الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية

على أبواب التجربة السياسية المقبلة

الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية
TT

الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية

الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية

يُقبل الصومال على مرحلة سياسية جديدة بحلول أغسطس (آب) 2016. تختلف عن جميع مراحل العملية السياسية السابقة، التي بدأت قبل عقد ونصف، تغير اللاعبون المحليون في السياسة الداخلية كما تغير اللاعبون الإقليميون والدوليون الذين يؤثرون في سير العملية السياسية في الصومال ونتائجها خلال الأربع سنوات القادمة وربما إلى أبعد من ذلك. وحسب الجدول الانتخابي الذي اتفقت عليه الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم الفيدرالية، فإن العملية السياسية الحالية ستمتد لشهرين على الأقل، يتم خلالها إجراء الانتخابات البرلمانية بغرفتيها (مجلس الأعيان ومجلس الشعب)، واستكمال تشكيل الأقاليم الفيدرالية (6 أقاليم) وكذلك الانتخابات الرئاسية، وكلها تسير وفق ترتيبات معقدة تتداخل فيه المصالح القبلية والسياسية وتأثيرات الدول المجاورة ومنظمات إقليمية ودولية.
تجري العملية السياسية، الانتخابية والتشكيلية - التنظيمية، في الصومال بينما تتقاسم الحكومة الصومالية النفوذ على أراضيها مع مجموعة من الدول الداعمة ماديا وعسكريا، فالاتحاد الأفريقي لديه قوات يزيد عددها قليلا عن 22 ألف جندي ينتمون إلى خمس دول، وهي بالترتيب: أوغندا (6223 جنديا) وبوروندي (5432 جنديا) وإثيوبيا (4395 جنديا) وكينيا (3664 جنديا) وجيبوتي (960 جنديا) إضافة إلى 552 عنصرا من قوات الشرطة تنتمي إلى كل من نيجيريا وأوغندا وغانا وكينيا وسيراليون.
وتضم البعثة المدنية التابعة للاتحاد الأفريقي أيضا مجموعة من الدوائر المدنية، أبرزها: دائرة الشؤون السياسية ودائرة الشؤون الإنسانية، وشعبة المعلومات، ودائرة الشؤون المدنية ودائرة الأمن والسلامة، ودائرة النوع (الجندر) وشعبة الدعم الفني. وهذه القوات مقسمة علي ستة قطاعات عسكرية في وسط وجنوب الصومال، واسمها الرسمي هو قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال، وتعرف اختصارا بالـ«أميصوم»، وهي بمثابة الحاكم الفعلي للصومال منذ عام 2007.
أما الدعم المالي فيأتي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمات الأمم المتحدة، ودول عربية من بينها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر، إضافة إلى تركيا التي تعتبر الدولة الأكثر انخراطا في الشأن الصومالي خلال السنوات الماضية. وكل هذا يجعل من العملية السياسية الحالية في الصومال خاضعة لأجندات محلية وإقليمية ودولية يتم اتخاذ معظم ترتيباتها وقراراتها خارج الصومال، مع إتاحة هامش ضئيل من المناورة للأطراف الصومالية.
ولقد بدأت عملية «فدرلة» الصومال منذ سنوات، وهي أقرب حاليا إلى «فيدرالية الأمر الواقع» ذات الصبغة القبلية، واعتمدت في الدستور الانتقالي الذي لم يتم طرحه للاستفتاء الشعبي بعد. واستقرت هذه الفيدرالية على ستة أقاليم، لكن حدود هذه الأقاليم لم تحدد بعد، ستنظر اللجنة الوطنية المستقلة بشأن الحدود بين الأقاليم، وهي لجنة لم يتم تفعيلها حتى الآن.
وللعلم، ينص الدستور الصومالي الانتقالي على أنه «يحق لأي اثنتين أو أكثر من المحافظات الصومالية (18 محافظة) تشكيل إقليم فيدرالي، ويصبح هذا الإقليم عضوا في الدولة الفيدرالية الصومالية». ويترك الدستور للبرلمان تحديد عدد الأقاليم الفيدرالية التي تتكون منها الجمهورية. ورغم ذلك فإن الأقاليم التي تشكلت حتى الآن تشكلت بالأمر الواقع حسب الديموغرافية القبلية، مع وجود امتدادات قبلية في هذا الإقليم أو ذاك.
ومع أن الدستور أيضا يجعل شؤون «السياسة الخارجية، والدفاع، والجنسية والهجرة، والسياسة النقدية» من اختصاصات الحكومة الاتحادية، فإن النموذج الفيدرالي الصومالي الحالي يبدو وكأنه دول مستقلة لا يصرح أطرافها بذلك، في الوقت الذي يرتبطون فيه بعلاقات ظاهرة وغير ظاهرة بالخارج بعيدا عن نفوذ الحكومة الاتحادية.
وقد وجهت انتقادات كثيرة إلى النظام الفيدرالي الصومالي بشكله الحالي بأنه نظام يناقض التركيبة السكانية المتجانسة للصومال، حيث لا توجد فيه تنوعات دينية أو عرقية أو لغوية، أو حتى عوازل جغرافية فالصوماليون يتحدثون لغة واحدة وينتمون إلى عرق واحد ويعتنقون ديانة واحدة هي الإسلام، إذ يتبع كلهم المذهب الفقهي الشافعي. ويرى المنتقدون أن حماسة القادة السياسيين للفيدرالية هدفه تقوية نفوذهم على حساب الحكومة الاتحادية أكثر منه تأسيس نظام يقود إلى تعزيز الوحدة والاستقرار.
كذلك يثير كثير من الصوماليين علامات استفهام حول التصميم الحالي للأقاليم الفيدرالية في الصومال، الذي يخالف جميع التقسيمات الإدارية المعروفة منذ الاستقلال. ويجري تداول شرطين أساسيين (غير معلنين) في الأوساط الشبيه الصومالية لتشكيل أي إقليم فيدرالي صومالي هما: أن يكون له منفذ بحري، وأن تكون له حدود مع إثيوبيا (بلد مغلق)، ما يوفر لهذا الإقليم استقلالا اقتصاديا نسبيا ويعطي لإثيوبيا نفوذا سياسيا وعسكريا عليه بحكم الجوار. بغض النظر عن صحة هذه المعلومات فإن هذين الشرطين ينطبقان على الأقاليم الستة الموجودة حاليا في الساحة.
والأقاليم التي تشكلت حتى الآن هي خمسة أقاليم فيدرالية هي: بونت لاند (شمال شرق) وجوبا لاند (جنوب) وإقليم الجنوب الغربي، وغلمدغ (وسط) وهيران شبيلي (وسط - وقيد الإنشاء). أما الإقليم السادس فهو إقليم «أرض الصومال» أو صومالي لاند (شمال) الذي أعلن الانفصال عن بقية الصومال تحت اسم «جمهورية أرض الصومال» لكنه إقليم غير معترف به إقليميا ودوليا. ولقد رفض هذا الإقليم الانضمام إلى العملية السياسية في الصومال منذ إعلانه الانفصال عام 1991.
أما الانتخابات البرلمانية لغرفتي البرلمان الأولى والثانية فتجرى على مرحلتين في شهر أغسطس المقبل، حسب الجدول المتفق عليه حتى الآن. وتتكون الغرفة الأولى (أي مجلس الأعيان) من 56 عضوا يصار إلى اختيارهم على أساس الأقاليم الفيدرالية الستة المعترف بها، حيث تكون الكلمة الأخيرة في اختيارهم لرؤساء الأقاليم الفيدرالية مع مراعاة التوازن القبلي أيضا، بينما تستمر المفاوضات بين الأطراف السياسية الصومالية حول تخصيص مقاعد إضافية للعاصمة مقديشو، التي لم يتم حسم موقعها في النظام الفيدرالي حتى الآن.
أما الغرفة الثانية من البرلمان الصومالي (أي مجلس الشعب) فتتكون من 275 عضوا يجري انتخابهم وفقا للمحاصصة القبلية التي تعرف محليا بنظام «الأربعة والنصف» الذي يصنف القبائل الصومالية إلى أربع مجموعات قبلية كبيرة، وتحالف للقبائل الصغيرة اعتبر نصف قبيلة.
ويتم اتباع نظام انتخابي جديد غير مباشر، حيث أنشئ ما يشبه دائرة انتخابية قبلية خاصة تتكون من 51 ناخبا لكل دائرة التي تنتخب نائبا واحدا في البرلمان. ويترشح الأعضاء الذين يسعون لدخول الغرفة الثانية للبرلمان (مجلس الشعب) في هذه الدوائر الانتخابية الخاصة بقبيلتهم كل على حدة، فيما يبلغ عدد الناخبين الذين سينتخبون أعضاء البرلمان المقبل 14 ألف ناخب يمثلون القبائل الصومالية المختلفة سينتخبون الأعضاء الـ275 في البرلمان.
وبشأن توزيع الدوائر الانتخابية القبلية فإنه تحقق في الأقاليم الستة لانتخاب الغرفة الثانية من البرلمان، على الترتيب التالي: إقليم أرض الصومال (47 مقعدا)، إقليم بونت لاند (40 مقعدا) إقليم غلمدغ (36 مقعدا)، إقليم جوبا لاند (39 مقعدا)، إقليم هيران شبيلي (37 مقعدا)، إقليم جنوب غربي (69)، إضافة إلى قبائل البنادريين من سكان العاصمة (7 مقاعد).
ولكن تدور حاليا معركة أخرى في الأوساط السياسية حول تحديد أعضاء الدائرة الانتخابية الخاصة بكل نائب، حيث يسعي المرشحون للبرلمان وللرئاسة إلى فرض أعضاء موالين لهم في هذه الدوائر لوضع بصماتهم على نتيجة الانتخابات بشقيها البرلماني والرئاسي.
وتبدأ عملية تحديد أعضاء الدوائر الانتخابية القبلية من زعماء العشائر المعترف بهم ويبلغ عددهم 135 زعيم عشيرة، وتشرف عليهم اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، وممثلون عن الاتحاد الأفريقي ومنظمات المجتمع الدولي، ثم يتوجه الناخبون إلى عواصم الأقاليم الفيدرالية لانتخاب النواب، حيث من المقرر أن تعقد هذه الانتخابات في وقت متزامن، وبعدها ينتقل النواب المنتخبون إلى العاصمة مقديشو لأداء اليمين الدستورية ثم انتخاب الرئيس في العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل حسب الجدول الانتخابي. ولأول مرة يقوم البرلمان الصومالي بغرفتيه بانتخاب الرئيس.
وقد استبعدت الأحزاب السياسية الناشئة عن المشاركة في العملية السياسية الحالية التي حصرت بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم الفيدرالية. ورغم مصادقة البرلمان مؤخرا على قانون الأحزاب السياسية في البلاد، فإن الأحزاب الموجودة لن تشارك في الانتخابات بصفتها الحزبية بل أجّل ذلك إلى عام 2020، ولكن يحق لأعضاء الأحزاب الترشح للبرلمان عن طريق قبائلهم في الانتخابات المرتقبة.
ويشكل موقف إقليم «جمهورية أرض الصومال» (شمال البلاد) الرافض للعملية السياسية الحالية برمتها مشكلة أخرى للحكومة الاتحادية ولحكومات الأقاليم الفيدرالية الأخرى. وكما سبق فإن «أرض الصومال» تعتبر نفسها دولة مستقلة ذات سيادة، وحقًا أعلنت أنه لا علاقة لها بما يجري في الصومال، وأن لها نظامها السياسي والانتخابي الخاص بها، وفشلت المفاوضات - التي ترعاها تركيا منذ سنوات - بين «أرض الصومال» والحكومة المركزية في مقديشو، في ضم الإقليم إلى العملية السياسية الحالية في البلاد.
وفيما يبدو أنه محاولة للتغلب على مشكلة تمثيل «أرض الصومال» في البرلمان المرتقب، تقرر تخصيص 58 مقعدا من غرفتي البرلمان للقبائل الساكنة في الإقليم، كما كان الحال في الانتخابات السابقة، ومن المتوقع أن تجري عملية انتخاب هؤلاء النواب في العاصمة مقديشو في وقت لاحق من أغسطس المقبل.
وفيما يتعلق بالعاصمة مقديشو فإن الخلافات لا تزال قائمة حول وضعها المستقبلي في النظام الفيدرالي الجديد، حيث تأجل حسم وضعها إلى أجل غير مسمى.
وما يجدر ذكره أن القبائل التي تشكل الأغلبية من سكانها تطالب باعتبارها إقليما فيدراليا قائما بذاته نظرا للثقل السكاني والاقتصادي والسياسي التي تتمتع به (نحو مليوني نسمة)، في حين تطالب قبائل أخرى بتخصيص مقاعد لها في غرفتي البرلمان لكن بشرط أن يكون التمثيل القبلي لهذه المقاعد متساويا بين القبائل الصومالية، لأن مقديشو هي العاصمة القومية للبلاد. وثمة قبائل تطالب أيضًا بجعل مقديشو «منطقة محايدة» لا تمثيل لها في العملية السياسية على أن تحتفظ بمكانتها كعاصمة للبلاد، ومقر للحكومة المركزية والمؤسسات الوطنية الأخرى.
ورغم الطابع القبلي الخالص للانتخابات البرلمانية والرئاسية المرتقبة في الصومال فإن الصراع ينحصر في ثلاثة أطراف رئيسية في البلاد، هي: التيارات الإسلامية، ومجموعات رجال الأعمال على اختلاف قبائلهم، وباقي الفئات. ولقد سطع نجم الإسلاميين في السياسة الصومالية منذ قيام «حركة المحاكم الإسلامية» (2006) التي أطاح بها التدخل العسكري الإثيوبي الذي كان يحظى بدعم جهات دولية وإقليمية عدة، وتولي الرئيس السابق شريف شيخ أحمد الرئاسة (2009) مدعومًا من التيار الإسلامي، ثم مجيء الرئيس الحالي حسن شيخ محمود إلى السلطة (2012) بدعم من التيار الإسلامي أيضا.
ويعتبر الإسلاميون الصوماليون على اختلاف مشاربهم تيارات عابرة للقبائل نسبيًا، الأمر الذي قد يمكّنهم من بناء تحالفات سياسية فيما بينهم، ومع أنه سادت حالة من العداء والتنافس الشديد المشهد الإسلامي في الصومال في التسعينات، لكن تجربة المحاكم الإسلامية وما أعقبها من تطورات، خلقت جوا من التقارب بين الإسلاميين وخاصة بين التيارات المحافظة والإخوانية بأطيافها المختلفة. كذلك مع أنه قد يكون الوقت مبكرا للحكم على خريطة التحالفات السياسية والقبلية والآيديولوجية للتأثير على الانتخابات البرلمانية والرئاسية في الصومال، إلا أن تيارات الإسلام السياسي هي الأكثر تنظيما واستعدادا لهذا الحدث، ومن شبه المؤكد أن يكون لممثليها وجود ملحوظ في مجلسي البرلمان.
أما مجموعات رجال الأعمال الذين تعزز نفوذهم المالي والسياسي في السنوات الماضية بسبب ضعف الحكومات في مقديشو وفي الأقاليم، فإنهم يشعرون بتهديد مصالحهم في حالة مجيء برلمان وحكومة لا يخضعان لنفوذهم. وبناءً على ذلك فإن عشرات من رجال الأعمال وأصحاب الشركات العملاقة يترشحون الآن لغرفتي البرلمان، وفي نفس الوقت يدفعون بمرشحين مدعومين من طرفهم لدخول البرلمان، بهدف تشكيل كتلة برلمانية مؤثرة تدافع عن مصالحهم، كما أنهم يسعون إلى دخول الحكومة أيضا وكذلك دعم أحد المرشحين للرئاسة.
والحقيقة أن رجال الأعمال الصوماليون بنوا إمبراطوريات مالية بسبب غياب النظام الضريبي والتنظيم التجاري في البلاد، واستطاعوا التأثير على قرارات الحكومات والبرلمانات عند إثارة القضايا المتعلقة بالضرائب وتنظيم النشاط التجاري والاقتصادي في البلاد، والآن يسعى كثيرون منهم إلى حماية مصالحهم المالية مهما كان الثمن.
وبناء على هذه المؤشرات فإن البرلمان الصومالي القادم وكذلك الحكومة الاتحادية سيضمان وجوها من التيارات الإسلامية المختلفة، ورجال الأعمال المؤثرين أكثر من أي وقت مضي. وليس مستبعدا أن يفوز مرشح من التيارات الإسلامية أو مدعوم من قبلها بمعركة الرئاسة التي تتحكم فيها مجموعة من المؤثرات المحلية والإقليمية والدولية أيضا، تتضح معالمها كلما اقتربنا أكثر من موعد الانتخابات.
وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات المرتقبة فإن أي سلطة قادمة في الصومال ستواجه نفس التحديات التي واجهتها الحكومات السابقة بما فيها تلك المنتهية ولايتها بعد شهرين. فالوضع الأمني رغم التحسن الملحوظ لا يزال متعثرا، فبناء الجيش الوطني لم ينجز بعد، الأمر الذي يحتم على السلطة القادمة الاستمرار في الاعتماد على قوات الاتحاد الأفريقي. ثم إن «حركة الشباب» رغم خسارتها معظم المناطق الحضرية التي كانت تحكمها، فإنها لا تزال تسيطر على مساحات واسعة من وسط وجنوب البلاد، وتشكل تهديدا أمنيا واضحا في العاصمة والمدن الرئيسية في البلاد.
أضف إلى ما سبق أنه بسبب غياب مصادر دخل وطنية، فمن المتوقع أن تستمر السلطة الجديدة المقبلة في الاعتماد على المعونات الخارجية بشكل أساسي، وهي معونات غير ثابتة ترتفع وتنخفض حسب المزاج السياسي الدولي، كما أن هذا الدعم سيتأثر بحسب لون البرلمان والرئيس والحكومة التي ستفرزها الانتخابات المرتقبة، ومعنى ذلك أن الصومال سينتقل إلى مرحلة جديدة بتحديات قديمة.



«تصنيف الإخوان»... الأردن سبق ترمب بحظر الجماعة وغلق مقارها

مقار مكاتب لجماعة الإخوان في الأردن وذراعها السياسية حزب «جبهة العمل الإسلامي» في عمّان قبل أكثر من 10 أعوام (أ.ف.ب)
مقار مكاتب لجماعة الإخوان في الأردن وذراعها السياسية حزب «جبهة العمل الإسلامي» في عمّان قبل أكثر من 10 أعوام (أ.ف.ب)
TT

«تصنيف الإخوان»... الأردن سبق ترمب بحظر الجماعة وغلق مقارها

مقار مكاتب لجماعة الإخوان في الأردن وذراعها السياسية حزب «جبهة العمل الإسلامي» في عمّان قبل أكثر من 10 أعوام (أ.ف.ب)
مقار مكاتب لجماعة الإخوان في الأردن وذراعها السياسية حزب «جبهة العمل الإسلامي» في عمّان قبل أكثر من 10 أعوام (أ.ف.ب)

يَختصِر مصطلح «الحركة الإسلامية» نشاط جماعة «الإخوان المسلمين» في الأردن، وهي جماعة «محظورة وغير شرعية» في البلاد، وكذلك نشاط ذراعها السياسية «حزب جبهة العمل الإسلامي»، المرخّص بموجب أحكام قانون الأحزاب النافذ. وفي ظل تداخل للعلاقة بين الجماعة والحزب لطالما شكت منه مؤسسات رسمية، يبدو واضحاً، حسب محللين سياسيين، أن هذا الأمر أحبط إلى حد كبير محاولات إصلاح الحياة السياسية في الأردن بسبب احتكار الإسلاميين الفعل السياسي في الشارع، وضعف منافسيهم عن مجاراة شعبيتهم. وأمام جملة القضايا التي حرّكها النائب العام الأردني ضد نشاطات الجماعة والشبهات حول تمويل الحزب، فإن الحركة الإسلامية في البلاد تعيش أياماً صعبة، في مواجهة تجاوزات قانونية محتملة ما زال القضاء يحقق في تفاصيلها. وحسب مصادر «الشرق الأوسط»، فقد تم ضبط وثائق تؤكد وجود تجاوزات مالية، بعد تنفيذ مداهمات أمنية لدى صدور قرار رسمي بـ«إغلاق مكاتب الجماعة» في أبريل (نيسان) الماضي.

كان شهر أبريل الماضي صادماً للجماعة والحزب. فقادتهما لم يتوقعوا تصعيداً إلى هذا الحد من المؤسسات الرسمية ضدهم، بما يمكن أن يهدد بقاءهم. وظل الاعتقاد السائد لديهم أن الأزمة بين الدولة و«الإخوان» ستعبر كسابقاتها، غير أن مراجع رسمية أخذت قراراً بالمضي في «تصويب الاختلالات القانونية والتشوهات في الحياة السياسية» الناتجة من تداخل العلاقة بين الجماعة والحزب، وكسر حالة الاستقطاب للحياة السياسية من قِبل الحركة الإسلامية.

وربما لا يتذكر كثيرون أن الأردن تحرك ضد جماعة «الإخوان» قبل صدور قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، نهاية الشهر الماضي، بالطلب من إدارته درس «تصنيف بعض فروع أو تقسيمات جماعة الإخوان المسلمين منظماتٍ إرهابية أجنبية». فقد كان الربيع الماضي مطلعُهُ ثقيل على الحركة الإسلامية في الأردن بعدما اختل توازنها أمام الفعل السريع لتطبيق أحكام قضائية سابقة بحق الجماعة. كما أن هذا التوازن قد يختل أكثر لاحقاً بعد صدور أحكام قضائية متوقعة بخصوص القضايا المنظورة حالياً أمام المحاكم الأردنية. وإزاء هذا الأمر، يسعى قادة في الحركة الإسلامية إلى تجاوز الأزمة واحتواء الغضب الرسمي الذي يهدد بالفعل مصير استمرارهم في الحياة السياسية.

الموقف الرسمي بانتظار أحكام القضاء

لخَّص العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الموقف من الجماعة والحزب، برده على سؤال عن مستقبل الحركة الإسلامية في البلاد خلال لقاءات مع شخصيات وازنة. قال الملك إن ذلك ينتظر «أحكام القضاء»، مؤكداً أن سيادة القانون تضمن العدالة للجميع. وقد التقى الملك عبد الله الثاني رؤساء حكومات سابقين قبل شهرين، وجرى الحديث عن مستقبل العلاقة مع الحركة الإسلامية في المملكة الأردنية.

وإذا كان العاهل الأردني تحدث بلغة واضحة بهذا الشأن، فإن ارتباك سلوك أقطاب مركز القرار في تعاملاتهم مع الحركة الإسلامية أثّر على فهم المتابعين بخصوص مصير القضايا المنظورة حالياً أمام القضاء، في ظل همس يتساءل عن بطء إجراءات التقاضي، و«المبالغة» في المخاوف من ردود فعل الشارع على الأحكام المنتظر صدورها، خصوصاً إذا جاءت لصالح إنهاء وجود المرجعيات المؤسسية والأذرع المالية والاستثماريّة للجماعة؛ ما يعني تأثر الحزب الإسلامي جراء انقطاع التدفقات النقدية عنه، ومحاسبته على تلقيه أموالاً من الخارج.

ويبدو أن تباين وجهات النظر، لئلا يُقال صراع النفوذ بين أقطاب مركز القرار، نابع من مخاوف إزاء ردود الفعل الشعبية على أحكام قد تصدر بحق مؤسسات وشخصيات من الجماعة. وفي حال كان ذلك صحيحاً، ففي الأمر جانب من الاعتراف بضعف المواجهة مع الجماعة التي تسيطر على عاطفة شارع عريض من الأردنيين. لكن تكلفة المماطلة بإجراءات التقاضي قد تكون على حساب الثقة بالإجراءات الرسمية التي ستأتي بعد صياغة وزارة الخارجية الأميركية قرار ترمب الذي حدد فرع «الإخوان» في الأردن أحد الفروع التي يتناولها تصنيف الإرهاب. ووقتها سيكون على المؤسسة الرسمية في الأردن التعامل مع الحضور الشعبي المناصر للحركة الإسلامية في الشارع.

ويُدرك الجميع في الأردن، على الأرجح، بأن الرافعة المالية لـ«حزب جبهة العمل الإسلامي» هي جماعة «الإخوان» التي تمتلك رصيداً من التبرعات والاشتراكات تصل إلى ملايين الدنانير. كما يُدرك الجميع أيضاً، على الأرجح، بأن تمويل الحملات الانتخابية للحزب في مختلف المواسم النيابية والبلدية والنقابية، هو تمويل مفتوح. ويؤكد هذا الأمر ما كشفته مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط» عن توافر «وثائق» تؤكد أن تمويل الحزب «ليس ذاتياً، بل من أموال الجماعة الأم التي لا يزال التحقيق جارياً حول التجاوزات في جمع التبرعات وطبيعة الاستثمار فيها والتحويلات إلى الخارج».

تُهم الجماعة وتوقيتها

في شهر أبريل الماضي، وبعد أقل من ثلاثة أشهر على تسلم دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة في ولايته الثانية، تحركت الحكومة الأردنية، وفعّلت قراراً قضائياً سابقاً صدر في عام 2020 بـ«حل جماعة الإخوان المسلمين» وبـ«اعتبار جماعة الإخوان المسلمين منحلة حكماً وفاقدة لشخصيتها القانونية والاعتبارية؛ وذلك لعدم قيامها بتصويب أوضاعها القانونية وفقاً للقوانين الأردنية».

اختارت الحكومة الأردنية توقيت تفعيل الحكم القضائي السابق بُعيد الكشف، في منتصف الشهر نفسه، عن «مخطط للفوضى» في البلاد. وتم إحباط هذا المخطط بعد القبض على خلية «إخوانية» مكونة من 16 شخصاً ثبت أن عدداً منهم ينتمي إلى «حزب جبهة العمل الإسلامي»، الذراع السياسية للجماعة. وقد أحيل المتهمون إلى محكمة أمن الدولة، وأُسندت لهم جناية تصنيع أسلحة بقصد استخدامها على وجه غير مشروع، وتهمة جناية التدخل بتصنيع أسلحة بقصد استخدامها على وجه غير مشروع، وتهمة جناية القيام بأعمال من شأنها الإخلال بالنظام العام وتعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر. كما يواجه المتهمون تهماً تتعلق بمشروع تصنيع طائرات مسيّرة، وتهم نقل وتخزين مواد متفجرة وأسلحة أوتوماتيكية تم تهريبها من الخارج، وإخفاء صاروخ في إحدى ضواحي عمان. وتعود وقائع هذه القضية في الواقع إلى عام 2023، وقد صدرت أحكام بحق 4 متهمين في وقت سابق.

بعدها، وجّهت السلطة القضائية تهماً مباشرة للجماعة المحظورة عقب كشف التحقيقات الأولية سلسلة تجاوزات قانونية ومالية نتيجة متابعة شبكة تحويلات مالية للخارج من أموال تم جمعها كتبرعات. وقالت الجهات المختصة إن هناك «نشاطاً مالياً غير قانوني ضلعت به جماعة الإخوان المسلمين المحظورة طوال الأعوام الماضية داخلياً وخارجياً، تزايدت وتيرته في آخر 8 سنوات».

شكّل التوجه الرسمي وقتها، في الكشف عن تجاوزات متعلقة بملف جماعة «الإخوان» في الأردن، صدمة داخل صفوف الجماعة وذراعها السياسية «حزب جبهة العمل الإسلامي». وأثارت سلسلة الاتهامات التي وجَّهتها السلطة القضائية للجماعة أسئلة تتعلق بمصير «جبهة العمل» التي التزمت الصمت في قضية حل جماعة «الإخوان» والملاحقة القانونية لأموالها وأصولها. وجاء من ضمن الاتهامات أن «الأموال التي يتم جمعها وصرفها بشكل غير قانوني تُستخدم لغايات سياسية وخيرية ذات مآرب سياسية، فقد كانت تُصرف على أحد الأحزاب وعلى الأدوات والأذرع والحملات الإعلامية وعلى الفعاليات والاحتجاجات، والتدخل في الانتخابات النقابية والطلابية، وصرف مرتبات شهرية لبعض السياسيين التابعين للجماعة وعلى حملاتهم الدعائية». وتتضمن الاتهامات أيضاً أن الجماعة حازت وتحت عناوين مختلفة عشرات الملايين من الدنانير استُثمر جزء منها في شراء شقق خارج الأردن، كما استُخدمت الأموال لأغراض غير مشروعة قانوناً، ومنها ما سُجّل بأسماء أفراد ينتمون إلى الجماعة عن طريق ملكيات مباشرة أو أسهم في بعض الشركات.

حوارات صاخبة داخل الحركة الإسلامية

أغلق «حزب جبهة العمل الإسلامي» مكتبه الشبابي في وقت سابق من الأسبوع الماضي، ولدى السؤال عن القرار الحزبي كانت الإجابة من مصادر قريبة من الحزب نفسه بالقول: «إن صراعاً خفياً يدور في أروقة مجالس ومكاتب الحزب المنتخبة، حول استسلام القيادات أمام الحملة الرسمية التي تستهدف تصفية الجماعة والحزب». أضافت هذه المصادر أن هناك «مطالب يقودها تيار الشباب تضغط باتجاه تنفيذ خطوات احتجاجية تصعيدية».

مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)

وحسب مصادر «الشرق الأوسط» الخاصة، أعاد الخلاف بين تيار الشباب في الحزب وبين قياداته المواجهة التاريخية بين فريقي الصقور (الشباب) داخل الحركة، والحمائم (القيادات). وأوضحت المصادر أن هناك داخل الحزب مَن يطالب بإعادة صياغة أهدافه ومبادئه ونظامه الأساسي، على قاعدة الفصل التنظيمي مع الجماعة الأم التي جُرِّم العمل تحت عنوانها، وهذا أمر يرفضه تيار الشباب المتشدد في الحزب والمرتبط بعلاقة تنظيمية مع جماعة «الإخوان».

ولا يُدرك شباب الحركة مدى المأزق الذي يعانيه حزبهم، ولا ما ينتظره قادة الجماعة من مساءلة قضائية، حسب ما يقول متابعون لملف الحركة الإسلامية في الأردن. وحسب هؤلاء، يُرجح أن يكون التصعيد الرسمي موازياً لأي تصعيد تدعمه الحركة الإسلامية. وأضافت لـ«الشرق الأوسط» أن أي استعراضات جماهيرية شعبية تدعمها الجماعة المحظورة أو الحزب سيقابلها تصعيد رسمي باستخدام وثائق ومعلومات صارت في حوزة الجهات المختصة.

وبرأي المصادر نفسها، لا يملك الحزب اليوم سوى خيارات محدودة، فإما أن يَحل نفسه، ويعيد اجتماع منتسبيه تحت اسم جديد، وإما أن يذهب إلى الاندماج مع حزب آخر، وهو سيناريو مستبعد، وإما انتظار صدور القرار القضائي لتحديد ما هي الخطوة المقبلة الممكنة. وقد لا يكون قرار القضاء في الواقع في صالح استمرار «حزب جبهة العمل الإسلامي» بالحياة السياسية؛ ما يعني خسارته 31 مقعداً في البرلمان. وفي هذه الحال، لا بد من التعامل مع قضية ملء شواغر مقاعد الحزب في مجلس النواب الحالي؛ الأمر الذي يدفع بسيناريو حل المجلس والذهاب لانتخابات مبكرة في مدة لا تتجاوز 4 شهور من تاريخ الحل.

وقالت مصادر رسمية، تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، إن الجماعة والحزب مارسا تصعيداً في الشارع منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، تاريخ عملية «طوفان الأقصى» في غزة، مضيفة أن شعارات وهتافات سعت لـ«الاستقواء» على الموقف الرسمي و«تشويه» الرواية الرسمية، مضيفة أن الحركة الإسلامية بالغت في تنفيذ احتجاجات في مناطق لها حساسيتها الأمنية، كما حصل قرب السفارة الإسرائيلية في منطقة الرابية والسفارة الأميركية في منطقة عبدون. وعلى رغم «الطرد» المُبكر للسفير الإسرائيلي في عمّان وأركان سفارته، فإن الحركة ظلت تدعو إلى تنفيذ احتجاجات والدعوة إلى حرق السفارة. وتؤكد معلومات وتسجيلات متوافرة لدى السلطات الأردنية، أن الجماعة وحزبها «تلقيا توجيهات من قيادات (حمساوية) من الخارج» بضرورة تحريك الجبهة الأردنية لمناصرة غزة.

حسابات الموقف الرسمي... «بالع السيف»

ولأسباب كثيرة، يجد القرار الرسمي الأردني نفسه بموقف لا يُحسد عليه. فبين تأخر إجراءات التقاضي و«جدال» الأقطاب في مركز القرار، وبين استحقاق القرار الأميركي بتصنيف فروع وشخوص من جماعة «الإخوان» على قوائم الإرهاب (وهو ما يمكن أن يطول مؤسسات وأشخاصاً من الأردن)، سيكون الموقف الرسمي كـ«بالع السيف». فالقضاء سيحتاج إلى وقته لاستكمال مسارات التقاضي، في حين أن الشارع الأردني شديد التوتر تجاه أي قرار أميركي من شأنه أن يؤثر على القرار الداخلي. وثمة من يقول إنه لو استعجل القضاء الأردني دراسة الوضع القانوني لملف التجاوزات داخل الجماعة والحزب، منذ أبريل الماضي، لكان الوضع مريحاً لجهة الثقة بالقرار الرسمي بوصفه مستقلاً عن القرار الأميركي.

ويبدو أن الموقف الرسمي الأردني يضع في الحسبان ضرورة حماية الحكومة التي يجب أن تستمر مع استمرار مجلس النواب حتى عام 2028؛ لأن أي حل مبكر لمجلس النواب يعني ضرورة تقديم الحكومة استقالتها خلال أسبوع، ولا يُكلَّف نفس الرئيس تشكيل الحكومة التي بعدها. ويرغب الرئيس جعفر حسان في البقاء كسابقيه من الرئاسات، وهذا قد ينسحب على الارتخاء الحكومي في انتظار حكم القضاء، إذا تقرر حل حزب جبهة العمل الإسلامي وعندها سيفقد مجلس النواب 31 مقعداً هم نواب الحزب.


عصفورة ــ نصر الله... معركة عربية على رئاسة هندوراس

نصري عصفورة - سلفادور نصرالله (الشرق الأوسط)
نصري عصفورة - سلفادور نصرالله (الشرق الأوسط)
TT

عصفورة ــ نصر الله... معركة عربية على رئاسة هندوراس

نصري عصفورة - سلفادور نصرالله (الشرق الأوسط)
نصري عصفورة - سلفادور نصرالله (الشرق الأوسط)

ليس سابقة، ولا مستجدّاً، وصول متحدر من أصول عربية إلى سدّة الرئاسة في أميركا اللاتينية التي تعاقب عليها كُثر من أبناء المهاجرين الذين نزلوا في تلك البلاد عندما كانت لا تزال مواطنهم الأصلية ترزح تحت حكم السلطنة العثمانية. كانوا يُعرفون بالأتراك Turcos نتيجة حملهم وثائق سفر الدولة المستعمرة، قبل أن تنال بلدانهم استقلالها عن دول الانتداب التي ورثت السلطنة بعد انهيارها النهائي في أعقاب الحرب العالمية الأولى. لكن الانتخابات الرئاسية والعامة التي أُجريت يوم الأحد المضي في هندوراس شهدت سابقة تمثلت في أن المنافسة، في شوطها الأخير، انحصرت بين اثنين من المرشحين يتحدر كلاهما من أصول عربية، هما نصري عصفورة (67 عاماً) المولود من أب فلسطيني وأم هندورية، وسلفادور نصر الله (72 عاماً) المتحدر من أسرة لبنانية. وقد حبست هذه المنافسة أنفاس المراقبين طيلة أيام، في انتظار أن يتم حسمها، وبفارق ضئيل، لصالح أحدهما، علماً أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب دخل مباشرة على خط الاقتراع الهندوري داعماً عصفورة، واصفاً إياه بالحليف الموثوق في دعم الحرية والديمقراطية ومحاربة تجارة المخدرات والمنظمات الإجرامية التي تقف وراءها.

بعد عملية فرز ماراثونية ومحاطة بمخاوف كثيرة من احتمالات تدخّل القوات المسلحة الهندورية لقلب النتائج لصالح المحامية ريكسي مونكادا (60 عاماً)، مرشحة الحزب اليساري الحاكم الذي كان قد أوكل إلى الجيش مهمة الإشراف على تجميع قوائم الاقتراع وفرزها في الثكنات العسكرية، وبعد سلسلة من التصريحات المتضاربة بين عصفورة ونصر الله اللذين كان كل منهما يطمئن مناصريه بأن الفوز بات حليفه، أعلن الناطق باسم المجلس الانتخابي الوطني، مساء الثلاثاء الماضي، أي بعد يومين على نهاية العملية الانتخابية وفرز ما يقارب من ثلثي لوائح الاقتراع، أن النتيجة هي «تعادل تقني» بين الاثنين (عصفورة ونصر الله) بعدما حصل كل منهما على قرابة 40 في المائة من الأصوات، في مقابل 20 في المائة لمرشحة الحزب الحاكم. وبعد يوم من ذلك، أظهر إحصاء جديد من هيئة الانتخابات أن سلفادور نصر الله، مرشح الحزب الليبرالي الوسطي، يتصدر الانتخابات الرئاسية بنسبة 40.34 في المائة بعد فرز 79 في المائة من الأصوات. وبيّنت هذه النتائج أن مرشح الحزب الوطني المحافظ عصفورة يليه بنسبة 39.57 في المائة.

وكانت المنافسة محتدمة بين المرشحين الثلاثة الساعين لخلافة الرئيسة اليسارية زيومارا كاسترو التي شغل زوجها مانويل زيلايا الرئاسة أيضاً قبل أن يُطاح بانقلاب عام 2009.

وعلى الرغم من أن التراجع القوي في التأييد الشعبي للحزب الحاكم (حزب «ليبري») بدّد المخاوف من احتمال التلاعب بالنتائج، بقي الترقّب على أشدّه لمعرفة الفائز في هذه الانتخابات التي تحولّت مسرحاً جديداً للمواجهة بين دونالد ترمب والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، سيّما وأن القانون الانتخابي في هندوراس يلحظ، في حال التعادل التقني، إعادة عملية الفرز بشكل مفصّل ومراجعة الطعون والقسائم المشبوهة، وإعادة الانتخابات بين المرشحين المتعادلين في مهلة لا تتجاوز عشرين يوماً إذا استمر التعادل. وكان هذا الاحتمال قد تعزز عندما وصل الفارق بين عصفورة ونصر الله إلى 515 صوتاً فقط. وتراجعت حدة التوتر الذي ساد في الساعات الأولى بعد تأكد هزيمة الحزب الحاكم، عندما أقرّ عدد من الوزراء في الحكومة الحالية بخسارة الرهان الانتخابي، وباشروا التحضير لتسليم مهامهم إلى الحكومة الجديدة.

لكن عاد التوتر ليسود الأجواء مع تأخر المجلس الانتخابي في تحديث النتائج، وخاصة بعد المؤتمر الصحافي الذي عقدته الرئيسة الحالية، حيث نفت ما يشاع عن خسارة الحزب الحاكم، وأدانت «التدخل الأجنبي»، مشيرة بصورة مباشرة إلى الولايات المتحدة والرئيس ترمب، ومؤكدة أنها ستبقى «إلى جانب الشعب؛ لأن الانتخابات لم تحسم بعد».

نصري عصفورة

يتحدر نصري عصفورة من أسرة فلسطينية هاجرت إلى هندوراس أواسط القرن الماضي، وهو رجل أعمال ناشط في مجال البناء والعقارات، ومُجاز في الهندسة المدنية. بدأ حياته العامة متولياً مناصب مختلفة في بلدية تيغوسيبالغا، عاصمة البلاد، وبرز خلالها بتنفيذه عدداً من مشاريع البنى التحتية، متميزاً بروح عملية عالية وقدرة على حل المشكلات وسهولة في التعامل. أكسبه ذلك شعبية واسعة لازمته طوال مسيرته السياسية. وبعد محاولة فاشلة لتولي رئاسة بلدية العاصمة، نجح في محاولته الثانية عام 2013، ثم أعيد انتخابه في عام 2017، حيث بدأ يخطط للوصول إلى سدة رئاسة الجمهورية.

تميّزت السنوات الثماني التي أمضاها في رئاسة بلدية العاصمة بتنفيذه عدداً كبيراً من مشاريع البنى التحتية الضخمة، خاصة في الأحياء الفقيرة التي ازدادت فيها شعبيته، لكن دون أن تمكّنه من الفوز في الانتخابات الرئاسية التي خاضها في عام 2021 وخسرها أمام الرئيسة الحالية تشيمينا كاسترو التي أصيبت بهزيمة قاسية في هذه الانتخابات. وعاد عصفورة مطلع السنة الحالية لخوض الانتخابات الأولية للحزب الوطني، وفاز على منافسته السيدة الأولى السابقة آنا غارسيّا بما يزيد على ثلاثة أرباع الأصوات التي تم الإدلاء بها، معززاً بذلك زعامته على التيار اليميني المحافظ الذي أوصله إلى رئاسة كبرى بلدان أميركا الوسطى.

يقوم برنامج عصفورة على خطته التي أعلنها في بداية حملته الانتخابية تحت عنوان «رؤية النجوم الخمس» التي تضمّ مجموعة من الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الرامية إلى وضع البلاد على «الطريق الصحيح»، حسب تعبيره. وتدور هذه الخطة حول محور مركزي لتنشيط الاقتصاد وإيجاد فرص العمل وتشجيع الاستثمارات الخاصة والأجنبية وتوفير الضمانات القانونية لها، فضلاً عن رقمنة الإدارة العامة والتعليم، ومشاريع إسكانية للطبقتين المتوسطة والفقيرة.

في السياسة الخارجية، يطرح عصفورة توثيق العلاقات مع الولايات المتحدة للوصول إلى تحالف استراتيجي معها، واستعادة العلاقات مع تايوان بعد أن كانت الحكومة الحالية قطعتها لصالح بكين، والتقارب مع إسرائيل، وإبعاد هندوراس عن دائرة النفوذ الفنزويلي.

وإذا كان انحصار المنافسة بين مرشحين متحدرين من أصول عربية قد ميّز هذه الانتخابات الرئاسية في هندوراس، فإن دخول الإدارة الأميركية بشكل مباشر وعلني للتأثير في نتيجتها، يؤكد النمط الذي ينهجه الرئيس ترمب، منذ بداية ولايته الثانية في يناير (كانون الثاني) الماضي، داعماً المرشحين الذين يتماهون مع خطه السياسي، ومهدداً بعواقب اقتصادية في حال عدم وصولهم إلى الحكم. وهو توعد، مساء الاثنين الماضي، الحكومة الحالية في هندوراس بالجحيم إذا حاولت التلاعب بنتائج الانتخابات.

وكان الأسبوع الماضي قد شهد سلسلة من التصريحات والتغريدات للرئيس الأميركي على منصته «تروث سوشيال» أعلن فيها دعمه الصريح لنصري عصفورة ووصفه بالحليف الموثوق لمحاربة الشيوعيين ومهربي المخدرات، معتبراً أنه القادر على ترسيخ الحريات والديمقراطية في هندوراس. وكان لافتاً، في هذا الدعم المباشر، أن ترمب وضعه في سياق المواجهة مع فنزويلا وحلفائها في المنطقة، مثل كوبا ونيكاراغوا، وضمن مساعيه لمحاصرة الأنظمة اليسارية. وكانت اندفاعة الرئيس الأميركي لدعم عصفورة، الذي رجحت الاستطلاعات الأخيرة قبل الاقتراع أنه سيأتي في المركز الثالث، قد بلغت ذروتها عشية الانتخابات عندما أعلن أنه سيصدر عفواً كاملاً عن رئيس هندوراس الأسبق خوان أورلاندو هرنانديز الذي كان يقضي عقوبة بالسجن 45 عاماً في الولايات المتحدة بعدما أدانته محكمة أميركية بتهمة تهريب 400 طن من الكوكايين والتواطؤ مع منظمات إجرامية. وقد أثار هذا الإعلان، الذي كان يهدف إلى تجيير تأييد أنصار أورلاندو لصالح عصفورة، موجة من الانتقادات داخل الولايات المتحدة وخارجها، خاصة وأن واشنطن وضعت نشر قواتها في البحر الكاريبي وقبالة السواحل الفنزويلية تحت عنوان مكافحة تهريب المخدرات وقطع طرق الإمدادات التي تستخدمها المنظمات الإجرامية في المنطقة.

وفوز عصفورة في انتخابات الأحد الماضي التي شملت أيضاً تجديد البرلمان والمجالس البلدية، من شأنه، إذا ما تحقق فعلاً، أن يعيد المشهد السياسي في هندوراس إلى السياق اليميني المحافظ الذي تميّز به تاريخياً ولم تقطعه سوى فترات قصيرة من العهود الإصلاحية التي حاولت تقليص نفوذ الولايات المتحدة، علماً أن الأخيرة تملك في هذا البلد أكبر قواعدها العسكرية في أميركا الوسطى. وبنت الولايات المتحدة هذه القاعدة في أواسط ثمانينات القرن الماضي على مقربة من العاصمة، لتكون منصة لوجيستية تنتشر منها القوات الأميركية في المحيط الإقليمي، وكي تكون مقراً للقيادة الجنوبية للجيش الأميركي. ونتيجة لوجود هذه القاعدة، صار يُطلق على هندوراس لقب «حاملة الطائرات الأميركية» في المنطقة.

وتجدر الإشارة، في هذا الإطار، إلى أن آخر العهود الإصلاحية في هندوراس كان العهد الذي قاده الرئيس الأسبق مانويل زيلايا قبل سقوطه في انقلاب عسكري تحاشت واشنطن إدانته. وكان زيلايا قد علّق على إعلان الرئيس ترمب قرار العفو عن الرئيس السابق أورلاندو قائلاً إنه يهدف إلى «حماية ناهب الدولة»، مضيفاً أن الهزيمة التي مُني بها الحزب الحاكم في هذه الانتخابات لن تثنيه عن سعيه لإرساء أول تجربة يسارية حقيقية في هندوراس.

سلفادور نصر الله

هذه كانت محاولة نصر الله الرابعة للوصول إلى الرئاسة، وهو صحافي يتمتع بشهرة واسعة من وراء البرامج الرياضية والمنوعات التلفزيونية التي يقدمها منذ أكثر من أربعين عاماً. يتحدر من أسرة لبنانية. هاجر والده إلى هندوراس بينما هاجرت أمه إلى تشيلي. وهو اعتاد المفاخرة بأصوله العربية، وبالدور الذي لعبته الجاليات العربية في نهضة أميركا اللاتينية منذ مطالع القرن الماضي.

بدأ مسيرته السياسية عام 2011، وترشح لرئاسة الجمهورية في عام 2013 عن حزب مكافحة الفساد الذي كان شارك في تأسيسه بعد أن كانت هندوراس غارقة في سلسلة من الفضائح المالية، وفي دوامة من العنف الاجتماعي على يد المنظمات الإجرامية. ثم عاد وترشح للمرة الثانية في عام 2017 عن تحالف المعارضة المناهض للنظام الدكتاتوري. وفي عام 2021 أسس حزب سلفادور (مخلّص) هندوراس، وترشح عن التحالف الذي كان يضمّ هذا الحزب إلى جانب حزب الوحدة والابتكار، لكنه عاد وسحب ترشيحه لينضمّ إلى لائحة الرئيسة الحالية نائباً لها، ويستقيل من منصبه بعد أشهر من فوزها في الانتخابات؛ احتجاجاً على عدم تمتعه بالصلاحيات التي كانت وعدته بها. ويرجّح أن ذلك التحالف مع الرئيسة الحالية التي كانت قريبة من النظام الفنزويلي، هو الذي دفع الرئيس الأميركي ترمب إلى تأييد منافسه المرشح اليميني المحافظ نصري عصفورة. وفي مطلع هذا العام، انضمّ نصر الله إلى الحزب الليبرالي الذي اختاره مرشحاً رئاسياً له.

وفي أول تعليق له على العفو الذي أصدره ترمب عن رئيس هندوراس الأسبق، خوان أورلاندو هرنانديز، قال نصر الله إن الأخير يجب أن يمثُل أمام القضاء في هندوراس، وإنه سيطلب من واشنطن تسليمه، في حال فاز بالرئاسة. ومعلوم أن الفساد وارتباطه بتجارة المخدرات يشكلان تحدياً كبيراً لهندوراس التي تسجل أحد أعلى معدلات الجريمة في المنطقة. وحسب «وكالة الصحافة الفرنسية»، يعيش ما يقرب من ثلثي سكان هندوراس في الفقر، ويأتي 27 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد من تحويلات مواطنيها المقيمين في الولايات المتحدة، والتي تبلغ عشرة مليارات دولار.

حقائق

أميركا اللاتينية... قوى اليمين تتمدد

من السمات المألوفة في المشهد السياسي الأميركي اللاتيني منذ عقود، وجود شخصيات متحدرة من أصول عربية، غالباً لبنانية، وأحياناً فلسطينية وسورية، في المناصب الرسمية العليا من وزراء في الحكومات، أو أعضاء في المجالس النيابية، أو زعماء نقابيين وقيادات في الحركات الثورية، وصولاً إلى سدة الرئاسة في بلدان مثل كولومبيا، والبرازيل، والأرجنتين، والإكوادور، وبوليفيا، والسلفادور، وهندوراس، والدومينيكان والباراغواي.

لكن الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في هندوراس الأحد الماضي ستعني، في حال الفوز غير المتوقع لمرشح الحزب اليميني المحافظ نصري عصفورة، أن المنطقة أمام منعطف يسمح بعودة القوى والأحزاب اليمينية إلى بسط سيطرتها على الحكم في أميركا اللاتينية، بعد سنوات من تمدد اليسار الذي استفاد من انكفاء الولايات المتحدة (قبل وصول ترمب إلى سدة الحكم في ولايته الجديدة) عن التدخل المباشر لدعم القوى اليمينية، وبخاصة العسكرية، في بلدان وازنة مثل الأرجنتين، والبرازيل، والبيرو وتشيلي.

وكان صعود القوى اليسارية والتقدمية في أميركا اللاتينية قد اتخذ أنماطاً مختلفة، حيث أنتج في معظم الحالات أنظمة ديمقراطية على النمط الأوروبي، تناوبت فيها الأحزاب السياسية على الحكم، وتعززت الحريات العامة والفردية. لكن مع وصول هوغو تشافيز إلى الحكم في عز الطفرة النفطية الفنزويلية، وظهور نيكولاس مادورو بعد وفاته، وجنوح دانييل أورتيغا في نيكاراغوا نحو نظام استبدادي، مالت هذه الأنظمة ناحية النمط الكوبي، وأحكمت قبضتها على السلطة والمؤسسات العامة، قاطعة الطريق أمام أي تناوب على الحكم. وبعد انهزام اليسار في الانتخابات البوليفية الأخيرة، وتزايد احتمالات وصول المرشح اليميني المتطرف أنطونيو كاتس إلى رئاسة تشيلي في الدورة الثانية من الانتخابات المقررة منتصف هذا الشهر، جاء بروز اسم نصري عصفورة في انتخابات هندوراس، مدعوماً بقوة من الرئيس الأميركي ترمب، ليفتح باب التساؤل حول ما إذا كان المد اليميني سيواصل توسيع دائرته، وما إذا كانت القوى اليسارية ستجنح بدورها نحو الاعتدال واحترام الإرادة الشعبية والتنازل عن السلطة بالطرق الديمقراطية في انتخابات حرة ونزيهة.



جنوب السودان... تغييرات حكومية بحثاً عن استقرار مفقود


نساء ينتظرن في مخيم للاجئين بجنوب السودان لتسلم مساعدات من برنامج تابع للأمم المتحدة 20 أغسطس 2025 (أ.ب)
نساء ينتظرن في مخيم للاجئين بجنوب السودان لتسلم مساعدات من برنامج تابع للأمم المتحدة 20 أغسطس 2025 (أ.ب)
TT

جنوب السودان... تغييرات حكومية بحثاً عن استقرار مفقود


نساء ينتظرن في مخيم للاجئين بجنوب السودان لتسلم مساعدات من برنامج تابع للأمم المتحدة 20 أغسطس 2025 (أ.ب)
نساء ينتظرن في مخيم للاجئين بجنوب السودان لتسلم مساعدات من برنامج تابع للأمم المتحدة 20 أغسطس 2025 (أ.ب)

نالت دولة جنوب السودان الاستقلال في عام 2011، غير أنها لا تزال تغرق في أزمات سياسية، تعمقت في 2013 باندلاع حرب أهلية، وتوقفت باتفاق سلام في 2018. لكن لا يزال الوضع الحالي يحمل مخاوف من عودتها وسط خلافات واسعة بين دوائر الحكم العليا وأصحاب القرار والنفوذ.ويوحي تكرار التعديلات الحكومية التي يجريها الرئيس سلفا كير ميارديت بأن البلاد تعيش «حالة عدم استقرار سياسي عميقة، ناتجة عن طبيعة النظام القائم على توازنات قبلية وحزبية هشة»، بحسب ما يقول محللون. ويقول هؤلاء إن «تغيير الوزراء والمسؤولين يُستخدم كأداة لإعادة ضبط موازين القوى بين النخب المتنافسة، واحتواء الولاءات المتقلبة داخل الجيش والحركات المسلحة، وضمان بقاء مركز القرار في يد الرئيس والمحيط الضيق حوله».

حاول جنوب السودان، على مدار عقود، أن يذهب للاستقلال تحت رايات عديدة حتى ناله في عام 2011. غير أن هذه الدولة ما لبثت أن غرقت في أزمات سياسية، تعمقت عام 2013 باندلاع حرب أهلية، وتوقفت باتفاق سلام عام 2018. لكن لا يزال الوضع الحالي يحمل مخاوف من عودة الحرب، وسط خلافات واسعة بين دوائر الحكم العليا وأصحاب القرار والنفوذ.

ذلك المشهد المرتبك سياسياً يترافق مع تغييرات حكومية مستمرة، مُصاحبة بتأجيل انتخابات كانت مقررة في نهاية عام 2024 إلى ديسمبر (كانون الأول) 2026، وهذا يعني، بحسب خبراء من جنوب السودان ودول جوار، تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، أن «الاستقرار السياسي مفقود»، وأن مستقبل البلاد على المحك إن لم يتم ضبط موازين القوى وحسم تفاهمات قريبة التزاماً باتفاق 2018، ومنعاً لتكرار مشهد 2013 القاتم.

تغييرات متكررة

في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أقال رئيس جنوب السودان كير ميارديت، دينغ لوال وول من منصب وكيل وزارة النفط، وعيّن مكانه تشول ثون أبيل، وهي المرة الرابعة التي ينقل فيها المنصب من أحد الرجلين إلى الآخر في أقل من شهرين.

وكان كير قد أقال ثون في البداية من منصب وكيل الوزارة، وهو المنصب الثاني في الوزارة والمسؤول عن المعاملات المالية، وعيّن لوال مكانه في أكتوبر (تشرين الأول)، ثم أعاد ثون إلى منصبه في 3 نوفمبر قبل أن يستبدل به مرة أخرى لوال بعد أسبوع. كما أقال كير أيويل نجور كاججور من منصب المدير الإداري لشركة نايلبت النفطية المملوكة للدولة.

ويعتمد اقتصاد جنوب السودان أساساً على مبيعات النفط الخام، التي تعثرت بفعل حرب أهلية عصفت بالبلاد أسفرت عن مقتل ما يقدر بنحو 400 ألف شخص بين عامي 2013 و2018 بعد فترة وجيزة من انفصالها عن السودان عام 2011.

وفي 12 نوفمبر الماضي، ذكر مرسوم بثه التلفزيون الرسمي أن رئيس جنوب السودان كير أقال بنيامين بول ميل من منصبه نائباً للرئيس ونائباً لرئيس الحزب الحاكم، لينهي بذلك ارتباطاً برجل أثير على نطاق واسع أنه الخليفة المقرب له.

وأقال كير أيضاً محافظ البنك المركزي ورئيس هيئة الإيرادات، اللذين يُنظر إليهما على أنهما مقربان من بول ميل، الذي تم تعيينه بصفته أحد نواب الرئيس الخمسة في فبراير (شباط). ووجّه كير أيضاً بتجريد بول ميل من رتبة الجنرال، التي ترقى إليها في سبتمبر (أيلول) الماضي.

وفي أغسطس (آب)، أقال رئيس جنوب السودان كير، وزير المالية ديير تونغ نجور، وجاء بمقرب منه هو باك بارنابا شول في «أحدث تغيير حكومي مفاجئ». وربطت جوبا بين الإقالة والتراجع الأخير في قيمة جنيه جنوب السودان.

وقتها كانت عملة جنوب السودان قد انخفضت نحو الثلث مقابل الدولار في شهرين. ويقول محللون إن عدم الاستقرار الاقتصادي وعدم التزام كير بدقة باتفاق السلام المبرم عام 2018 من بين العوامل التي تدفع العملة للهبوط.

وبذلك يكون كير قد أقال أربعة وزراء مالية منذ عام 2020، بخلاف ما قام به في مارس (آذار) من إقالة وزير الخارجية، بعد أقل من أسبوع من إقالة وزيري الدفاع والداخلية.

ويرى الباحث الجنوب سوداني في العلاقات الدولية تيكواج فيتر، أن «كثرة تكرار التعديلات في جنوب السودان تدل على عدم الاستقرار السياسي»، موضحاً أنه «في العلوم السياسية تُفسّر كثرة التعديلات الدستورية وتكرارها بأنهما من المؤشرات التي تعبّر عن عدم الاستقرار السياسي، والعكس صحيح». ونبّه فيتر أن «بقاء الحكومة لفترة دون وجود تغييرات في المناصب الدستورية مؤشر على الاستقرار السياسي على مستوى المناصب الدستورية، والعكس صحيح».

وقريباً من هذا الطرح، يعتقد المحلل السياسي التشادي، المختص بالشؤون الأفريقية، صالح إسحاق عيسى، أن «تكرار التعديلات الحكومية في جنوب السودان، يعكس حالة عدم استقرار سياسي عميقة، ناتجة عن طبيعة النظام القائم على توازنات قبلية وحزبية هشة». وتابع: «يُستخدم تغيير الوزراء والمسؤولين كأداة لإعادة ضبط موازين القوى بين النخب المتنافسة، واحتواء الولاءات المتقلبة داخل الجيش والحركات المسلحة، وضمان بقاء مركز القرار في يد الرئيس والمحيط الضيق حوله».

ويشير هذا التكرار، بحسب عيسى، إلى «غياب مؤسسات حكم مستقرة وقواعد واضحة لتداول السلطة أو المساءلة، ما يجعل المناصب تدار بمنطق الترضيات السياسية وليس بمنطق الكفاءة أو البرامج».

وتؤدي تلك التغييرات إلى «إبطاء تنفيذ اتفاقات السلام، وتغذي شعوراً عاماً بغياب الثقة في الحكومة، وتؤثر على قدرة الدولة على بناء إدارة فعالة أو تقديم خدمات مستقرة»، وفق عيسى، نافياً أن «كثرة التعديلات تعكس حراكاً إصلاحياً حقيقياً في الوقت الراهن بقدر ما تعكس أزمة بنيوية في النظام السياسي أكثر».

صراع داخلي

وتثير هذه الإقالات و«موجة التغيير المستمر» في المناصب العليا في حكومة جنوب السودان التساؤلات حيال خليفة كير والمخاوف التي أثيرت حيال احتمالات العودة إلى الحرب الأهلية، بحسب ما نقلته «رويترز» نوفمبر الماضي تعليقاً على الاستعانة بالمقربين من كير.

ووفقاً للباحث الجنوب سوداني، تيكواج فيتر، فإن تلك التغييرات تعكس «صراعاً في عدة اتجاهات؛ بين النخبة الحاكمة وبعضها بعضاً، وبين النخبة الحاكمة والقوى الأخرى، وبين القوى الأخرى وبعضها بعضاً. وهذا الصراع يُستخدم كأداة لضبط التوازنات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في جنوب السودان».

ونبّه إلى أن «التغييرات الدستورية في جنوب السودان تعكس كلا الأمرين معاً: صراع داخل النخبة الحاكمة ومحاولات لضبط التوازنات بين القوى في جنوب السودان. فهي انعكاس لوجود صراعات داخل النخبة الحاكمة، وقد ظهر ذلك من خلال انقسام النخبة الحاكمة في مواقفها بشأن التغييرات الدستورية، حيث عبّرت عن قبول تعيين بعض الشخصيات ورفض البعض الآخر».

وهذا الصراع هو بين جيل قديم يضم القيادات التي شاركت في تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان أو انضمت إليها مبكراً وشاركت في الحرب من أجل الاستقلال، من جهة، والجيل الجديد من القيادات التي كانت جزءاً من القوات الصديقة للحكومة السودانية وحديثي العضوية من جهة أخرى، بحسب ما يضيف فيتر.

كما أن هذه التغييرات تعكس محاولات لإعادة ضبط التوازنات بين ثلاثة اتجاهات؛ الأولى ضبط التوازنات داخل الحركة الشعبية، والثانية بين القوى الشريكة في اتفاق السلام المنشّط، والثالثة بين القوى الحاكمة والقوى المعارضة، وفقاً لفيتر.

رئيس جنوب السودان سلفا كير (يمين) ونائبه الأول سابقاً رياك مشار (أ.ف.ب)

وفي بعض الأحيان، يستعين الرئيس كير ببعض الأفراد لفترة ثم يستعين بالمجموعة الأخرى التي يُفترض أنها تمثّل تحالفات بين القوى المعارضة، وفقاً للباحث الجنوب سوداني الذي يشير إلى أن التغييرات الدستورية والرغبة في الحصول على نصيب أدتا إلى إضعاف المعارضة نتيجة للصراع من أجل كسب رضاء النخبة الحاكمة، على حساب الأهداف التي أدت إلى تشكيل هذه التحالفات.

ويتفق صالح عيسى مع هذا التفسير بشأن الصراع الداخلي، قائلاً إن «هذه التغييرات تعكس في الغالب مزيجاً من الصراع داخل النخبة الحاكمة، ومحاولات مستمرة لإعادة ضبط التوازنات بين القوى السياسية والعسكرية».

ويقوم النظام السياسي في جنوب السودان، بحسب عيسى، على «شبكة معقدة من التحالفات القبلية والحزبية وشخصيات نافذة داخل الجيش والحركات المسلحة، ما يجعل أي تعديل حكومي مرتبطاً بشكل مباشر بإدارة تلك العلاقات الحساسة».

ولهذا تأتي الإقالات والتعيينات كـ«آلية لاحتواء خلافات النخبة، واستباق تفكك التحالفات، ومنع تصاعد نفوذ أطراف بعينها قد ينظر إليها كتهديد لمركز السلطة. وفي الوقت نفسه، تستخدم هذه التعديلات أيضاً لضمان توزيع المناصب بشكل يرضي المجموعات المؤثرة، ويبقي على الحد الأدنى من التوازن الضروري لاستمرار النظام، مما يجعلها أقرب إلى إدارة الأزمات منها إلى الإصلاح السياسي الفعلي»، وفق صالح عيسى.

مستقبل قلق

وليست التغييرات المتكررة وحدها ما يقف وراء مخاطر اندلاع حرب أهلية جديدة. ففي 13 سبتمبر 2024 عادت الأزمة السياسية مع إعلان مكتب الرئيس كير عن تأجيل الانتخابات المقررة في ديسمبر 2024 إلى نهاية 2026، بدعوى إكمال المهام الضرورية بالاقتراع، وسط تخوف غربي من انهيار اتفاق السلام.

وفي مارس 2025، عاد الاقتتال الداخلي بين جيش جنوب السودان ومجموعة مسلحة تُعرف باسم «الجيش الأبيض» في منطقة الناصر بولاية أعالي النيل وتم إلقاء القبض على عناصر مقربة من نائب الرئيس وزعيم المعارضة رياك مشار المجمدة صلاحياته.

ومشار قيد الإقامة الجبرية منذ مارس وكانت قواته المعارضة قد خاضت معارك مع القوات الموالية للرئيس كير خلال حرب أهلية استمرت من عامي 2013 إلى 2018 وأودت بحياة نحو 400 ألف شخص قبل أن يتم توقيع اتفاق سلام 2018 بين الجانبين.

وفي سبتمبر الماضي، أوقف كير نائبه الأول مشار عن العمل عقب اتهامه من قبل السلطات القضائية بـ«القتل والخيانة وارتكاب جرائم ضد الإنسانية» على خلفية مزاعم بشأن ضلوعه في هجمات شنتها ميليشيا عرقية ضد قوات اتحادية في مارس.

وفي سبتمبر الماضي، اتهم محققون من الأمم المتحدة سلطات جنوب السودان «بنهب ثروات البلاد بطرق تضمنت دفع 1.7 مليار دولار لشركات تابعة لبنجامين بول ميل، أحد نواب رئيس الدولة، في مقابل أعمال إنشاء طرق لم يتم إنجازها مطلقاً»، حسبما أوردت وكالة «رويترز».

وأعلنت حكومة جنوب السودان، في مطلع ديسمبر الحالي، بدء تنفيذ خطة خفض قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في البلاد، وهي خطوة قالت إنه تم الاتفاق عليها مع البعثة الأممية بعد إعلان الأمم المتحدة عن «قيود مالية شديدة» تؤثر على عملياتها العالمية، ما دفعها إلى إعادة النظر في حجم قواتها المنتشرة حول العالم، بما في ذلك جنوب السودان.

وفي ظل تلك المتغيرات المتسارعة، لا يبدو مستقبل جوبا سياسياً واضحاً على نحو دقيق، بحسب ما يرى الباحث الجنوب سوداني في العلاقات الدولية تيكواج فيتر.

غير أن المحلل السياسي التشادي صالح إسحاق عيسى قال إنه «ليست ثمة ضمانة بأن مستقبل جنوب السودان يتجه نحو التفاهمات السلمية. الواقع الحالي يشير إلى أن البلاد أكثر ميلاً إلى الانزلاق نحو صدام جديد، ما لم تتغير معادلات السلطة بشكل جذري وتتحرك جماعات داخلية وإقليمية بفاعلية».

ويرى عيسى أن التحذيرات المتكررة من الأمم المتحدة ومن جهات حقوقية تفيد بأن السلام الهش أصبح مهدداً فعلياً، وأن الاتفاق السياسي الذي يفترض أن يحكم التعايش بين الأطراف بات ينتهك بصورة مستمرة. كما أن العنف المسلح بما فيه الضربات الجوية، والاشتباكات بين قوات الحكومة ومسلحين موالين للمعارضة يتصاعد، ما يزيد من فرص انزلاق شامل للنزاع.

ويستدرك صالح عيسى في نهاية حديثه قائلاً: «لكن يمكن أن تلوح أمام جنوب السودان فرص تفاهم، وإن كانت ضئيلة، إذا التزمت الأطراف السياسية برفع اليد عن القمع السياسي، وأطلقت حواراً شاملاً، وتم الضغط دولياً وإقليمياً لفرض هدنة حقيقية»، مشيراً إلى أنه «قد تتاح فرصة لإعادة بناء مؤسسات أكثر استقراراً وإنقاذ ما تبقى من اتفاق السلام».

ويؤكد أن «هذه الفرصة، حال ظهرت، ستكون بحاجة إلى إرادة سياسية قوية، وضغط خارجي وإقليمي جاد، واستعداد لحماية المدنيين وتعزيز المساءلة»، مشيراً إلى أن «الواقع المؤقت يوحي بأن الصدام، هو الاحتمال الأكثر ترجيحاً في الغالب وليس التفاهم، ما لم تتغير المعطيات بشكل سريع وجذري».