدلة، ولم تكن راديكالية، إذ رفعت مطالب مشروعة، من أبرزها إعادة تقييم العلاقة وتحديدها بين الشمال والجنوب في كيان بلد موحد، إضافة إلى ضرورة المساواة والعدل في استثمار الموارد وتوزيعها، والمسارعة في الإصلاح والمشاركة الشاملة السياسية والعسكرية والإدارية، وإعادة الهيكلة الإدارية والإجراءات والقوانين.
وعلى الرغم من وعود حكومة صنعاء الكثيرة، فإنها لم تتخذ أي مبادرات إصلاحية أو حتى جزئية. وتدريجيا انجرت حكومة صنعاء إلى القسوة والقمع الشديدين ضد خصومها تحت مبررات مختلفة. ومع تزايد القمع والإنكار ازدادت شعبية الحراك الجنوبي، وبدأت الأصوات تتعالى كثيرا وتطالب بالانفصال.
ومن دون شك، فقد أفادت انتفاضة الشمال الحراك الجنوبي، الذي كشف عن قدرته القوية في حشد الاحتجاج والتظاهر في الجنوب من أجل تثبيت مشروعية مطالبه، حيث استفادوا من مواقف كثير من النشطاء الشباب، وأطراف قوية في أحزاب اللقاء المشترك من الشمال والجنوب الذين يأملون في تجاوز الانقسام الوطني. وإذا كانت الانتفاضة في الشمال فرصة استراتيجية للحراك الجنوبي لا يمكن التفريط بها، ففي المقابل، ساعد الوضع الجديد على انفتاح بعض الأطراف الشمالية والجنوبية، ومهّد لنوع من الثقة وكسر الحواجز وتبادل وجهات النظر ومناقشة الخيارات الممكنة كافة حول مستقبل اليمن عموما، والجنوب خصوصا.
وفي النهاية، ومع استمرار الانتفاضة وصمودها، وبدعم من مجلس الأمن والولايات المتحدة والدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، قام مجلس التعاون لدول الخليج العربي في فبراير (شباط) 2012، بمبادرة سياسية شاملة ومتماسكة من أجل إنقاذ اليمن من خطر الصراع وتقرير مستقبله، لكي تصبح خارطة طريق تضمن انتقال اليمن من أزمته وأخطارها إلى وضع جديد آمن ومستقر بصورة سلمية. وقد شملت الاتفاقية تفاصيل كثيرة ومحددة، من أبرزها تنحي الرئيس علي عبد الله صالح من السلطة، ومنحة الحصانة من الملاحقة القضائية في الداخل، كما وضعت وثيقة تنفيذية حول مرحلة انتقالية محددة في خطواتها ومراحلها ضمن أطر زمانية (Benchmarks). وهكذا، وبموجب آلية التنفيذ برعاية الأمم المتحدة لخارطة الطريق، صار على الحكومة أن تُخضع قوات الأمن كافة للقيادة المدنية، وأن تنجز مشروعا للدستور وتصلح النظامين الانتخابي والقضائي، وأن تضع قانونا للعدالة الانتقالية، وإجراء انتخابات عامة في عام 2014. وكذلك قضت الاتفاقية بتفويض علي صالح كامل السلطة إلى نائبه، عبد ربه منصور هادي، وتشكيل حكومة إجماع وطنية، تضم حزب المؤتمر الشعبي الحاكم وأحزاب اللقاء المشترك، وإطلاق حوار وطني يضم جميع الأطراف لمعالجة مظالم كل المجموعات، وإضافة إلى تشكيل لجنة عسكرية وأمنية تعمل على معالجة الانقسام والتوتر داخل القوات العسكرية والأمنية.
وافق علي صالح بعد شهور من المماطلة على الاتفاقية، ووقعها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، مع تفويض السلطة لنائبة عبد ربه هادي، ثم أُجريت انتخابات رئاسية حيث انتخب عبد ربه هادي رئيسا - بلا منافس - لليمن في 21/ 2/ 2012. وقد حدد الرئيس هادي لحكومته مدة سنتين، على أن تعمل على تنفيذ أمور رئيسة، من أبرزها إطلاق مؤتمر حوار وطني، وإعادة الهيكلة العسكرية والأمنية، وتحقيق العدالة الانتقالية، ومعالجة القضايا السياسية والاقتصادية، ووضع دستور جديد يحظى بإجماع وطني قبل انتخابات فبراير (شباط) 2014. وعلى أي حال، فمن المؤكد أن إجبار الرئيس علي صالح على التنازل عن السلطة وتفويض نائبه جنّب اليمن مصادمات عسكرية، أو حتى حربا أهلية على أسوأ تقدير، كما زعزع بعض أساسيات النظام القديم. ومن دون شك، فإن المرحلة الانتقالية، على الرغم من تعثرها وانتخاب رئيس جديد، قد فتحت الإمكانية لفرصة نادرة وثمينة لن تتكرر، وبالتالي يمكن أن تتيح صياغة قواعد وعلاقات جديدة تحفظ مصالح جميع الأطراف، في إطار يمن موحد.
وفي الحقيقة، فإن البرنامج الذي أعلنه الرئيس عبد ربه هادي وحكومته، كان طموحا ومثيرا للإعجاب، ولكن تنفيذه يتطلب توفر مناخ ملائم وشروط صعبة وكثيرة. وعموما، وأيا كانت الآمال المعقودة، فقد بدأ مؤتمر الحوار الوطني في 18 مارس (آذار) 2013، تحت مظلة عامة تضم فئات متعددة ومختلفة من الشمال والجنوب. غير أن ثمة مشكلات عدة قد تعترض المرحلة الانتقالية، هي:
أولا: الوضع الاقتصادي الفاسد والمتهالك لعقود طويلة، خاصة في السنوات الأخيرة بعد اندلاع الانتفاضة والاحتجاجات.
ثانيا: تؤكد التجارب أن الشعوب بعد كل ثورة أو تغيير تساورهم آمال واسعة بحل مشكلاتهم بصورة مباشرة، وإذا لم يحدث هذا يُصاب الناس بالإحباط بسرعة، ثم يتراجع حماسهم بقوة، ولا تلبث أن تنكفئ كل فئة أو طرف إلى وضعها السابق، وهنا فإن اليمن في هذه الحالة ليس استثناء. وفي اعتقاد الكاتب، فإنه إذا نجحت الدول المانحة في اتخاذ إجراءات كبيرة وعاجلة في الاستجابة لمعالجة أهم مشكلات الظروف المعيشية والإنسانية خلال الفترة الراهنة من المرحلة الانتقالية، فإن غالبية الشعب سوف يكون مستعدا للصبر والانتظار لإنجاز التسوية السياسية.
ثالثا: على الرغم من سعي الرئيس هادي في المناقلة والتغيير في القيادات العسكرية والأمنية، مثل أبناء علي صالح وعائلته وذويه، وكذلك الفريق علي محسن الأحمر من عائلة الأحمر القوية، فإن مراكز الجانبين قوية وباقية في الأجهزة العسكرية والأمنية، كما يسيطر الفريقان منذ زمن على كثير من الموارد والثروات والأنشطة الاقتصادية. ولهذا فإن كل فريق قد يسعى لحفظ مصالحه السابقة، وربما يستطيع أي طرف أن يستغل موارده لتقويض مصالح الآخر مما يؤدي إلى المقاومة والممانعة في إعادة الهيكلة في الأجهزة العسكرية، من حيث دمج الفرق والمناقلات والصرف عن الخدمة وحل بعض الفرق الخاصة.
رابعا: ما زالت تحديات الحراك الجنوبي والحوثيين قائمة، وبالطبع لكل طرف أسبابه من نواحٍ عديدة، فالنزعة الانفصالية تتزايد في الجنوب، كما وسع الحوثيين سلطتهم ومناطقهم في الشمال، وما زال الجانبان ينظران بكثير من الشك إلى نجاح المرحلة الانتقالية، ولهذا لا بد أن تُبنى جسور التواصل والثقة، مهما كانت سعة الخلاف.
خامسا: ومع سوء الأوضاع والفراغ الأمني المتزايد لأكثر من عقد من الزمن، أصبحت كثير من المناطق، خاصة البعيدة، مسرحا لـ«القاعدة» وأنصارها، علاوة على انتشار أنصار الشريعة، وهم مزيج من «القاعدة» وسلفيين ومتطرفين. ومع سوء الأمن في المدن الرئيسة، مثل صنعاء وتعز والحديدة، فإن المناطق الأخرى، مثل أبين ومآرب والجوف وحضرموت، باتت أكثر سوءا وإهمالا.
سادسا: ومما يزيد الطين بله، تصاعد النقمة ضد العمليات الأميركية واستخدام الطائرات من دون طيار (Drones) في قصف أي هدف مشتبه فيه، مما ينتج عنه كثير من الدمار العشوائي الوحشي الذي يذهب ضحيته المئات من الأبرياء. وساهم ذلك، إلى حد كبير، في تقوية مواقع «القاعدة» وادعاءات المتطرفين، وظهور جماعات مسلحة معارضة للنظام في صنعاء، ترفض التدخل الأميركي، كما أصبحت هذه الجماعات ترتبط بصورة أو بأخرى مع «القاعدة» والفئات الجهادية، نتيجة لتقاطع بعض المصالح والأهداف، على الرغم من أنها أصلا مدفوعة بعوامل سياسية واجتماعية أكثر من عقائدية دينية.
سابعا: مما يظهر - حتى الآن - في مؤتمر الحوار الوطني، أن الممارسات والمناقشات الحزبية التقليدية ما زالت تسيطر على هذه الفئات، ويشعر كثير من الإصلاحيين والنشطاء أن المصالح السياسية الخاصة لحزب المؤتمر الشعبي وأحزاب اللقاء المشترك، أصبحت تطغى على المصلحة العليا العامة، وأن الطرفين يسعيان للمحافظة على دولة شديدة المركزية، مع إضافة واجهات تجميلية من أجل تسويق مشاريعهم. بينما ينظر بعض الجنوبيين أن مثل هذه الممارسات تحابي الأطراف التقليدية الشمالية، مما يسهم في تزايد الشكوك حول المرحلة الانتقالية، وحالة الانقسام بين الشمال والجنوب. وبعبارة أخرى فإن التسوية ظلت تجري بصورة رئيسة من قبل نخب قديمة ذات تأثير ونفوذ، حيث شارك جزء كبير منها بالسلطة، وكانوا أصلا مسؤولين عن مشكلات البلاد في السابق.
ثامنا: التنفيذ وكيف؟ ما زال التنفيذ يفتقر إلى آلية المساءلة والمحاسبة الجدية التي يمكن أن تتابع سجل الالتزامات والخطوات وتنفيذها، وكذلك الانتهاكات لأي اتفاق من أي طرف. وهذه مسؤولية يمنية من جهة، وكذلك دول مجلس التعاون والأمم المتحدة والأطراف العربية والدولية من جهة ثانية.
ما العمل؟ على الرغم من التحديات والضغوط المتزايدة فإن المرحلة الانتقالية سوف تبقى الفرصة الوحيدة التي لن تتكرر من أجل العمل بإصلاحات جذرية في الهيكل العسكري والأمني والسياسي والإداري للدولة اليمنية، ولهذا فإن العمل يتطلب جانبين رئيسين متكاملين ومتلازمين لنجاح المرحلة الانتقالية.
الجانب الأول: الهيكلة العسكرية والأمنية:
1 - من المعروف أن الجيش اليمني والأجهزة العسكرية ليسا احترافيين في ظل عقيدة عسكرية وطنية، وكذلك الحال في الأجهزة الأمنية التي أصبحت كلها أشبه بإقطاعيات شخصية، ولهذا فإنها تتطلب إعادة هيكلة، وتلك عملية حساسة وبالغة الصعوبة، لأنها تهدد بشكل مباشر مصالح ومحسوبيات متراكمة، وولاءات ومراكز قوى متجذرة. وهذه العملية تتطلب وسائل عديدة، من أبرزها إحداث تنقلات واسعة، ليس فقط بالقادة السابقين بل الأوساط الوسطى، وكذلك دمج بعض الفرق المنقسمة، بل وحل بعضها. وفي هذه الحالة، فإن المسألة ليست تدوير مناصب، بل ينبغي أن تكون متوازنة وشاملة دون تحيز لهذا الطرف أو ذاك، ولا تكون متسرعة حتى لا تسبب ردود أفعال عنيفة، لأن مراكز القوى القديمة قادرة على أن تقاوم وتخرب جهود الإصلاح.
2 - تعزيز الاحترافية في القطاعين العسكري والأمني وفرض الانضباط، وتأكيد الهوية المؤسسية الموحدة، واحترام التراتيبية من أسفل إلى أعلى، حتى وزير الدفاع والداخلية، إلى رئيس الجمهورية، وكذلك إدماج رجال القبائل وبعض الميليشيات في الأجهزة الأمنية دون تشجيع للعصبية القبلية، والعمل بطريقة أو بأخرى لإخراج التجمعات القبلية المسلحة من المدن. ومن الضرورة تطبيق الإجراءات والقوانين تدريجيا، من دون تحيز في التوظيف والصرف والخدمة والتنقلات والرواتب والتقاعد... إلخ.
الجانب الثاني: الهيكلة السياسية والإدارية والقانونية:
1 - في البداية لا بد من الاعتراف بكثير من ديناميات تكوين المجتمع اليمني - في شماله وجنوبه - سواء القديمة أو تلك المستجدة، وذلك من حيث فهم التركيب الاجتماعي والانتماء القبلي، وخلفية التعدد المذهبي والتسامح الديني الذي كان سائدا طيلة عهود، إضافة إلى الأعراف والعادات الإيجابية السائدة التي قد تساعد على حل النزاعات واستيعاب الخصوم... إلخ. وفي ضوء هذا، يمكن النقاش والإقرار بالمظالم المشروعة في حالة الجنوب أو الحوثيين أو غيرهم، والعمل على إصلاح العلاقات الودية دون كيل الاتهامات، والاعتراف بأن الجميع كانوا مسؤولين على حد سواء في الماضي.
2 - إعادة هيكلة المؤسسات الإدارية وضمان الرقابة المدنية، بحيث تكون الإجراءات والقرارات بأيدي المؤسسات المدنية في ظل القانون، وليس بأيدي المحسوبية والفئوية. ويجب تبادل كل وجهات النظر عن معايير وقواعد الدولة الجديدة الوليدة، حتى وإن كانت متباينة ومتعارضة، والتأكيد أن يخرج كل طرف كاسبا لرؤيته، وليس خاسرا أو مستضعفا، حتى يتسنى لكل طرف تسويق التسوية وإقناع أنصاره بالمصالح المكتسبة.
3 - ومن المهم جدا التأكيد على أولوية رئيسة، ذلك أنه من أصعب العقبات غياب عقد سياسي شامل، حتى الآن، ولكن إذا تم تجاوز معظم التحديات المذكورة خلال العملية الانتقالية، فإنه يصبح من الممكن صياغة دستور وطني جديد واضح القواعد والمعالم، ينظم كل العلاقات والحقوق والواجبات السياسية والاقتصادية والإدارية لكل أجزاء اليمن ضمن إجماع سياسي شامل وموحد.
لا شك أن كل هذا يتطلب جهدا كبيرا وتنازلات ومفاوضات مرهقة وحكمة وحسن إدارة لأزمة اليمن، وتلك مسؤولية تقع أولا على اليمنيين أنفسهم، وتقع، ثانيا، على الدول الداعمة لوحدة اليمن واستقراره، وعلى رأسها السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
خيارات وسيناريوهات:
بشكل عام، يظهر للمراقب إمكانية حصول أربعة احتمالات في التوجهات الرئيسة في المرحلة الانتقالية، وهي:
الأول: المحافظة على الوحدة القائمة بين الشطرين واستمرار المركزية والتقسيمات الإدارية السابقة، مع تحسين أداء الأجهزة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإدارية.
والثاني: المحافظة على الوحدة والمركزية والتقسيمات السابقة مع إعطاء صلاحيات كبيرة للمحافظات.
والثالث: دولة فيدرالية من إقليمين؛ الشمال والجنوب.
والرابع: انفصال الجنوب واستقلاله عن الشمال.
على الرغم مما ذُكر في السابق، أو غيره من فساد ومشكلات وتحديات في الماضي والحاضر، يمكن المراهنة على حل لأزمة اليمن، بما يكفل أمنه واستقراره ووحدته ويضمن مصالح الجميع. وتقوم هذه النظرة على معطيات تاريخية سياسية وثقافية واجتماعية عدة، ولعل أبرز ما يمكن التذكير به ما يلي:
1 - كما ذُكر سابقا، طيلة العهود التاريخية لقد عرف اليمن شماله وجنوبه بالتسامح الديني والتعدد المذهبي، بل إن بعض فروع القبيلة الواحدة قد تختلف مذهبية أفرادها، ولكن تظل الانتماءات العصبية القبلية الرابط الرئيس للفروع كافة.
2 - أيضا عُرف اليمن شماله وجنوبه بمعاداته للأجنبي ومقاومته الشديدة، التي لا تكل ولا تلين، ولعل أبرز الشواهد التاريخية يتمثل في مقاومة اليمن الشمالي للنفوذ العثماني على مدى أربعة قرون، وكذلك النضال السياسي والمسلح في الجنوب ضد الاستعمار البريطاني.
3 - وأيا كانت الانتقادات للنظام اليمني السابق، سواء في فترة الانتفاضة أو قبلها، فقد أثبت أنه كان أقل قمعية ووحشية، بدرجة كبيرة، من غيره من الأنظمة العربية التي هبت عليها رياح التغيير، مثل دول الربيع العربي، وبرهن على أن لديه قابلية للتكيف داخليا، وتلك المرونة، من دون شك لم تأتِ من فراغ، مهما كانت الضغوط الخارجية، بل مستمدة من تراث تاريخي.
4 - وإذا كان المجتمع اليمني يوصف تكوينه بالقبلي من الناحية التاريخية، فقد ظهرت أجيال يمنية شابة جديدة خلال العقود الأخيرة، لها إدراك واعٍ لأهمية الروابط السياسية والفكرية في علاقاتها أكثر من الرابط القبلي أو المذهبي. ولعل أبرز شاهد في هذا الصدد تلك المشاركة من الكمّ الهائل من الشباب - رجالا ونساء - والنشطاء في حشود الانتفاضة اليمنية، وكل هؤلاء من أحفاد قبائل مختلفة.
الحل؟ يمكن تصور الخيار التالي: ربما يكمن أفضل حل أو خيار في قيام دولة نصف فيدرالية - أو شبه فيدرالية - تبدد المخاوف والشكوك وتضم عدة أقاليم - وليس محافظات - مع تفويض صلاحيات أمنية ومدنية وإدارية واقتصادية واسعة، وذلك في ظل عقد سياسي (دستور) جديد وشامل ينظم جميع الحقوق والواجبات والعلاقات. ومن دون شك فإن هذا الطرح يحتاج إلى نقاش وتفاصيل ومفاوضات وتنازلات من الفئات اليمنية من جهة، ويتطلّب من الدول الإقليمية والعربية والدولية الداعمة لوحدة اليمن، وكذلك من المجتمع الدولي والدول المانحة، أن تبذل جهودها لإنجاح التسوية السياسية في المرحلة الانتقالية.
* قسم التاريخ، جامعة الملك سعود



4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
TT

4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)

192 يوماً فصلت بين اللقاء الأخير الذي جمع المرشد الإيراني علي خامنئي بالرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في طهران، وسقوط النظام السابق بيد المعارضة. هذا الفاصل الزمني لم يكن تفصيلاً عابراً في روزنامة الحرب السورية، بل تحول إلى مرآة حادة داخل طهران عكست حجم الرهان الذي وضعته القيادة الإيرانية على شخص الأسد، وكشفت عن حدود قدرتها على استشراف مسار الصراع وتحولات ميزان القوى في الإقليم.

في ذلك اللقاء، قدم خامنئي خلاصة «عقيدته» السورية على ضوء المستجدات في ساحات «محور المقاومة». فـسوريا، في نظره، ليست دولة عادية، بل صاحبة «مكانة خاصة»؛ لأن هويتها - كما رأى - تتشكل من دورها في هذا المحور.

ولأن «المقاومة هي الهوية المميزة لسوريا وينبغي الحفاظ على هذه السمة»، خاطب خامنئي الأسد بوصفه شريكاً في هذه الهوية لا مجرد حليف سياسي، وأثنى على عبارتيه: «كلفة المقاومة أقل من كلفة المساومة»، و«كلما تراجعنا تقدم الطرف المقابل». هكذا ثبّت خامنئي رهانه الكامل والمتأخر في الوقت نفسه على بقاء النظام، في لحظة كانت مؤشرات الانهيار فيها تتراكم بوضوح في الميدان، كما أقر بذلك لاحقاً بعض المسؤولين الإيرانيين.

بعد أقل من سبعة أشهر، كان النظام قد سقط، لكن سقوط نظام بشار الأسد لم ينتج رواية إيرانية واحدة، بل عدة روايات متوازية: رواية المرشد، ورواية «الحرس الثوري»، ورواية جهاز السياسة الخارجية، إلى جانب أصوات من داخل النظام نفسه عادت إلى الواجهة لتطرح أسئلة صريحة عن كلفة المغامرة الإيرانية في سوريا.

في أول خطاب له بعد سقوط الأسد، قدم خامنئي تفسيراً حاداً لما جرى، عارضاً الحدث بوصفه «نتاج مخطط مشترك أميركي - صهيوني» بمساندة بعض الدول المجاورة. وتحدث عن عوامل - قال إنها منعت طهران من تقديم المساندة المطلوبة - من بينها الضربات الإسرائيلية والأميركية على الأراضي السورية، وإغلاق الممرات الجوية والبرية أمام الإمداد الإيراني، ثم خلص إلى أن الخلل الحاسم وقع داخل سوريا نفسها، حين ضعفت «روح المقاومة» في مؤسساتها. وشدد على أن سقوط النظام لا يعني سقوط فكرة «المقاومة»، متوقعاً أن «ينهض الشباب السوري الغيور» يوماً ما لإعادة إنتاجها بصيغة جديدة.

هذه الرواية تنفي عملياً مفهوم «الهزيمة الاستراتيجية»؛ فما جرى بالنسبة لخامنئي، ليس نهاية المعركة، بل مرحلة قاسية في مسار أطول، ولذلك يصر على أن «الوضع لن يبقى على حاله».

رواية «الحرس الثوري»

في المقابل، بدا «الحرس الثوري» أقرب إلى لغة الأمن القومي منه إلى لغة العقيدة الخالصة، وإن استعان بالقاموس الآيديولوجي نفسه. في فبراير (شباط) 2013، صاغ مهدي طائب، رئيس «مقر عمار» المكلَّف بـ«الحرب الناعمة»، المعادلة بأوضح ما يكون: «سوريا هي بالنسبة لنا المحافظة الخامسة والثلاثون، وهي ذات أهمية استراتيجية. وإذا شنّ العدو هجوماً وحاول الاستيلاء على سوريا أو خوزستان (الأحواز)، فإن الأولوية لدينا ستكون الإبقاء على سوريا».

بهذه الجملة الصادمة داخلياً، رُفعت سوريا عملياً إلى مرتبة جزء من الجغرافيا الأمنية الإيرانية، يتقدّم أحياناً على أجزاء من التراب الإيراني نفسه.

وكان اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لـ«فيلق القدس»، هو المهندس الميداني لهذه المقاربة: مواجهة التهديدات خارج الحدود، عبر بناء شبكات من الميليشيات المتعددة الجنسية، وتحويل «حماية العتبات والأماكن المقدسة» إلى شعار تعبوي يغطي في آن واحد الدوافع الآيديولوجية وحسابات الأمن القومي.

وفي خطاب الذكرى الخامسة لمقتل سليماني، بعد أقل من شهر على سقوط الأسد، أعاد خامنئي تثبيت هذه المدرسة؛ فربط بين حماية العتبات في دمشق والعراق وبين حماية «إيران بوصفها حرماً» نفسها، في محاولة لتوحيد كل هذه الساحات ضمن إطار واحد: صراع أمني - مذهبي عابر للحدود.

بعد سقوط النظام السوري، حافظت هذه الرواية على جوهرها: النجاح أو الفشل لا يُقاس بهوية من يجلس في قصر الشعب في دمشق، بل بما إذا كانت شبكات النفوذ التي نسجها الحرس ما زالت قابلة للحياة، وبما إذا كان «العمق السوري» ما زال مفتوحاً أمام النفاذ الإيراني. الانسحاب الكامل من سوريا يعني، وفق هذا المنطق، الاعتراف بأن «المحافظة الخامسة والثلاثين» سقطت من الخريطة؛ لذلك سيظل «الحرس» يبحث عن طرق لإبقاء موطئ قدم (مهما كان ضيقاً) في الجغرافيا السورية.

شيباني يلتقي عراقجي بعد تعيينه مبعوثاً خاصاً بسوريا بعد شهر من الإطاحة بالأسد يناير 2025 (الخارجية الإيرانية)

رواية الجهاز الدبلوماسي

حاول جهاز السياسة الخارجية تقديم قصة أكثر نعومة للداخل والخارج. قبل السقوط بأسابيع، أوفد خامنئي مستشاره الخاص علي لاريجاني إلى دمشق وبيروت، حاملاً رسائل سياسية تطمينية إلى بشار الأسد وحلفاء آخرين. تحدث لاريجاني علناً عن أن ما يجري في سوريا ولبنان «يتصل مباشرة بالأمن القومي الإيراني»، وكأن طهران ما زالت قادرة على ضبط التوازنات.

بعده بأيام، زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي دمشق قبل ستة أيام فقط من الانهيار، واختار أن يلتقط صورة وهو يتناول الشاورما في أحد مطاعم العاصمة، في إشارة مقصودة إلى أن «الوضع طبيعي»، وأن الحديث عن انهيار وشيك جزء من «الحرب النفسية». كان ذلك ذروة الفجوة بين الصورة التي تحاول الدبلوماسية تسويقها والواقع المتفكك على الأرض.

بعد السقوط، لجأت الخارجية إلى صيغة دفاعية مألوفة: إيران «استجابت لطلب حكومة حليفة، وقدّمت المشورة والدعم»، لكنها «لا تستطيع أن تقرر نيابة عن الشعوب». هكذا خففت مسؤولية القرار عن كاهل الدبلوماسية، وأُحيل الجزء الأكبر من الفشل إلى الداخل السوري و«التآمر الخارجي» الذي يتكرر في خطابات خامنئي. هذه الرواية تكشف عن قراءة تعد سوريا ملفاً من بين ملفات، لا ساحة وجودية كتلك التي يراها «الحرس الثوري» والمرشد.

من الناحية الجيوسياسية، كانت سوريا بالنسبة لطهران أكثر من حليف؛ كانت ممراً إلى لبنان وفلسطين، وساحة اشتباك مع إسرائيل، وخط دفاع متقدماً في مواجهة الولايات المتحدة. وتلخص عبارة مهدي طائب في 2013 - «إذا اضطررنا للاختيار فإن الأولوية تكون لحماية سوريا قبل خوزستان» - هذه العقيدة بوضوح.

اليوم، مع سقوط النظام الذي ارتبط بهذه العقيدة، تواجه إيران فراغاً في عمقها الإقليمي لا يمكن ملؤه بالشعارات وحدها. وهنا يصبح السؤال المركزي: كيف تتصرف طهران بعد أن فقدت النسخة التي صاغتها لنفسها من «خيمة المقاومة» في دمشق؟ الإجابة لا تأتي من خطاب واحد، بل من موازنة بين دوافع آيديولوجية راسخة، وقيود اقتصادية خانقة، وموازين قوى ميدانية لم تعد تميل لها كما في السابق.

ملصق نشره موقع المرشد الإيراني بعد آخر زيارة للأسد إلى طهران بينما كانت دمشق تتعرض إلى انتقادات بسبب تخليها عن «حزب الله»

رواية «الحساب المفتوح»

الرواية الرابعة جاءت من حيث لا يُفترض أن تأتي: من داخل المؤسسة نفسها؛ إذ خرج للمرة الأولى، من قلب البنية الرسمية توصيف شبه علني بأن العائد الاقتصادي من المغامرة السورية يكاد يكون معدوماً، وأن «الاستثمار» السياسي والأمني انتهى إلى ما يشبه الخسارة الصافية.

في مايو (أيار) 2020، قال حشمت الله فلاحت‌بيشه، الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، إن إيران أنفقت «بين 20 و30 مليار دولار» في سوريا، وإن «هذا مال الشعب ويجب استرداده».

بعد خمس سنوات، عاد فلاحت‌بيشه ليطلق اتهاماً أكثر مرارة: ديون سوريا لإيران - كما قال - سُويت عملياً عبر «أراضٍ بلا نفط، ومزارع أبقار بلا أبقار، ووعود فارغة».

هذا الصوت ليس استثناءً. على مدى عقد، ربطت شعارات الاحتجاجات الداخلية بين «غزة ولبنان وسوريا»، والخبز والوقود في المدن الإيرانية. ومع سقوط الأسد، صار من الأسهل على المنتقدين القول إن النظام أنفق عشرات المليارات، ودفع كلفة بشرية ملموسة بين مقاتليه وحلفائه، لينتهي إلى نفوذ شبه معدوم تقريباً في دمشق.

بالنسبة لصانع القرار، تتحول هذه الرواية إلى عامل ضغط داخلي ضد أي قرار بالعودة إلى سوريا بالحجم نفسه الذي كان عليه التدخل السابق.

عند جمع هذه الروايات المتوازية، يتضح التناقض الجوهري في المقاربة الإيرانية بعد سقوط الأسد: المرشد و«الحرس» لا يعترفان بأن إيران «خسرت سوريا»، بل يتعاملان مع ما جرى كمرحلة عابرة في مسار صراع أطول، ويصران على أن «جبهة المقاومة» قادرة على إعادة إنتاج نفسها، وأن سوريا ستعود، بطريقة ما، إلى هذا المدار. في المقابل، تكشف رواية الدبلوماسية الرسمية ورواية «الحساب المفتوح» عن إدراك ضمني بأن نموذج التدخل الذي طبق خلال العقد الماضي لم يعد قابلاً للاستمرار بصيغته السابقة، لا سياسياً ولا مالياً.

قائد «الحرس الثوري» يقدم إفادة لنواب البرلمان حول سقوط نظام بشار الأسد وخروج القوات الإيرانية يناير 2025 (موقع البرلمان)

السيناريوهات: هل تعيد طهران دمشق للمحور؟

في ضوء ما سبق، يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسية، ليست متنافية بالضرورة، بل يمكن أن تتداخل زمنياً وجغرافياً.

السيناريو الأول هو «العودة عبر الوكلاء». وهو الأقرب إلى منطق «الحرس الثوري» ومدرسة سليماني. هنا تحاول طهران إعادة بناء نفوذها في سوريا من أسفل، عبر شبكات محلية مسلّحة كانت نواتها موجودة أصلاً، أو عبر تجنيد مجموعات جديدة تحت شعارات مذهبية أو آيديولوجية. الهدف ليس استعادة نظام شبيه بالأسد، بل تكوين قوة ضغط دائمة على أي سلطة قائمة في دمشق، وأداة استخدام ضد الخصوم الإقليميين. نجاح هذا السيناريو يتوقف على عاملين خارج السيطرة الكاملة لإيران: مآل معادلة الحكم في دمشق، واستعداد المجتمع السوري لتحمل دورة عنف جديدة أياً كان اسمها.

السيناريو الثاني هو «التموضع الإقليمي من دون سوريا». وفق هذا المسار، تقبل طهران ضمناً بأن دمشق لم تعد محور ارتكاز لنفوذها كما كانت، فتُعيد توزيع مواردها على الساحات الأربع التي ما زالت تمسك ببعض خيوطها فيها، رغم تراجع دورها النسبي: لبنان، العراق، اليمن، وغزة. تتحول سوريا هنا إلى ساحة استنزاف ثانوية، يقتصر الدور الإيراني فيها على منع الخصوم من تحويلها إلى منصة تهديد مباشر، من دون الدخول في مشروع جديد لإعادة هندسة النظام السياسي.

وينسجم هذا المسار مع ضغوط الكلفة المالية والبشرية التي راكمها التدخل خلال العقد الماضي، لكنه يصطدم بحقيقتين أساسيتين: حاجة «حزب الله» إلى سوريا بوصفها ممراً لوجيستياً، واستمرار خطاب خامنئي في التعامل معها على أنها عنصر بنيوي في «جبهة المقاومة».

السيناريو الثالث هو «التسوية الرمادية». هنا لا تسعى إيران إلى فرض عودة صاخبة، بل إلى تسلل محسوب عبر اتفاقات موضعية مع القوى المسيطرة على مناطق مختلفة من سوريا، وعبر مشاريع اقتصادية أو أمنية محدودة. الخطابات التي يتحدث فيها خامنئي عن أن «الأيام لا تبقى على حالها»، وأن «الشباب السوري سيعيد التوازن» يمكن قراءتها كتهيئة لعودة تدريجية وغير صدامية، تتيح لطهران القول إنها ما زالت «حاضرة» من دون أن تتحمل كلفة الرهان على نظام واحد كما فعلت مع الأسد.

السيناريو الرابع هو «مأسسة الخسارة». في هذا المسار، تتعامل طهران مع فقدان سوريا على أنه أمر واقع، من دون محاولة جدية لاستعادة نفوذ ميداني، لكنها تحوله إلى ملف داخلي - عقائدي أكثر منه جيوسياسي، خصوصاً في ضوء السردية التي تبنتها بعد الحرب الـ12 يوماً مع إسرائيل في يونيو (حزيران) 2025. تعاد تجربة سوريا وتؤطر ضمن خطاب «المؤامرة على جبهة المقاومة»، وتستخدم ذريعة لتشديد القبضة الأمنية، وتقييد النقاش حول كلفة التدخلات الخارجية، وتجريم الربط بين الإنفاق الإقليمي والأزمة المعيشية.

في المقابل، تبقي إيران على حضور رمزي منخفض في الملف السوري (لغة الشهداء، العتبات، حراك دبلوماسي شكلي)، فيما تطوى عملياً صفحة «المشروع السوري» بوصفه عمقاً استراتيجياً، من دون إعلان هزيمة صريحة، بل عبر تغليفها بلغة «الابتلاء والصمود»، ودفعها تدريجياً إلى هامش أجندة صنع القرار.

في كل هذه السيناريوهات تبقى حقيقة واحدة ثابتة: سوريا، التي نظر إليها يوماً على أنها أهم من «الأحواز» و«الهوية المميّزة للمقاومة»، لم تعد، في ميزان الواقع، ما كانت عليه قبل الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. يمكن للمرشد أن يراهن على الزمن، ولـ«الحرس» أن يفتش عن فتحات جديدة في الجغرافيا السورية، وللخارجية أن تلمّع لغة بياناتها، وللمنتقدين أن يتحدثوا عن «أراضٍ بلا نفط».

لكن السؤال المعلق فوق كل نقاش في طهران سيظل واحداً: هل تستطيع إيران أن تتحمل مغامرة ثانية بهذا الحجم في سوريا، بعد أن خرجت من الأولى وهي تحاول إقناع نفسها بأن «خيمة المقاومة» ما زالت قائمة، فيما عمودها السوري مكسور؟


كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
TT

كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)

«في تلك الليلة لم يُكسر قفل محل واحد في حينا»، يقول وائل، طبيب في الأربعين من عمره، وهو يقف أمام عيادته الصغيرة في شارع بغداد وسط دمشق. يروي لحظة لن ينساها من يوم 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024: «شاهدنا لصوصاً في طريقهم لاقتحام البنك المركزي في ساحة السبع بحرات. كنا بين صدمة وخوف وفرح، ثم أدركنا أن أحداً لن يحمينا... فبدأنا نحمي أحياءنا بأنفسنا».

كانت تلك الساعات الأولى بعد انهيار نظام بشار الأسد، حين عم الخوف وبات شبح الفوضى يخيم على المدينة. لكن دمشق، بطريقة ما، حمت نفسها.

نور الدين ترجمان، المعروف بـ«أبو جبريل»، أحد أبرز المتطوعين في لجنة حماية الجسر الأبيض والروضة القريبين من المقرات الأمنية والقصر الرئاسي، يتذكر ما حدث عند الثانية بعد منتصف الليل: «شاهدنا عناصر من النظام السابق يخلعون بزاتهم ويرمونها في حاويات القمامة قبل أن يفروا». بعد دقائق، وصلت مجموعات مسلحة على متن سيارات وشاحنات ودخلت المقر الأمني المعروف بـ«قسم الأربعين».

نهبوا كل شيء؛ السلاح، الحواسيب، الأقراص الصلبة، الوثائق، وحتى خزانات الوقود. لكن رغم موقع القسم وسط السوق التجارية والفوضى التي غمرتها، لم تُقتحم أي من المحال.

يقول أبو جبريل لـ«الشرق الأوسط»: «إن أطفالاً كانوا يلعبون بالسلاح والقذائف وسط إطلاق نار. الأهالي عاجزون عن التدخل. لكن عندما اندلع حريق داخل القسم، هرع الناس لإخماده خوفاً من انفجار أكبر». لم تهدأ المنطقة إلا مع وصول عناصر من «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر.

حارس أمام علم في ساحة باب توما (رويترز)

قناص في «واتساب»

مع اتساع حوادث السرقة، خصوصاً السيارات، بدأ شباب الحي، وبينهم أطباء ومهندسون وأصحاب محلات وطلاب جامعيون، يتجمعون. يقول أبو جبريل: «بعد عشرين يوماً من سقوط النظام بدأ العمل ينتظم». وارتفع عدد المتطوعين من 75 إلى نحو 300. اشتروا أجهزة اتصال، وقسموا إلى مجموعات، وزودتهم السلطة الجديدة بقطعتي سلاح لكل مجموعة مع كلمة سر للتعريف.

واعتمدت اللجان على مجموعات «واتساب» للتواصل بين أفراد اللجان أنفسهم، وبين اللجان والأهالي. في بعض الأحياء تجاوز عدد المشتركين الآلاف. كانت المشاركة شخصية ومباشرة للإبلاغ عن تحركات مريبة، تصوير السلوكيات الخطرة، والمراقبة المستمرة.

ولا تخلو تلك المجموعات من خروقات، كما حصل لدى اكتشاف قناص من النظام السابق ضمن لجان الحماية نفسها.

القصاع وباب توما

في حي القصاع ذي الغالبية المسيحية، بقي الخوف من التجييش الطائفي حاضراً، خاصة بعد كتابة عبارات طائفية على جدار كنيسة القديس كيرلس. يوسف، أحد شبان «الفزعات» في باب توما والقصاع، يقول إن المتطوعين لعبوا دوراً حاسماً في احتواء الانفلات الأمني منذ اللحظة الأولى: «بدأت الفوضى عند الخامسة فجراً واستمرت حتى الثانية ظهراً. كانت المؤسسات الأمنية والحكومية تُنهب بالكامل، بعضها تعرض للحرق مثل مبنى الهجرة والجوازات في الزبلطاني». ويضيف: «رأيت أطفالاً يعرضون أسلحة للبيع ولصوصاً يسرقون السيارات».

أغلق شباب الحي الحارات بالسيارات حتى وصول «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر. الخوف الأكبر كان من احتمال وقوع مجازر. يقول يوسف: «فجأة وجدنا أنفسنا أمام مسلحين (...) ذهبنا إليهم وطلبنا وضع حد للفوضى. وكانوا متعاونين».

وبحسب شهادة يوسف، فإن أعمال العنف لم تحدث بالمعنى المنظم في الأشهر الأولى، بل كانت هناك حوادث بالفعل واستفزازات، بسبب الخوف المسبق وسوء الفهم والجهل المتبادل بالآخر.

رفض أهالي الأحياء المسيحية تسلم السلاح من السلطة الجديدة خشية أن يجر ذلك إلى «خراب»، مفضلين الاعتماد على «الكثرة العددية» في حال حدوث طارئ، واللجوء إلى قوى الأمن لمواجهة الخطر عند الحاجة. وقد ساعد ذلك في إحباط هجوم مسلح والتصدي لسيارات رفعت شعارات طائفية.

سيدة سورية تُلوِّح بعلامة النصر حاملة باقة ورد في «ساحة الأمويين» بدمشق احتفالاً بإعلان إطاحة الأسد (أرشيفية - أ.ف.ب)

«أوقفنا 200 لص»

بعد عام على سقوط النظام، يقول سكان من الجسر الأبيض إن لجان المجتمع الأهلي التي تشكلت لعبت دوراً أساسياً في سد الفراغ الأمني إلى حد ما، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى، مشيرين إلى أن أكثر من 200 لص أُوقفوا في ذلك الحي وحده.

محمد الفقي يروي: «في تلك الأشهر عملنا في كل شيء؛ تنظيم السير، الحراسة، ملاحقة العصابات، الإسعاف، تأمين ذهاب الأطفال للمدارس. لم يكن هناك خيار آخر لحماية أهلنا».

ويضيف الفقي أن التحدي الأكبر كان غياب القدرة على التمييز بين رجال السلطة الحقيقيين ومنتحلي الصفة.

يضحك أبو جبريل وهو يستعيد ذكريات الأسبوع الأول: «كنا مجانين. نحمي الحي بلا سلاح ولا تدريب. تعرضنا لإطلاق نار مرات عدة، ومع ذلك واصلنا السهر كل ليلة على أمن الحارات».

هكذا، في تلك الليلة الرهيبة التي سقط فيها نظام بشار الأسد وعمت الفوضى، لم تنزلق دمشق إلى الهاوية التي خاف منها الجميع. وقام أهلها بحمايتها عبر ارتجال قرار جماعي.


السوريون يحتفلون بـ«حق العودة»... والمغيبون قسراً أبرز الحاضرين

امرأة تمرّ بجانب عرضٍ لجوارب تحمل رسومات ساخرة من بشار الأسد وحافظ الأسد في إحدى أسواق دمشق (د.ب.أ)
امرأة تمرّ بجانب عرضٍ لجوارب تحمل رسومات ساخرة من بشار الأسد وحافظ الأسد في إحدى أسواق دمشق (د.ب.أ)
TT

السوريون يحتفلون بـ«حق العودة»... والمغيبون قسراً أبرز الحاضرين

امرأة تمرّ بجانب عرضٍ لجوارب تحمل رسومات ساخرة من بشار الأسد وحافظ الأسد في إحدى أسواق دمشق (د.ب.أ)
امرأة تمرّ بجانب عرضٍ لجوارب تحمل رسومات ساخرة من بشار الأسد وحافظ الأسد في إحدى أسواق دمشق (د.ب.أ)

أن تزور دمشق بعد عام على سقوط نظام الأسدين، وعشية استعداد البلاد لإحياء الذكرى الأولى لـ«التحرير» في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2025، فأنت تعايش أياماً أقرب إلى «وقفة عيد»، وتمشي حاملاً مجهراً يغرقك في تفاصيل ومقارنات لا تنتهي. مقارنات لا تقتصر على ما عاينته وشهدته بعين خارجية قبل عام فحسب، بل بما تختزنه 15 عاماً من أثقال وأهوال، وما تتفتح عنه ذاكرة محدثيك من تجارب شخصية وعامة و«تروما» متراكمة باختلاف الأجيال.

«وقفة عيد» عبارة قد تختصر المشهد العام في وسط العاصمة السورية في الأيام القليلة الماضية، بكل ما تحمله من تجهيزات وزينة وفرح، كما وغصّة وتعطيل للعمل وتسيير الأمور، حيث يقابل أي ترتيب بسيط بعبارة «إن شالله لبعد الاحتفالات».

فتاة تحمل العلم السوري خلال الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى للإطاحة بنظام الأسد في دمشق (أ.ب)

حقبة سوداء انتهت

وأجواء الاحتفالات تلك تبدأ منذ نقطة العبور الحدودية من لبنان لجهة معبر المصنع؛ لافتات كبيرة على طول الطريق المؤدي إلى دمشق ترفع شعارات «انتهت الحقبة السوداء... وأشرق وجه البلاد» و«كتف بكتف، يد بيد، نبني الوطن»، و«وطن واحد... شعب واحد» وغيرها من الملصقات الحديثة التي صممت كلها بحسب «الهوية البصرية» الجديدة ذات العقاب الذهبي.

تلك الشعارات والعلم الجديد كما وشعار النسر، خطّت على أسوار المواقع العسكرية التي أخلاها النظام السابق، وعند مدخل البلدات ومركز الفرقة الرابعة على طريق بيروت - دمشق فحلّت محل شعارات «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» و«قائدنا إلى الأبد» وغير ذلك من صور وعبارات انطبعت في اللاوعي الجمعي السوري.

ولئن لاقت الهوية البصرية الجديدة التي أعلن عنها صيف 2024 انتقادات واسعة لجهة أنها «ليست من الأولويات» في بلد منهك ومدمر، لكن الواقع على الأرض يجانب تلك الحقيقة وقد لا يصيبها تماماً. ذاك أن «الهوية البصرية» في النظام السابق كانت عملاً ممنهجاً ودؤوباً وجزءاً أساسياً من تركيز النفوذ وتثبيته في النفوس، يبدأ من دفاتر تلامذة الروضات وصبورات الصفوف المدرسية ولا ينتهي عند صور وتماثيل هائلة احتلت الساحات والفضاءات العامة.

لذا ليس من قبيل الصدفة أن يكون أول ما بدأ تهشيمه وتكسيره وتمزيقه لحظة سقوط النظام السابق هو «أيقوناته» ورموزه البصرية، فكان لا بد من إشغال ذلك الفراغ البصري بما يعكس طبيعة السلطة الجديدة عوضاً عن تركه عرضة لعشوائية فصائلية ومناطقية كانت بدأت تظهر مطلع العام الماضي. وبشيء من السخرية يقول قائل إنه لولا الحاجة للتعامل بالأوراق النقدية والعملة السابقة لعمد كثيرون إلى إحراق الأموال التي تحمل رموز النظام السابق.

لكن، وفي سياق نبذ كل ما له صلة بما مضى وتجذير ما حضر، ذهب كثيرون خطوات أبعد في تبني «الهوية البصرية» الجديدة في الملبس والمظهر والسلوك الاجتماعي. ففي حين «تشذبت» اللحى وقصر طولها وخف إلى حد بعيد مظهر مقاتلي «هيئة تحرير الشام» بشعورهم الطويلة وأزيائهم الغريبة، كما كان الحال قبل عام من اليوم في دمشق، باتت اللحية عموماً خفيفة منمقة أو شبه محفوفة الشوارب، هي السمة الطاغية للشباب والرجال.

وتحوّل النسر الذهبي إلى أزرار تعلق على الأكمام والياقات لألبسة رسمية تغلب عليها التصاميم التركية، ولا تقتصر على الموظفين الحكوميين، وإنما امتدت إلى أي شاب مدني يعمل في القطاع الخاص وراغب بأن يشبه عصره.

وإذ صهرت أجهزة الدولة الناشئة المقاتلين السابقين في قنواتها الرسمية وأبرزها جهازي الشرطة والأمن العام، تبدلت أزياء العسكريين السابقين أيضاً من قميص وشروال أو بزّات مموهة بحسب الفصيل العسكري، وانسحبت من المشهد العام ليحل محلها لباس أسود موحد وأوجه مكشوفة وسلاح غير ظاهر ولا محتفى به. وهؤلاء هم «موضة» المراهقين واليافعين الذين شاع بينهم اللون الأسود، وباتوا غير صابرين على نمو لحاهم، تطبعاً بنموذج رجل السلطة الجديد.

هذا التغيير المشهدي، البسيط ربما في سياق التحولات الكبرى التي تشهدها سوريا اليوم، امتص جزءاً كبيراً من غضب الدمشقيين المكبوت وتوجسهم حيال حكامهم الجدد القادمين من أرياف ومحافظات بعيدة. فمعلوم أنه في بلد شديد المركزية كسوريا، لا نجاح في امتحان عام قبل اجتياز اختبار دمشق. ودمشق اليوم، وعلى رغم التحديات والانتظارات الكثيرة... في وقفة عيد.

ذهب سوريون خطوات أبعد في تبني «الهوية البصرية» الجديدة في الملبس والمظهر والسلوك الاجتماعي (أ.ب)

رايات بيض

ازدحامات خانقة تحيل الوصول إلى أي مكان أشبه بمعجزة، ومواكب جوالة بالأعلام ورايات التوحيد البيضاء، وشوارع تغلق عصراً في محيط ساحة الأمويين، فتزيد اختناق الشوارع الداخلية. شبكة الهاتف مثقلة. الفنادق متخمة. حجوزاتها مغلقة بأسعار صاروخية حتى تلك التي كانت عريقة وفاخرة ذات يوم وتوقف بها الزمن في نهاية الثمانينيات فبقيت اليوم مجرد أطلال شاهدة على العصر.

رواد الفنادق يتراوحون بين مغتربين سوريين، ومشاركين في ندوات وورشات عمل لناشطين في المجتمع المدني، ووفود أجنبية ودبلوماسية على أرفع المستويات، وصحافة محلية وعالمية، وتجار ومقاولون وعناصر أمن وفدوا من المحافظات والمناطق البعيدة، ومجرد فضوليين يتسكعون في البهو ما أتيح لهم ذلك.

أحد القواسم المشتركة بين هؤلاء كلهم وغيرهم ممن غصّت بهم دمشق، أنهم كانوا قطعوا الأمل بالعودة يوماً إلى بلدهم، واليوم يغرفون منها ما استطاعوا. عائلات بأكملها أتيح لها خلال العام الماضي احتضان أبناء وبنات منفيين منذ أكثر من عقد، ولقاء أحفاد لم يشهد الأجداد على ولادتهم، وفي أحسن الأحوال تعرفوا إليهم عبر شاشات الهواتف. شباب وشابات غادروا يافعين هرباً من اعتقال وموت محتم، وعادوا اليوم رجالاً ونساء في منتصف العمر يحاولون حشر أجسادهم الكهلة في أسرّة الصبا.

وكما في وقفة كل عيد، فإن مشاعر البهجة والحبور لا تطرق بعض الأبواب إلا محمّلة بدمع كثير. ولعل سكان المناطق المدمرة سواء في المخيمات البعيدة أو في الأحياء المحاذية لمنصة الاحتفالات في ساحة الأمويين، وأهالي المفقودين والمخفيين قسراً أكثر من تبتلع الغصة فرحتهم اليوم وهم مدركون أن طريقهم طويل وعسير. إنهم أبرز الحاضرين في هذه الذكرى، إذ لا تخلو عائلة من فقيد أو مفقود لا تزال تبحث له عن أثر أو رفاة لإتمام مراسم الدفن والعزاء.

لكن أيضاً فإن تجمعات الأهلية سواء لأهالي المفقودين أو المنظمات الحقوقية كما وأصحاب الأعمال وغيرهم من التجمعات، عادوا ونقلوا نشاطهم إلى داخل بلدهم وعقدوا اللقاءات ورفعوا المطالب من وسط عاصمتهم. وفي ذلك لا شك كسب كبير.

صورة عامة لمئات الأشخاص في ساحة العاصي خلال الاحتفالات في مدينة حماة (إ.ب.أ)

غلبني الشوق

أكثر من أي شيء، هو احتفاء بـ«حق العودة» الذي حرم منه السوريون لعقود مضت وسبقت أحياناً ثورة 2011. يقول رجل أربعيني عاد واستقر في دمشق بعد 13 عاماً قضاها في إسطنبول: «أنا عائد لأنني ببساطة مشتاق. مشتاق لأهلي وحارتي وحياتي التي وإن كرهتها آنذاك، تركتها مرغماً ومطروداً».

وفي معرض حديثه عن بعض من يحاولون تأطير خيارات الأفراد في سياقات سياسية عامة كـ«المساهمة في بناء سوريا الجديدة» وغيره من عناوين برّاقة يقول: «أعتقد أنني كنت أساعد بلدي وناسي بأشكال كثيرة حتى وأنا في الخارج. ولكني اليوم عدت لأنه غلبني الحنين. ويجب أن يكون الحق بالشوق حجة كافية للعودة. الحق في أن أختار عودتي بمعزل عن درجة الرضا أو عدم الرضا عن شكل الحكم وأداء السلطة الوليدة».

تلك عبارة تختصر الكثير من حال السوريين اليوم، داخل دمشق وخارجها ممن التقيناهم حتى في المحافظات البعيدة. كأن الناس يحتفلون عملياً باستعادة حقهم في تقرير مصائرهم.

وفيما يبدو أنه ليس للسياسة حيّز كبير اليوم، غير أن الفيل الحاضر في كل مجلس قرارات الحكومة والأداء الإعلامي والحقوقي وسلوك الشرطة وأحداث الساحل والسويداء والعلاقة بـ«قسد» وارتفاع الأسعار وتجاور الفقر والثروة وإغفال ملفات المغيبين والمخفيين في السجون، ذلك كله وغيره الكثير يجري تشريحه ويوضع تحت المجهر بصوت عالٍ، في الشارع والمقهى والمطعم كما لو أنه فعلاً لم يعد للجدران آذاناً. يضحك محدثي من هذا التشبيه ويقول: «بالفعل، لم يعد للجدران آذان... ولكن لغير الجدران أيضاً. كل يفعل ما يشاء. الأفراد والجمعيات والوزارات والمحافظون ورجل الشرطة في سوق الحميدية... كأن الجميع استعاد لسانه وقطع أذنيه».